logo
قد تكون عدميا ولا تدري

قد تكون عدميا ولا تدري

السوسنة٠١-٠٤-٢٠٢٥

هل يعرف الإنسان حقا من يكون، على الرغم من طول التأملات والوقت الذي يقضيه في التفكر بنفسه وأفكاره ووجوده في هذا العالم المتغيّر بقيمه؟ هل يؤدي تشريح أفكارنا وأفعالنا بجلسات مصارحة حقيقية مع أنفسنا ومواجهتها إلى معرفة انتمائنا الفكري الحقيقي، بعيدا عن مثاليات التربية والمجتمع؟ كيف نعالج أمراض التربية الصالحة، التي باتت تشكّل عائقا أمام تحديات العصر الحالي؟ ما هي قيمه اليوم؟ لماذا نخاف من العدمية طالما أنها تجنب الواقع بدلا من مواجهته. وتحثنا على الاعتقاد بأن ثمة عوالم أخرى بدلا من تقبل هذا العالم.. ومحاولة الشعور بالقوة بدلا من الإقرار بالضعف، بذلك تكون العدمية أقرب إلى التفاؤل والمثالية والتعاطف، منها إلى التشاؤم والتهكّم واللامبالاة. هل تحفّز العدمية الناس إلى البحث عن طرق أكثر إيجابية للحياة.يقف إنسان اليوم أمام تحدّيات كثيرة، أقلها الفردية، والمسؤولية المترتبة عنها، التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وشلّ مبدأ مركزية الإنسان وتفرّده وهيمنته، يحاول إعادة تقييم نفسه في هذا العالم، فيرى نفسه في مواجهة العدمية، باعتبارها أيديولوجيا اللاشيء، يرى كل ما آمن به من حقوق إنسانية ومبادئ ويقينيات بحكم اللاشيء، يعيد ترتيب نفسه في هذا العالم لمعرفة مصيره، ويرى أنّ كلّ ما حوله من أحداث وتطورات وتراكمات علوم واختراعات، تدعوه إلى التشكيك بكلّ ما نشأ عليه، يرى نفسه سجينا كسجناء سقراط، وقد حاول تحريرهم من الكهف، سقراط نفسه الذي فتكوا به لأنه أخبرهم أن ما يعيشون فيه هو سجن وليس بيتا. وفي ذلك يقول افلاطون: الناس حاكمت سقراط ونفذوا فيه حكم الإعدام بتهمة محاولة تحريرهم.لسنا بعيدين كثيرا عن محاكمة كل من يحاول تشكيكنا بيقيناتنا، على الرغم من مرور أكثر من الفين وخمسمئة سنة، لكننا نجد أنفسنا أمام خيار طرحه: الحياة التي لا نخضعها للدراسة والتأمّل لا تستحق أن تعاش، لكن ديكارت يطرح علينا خيارا مناقضا: الحياة التي لا نخضعها للتفكّر أمتع وأهدأ وأجدر بأن تعاش.. والسبب أن دراستها تحتاج جهدا وكدحا، بل قد تؤدي إلى ظلام مطبق بدلا من النور. وكلاهما كان مناهضا للعدمية. إلى أي اتجاه نمضي؟نولن غرتز Nolen Gertz في كتابه «العدمية»، ترجمة دينا غراب الصادر العام الفائت عن مؤسسة هنداوي، يحاول تصويب بعض ما لحق بالعدمية من فهم خاطئ، يحاول في أحد فصول الكتاب، بعنوان «ما لا تعنيه العدمية»، أن يصوّب بعض الالتباسات حول فهمها، خاصة ربطها بالتشاؤم والتهكم واللامبالاة، موضحا أنّ التشاؤم محبط وكئيب لكنه ليس عدمية، بل نقيضها. ربما يكون التشاؤم والعدمية نتاجين لليأس.. إذ يمكنك أن تعرف المتشائم حين تراه. أما العدمي فقد تكون معه ولا تدري أنه عدمي، بل من الممكن ان تكون أنت نفسك عدميا ولا تدري. وهنا نورد مثالا على ذلك، إنّ تشاؤم شوبنهاور هو ما ساعد نيتشه على اكتشاف عدميته.التهكم يتعلق بالسلبية كالتشاؤم، لكن المتهكم لا يقول إن الحياة بلا جدوى، بل إن ما يدعيه الناس بشأن الحياة، بلا جدوى. فهو يمكن أن يكون مستمتعا بالحياة.المتشائمون ليسوا عدمييين لأنّهم قانعون باليأس لا يتجنبونه. والمتهكمون ليسوا عدمييين، لأنّهم قانعون بالزيف ولا يتجنّبونه. من أهم سمات تجنّب اليأس الاستعداد للتصديق. اللامبالاة ليست عدمية أيضا. من الممكن أن يكشف اللامبالي الستار عن عدمية الآخرين كالمتشائم والمتهكم. اللامبالي لا يشعر بشيء بينما العدمي لديه مشاعر، الفارق أن ما يكن له العدمي من مشاعر هو لا شيء في حدّ ذاته. كثيرون قرأوا نيتشه، واختلفت المقاربات باختلاف قرائه، في العدمية تحديدا، لكن نيتشه جاءنا بعدميّتين: عدميّة إيجابية باعتبارها علامة على ازدياد قوة الروح، وعدمية سلبية باعتبارها تراجعا لقوة الروح وانحدارها. ربما يكون هنا الاختيار أكثر مرونة وانفتاحا للآتي. وبما أنّه شخّص ظهور العدمية بسببين رئيسيين هما، إعلاء عالم الغيبيات، واختزال ما هو طبيعي، فقد ألهم نيتشه الفلاسفة لاستقصاء العدمية باستقصاء الحياة اليومية. فأعطى في كتاب جينالوجيا الأخلاق خمس وسائل لتوجيه الدوافع الهدامة لدى البشرية: نيتشه أوضح أنه على الرغم من أنّ العدمية هدامة، فإنّ دورها في الحياة اليومية هو التحفيز على الأنشطة التي يعتقد أنها بناءة مثل، التأمل والتنويم الذاتي وممارسة التمارين الرياضية والمباهج الصغيرة والتطوع ومخالطة الآخرين والاحتفال.يفصّل لنا غرتز أنّ العدمية في كل مكان، ونحن غير بعيدين عنها. أين توجد؟ في المنزل، وعلينا ألا نندهش من أنّ الثقافة الشعبية تتبنى العدمية، وتدفع الناس إلى أن يكونوا عدميين بالترفيه والإلهاء والحد من الضغط للتخلص من القلق الناجم عن الحرية. كذلك الراديو والتلفزيون يسهمان في خلق الإنسان العام، الذي يقدم تجارب زائفة لنعيش تجارب زائفة. نشاهدها في المثول بالقرب من الآخرين وليس برفقة الآخرين. لقد صار الهروب من الواقع من خلال التحديق في الشاشة هو الوضع الراهن الذي تدربنا الشاشات على الانصياع له والارتضاء به، الطريقة الوحيدة لمعرفة كيفية فعل أي شيء.العدمية في المدرسة تتجلّى في النظر إلى شاشة المعلم بدلا من شاشة المنزل، وجعل الطلاب كائنات طيعة وقابلة للتأقلم، لا يتعلمون كيف ينتقدون المجتمع، بل يتعلمون كيف يمتثلون له. إذا كان الاعتراض والشك ضروريين من أجل النمو، فإنّ الحياة اليسيرة المستقرة، ليست سوى موت بطيء وأكيد. بعبارة أخرى الحياة على هذا النحو هي حياة عدمية. أما عن وجودها في العمل، فقد حولت الصناعة وما تلاها من ثورات في الإنتاج العمل من مصدر للهوية إلى مصدر للبؤس والشقاء. بعد أن كان عمل الأسلاف يعرف هويّة عائلة الشخص. فلم يعد الإحساس بالانتماء إلى المجتمع الناتج عن العمل نابعا من مشاركتنا إبداعاتنا مع بعضنا، بل بات يتأتّى من تقاسمنا كراهية العمل بعضنا مع بعض. نؤجر عقولنا وأجسادنا لمن يدفع.وبما أننا نعيش نحن في عالم تكنولوجي، فصرنا نلجأ إليه لتفادي الشعور بالوحدة. يطرح غرتز رأي حنة أرندت في أننا نجد أنفسنا في عالم تكنولوجي، لا لأن البشر عدميون، وفي بحث دائم عن الهروب، بل لأنّ الأنظمة السياسية التي تعد بالسعادة الفردية، وتنتج بدلا منها معاناة فردية تجعلنا نعتقد أنّنا مسؤولون مسؤولية فردية عن معاناتنا. وهكذا صرنا نساوي بين التقدم التكنولوجي والتقدم البشري: معادلة من الاستمرار في إعماء أعيننا عن الطبيعة العدمية للتقدم التكنولوجي. وإذا كانتالتكنولوجيا تنتج عدمية سلبية، فخطرها أنّها تعيد تعريف قيمنا وليس تدميرها.ربما لا تنشئ التكنولوجيا قيما جديدة، لكنها تنشئ أشكالا جديدة من العدمية.هل تقاوم العدمية بالعدمية؟ نعيد طرح غرتز سؤاله في نهاية كتابه، وما أجاب عنه بعبارة مستوحاة من نيتشه نختم بها مقالنا: إن لم تقتلنا العدمية فربما تجعلنا اقوى.أكاديمية لبنانيّة

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اسماعيل الشريف يكتب : هل تصدق؟
اسماعيل الشريف يكتب : هل تصدق؟

أخبارنا

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • أخبارنا

اسماعيل الشريف يكتب : هل تصدق؟

أخبارنا : يبيعنا بعض المؤرخين وكُتّاب السير الذاتية أكاذيب مشروعة، وقصصًا ملفقة نحلو لأنفسنا تصديقها – نيتشه. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، صرّح الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك بأن الولايات المتحدة تخطط لإسقاط سبع دول خلال خمسة أعوام: العراق، وسوريا، ولبنان، وإيران، والسودان، والصومال، وليبيا. هل صدّقت، قبل ثلاثين عامًا، أن اتفاق أوسلو سيجلب السلام، وأن العلم الفلسطيني سيرفرف فوق دولة مستقلة؟ لكن ما حدث كان العكس تمامًا: استولى الكيان الصهيوني على مزيد من الأراضي، ووسّع المستوطنات، وبنى جدارًا مزّق أوصال الضفة الغربية، بينما فرض على غزة حصارًا يعيد إلى الأذهان ظلمات العصور الوسطى. ثم جاء عام 2000، فأفشل باراك، رئيس وزراء الكيان، اتفاق أوسلو الثاني. وبعد أسابيع، وبينما كانت فلسطين تغلي، اقتحم شارون المسجد الأقصى، فاشتعلت الضفة الغربية، وقابلتها آلة القمع الصهيونية بوحشية، ما أسهم في صعود شعبية حماس. وهل صدّقت أن أسامة بن لادن، الذي قيل إنه يعيش في الكهوف، كان العقل المدبر لهجمات سبتمبر؟ ومع أول قنبلة أُسقطت على أفغانستان، أعلنت طالبان استعدادها لتسليمه والابتعاد عن المشهد السياسي، لكن الولايات المتحدة رفضت، زاعمة أنها تريد «محاربة الإرهاب وتحرير النساء من الاضطهاد». فاحتلت أفغانستان، وقتلت ربع مليون أفغاني، وأنفقت تريليوني دولار، لتنتهي القصة بعودة طالبان إلى الحكم وطرد الاحتلال في عام 2021. وهل صدّقت، في عام 2003، أن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل قادرة على تدمير أوروبا في دقائق؟ وأنه كان حليفًا لأسامة بن لادن؟ وهل صدّقت أن صدام حسين كان «هتلر العرب»، وأن الإطاحة به كانت السبيل الوحيد لحماية البشرية؟ العراق آنذاك كان محاصرًا منذ ثلاثة عشر عامًا، تفتّشه فرق دولية لم تعثر على شيء. ونتيجة لذلك الحصار، مات نصف مليون طفل عراقي، وهو الثمن الذي وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بأنه «يستحق». ثم جاء الاحتلال، فتفجّرت حرب أهلية، وابتلع النفوذ الإيراني الدولة، وخرج تنظيم الدولة من رحم الفوضى، ناشرًا الخراب. وهل صدّقت، في عام 2011، أن الولايات المتحدة أرادت تحويل الدول العربية إلى ديمقراطيات؟ رفعت الغطاء عن حسني مبارك، الذي بات بين ليلة وضحاها «ديكتاتورًا» بعد ثلاثين عامًا من دعمها له، فقط لأنها أدركت أنها لم تعد قادرة على حمايته. وهل صدّقت أن معمر القذافي كان يوزّع «الفياغرا» على جنوده لاغتصاب النساء، وأن حلف الناتو تدخل لإنقاذ الشعب الليبي؟ لم يخبرك أحد أن القذافي وقّع عقودًا نفطية مع شركات روسية وصينية، وكان يخطط لإطلاق عملة إفريقية موحدة. أما النتيجة، فدولة ممزقة تغرق في الفوضى والانقسام. وهل صدّقت أن الولايات المتحدة أرادت الحرية للشعب السوري؟ لم يخبرك أحد عن خطة «خشب الجميز»، التي دعمت بموجبها فصائل مسلحة، بعضها متطرف، لإسقاط الأسد، لا لشيء إلا لأنه حليف لإيران، ويشكّل شريانًا للسلاح الواصل إلى حزب الله. وهل صدّقت أن الكيان الصهيوني يسعى حقًا لتدمير حماس؟ تحت هذه الذريعة، ارتكب أكبر إبادة جماعية في التاريخ الحديث، وحوّل غزة إلى أرض لا تصلح للحياة. ورغم ذلك، عجز عن القضاء على حماس، التي لا تزال تقاوم حتى اليوم. وهل تُصدق أن المناطق التي احتلّها الكيان في غزة وسوريا ولبنان هي مجرد «مناطق عازلة لحماية أمنه»؟ إنها في الحقيقة جزء من سياسة توسعية ممنهجة. ألم يقل ترامب إن مساحة الكيان لا تتجاوز رأس قلم في الشرق الأوسط؟ وهل صدّقت بوجود منظمات دولية أو قانون دولي يُحقق العدالة في هذا العالم البائس؟ لقد أثبت هذا النظام أنه لا يخدم سوى الولايات المتحدة وحلفائها، وهو سيف مُسلّط على رقاب من يخرج عن طوعهم، وعصا تأديب للضعفاء. وهل صدّقت أن في الغرب حرية حقيقية؟ لقد شاهدنا اعتقال الطلاب، وطرد أساتذة الجامعات، وقطع التمويل عن المؤسسات الأكاديمية، وتزوير الحقائق في الإعلام، وإغلاق حسابات التواصل الاجتماعي لكل من يُخالف الرواية الغربية الرسمية. وبعد كل هذا، هل تُصدّق حقًا أن المجزرة ستتوقف، وأن أهل غزة لن يُرحَّلوا، إذا ما سلّمت حماس سلاحها، وأفرجت عن المحتجزين، وغادر قادتها القطاع؟ ــ الدستور

بين العرش والدرع والضمير: تأملات في زمن العواصف
بين العرش والدرع والضمير: تأملات في زمن العواصف

جهينة نيوز

time١٢-٠٤-٢٠٢٥

  • جهينة نيوز

بين العرش والدرع والضمير: تأملات في زمن العواصف

تاريخ النشر : 2025-04-12 - 02:05 pm بقلم:- د. عمّار محمد الرجوب في الزمن الذي تتناسل فيه التحديات من رحم التغيرات الكبرى، ويغدو الوطن كتفاحةٍ ناضجة تتنازعها السكاكين، يكون الالتفاف حول الرموز السيادية—الملك، والجيش، والأمن—ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل موقفًا وجوديًا، تفرضه فطرة البقاء، وبداهة العقل، ونبض القلب الذي لا يهدأ إن أحس بالخطر يحدق بأرضه. ما الوطن إلا مرآة لداخلنا. فإن كنا ممزقين من الداخل، عاث الفساد في الخارج، وإن كنا صرحًا من اتزانٍ ووعيٍ وانتماء، انعكست تلك الهيبة على جغرافيا الوطن وحدوده ومصيره. وفي هذا السياق، لا بد من أن نستدرك أن الانتماء ليس نشيدًا نردده في الصباح، بل تَحمُّل مسؤولية، واستيعاب لِما لا يُقال، والتفاف حكيم حول الثوابت التي بها تستقيم الأمة. قال الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" في هذه الآية ليست الدعوة فقط لحمل السلاح، بل لحمل الوعي، واستيعاب أن البناء يحتاج إلى من يسهر في الظل كي ينام الناس في النور. وقال نيتشه: "من لا يملك سيفًا في قلبه، سيموت بسيف غيره". فهل وُجد الأمن إلا ليكون سيفنا الداخلي؟ وهل خُلق الجيش إلا ليحرس قلوبنا من الانهيار؟ وهل الملك، إلا ذلك الوجدان الجمعي الذي تتجسد فيه ذاكرة الأمة ورؤيتها للمستقبل؟ أما من زاوية النفس، فإن أقسى ما تمر به الروح هو شعورها بأنها بلا سند، بلا مأوى فكري، بلا نظام يحرس انتماءها من التفتت. في تلك اللحظة، يصبح الاحتشاد حول الرموز صرخة وجودية، صرخة من القلب تقول: "لن نسمح أن يتشظى المعنى، فنحن المعنى، ونحن الحرس، ونحن الذاكرة". قال جلالة الملك عبد الله الثاني: "الوطن ليس شعارات ترفع، بل أفعال تترجم صدق الانتماء" قال المتنبي: إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ ... فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ وهذا الشرف ليس فقط شرف النسب أو الطموح، بل شرف الانتماء، حين تغدو الكلمة موقفًا، والصمت خيانة، والحياد جريمة أخلاقية. وفي الحديث الشريف: "إنما الإمام جنة يُقاتَل من ورائه ويُتقى به" فنُدرك أن الملك ليس فقط قائدًا سياسيًا، بل هو حصن روحيّ ونفسيّ لأمة تتلمس طريقها وسط عتمة هذا العالم، وتبحث عن الضوء الذي لا يخبو. في عمق كل أزمة، يولد امتحان مزدوج: امتحان للقيادة، وامتحان للاتباع. القيادة الحقّة لا تُقاس بكمّ الخُطب، بل بقدرتها على أن تكون نقطة التقاء لأرواح متعبة تبحث عن مرسى، وعلى الطرف الآخر، يُقاس الاتباع لا بالخضوع، بل بالقدرة على التمييز بين صوت الوطن وصدى الطامعين. في هذا الزمن الذي يتربّص فيه الشكّ باليقين، تُصبح الثقة فعلاً تحرريًا، واختيارًا نابعًا من بصيرةٍ لا من غفلة. ليست الوطنية ثوبًا نرتديه عند الحاجة، بل جلدًا يلازمنا، لا ننزعه مهما كانت حرارة اللحظة. الالتفاف حول رموز الوطن لا يعني الوقوف على هامش النقد، بل يعني أن نمارس نقدًا ينطلق من الحرص لا من الهدم، من الحب لا من التشفي، من الأمل لا من السخط. فما أكثر الذين يعارضون دون أن يقدّموا بديلاً، وما أقلّ الذين يحبّون بصمتٍ ويحمون بلا منّة. أولئك هم ملح الأرض، وهم سرّ بقاء الأوطان في ذاكرة الزمن. وأنا أقول: "حين يشتد الموج، لا تعاتب السفينة، بل كن من يقبض على شراع الوطن بثبات." وفي نهاية هذا التأمل، أدع الكلمات تنسحب لتفسح المجال لنبض الشعر: إذا ما اشتدَّ ليلُ الحزن فينا ... فجيشُ الحقِّ نورٌ في المدى وملكُ العدلِ درعٌ لا يُدانى ... وأمنُ الشعبِ عطرٌ في الصدى فيا من تكتبون الحلمَ نارًا ... تعلَّموا الولاءَ كما يُبنى الهدى تابعو جهينة نيوز على

قد تكون عدميا ولا تدري
قد تكون عدميا ولا تدري

السوسنة

time٠١-٠٤-٢٠٢٥

  • السوسنة

قد تكون عدميا ولا تدري

هل يعرف الإنسان حقا من يكون، على الرغم من طول التأملات والوقت الذي يقضيه في التفكر بنفسه وأفكاره ووجوده في هذا العالم المتغيّر بقيمه؟ هل يؤدي تشريح أفكارنا وأفعالنا بجلسات مصارحة حقيقية مع أنفسنا ومواجهتها إلى معرفة انتمائنا الفكري الحقيقي، بعيدا عن مثاليات التربية والمجتمع؟ كيف نعالج أمراض التربية الصالحة، التي باتت تشكّل عائقا أمام تحديات العصر الحالي؟ ما هي قيمه اليوم؟ لماذا نخاف من العدمية طالما أنها تجنب الواقع بدلا من مواجهته. وتحثنا على الاعتقاد بأن ثمة عوالم أخرى بدلا من تقبل هذا العالم.. ومحاولة الشعور بالقوة بدلا من الإقرار بالضعف، بذلك تكون العدمية أقرب إلى التفاؤل والمثالية والتعاطف، منها إلى التشاؤم والتهكّم واللامبالاة. هل تحفّز العدمية الناس إلى البحث عن طرق أكثر إيجابية للحياة.يقف إنسان اليوم أمام تحدّيات كثيرة، أقلها الفردية، والمسؤولية المترتبة عنها، التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وشلّ مبدأ مركزية الإنسان وتفرّده وهيمنته، يحاول إعادة تقييم نفسه في هذا العالم، فيرى نفسه في مواجهة العدمية، باعتبارها أيديولوجيا اللاشيء، يرى كل ما آمن به من حقوق إنسانية ومبادئ ويقينيات بحكم اللاشيء، يعيد ترتيب نفسه في هذا العالم لمعرفة مصيره، ويرى أنّ كلّ ما حوله من أحداث وتطورات وتراكمات علوم واختراعات، تدعوه إلى التشكيك بكلّ ما نشأ عليه، يرى نفسه سجينا كسجناء سقراط، وقد حاول تحريرهم من الكهف، سقراط نفسه الذي فتكوا به لأنه أخبرهم أن ما يعيشون فيه هو سجن وليس بيتا. وفي ذلك يقول افلاطون: الناس حاكمت سقراط ونفذوا فيه حكم الإعدام بتهمة محاولة تحريرهم.لسنا بعيدين كثيرا عن محاكمة كل من يحاول تشكيكنا بيقيناتنا، على الرغم من مرور أكثر من الفين وخمسمئة سنة، لكننا نجد أنفسنا أمام خيار طرحه: الحياة التي لا نخضعها للدراسة والتأمّل لا تستحق أن تعاش، لكن ديكارت يطرح علينا خيارا مناقضا: الحياة التي لا نخضعها للتفكّر أمتع وأهدأ وأجدر بأن تعاش.. والسبب أن دراستها تحتاج جهدا وكدحا، بل قد تؤدي إلى ظلام مطبق بدلا من النور. وكلاهما كان مناهضا للعدمية. إلى أي اتجاه نمضي؟نولن غرتز Nolen Gertz في كتابه «العدمية»، ترجمة دينا غراب الصادر العام الفائت عن مؤسسة هنداوي، يحاول تصويب بعض ما لحق بالعدمية من فهم خاطئ، يحاول في أحد فصول الكتاب، بعنوان «ما لا تعنيه العدمية»، أن يصوّب بعض الالتباسات حول فهمها، خاصة ربطها بالتشاؤم والتهكم واللامبالاة، موضحا أنّ التشاؤم محبط وكئيب لكنه ليس عدمية، بل نقيضها. ربما يكون التشاؤم والعدمية نتاجين لليأس.. إذ يمكنك أن تعرف المتشائم حين تراه. أما العدمي فقد تكون معه ولا تدري أنه عدمي، بل من الممكن ان تكون أنت نفسك عدميا ولا تدري. وهنا نورد مثالا على ذلك، إنّ تشاؤم شوبنهاور هو ما ساعد نيتشه على اكتشاف عدميته.التهكم يتعلق بالسلبية كالتشاؤم، لكن المتهكم لا يقول إن الحياة بلا جدوى، بل إن ما يدعيه الناس بشأن الحياة، بلا جدوى. فهو يمكن أن يكون مستمتعا بالحياة.المتشائمون ليسوا عدمييين لأنّهم قانعون باليأس لا يتجنبونه. والمتهكمون ليسوا عدمييين، لأنّهم قانعون بالزيف ولا يتجنّبونه. من أهم سمات تجنّب اليأس الاستعداد للتصديق. اللامبالاة ليست عدمية أيضا. من الممكن أن يكشف اللامبالي الستار عن عدمية الآخرين كالمتشائم والمتهكم. اللامبالي لا يشعر بشيء بينما العدمي لديه مشاعر، الفارق أن ما يكن له العدمي من مشاعر هو لا شيء في حدّ ذاته. كثيرون قرأوا نيتشه، واختلفت المقاربات باختلاف قرائه، في العدمية تحديدا، لكن نيتشه جاءنا بعدميّتين: عدميّة إيجابية باعتبارها علامة على ازدياد قوة الروح، وعدمية سلبية باعتبارها تراجعا لقوة الروح وانحدارها. ربما يكون هنا الاختيار أكثر مرونة وانفتاحا للآتي. وبما أنّه شخّص ظهور العدمية بسببين رئيسيين هما، إعلاء عالم الغيبيات، واختزال ما هو طبيعي، فقد ألهم نيتشه الفلاسفة لاستقصاء العدمية باستقصاء الحياة اليومية. فأعطى في كتاب جينالوجيا الأخلاق خمس وسائل لتوجيه الدوافع الهدامة لدى البشرية: نيتشه أوضح أنه على الرغم من أنّ العدمية هدامة، فإنّ دورها في الحياة اليومية هو التحفيز على الأنشطة التي يعتقد أنها بناءة مثل، التأمل والتنويم الذاتي وممارسة التمارين الرياضية والمباهج الصغيرة والتطوع ومخالطة الآخرين والاحتفال.يفصّل لنا غرتز أنّ العدمية في كل مكان، ونحن غير بعيدين عنها. أين توجد؟ في المنزل، وعلينا ألا نندهش من أنّ الثقافة الشعبية تتبنى العدمية، وتدفع الناس إلى أن يكونوا عدميين بالترفيه والإلهاء والحد من الضغط للتخلص من القلق الناجم عن الحرية. كذلك الراديو والتلفزيون يسهمان في خلق الإنسان العام، الذي يقدم تجارب زائفة لنعيش تجارب زائفة. نشاهدها في المثول بالقرب من الآخرين وليس برفقة الآخرين. لقد صار الهروب من الواقع من خلال التحديق في الشاشة هو الوضع الراهن الذي تدربنا الشاشات على الانصياع له والارتضاء به، الطريقة الوحيدة لمعرفة كيفية فعل أي شيء.العدمية في المدرسة تتجلّى في النظر إلى شاشة المعلم بدلا من شاشة المنزل، وجعل الطلاب كائنات طيعة وقابلة للتأقلم، لا يتعلمون كيف ينتقدون المجتمع، بل يتعلمون كيف يمتثلون له. إذا كان الاعتراض والشك ضروريين من أجل النمو، فإنّ الحياة اليسيرة المستقرة، ليست سوى موت بطيء وأكيد. بعبارة أخرى الحياة على هذا النحو هي حياة عدمية. أما عن وجودها في العمل، فقد حولت الصناعة وما تلاها من ثورات في الإنتاج العمل من مصدر للهوية إلى مصدر للبؤس والشقاء. بعد أن كان عمل الأسلاف يعرف هويّة عائلة الشخص. فلم يعد الإحساس بالانتماء إلى المجتمع الناتج عن العمل نابعا من مشاركتنا إبداعاتنا مع بعضنا، بل بات يتأتّى من تقاسمنا كراهية العمل بعضنا مع بعض. نؤجر عقولنا وأجسادنا لمن يدفع.وبما أننا نعيش نحن في عالم تكنولوجي، فصرنا نلجأ إليه لتفادي الشعور بالوحدة. يطرح غرتز رأي حنة أرندت في أننا نجد أنفسنا في عالم تكنولوجي، لا لأن البشر عدميون، وفي بحث دائم عن الهروب، بل لأنّ الأنظمة السياسية التي تعد بالسعادة الفردية، وتنتج بدلا منها معاناة فردية تجعلنا نعتقد أنّنا مسؤولون مسؤولية فردية عن معاناتنا. وهكذا صرنا نساوي بين التقدم التكنولوجي والتقدم البشري: معادلة من الاستمرار في إعماء أعيننا عن الطبيعة العدمية للتقدم التكنولوجي. وإذا كانتالتكنولوجيا تنتج عدمية سلبية، فخطرها أنّها تعيد تعريف قيمنا وليس تدميرها.ربما لا تنشئ التكنولوجيا قيما جديدة، لكنها تنشئ أشكالا جديدة من العدمية.هل تقاوم العدمية بالعدمية؟ نعيد طرح غرتز سؤاله في نهاية كتابه، وما أجاب عنه بعبارة مستوحاة من نيتشه نختم بها مقالنا: إن لم تقتلنا العدمية فربما تجعلنا اقوى.أكاديمية لبنانيّة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store