أحدث الأخبار مع #اسامةشقمانجو


جو 24
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- جو 24
رام الله… مدينة تعزف على أوتار الصمت
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : رام الله ليست مدينة تُروى، بل مدينة تُفهم بالصمت. ليست قدسية كمدينة القدس، ولا موجعة كالخليل، لكنها تمشي متأرجحةً على حبل رفيع بين الوهم والحقيقة، تتنفس حيرة، وتُتقن النجاة كما يُتقن شاعرٌ عجوز لعبة الإيحاء. رام الله ليست مجرد مكان، بل كأنها سؤالٌ أبدي، يُطرَح منذ قرون ولا يحتاج لإجابة، بل لإصغاء عميق. قبل أن تُصبح رام الله قصيدة تعزفها الثورة على لحن الصبر، كانت مجرّد قرية صغيرة، ولادتها حدثت على تلٍّ عالٍ، في حضن السماء، حين فرت سبع عائلات مسيحية من مدينة الكرك في الأردن، تسبقها صلواتها وتلاحقها سكاكين ظلم الوالي العثماني. قادهم الشيخ راشد الحدادين إلى موضع يظنه الجغرافيون مكانًا، ويظنه المؤمنون معراجًا، وهناك بنوا منازلهم من حَجرٍ وقلبٍ، وغرسوا زيتونًا لا يموت، وسمّوا المكان: رام الله — المرتفع الذي ينام على كتف الله. نمت القرية، لا كما تنمو المدن، بل كما تنمو الفكرة. حجراً فوق حجر، وحُلمًا فوق حُلم، حتى صارت ملاذًا للتجار، ثم منبرًا للمثقفين زمن الانتداب البريطاني، ثم مرآةً للحياة السياسية في الضفة الغربية، حتى جاء يوم عام 1967... حين اخترق صوت الجندي الإسرائيلي أفق المدينة، وانكسرت المرآة. لكنها لم تنكسر تمامًا — بل أعادت تشكيل نفسها شظايا من مقاومة، ولغة، ومسرح، وجداريات. في رام الله، كل شارع له رواية، وكل شرفة تطل على غدٍ مؤجل. ثلاثة أيام أمضيتها في هذه المدينة، لكني لم أقضها دفعةً واحدة. كنت أغادرها صباحًا كمن يبحث عن فصولٍ متفرقة من كتابٍ واحد، أزور القدس، وبيت لحم، والخليل، ثم أعود إليها مع غروب الشمس، وكأنها الفقرة الأخيرة التي تأوي كل المعاني. في رام الله كنت أنام… لكني لا أنام. كان الشباك مفتوحًا على أنفاس المدينة، يدخلني بخار الشاي، ورائحة الخبز من فرنٍ شعبي لا يغلق أبوابه حتى في الليل، وصوت شابٍ يعزف العود في الظلام، كما لو أن المدينة نفسها هي من تعزف من بين أوتاره. في النهار كنت سائحًا في الذاكرة، وفي الليل كنت كاتبًا تتكئ عليه الشوارع لتروي، من ساحة المنارة إلى شارع ركب، من المقاهي التي يحرسها الشعراء بالكلمات، إلى الجدران التي تقاتل الاحتلال بالفرشاة واللون. رأيت كيف تُحاصر رام الله من كل الجهات، لا بالأسلاك فقط، بل بالحواجز والجنود، وبجدارٍ إسمنتيٍّ يفصل الحلم عن البيت، والبيت عن الطريق، والطريق عن الأمل. جدار الفصل العنصري لم يكن مجرد حائط، بل كأنّه حكاية رمادية نُسجت من حجارة الخوف والهيمنة، كأنّه يدٌ ضخمة تخنق خاصرة الضفة الغربية، ثم تضحك. في الصباح، ترى الناس يقفون في طابور الزمن عند الحواجز، وجوههم شاحبة، وعيونهم معلقة على الجنود، كأنهم يطلبون الإذن بالحياة. امرأة تمسك بيد طفلها، وعجوز يضع يده على صدره كأنه يتحسس ما تبقّى من الوطن داخله. كل صباح هو امتحان للكرامة، وكل مساء شهادة على الصبر. ورأيت كيف أن رام الله رغم القيود، تزرع في كل زاوية ذاكرة، وفي كل ركن مقاومة ناعمة، لا تُشبه السلاح، بل تشبه القصيدة. فالمدن التي تُحب الكتب لا تُهزم، حتى وإن قُرئت تحت الرصاص. جلست في مقهى صغير، كأنه كهف من ذاكرةٍ مضيئة، تكتظ جدرانه بصور شهداء يحدّقون في المارة كما لو أنهم يسألونهم: "هل أنتم أوفياء؟"، وبين الصور تتدلى مخطوطات شعرية كأنها تمائم تحرس نبض المدينة من النسيان. سألت النادل عن مكانٍ معين، لكنه لم يُجب فورًا... فجأة، ومن عند الباب، التفت نحوي رجل سبعيني، يبيع الكعك والزعتر، لكنّه بدا كأنه يبيع أكثر من طعام — يبيع ذاكرة وطن ملفوفة في ورقٍ خشن وعطر الزمن. صوته خرج من عمق التاريخ، هشًّا مثل ورقة خريف، لكنه مشحونٌ بطاقة لا تُقاس: "يا أخي... هون، الكل غريب، بس الكل من هون." كان يرتدي معطفًا باهتًا، أثقلته السنوات، لكنّه ارتداه كدرعٍ لجندي لم يتقاعد بعد. عيونه كانت شرفات مفتوحة على النكبات، ووجهه محفور بتجاعيد كأنها خريطة فلسطين، بكل تضاريسها ودموعها. مدّ لي قطعة من الكعك، لكن في تلك اللحظة لم تكن مجرد طعام، بل رمزًا، طقس عبورٍ إلى ما هو أعمق. قال: "بتحبها؟" نظرت إليه، ثم إلى الكعك، ثم إلى رام الله خلفه، وقلت: "أكتر من اللي فهمته." ضحك، لكن ضحكته لم تكن ضحكة، كانت زفرة قرنٍ من الألم الجميل، ثم رفع رأسه نحو السماء كمن يُحدّث الغيب، وقال: "إذا فهمتها… ما بتغادرها، حتى لو مشيت. هي مش بس مدينة... هي وعد، ونار، وحنين، إذا دخلتك... صرت منها، للأبد." في تلك اللحظة شعرت أنني لست زائرًا، بل شاهدًا على أسطورة حيّة، وأن هذا الكهل ليس بائعًا، بل نبيٌّ متعب من سكوت الجبال، يهمس بحكمة الأرض لأذنٍ لا تزال تحاول الفهم. عندها أدركت أن المدن ليست أبنية أو شوارع، بل أرواح، تسكننا أكثر مما نسكنها. في دفتري كتبت: في القدس رأيت وجهي في مرآة الروح، في بيت لحم رأيت الإيمان على هيئة أم، في الخليل رأيت الصبر يمشي حافيًا، أما في رام الله… رأيت الوطن وهو يتنفس رغم كل شيء. رام الله ليست مدينة، بل جرح يرفض أن ينزف تمامًا، وأمل يرفض أن يُشفى، وسؤالٌ أبديّ عن المعنى. رام الله… قصيدة لم تُختم بعد. إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى كل من تصل إليه هذه الكلمات: اعلموا أن رام الله ليست مدينةً تُعاش بالخطى فقط، بل تُفهم بالقلب، وتُحسّ بالصمت. هي ليست من الإسمنت والحجارة وحدها، بل من المعاني، من الجراح التي ترفض أن تنزف، من الأمل الذي يرفض أن يُشفى. فيها تعلّمتُ أن الوطن ليس خريطةً على الجدار، بل إنسانٌ ينتظر عند الحاجز، وطفلٌ يحمل حقيبة أمل، وشاعرٌ يكتب ليقاوم. رام الله علّمتني أن المدن ليست حجارة، بل شرفات من ذاكرة، ونبضٌ من مقاومة، وصوت عود في الظلام. هناك، رأيت كيف يحرس الناس كرامتهم بالكعك والقصائد، وكيف يصير الخبز فعلًا من أفعال الثبات. رأيت أن الاحتلال لا ينتصر على من يقرأ، ولا على من يزرع زيتونةً في حقل الحصار. أوصيكم، أن تحبّوا المدن التي تقرأ، أن تصغوا لصوت العود في الليل، أن تحفظوا الذاكرة من النسيان، وأن تعرفوا أن الوطن قد لا يكون كاملاً… لكنه يسكن في تفاصيل الحياة. إن دخلتكم رام الله، لا تغادروها كغرباء، بل احملوها معكم كقصيدةٍ غير مكتملة، كوصيةٍ محفورة في القلب، كحلمٍ لا يُغادركم، حتى إن غادرتموه. هي ليست مجرد مكان... هي سؤال، وجوابكم هو أن تبقوا أوفياء. كابتن اسامه شقمان . تابعو الأردن 24 على


جو 24
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- جو 24
الخليل... المدينة التي تمشي على شظايا الروح
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : - في صباحٍ لم تشرق فيه الشمس، بل انسحبت من السماء كمن يعتذر عن الغياب، توجهتُ جنوبًا... نحو مدينة لا تُزار للسياحة، بل تُحجّ إليها للوجع. الخليل ليست مدينة، بل مرآةٌ مكسورة يرى فيها الإنسان هشاشته الوجودية. حين وصلت، لم أشعر بالغربة... شعرت أنني عدتُ إلى جرحٍ قديم في داخلي لم أكن أعرف أنه ما زال ينزف. الزمن في الخليل ليس شيئًا يُقاس بالساعة، بل بالنبض المتسارع أمام بوابة عسكرية، وبالدمعة التي تتراجع خجلاً كي لا تُتهم بالضعف. حين وقفت أمام الحرم الإبراهيمي، لم أرَ مَعْلمًا دينيًا، بل رأيت قلبًا مقسومًا نصفين، كما تُقسّم الضمائر في زمن الاحتلال. الحجارة هناك لا تُخبرك بالتاريخ، بل تهمس لك أن التاريخ بكى كثيرًا قبل أن يُكتب. سألت إبراهيم عليه السلام، بصمتٍ داخليٍّ موجع: "هل تسمعنا من أعماق الغياب؟ هل رأيت كم هو العالم أعمى أمام الضوء الذي دفنته هنا؟" لم يُجبني، لكن الهواء ارتجف... وربما كانت تلك الإجابة الوحيدة الممكنة. في الخليل، لا تسبقك خطواتك، بل شكوكك. تُفتَّش الأرواح قبل الجيوب، وتُقاس الكرامة بعدد المرات التي لم تُصفَع فيها. الجنود لا يحرسون شيئًا... بل يتكئون على فراغهم. يمشون فوق أرصفة الذاكرة كما يمشي أحدهم على زجاج مكسور: كل خطوة تترك أثرًا من الألم، لكن التوقف ليس خيارًا؛ لأن الموت البطيء أشد رعبًا. الخليل ليست منقسمة جغرافيًا فقط، بل وجوديًا. جزء منها ما زال ينبض رغم الرصاص، وجزءٌ آخر يحتضر على أرصفة الانتظار، أما الجزء الأخير، فقد اختار أن يصمت لأن الصراخ صار رفاهية لا يملكها. البائع الصغير – حكمة الطفولة تحت القيد كان الطفل يقف قرب السوق القديم، يحمل علبة علكة كأنها قمرٌ صغيرٌ يوزع النور على العابرين. سألته: "ألا تذهب إلى المدرسة؟" فأجابني، بابتسامة فيها ما يكفي من الحكمة لإرباك الفلاسفة: "مدرستي اسمها حاجز ١٨... أتعلم فيه كيف أبتسم للجندي كي لا يُفتشني، وكيف أختصر أحلامي لتناسب جيبي الصغير." ابتسمت له، لكن قلبي ارتطم بالحجارة. في مدن مثل الخليل، الطفولة ليست مرحلة... بل معركة تُخاض كل صباح. الأرملة وباب الخيبة مررت بجانب بابٍ خشبيٍّ متآكلٍ من كثرة الانتظار، فوقه ملصقات قديمة وصمتٌ أكثر قسوة من الموت. جلست خلفه امرأةٌ تجاوزت السبعين، كانت تطرّز اسم ابنها الثالث على منديلٍ أبيض. قلت لها: "هل ما زلتِ تؤمنين بالسلام؟" أجابت دون أن ترفع رأسها: "السلام؟ لقد دفنته مع ولدي الثالث. أنا لا أؤمن بشيء بعد الآن... فقط أطرّز الذاكرة." ثم أضافت: "أغلقنا أبوابنا حين أدركنا أن القادم لن يحمل سوى الخذلان." في الخليل، هناك أبوابٌ لا تُغلق خوفًا من الغرباء، بل لأنها تعبت من استقبال الأمل الكاذب. الشيخ الذي يسكن ظل الحرم دخلت الحرم الإبراهيمي من بوابته الحديدية المشروخة، وداخل الجناح المقطوع من قدسيته، التقيت شيخًا جاوز السبعين، يجلس عند الزاوية التي تفصل الجدران كما يفصل الاحتلال بين الإيمان والحرية. كان يحمل مصحفًا قديمًا بيد، ومسبحةً تتلو معه نبض قلبه. سألته: "كيف تحتمل كل هذا التقسيم؟" أجابني: "نحن لا نحتمل... نحن نُختبر. كل صلاةٍ هنا عبورٌ فوق جسرٍ من العذاب، لكننا نصلي لأننا ما زلنا نؤمن أن الله لا يحتاج لتصاريح عبور." نظرت إليه، فشعرت أن كلماته تضيء الغرف المظلمة في داخلي. في الخليل، حتى الصلاة تحتاج شجاعة... لكن الإيمان لا يُقسم بجدار. إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى كل من تصل إليه هذه الكلمات: الخليل ليست حكاية نرويها، بل اختبارٌ أخلاقي لمن ما زال يملك قلبًا. مدينة لا تُريك كل وجعها دفعة واحدة، بل تهمس لك: "هل تستطيع أن تنظر إليّ دون أن تبكي؟" وحين هممت بالمغادرة، لم أودّعها، بل اعتذرت منها. قلت لها: "أيتها المدينة التي تمشي على الزجاج... أنت لستِ مكانًا، بل مرآة للإنسانية. وأنا آسف... لأننا حين وقفنا أمامك، رسبنا جميعًا." . تابعو الأردن 24 على


جو 24
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- جو 24
القدس... حين تتكلّم الحجارة وتَصمتُ السماء
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : زرتُ القدس في صباحٍ لا يُنسى... لم تكن الشمس فيه أدفأ من عادتها، ولا السماء أكثر زرقة، لكنني كنت أنا مختلفًا. دخلتُها كما يعود الغريب إلى أمّه التي لم يلمس دفءَ حضنها يومًا، ومع ذلك، يعرفها من أول نظرة، كما تُعرف الروح أختها. أتذكر – ولا أزال أذكر جيدًا – كيف أخذني والدي، رحمه الله، وأنا طفل صغير، لنُصلّي في المسجد الأقصى يوم جمعة. كنت أمسك بيدي الصغيرة يد أبي رحمه الله، غير مدرك أنني أمشي على الأرض التي مشى عليها الأنبياء. تلك الرحلة، وإن كانت قصيرة في الزمن، ظلت طويلة في ذاكرتي. ومرّت الأعوام… أكثر من خمسين عامًا، والمدينة تسكنني وأنا أبتعد عنها. حتى كتب الله لي أن أعود إليها، لا كطفل، بل كرجل يعمل في شركة طيران "الأجنحة العربية". عدتُ كأنني أعود إلى الجزء المفقود من قلبي. في القدس، لا تسير وحدك. يسير معك تاريخ الأرض، وأرواح الأنبياء، وخطوات المصلين، ودماء الشهداء. يسير ظلّ أبي، رغم أنه غاب منذ أعوام، ويسير خلفي طفل لم يولد بعد، ربما حفيدي... جاء ليستمع للدرس قبل أن تكتمل ملامحه. القباب، والمآذن، والأجراس... كلها تهمس بلغة واحدة: "من أراد أن يعرف سرّ الإنسان، فليأتِ إلى القدس." في القدس، لا تعرف الزمن كما تعرفه في بقية المدن. الدقيقة قد تكون قرنًا، واللحظة قد تحمل ألف رواية. هنا، تسكن الأسرار بين الحجارة، وتتنفّس الحكايات من نوافذ البيوت العتيقة. رأيت الجنود مدجّجين بالسلاح، لكنهم يحملون في أعينهم ما هو أضعف من الرصاص: الخوف. يخشون حجارة طفل، أو نظرة أمّ، أو دعاء شيخ. فالمحتلّ، مهما بدا قويًا، يحتاج إلى جدار وكاميرا وبندقية ليقنع نفسه أنه لا يزال يسيطر. أما أهل القدس، فتكفيهم الوقفة. يقفون على أعتاب بيوتهم كما تقف الجبال، بلا سلاح... سوى الصبر. امرأة تزرع نعنعًا على سطح بيتها في سلوان، كأنها تزرع أملاً. طفل يوزّع التمر على المصلين عند باب العمود، كأنه يوزّع ذاكرة. شابّ يرفع الأذان من على سطح مهدّم، رغم منعهم. وكلهم، حين يُسألون: "من أنتم؟" يجيبون: "نحن حُرّاس الفكرة." وقفتُ أمام قبة الصخرة، لم أُصلِّ، بل أنصتُّ. أنصتُّ لحوارٍ خفي بين السماء والأرض. السماء قالت: "من هنا بعثتُ أنبيائي." فأجابت الأرض: "ومن هنا دفعتُ دماء أحبّائي، لأحفظ الرسالة حيّة." قلت لنفسي: "من هنا مرّ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد... ومع ذلك، لا زال الناس يتقاتلون على الباب." فهمتُ يومها أن القدس لا تحتاج إلى من يمتلكها، بل إلى من يفهمها. القدس لا تُقاس بالأمتار، بل بالعزيمة. ولا تُحاصَر بالجدران، بل تسكن الأرواح. هي مدينة تحت الاحتلال، نعم... لكنها أيضًا تحت الرعاية الإلهية. رأيت شجرة زيتون عمرها ألف عام، لم تقل شيئًا، لكنها كانت تقول كل شيء. تذكرت عندها القول القديم: "من لا يستطيع أن يموت من أجل شجرة، لا يستحق أن يعيش في ظلّها." وأنا أغادر المدينة، لم أعد كما كنت. لم أعد أخاف الموت، لأنني رأيت ما هو أقدس من الحياة: أن تبقى واقفًا حين يُراد لك أن تنكسر. لهذا أكتب إليكم، يا أولادي، يا أحفادي، وكل من يقرأ هذه الحروف: لا تسألوا: "لمن القدس؟" بل اسألوا: "هل القدس تعيش فينا؟ أم أننا فقدنا الطريق إليها؟" القدس ليست حجارة. القدس معنى. والمعنى لا يُحرَّر بالسلاح وحده، بل بالمعرفة، بالإيمان، بالكرامة، وبالوقوف الصادق. إن قيل لكم ذات يوم: "أنتم لا تملكون شيئًا." فردّوا بثقة: "بل نملك مدينة تمشي في أرواحنا... اسمها القدس." . تابعو الأردن 24 على


جو 24
٣٠-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- جو 24
رغم الأجنحة التي حلّقت بي... لم أغادر الأردن أبدًا
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : أكثر من أربعة عقود وأنا أُحلّق بين الغيوم، طيارٌ عابرٌ للحدود والقارات، زرت خلالها أكثر من 75 مدينة تمتد من نيويورك الشاهقة بناطحاتها، إلى روما العتيقة بأزقتها المتعبة من التاريخ، ومن طوكيو التي تتلألأ أضواؤها كأنها تهمس بالحداثة، إلى كيب تاون التي ينام البحر عند قدميها كطفل وديع. رأيت مدنًا تنبض بالنظام، تغتسل بالكهرباء، وتغفو على ألحان التكنولوجيا. رأيت كيف روّض الإنسان الطبيعة، وكيف صنع من الحديد والبرمجيات عالماً يبدو كالحلم. فكنت كل مرة أهمس لنفسي: لعل هذا هو الكمال الذي نظن أننا نريده. لكنني كنت في كل مرة أعود، أعود إلى عمان. إلى شوارعها المزدحمة، إلى طوابير الانتظار في الدوائر الحكومية، إلى انقطاع المياه، إلى الكهرباء التي تتدلّى بخجل من أعمدة الزمن، إلى نقص المستشفيات وضعف التعليم وغلاء المعيشة. إلى وطنٍ يبدو – من الخارج – وكأنه تائه بين صفحات كتاب التنمية، يبحث عن سطرٍ يليق به. ومع ذلك، كنت أعود. لا من باب الواجب، بل من باب الحبّ، والدهشة، والانتماء الذي لا تفسّره الجغرافيا. قد يقول قائل: "أنت طيار! رأيت العالم بأسره! كيف تقبل أن تعيش في بلد يُرهقك في أبسط خدماته؟" وأجيبهم: "رأيت كل شيء، ولم أرَ الأردن في أي شيء." في كل مطار هبطت فيه، كنت أبحث عن شيء لا أراه. شيء لا يُباع في متاجر باريس، ولا يُزرع في حدائق سنغافورة. شيء لا يُبرمج في وادي السيليكون ولا يُؤرشف في أرشيفات أوروبا. إنه الوطن، لا بوصفه قطعة أرض، بل بوصفه إحساسًا مُرًّا كالقهوة، عذبًا كالدفء الذي يسري في صدرك حين تسمع صوت أمّك تقول: "نيالك رجعت". في كل مرة أنظر فيها من نافذة الطائرة إلى مدن العالم التي تنام على نظمٍ محكمة، أُصاب بشيء من الحسد... ثم أضحك. لأنني أعلم أن ما نملكه نحن لا يُقلَّد. كيف تقلّد "المحبة العشوائية"؟ كيف تزرع "الدفء البسيط" في أرصفة باريس؟ كيف تعلّم الشعوب أن تحبّ بلدها رغم كل شيء؟ رغم الفساد؟ رغم التعب؟ نعم، نعاني. بل نحن في عنق زجاجة لا نكاد نخرج منها. ولكننا - لسبب لا تشرحه الكتب - نبتسم، ونصبر، ونكتب القصائد في حبّ وطنٍ لا يبادلنا ذات الخدمات التي نُؤديها له كل يوم. نحن لا نحبّ الأردن لأنه كامل، بل نحبه لأنه ناقص، ونحن نكمله. ورغم كل ما ذُكر، فإن هناك مَن يحاول، بصمت، أن يرفع رأس هذا البلد بين الأمم. ففي مؤشر التنمية البشرية لعام 2022 الصادر عن الأمم المتحدة، جاء الأردن في المرتبة 102 من أصل 191 دولة، بتصنيف "تنمية بشرية عالية" وقيمة بلغت 0.720، وهي مرتبة تشير إلى توازن بين الطموح والإمكانات. وفي تقرير أوكسفام لعام 2024، تقدّم الأردن إلى المرتبة 43 عالميًا في مؤشر الالتزام بالحد من عدم المساواة، متصدرًا الدول العربية بفضل تحسينات في هيكل الضرائب وحقوق العمل. أما في مؤشر الفساد العالمي لعام 2024، فقد حصل الأردن على 49 نقطة من أصل 100 واحتل المرتبة 59 عالميًا من بين 180 دولة، مسجلًا تحسنًا ملموسًا مقارنة بالسنوات الماضية. وفيما يخص الحرية الاقتصادية، جاء الأردن في المرتبة 93عالميًا في مؤشر عام 2023، والمرتبة الخامسة إقليميًا من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي مرتبة تؤشر إلى أفق مفتوح بانتظار من يزرعه. وفي مؤشر عدم التوازن في التنمية الاقتصادية، انخفضت القيمة إلى 4.1 في عام 2024، وهو أدنى مستوى منذ عام 2007، بما يعني بداية توجه أكثر عدالة في توزيع التنمية. في الفلسفة يقولون: "الانتماء ليس اختيارًا، بل شعورٌ يتجذر بك دون إذن منك." وأنا أقول: "قد تنتمي لكل أرض تهبط فيها، لكنك لا تنتمي بحق إلا لأرضٍ حين تهبط فيها، تشعر بأنك عدت إلى نفسك." لقد حلقّت فوق السحاب، لكنني لم أهرب. رأيت الأرض من أعلى، لكنني لم أتخلّ عنها. لأن الوطن ليس مكانًا تعيش فيه، بل مكانٌ تعود إليه كلما عشتَ في غيره. أربعون عامًا وأنا أرى العالم يركض، فيما نحن نمشي بتثاقل. ومع ذلك، لم أندم يومًا أنني أردني. بل كلما سألني أحدهم في باريس أو مونتريال أو كيب تاون: "من أين أنت؟" كنت أرفع رأسي وأقول: "من بلدٍ صغير، لكن قلبه كبير... من الأردن." كابتن اسامه شقمان . تابعو الأردن 24 على


جو 24
٢٢-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- جو 24
التقاعد: بداية الحياة التي كنت تؤجلها
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : هل التقاعد نهاية؟ أم بداية من نوع آخر؟ في عالم يربط الإنسان بمدى إنتاجيته، كثيرون يظنون أن التقاعد هو النقطة الأخيرة في سطر الحياة العملية. لكنه في الحقيقة قد يكون السطر الأول في فصل جديد، أكثر هدوءًا، وعمقًا، وصدقًا مع الذات. انسحاب من الدور، لا من الحياة التقاعد لا يعني اختفاء الإنسان، بل تحوّله. كما أن الفصول لا تموت، لكنها تتبدّل لتستعد لطبيعة أخرى. فالخريف مثلًا، ليس موتًا بل مرحلة نضج، فيها تنسحب الطبيعة إلى الداخل لتستعد لربيع جديد. كذلك المتقاعد، لا يخرج من الحياة، بل يعيد الدخول إليها بروح أكثر صفاء. نظرة المجتمع... تحتاج إلى تصحيح في مجتمعاتنا، التي تقدّس الإنجاز، قد يُنظر إلى المتقاعد وكأنه "فقد قيمته". لكن هذا التصور سطحي. التقاعد لا يُقصي الإنسان، بل يمنحه وقتًا نادرًا للعودة إلى ذاته، والتصالح مع ما فاته، والبدء من جديد... على طريقته. كما قال الفيلسوف هيراقليطس: "لا يمكنك أن تسبح في النهر نفسه مرتين، لأن الماء يتغير، وأنت تتغير." ماذا يقول العلم؟ بحسب دراسة منشورة في The Gerontologist، فإن من ينظر إلى التقاعد كفرصة للتطوّر الذاتي يعيش تقاعدًا أكثر سعادة واستقرارًا. وفي بحث من جامعة هارفارد، تبيّن أن التقاعد يمكن أن يكون إيجابيًا للصحة النفسية إذا كان مقرونًا بالشعور بالحرية، لا بالفقدان. أمثلة ملهمة بعد الستين مارك توين كتب روائعه بعد سن الستين. بول سيزان لم يبدأ رسم لوحاته الأشهر إلا بعد سن الـ60. نيلسون مانديلا خرج من السجن في الـ71 ليقود جنوب أفريقيا نحو مستقبل جديد. كل هؤلاء لم يعتبروا العمر عائقًا، بل فرصة للانطلاقة الحقيقية. التقاعد: وقت المكاسب لا الخسائر استرجاع الوقت الذي كان مسلوبًا. التفرغ للهوايات، القراءة، السفر، التأمل. نقل الخبرات للأجيال الجديدة عبر التطوع أو التعليم. والأهم: أن تعيش "أنت" لنفسك، لا للدور الذي كنت تمثّله فقط. رسالة أخيرة: لا تؤجل حياتك التقاعد ليس نهاية القصة، بل ربما هو بدايتها الحقيقية. لا تسمح لصورة نمطية أن تحجب عنك أجمل مراحلك. الآن... تبدأ الحياة التي كنت تؤجلها. . تابعو الأردن 24 على