
رغم الأجنحة التي حلّقت بي... لم أغادر الأردن أبدًا
الكابتن اسامة شقمان
جو 24 :
أكثر من أربعة عقود وأنا أُحلّق بين الغيوم، طيارٌ عابرٌ للحدود والقارات، زرت خلالها أكثر من 75 مدينة تمتد من نيويورك الشاهقة بناطحاتها، إلى روما العتيقة بأزقتها المتعبة من التاريخ، ومن طوكيو التي تتلألأ أضواؤها كأنها تهمس بالحداثة، إلى كيب تاون التي ينام البحر عند قدميها كطفل وديع. رأيت مدنًا تنبض بالنظام، تغتسل بالكهرباء، وتغفو على ألحان التكنولوجيا.
رأيت كيف روّض الإنسان الطبيعة، وكيف صنع من الحديد والبرمجيات عالماً يبدو كالحلم. فكنت كل مرة أهمس لنفسي: لعل هذا هو الكمال الذي نظن أننا نريده.
لكنني كنت في كل مرة أعود، أعود إلى عمان. إلى شوارعها المزدحمة، إلى طوابير الانتظار في الدوائر الحكومية، إلى انقطاع المياه، إلى الكهرباء التي تتدلّى بخجل من أعمدة الزمن، إلى نقص المستشفيات وضعف التعليم وغلاء المعيشة. إلى وطنٍ يبدو – من الخارج – وكأنه تائه بين صفحات كتاب التنمية، يبحث عن سطرٍ يليق به. ومع ذلك، كنت أعود. لا من باب الواجب، بل من باب الحبّ، والدهشة، والانتماء الذي لا تفسّره الجغرافيا.
قد يقول قائل: "أنت طيار! رأيت العالم بأسره! كيف تقبل أن تعيش في بلد يُرهقك في أبسط خدماته؟"
وأجيبهم: "رأيت كل شيء، ولم أرَ الأردن في أي شيء."
في كل مطار هبطت فيه، كنت أبحث عن شيء لا أراه. شيء لا يُباع في متاجر باريس، ولا يُزرع في حدائق سنغافورة. شيء لا يُبرمج في وادي السيليكون ولا يُؤرشف في أرشيفات أوروبا. إنه الوطن، لا بوصفه قطعة أرض، بل بوصفه إحساسًا مُرًّا كالقهوة، عذبًا كالدفء الذي يسري في صدرك حين تسمع صوت أمّك تقول: "نيالك رجعت".
في كل مرة أنظر فيها من نافذة الطائرة إلى مدن العالم التي تنام على نظمٍ محكمة، أُصاب بشيء من الحسد... ثم أضحك. لأنني أعلم أن ما نملكه نحن لا يُقلَّد.
كيف تقلّد "المحبة العشوائية"؟ كيف تزرع "الدفء البسيط" في أرصفة باريس؟ كيف تعلّم الشعوب أن تحبّ بلدها رغم كل شيء؟ رغم الفساد؟ رغم التعب؟
نعم، نعاني. بل نحن في عنق زجاجة لا نكاد نخرج منها. ولكننا - لسبب لا تشرحه الكتب - نبتسم، ونصبر، ونكتب القصائد في حبّ وطنٍ لا يبادلنا ذات الخدمات التي نُؤديها له كل يوم.
نحن لا نحبّ الأردن لأنه كامل، بل نحبه لأنه ناقص، ونحن نكمله.
ورغم كل ما ذُكر، فإن هناك مَن يحاول، بصمت، أن يرفع رأس هذا البلد بين الأمم. ففي مؤشر التنمية البشرية لعام 2022 الصادر عن الأمم المتحدة، جاء الأردن في المرتبة 102 من أصل 191 دولة، بتصنيف "تنمية بشرية عالية" وقيمة بلغت 0.720، وهي مرتبة تشير إلى توازن بين الطموح والإمكانات.
وفي تقرير أوكسفام لعام 2024، تقدّم الأردن إلى المرتبة 43 عالميًا في مؤشر الالتزام بالحد من عدم المساواة، متصدرًا الدول العربية بفضل تحسينات في هيكل الضرائب وحقوق العمل.
أما في مؤشر الفساد العالمي لعام 2024، فقد حصل الأردن على 49 نقطة من أصل 100 واحتل المرتبة 59 عالميًا من بين 180 دولة، مسجلًا تحسنًا ملموسًا مقارنة بالسنوات الماضية.
وفيما يخص الحرية الاقتصادية، جاء الأردن في المرتبة 93عالميًا في مؤشر عام 2023، والمرتبة الخامسة إقليميًا من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي مرتبة تؤشر إلى أفق مفتوح بانتظار من يزرعه.
وفي مؤشر عدم التوازن في التنمية الاقتصادية، انخفضت القيمة إلى 4.1 في عام 2024، وهو أدنى مستوى منذ عام 2007، بما يعني بداية توجه أكثر عدالة في توزيع التنمية.
في الفلسفة يقولون: "الانتماء ليس اختيارًا، بل شعورٌ يتجذر بك دون إذن منك." وأنا أقول: "قد تنتمي لكل أرض تهبط فيها، لكنك لا تنتمي بحق إلا لأرضٍ حين تهبط فيها، تشعر بأنك عدت إلى نفسك."
لقد حلقّت فوق السحاب، لكنني لم أهرب. رأيت الأرض من أعلى، لكنني لم أتخلّ عنها. لأن الوطن ليس مكانًا تعيش فيه، بل مكانٌ تعود إليه كلما عشتَ في غيره.
أربعون عامًا وأنا أرى العالم يركض، فيما نحن نمشي بتثاقل. ومع ذلك، لم أندم يومًا أنني أردني. بل كلما سألني أحدهم في باريس أو مونتريال أو كيب تاون: "من أين أنت؟" كنت أرفع رأسي وأقول: "من بلدٍ صغير، لكن قلبه كبير... من الأردن."
كابتن اسامه شقمان
.
تابعو الأردن 24 على

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جو 24
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- جو 24
القدس... حين تتكلّم الحجارة وتَصمتُ السماء
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : زرتُ القدس في صباحٍ لا يُنسى... لم تكن الشمس فيه أدفأ من عادتها، ولا السماء أكثر زرقة، لكنني كنت أنا مختلفًا. دخلتُها كما يعود الغريب إلى أمّه التي لم يلمس دفءَ حضنها يومًا، ومع ذلك، يعرفها من أول نظرة، كما تُعرف الروح أختها. أتذكر – ولا أزال أذكر جيدًا – كيف أخذني والدي، رحمه الله، وأنا طفل صغير، لنُصلّي في المسجد الأقصى يوم جمعة. كنت أمسك بيدي الصغيرة يد أبي رحمه الله، غير مدرك أنني أمشي على الأرض التي مشى عليها الأنبياء. تلك الرحلة، وإن كانت قصيرة في الزمن، ظلت طويلة في ذاكرتي. ومرّت الأعوام… أكثر من خمسين عامًا، والمدينة تسكنني وأنا أبتعد عنها. حتى كتب الله لي أن أعود إليها، لا كطفل، بل كرجل يعمل في شركة طيران "الأجنحة العربية". عدتُ كأنني أعود إلى الجزء المفقود من قلبي. في القدس، لا تسير وحدك. يسير معك تاريخ الأرض، وأرواح الأنبياء، وخطوات المصلين، ودماء الشهداء. يسير ظلّ أبي، رغم أنه غاب منذ أعوام، ويسير خلفي طفل لم يولد بعد، ربما حفيدي... جاء ليستمع للدرس قبل أن تكتمل ملامحه. القباب، والمآذن، والأجراس... كلها تهمس بلغة واحدة: "من أراد أن يعرف سرّ الإنسان، فليأتِ إلى القدس." في القدس، لا تعرف الزمن كما تعرفه في بقية المدن. الدقيقة قد تكون قرنًا، واللحظة قد تحمل ألف رواية. هنا، تسكن الأسرار بين الحجارة، وتتنفّس الحكايات من نوافذ البيوت العتيقة. رأيت الجنود مدجّجين بالسلاح، لكنهم يحملون في أعينهم ما هو أضعف من الرصاص: الخوف. يخشون حجارة طفل، أو نظرة أمّ، أو دعاء شيخ. فالمحتلّ، مهما بدا قويًا، يحتاج إلى جدار وكاميرا وبندقية ليقنع نفسه أنه لا يزال يسيطر. أما أهل القدس، فتكفيهم الوقفة. يقفون على أعتاب بيوتهم كما تقف الجبال، بلا سلاح... سوى الصبر. امرأة تزرع نعنعًا على سطح بيتها في سلوان، كأنها تزرع أملاً. طفل يوزّع التمر على المصلين عند باب العمود، كأنه يوزّع ذاكرة. شابّ يرفع الأذان من على سطح مهدّم، رغم منعهم. وكلهم، حين يُسألون: "من أنتم؟" يجيبون: "نحن حُرّاس الفكرة." وقفتُ أمام قبة الصخرة، لم أُصلِّ، بل أنصتُّ. أنصتُّ لحوارٍ خفي بين السماء والأرض. السماء قالت: "من هنا بعثتُ أنبيائي." فأجابت الأرض: "ومن هنا دفعتُ دماء أحبّائي، لأحفظ الرسالة حيّة." قلت لنفسي: "من هنا مرّ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد... ومع ذلك، لا زال الناس يتقاتلون على الباب." فهمتُ يومها أن القدس لا تحتاج إلى من يمتلكها، بل إلى من يفهمها. القدس لا تُقاس بالأمتار، بل بالعزيمة. ولا تُحاصَر بالجدران، بل تسكن الأرواح. هي مدينة تحت الاحتلال، نعم... لكنها أيضًا تحت الرعاية الإلهية. رأيت شجرة زيتون عمرها ألف عام، لم تقل شيئًا، لكنها كانت تقول كل شيء. تذكرت عندها القول القديم: "من لا يستطيع أن يموت من أجل شجرة، لا يستحق أن يعيش في ظلّها." وأنا أغادر المدينة، لم أعد كما كنت. لم أعد أخاف الموت، لأنني رأيت ما هو أقدس من الحياة: أن تبقى واقفًا حين يُراد لك أن تنكسر. لهذا أكتب إليكم، يا أولادي، يا أحفادي، وكل من يقرأ هذه الحروف: لا تسألوا: "لمن القدس؟" بل اسألوا: "هل القدس تعيش فينا؟ أم أننا فقدنا الطريق إليها؟" القدس ليست حجارة. القدس معنى. والمعنى لا يُحرَّر بالسلاح وحده، بل بالمعرفة، بالإيمان، بالكرامة، وبالوقوف الصادق. إن قيل لكم ذات يوم: "أنتم لا تملكون شيئًا." فردّوا بثقة: "بل نملك مدينة تمشي في أرواحنا... اسمها القدس." . تابعو الأردن 24 على


البوابة
٠١-٠٥-٢٠٢٥
- البوابة
الملكة رانيا تخطف الأنظار في نيويورك بإطلالة من برادا
تألقت الملكة رانيا العبدالله خلال لقائها نائبة الأمين العام للأمم المتحدة على هامش اجتماع مؤسسة الأمم المتحدة في نيويورك، واختارت الملكة إطلالة معاصرة راقية بصيحة الكاب الرائجة من علامة برادا ونسقته معه فيست من ذات العلامة. تفاصيل إطلالة الملكة رانيا في نيويورك ارتدت الملكة رانيا طقم باللون الكحلي ذات تصميم عصري من علامة برارا ونسقت معه قميص بصيحة الكاب من قماش الشيفون المطبع برسمة الورود البيضاء، أما الحذاء الذي اعتمدته الملكة رانيا من AQUAZZURA Bellezza، جاء بتصميم أنثوي يتميز بكعب رفيع عالي، وجلد لامع بتدرج اللون البني مطابق للقميص، وحملت حقيبة من نفس لون الحذاء مما زاد من أناقتها وأنوثتها. وأضافة على الإطلالة أقراط أذن ذهبية متدلية وعليها حبة من اللؤلؤ مقدمة من TIIGAN Fine Jewelry، ومن الناحية الجمالية، اعتمدت رانيا العبدلله على تسريحة شعر فرد منسدلة على كتفيها، والتي أبرزت ملامحها بكل وضوح، ولجأت إلى لمسات من المكياج البرونزي المتوهج، ووضعت أحمر شفاه ناعم.


جو 24
٣٠-٠٤-٢٠٢٥
- جو 24
رغم الأجنحة التي حلّقت بي... لم أغادر الأردن أبدًا
الكابتن اسامة شقمان جو 24 : أكثر من أربعة عقود وأنا أُحلّق بين الغيوم، طيارٌ عابرٌ للحدود والقارات، زرت خلالها أكثر من 75 مدينة تمتد من نيويورك الشاهقة بناطحاتها، إلى روما العتيقة بأزقتها المتعبة من التاريخ، ومن طوكيو التي تتلألأ أضواؤها كأنها تهمس بالحداثة، إلى كيب تاون التي ينام البحر عند قدميها كطفل وديع. رأيت مدنًا تنبض بالنظام، تغتسل بالكهرباء، وتغفو على ألحان التكنولوجيا. رأيت كيف روّض الإنسان الطبيعة، وكيف صنع من الحديد والبرمجيات عالماً يبدو كالحلم. فكنت كل مرة أهمس لنفسي: لعل هذا هو الكمال الذي نظن أننا نريده. لكنني كنت في كل مرة أعود، أعود إلى عمان. إلى شوارعها المزدحمة، إلى طوابير الانتظار في الدوائر الحكومية، إلى انقطاع المياه، إلى الكهرباء التي تتدلّى بخجل من أعمدة الزمن، إلى نقص المستشفيات وضعف التعليم وغلاء المعيشة. إلى وطنٍ يبدو – من الخارج – وكأنه تائه بين صفحات كتاب التنمية، يبحث عن سطرٍ يليق به. ومع ذلك، كنت أعود. لا من باب الواجب، بل من باب الحبّ، والدهشة، والانتماء الذي لا تفسّره الجغرافيا. قد يقول قائل: "أنت طيار! رأيت العالم بأسره! كيف تقبل أن تعيش في بلد يُرهقك في أبسط خدماته؟" وأجيبهم: "رأيت كل شيء، ولم أرَ الأردن في أي شيء." في كل مطار هبطت فيه، كنت أبحث عن شيء لا أراه. شيء لا يُباع في متاجر باريس، ولا يُزرع في حدائق سنغافورة. شيء لا يُبرمج في وادي السيليكون ولا يُؤرشف في أرشيفات أوروبا. إنه الوطن، لا بوصفه قطعة أرض، بل بوصفه إحساسًا مُرًّا كالقهوة، عذبًا كالدفء الذي يسري في صدرك حين تسمع صوت أمّك تقول: "نيالك رجعت". في كل مرة أنظر فيها من نافذة الطائرة إلى مدن العالم التي تنام على نظمٍ محكمة، أُصاب بشيء من الحسد... ثم أضحك. لأنني أعلم أن ما نملكه نحن لا يُقلَّد. كيف تقلّد "المحبة العشوائية"؟ كيف تزرع "الدفء البسيط" في أرصفة باريس؟ كيف تعلّم الشعوب أن تحبّ بلدها رغم كل شيء؟ رغم الفساد؟ رغم التعب؟ نعم، نعاني. بل نحن في عنق زجاجة لا نكاد نخرج منها. ولكننا - لسبب لا تشرحه الكتب - نبتسم، ونصبر، ونكتب القصائد في حبّ وطنٍ لا يبادلنا ذات الخدمات التي نُؤديها له كل يوم. نحن لا نحبّ الأردن لأنه كامل، بل نحبه لأنه ناقص، ونحن نكمله. ورغم كل ما ذُكر، فإن هناك مَن يحاول، بصمت، أن يرفع رأس هذا البلد بين الأمم. ففي مؤشر التنمية البشرية لعام 2022 الصادر عن الأمم المتحدة، جاء الأردن في المرتبة 102 من أصل 191 دولة، بتصنيف "تنمية بشرية عالية" وقيمة بلغت 0.720، وهي مرتبة تشير إلى توازن بين الطموح والإمكانات. وفي تقرير أوكسفام لعام 2024، تقدّم الأردن إلى المرتبة 43 عالميًا في مؤشر الالتزام بالحد من عدم المساواة، متصدرًا الدول العربية بفضل تحسينات في هيكل الضرائب وحقوق العمل. أما في مؤشر الفساد العالمي لعام 2024، فقد حصل الأردن على 49 نقطة من أصل 100 واحتل المرتبة 59 عالميًا من بين 180 دولة، مسجلًا تحسنًا ملموسًا مقارنة بالسنوات الماضية. وفيما يخص الحرية الاقتصادية، جاء الأردن في المرتبة 93عالميًا في مؤشر عام 2023، والمرتبة الخامسة إقليميًا من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي مرتبة تؤشر إلى أفق مفتوح بانتظار من يزرعه. وفي مؤشر عدم التوازن في التنمية الاقتصادية، انخفضت القيمة إلى 4.1 في عام 2024، وهو أدنى مستوى منذ عام 2007، بما يعني بداية توجه أكثر عدالة في توزيع التنمية. في الفلسفة يقولون: "الانتماء ليس اختيارًا، بل شعورٌ يتجذر بك دون إذن منك." وأنا أقول: "قد تنتمي لكل أرض تهبط فيها، لكنك لا تنتمي بحق إلا لأرضٍ حين تهبط فيها، تشعر بأنك عدت إلى نفسك." لقد حلقّت فوق السحاب، لكنني لم أهرب. رأيت الأرض من أعلى، لكنني لم أتخلّ عنها. لأن الوطن ليس مكانًا تعيش فيه، بل مكانٌ تعود إليه كلما عشتَ في غيره. أربعون عامًا وأنا أرى العالم يركض، فيما نحن نمشي بتثاقل. ومع ذلك، لم أندم يومًا أنني أردني. بل كلما سألني أحدهم في باريس أو مونتريال أو كيب تاون: "من أين أنت؟" كنت أرفع رأسي وأقول: "من بلدٍ صغير، لكن قلبه كبير... من الأردن." كابتن اسامه شقمان . تابعو الأردن 24 على