
كي لا يضيق الفضاء الثقافي للمساجد في سورية
أسامة إسبر نشر في 5 مايو 2025 الساعة 14 و 01 دقيقة
إيطاليا تلغراف
أسامة إسبر
شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة
انغلق الفضاء الثقافي في سورية منذ استولى حزب البعث على السلطة، وبدأ تهميش المثقّفين المستقلّين المغايرين أيديولوجياً، وبناء المثقّف الموظّف بحسب الوزارات والخطط التي تضعها من أجل الثقافة. كانت المطبوعات والصحف تتميّز أحياناً ببعض الإضاءات والترجمات المهمّة، لكنّها كانت تخلو بشكلٍ عام من الفكر النقدي والقراءة التحليلية للواقع السوري ولبنية السلطة والتديّن السائد فيه. ينطبق هذا أيضاً على منشوراتٍ (ومطبوعات) الأحزاب اليسارية، التي لم تركّز بما يكفي في الجانب الفكري المتعمِّق، وفي قراءة واقع تدّعي تغييره. كانت تحدُث بين الفينة والأخرى طفراتٌ وقفزاتٌ في السياق تخرج فيها كتب متميّزة من المطابع، لكنّ الرقابة المفروضة على المطبوعات خنقت حرّية الفكر، وكانت الكتب المسموحة (بعامّة) تتناغم مع البنى السائدة في المجتمع أو المُتحكِّمة به. وعلى مدى عقود، لم تلعب المدارس والجامعات، ولا الاجتماعات الحزبية العقائدية (بأشكالها كافّة)، دوراً في تثقيف الشباب السوري وزرع رؤية بديلة غير ملقَّنة للحياة في أذهانهم.
فالمناهج المعتمدة لا تواكب تطوّر المعرفة في العالم على الصعيدين الفكري والعلمي. أمّا تلك المتعلّقة بالجانب النظري، فلا تتجاوز ملخصّاتٍ مدرسية مبسّطة تستهدف التدريس الببغائي، وبعيدة البعد كلّه عن ترسيخ الفكر النقدي. كانت مصادر المعرفة المتاحة في المدارس والجامعات (حتى الخاصّة منها) محدودةً وضيّقةً. لم نرَ كتباً وإصدارات وأبحاثاً مهمّة صدرت عن جامعاتنا فرضت حضوراً بين القرّاء العرب، وساهمت في الفتوح النظرية والعلمية، ولعبت دوراً في تقدّم المعرفة. كما أننا لم نسمع عن طلابٍ تخرّجوا ألّفوا كتباً نشرتها جامعاتنا السورية خارج الأطروحات التي غلب عليها الطابع الأكاديمي المدرسي، وتكرّر المذكور في المراجع، ولا ترقى إلى أن تكون كتباً تشكّل مصادر للمعرفة النقدية.
شاب العبادة في المساجد في سورية، على امتداد التاريخ، شيء من السياسة
لا يعني هذا الافتقار إلى أشخاصٍ قادرين على الإبداع في المجالات كلّها، إلا أن القصد هنا أن المؤسّسات البعثية لم تكن آفاقاً لاحتضان الإبداع والفكر المختلف. وبما أن المدارس والجامعات السورية لم تشكّل مصادرَ للمعرفة وروحاً للنقد والتساؤل في حقبة 'البعث'، بسبب الرقابة الأمنية المباشرة، والتحكم بمسار المناهج والمعارف في المجالات كلّها، وتسليم هذه المفاصل لعقلياتٍ أمنيةٍ في مملكة الفساد المستشرية، لم يبقَ في سورية سوى المساجد، التي واكبها في عهد الأسد (الأب) افتتاح وتمويل معاهد لتحفيظ القرآن الكريم تحت اسم 'معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم'، وتسهيل طبعات فاخرة من دور نشر معيّنة، من أجل استعراض إيماني شكلي. كانت الخطب الدينية تُراقَب على مدار الأسبوع، وكانت تُملى في أفرع الأمن كي تكرّر مقولاتها المبتذلة على الجمهور.
لدور العبادة في أيّ بلد طابعها الخاصّ المستقلّ، وتُمارَس فيها الطقوس الدينية الخاصّة بشعب أو دين، إلا أن المساجد في سورية على امتداد التاريخ الحديث كان يشوب العبادة فيها شيء من السياسة. ففي العهد القمعي، كانت الرقابة على المساجد تفرض على المصلين خطباً لا يمكن أن تمرّ من دون عبارات التمجيد المنافقة لمن سمّته الدعاية المخابراتية 'القائد الخالد'. لكن مشهديّة الصلاة في حدّ ذاتها، وتدفّق أعداد المصلّين من داخل الجوامع إلى الشوارع، والتركيز في البعد الشكلي للصلوات، كانت توصل رسالةً لها طابعٌ سياسيٌّ واضح. ورغم أن التديّن في النهاية مسألة روحية عميقة بين الذات وخالقها، ويجب ألا تكون له علاقة بالسياسة، إلا أنه نتيجةً للقمع الشديد الذي طاول التديّن في سورية، كانت ردّات الفعل تتجلّى في المشهدية الدينية الجماعية، التي كان فعل الصلاة فيها تأكيداً للهُويَّة في وجه سلطة غاشمة ومُكفَّرة.
قوّض نظام البعث الأطر المدنية لأيّ فكر جديد أو علماني في سورية، رغم ادّعائه العلمانية ونجاحه في مرحلة من المراحل في تجاوز الأطر الطائفية نحو أطر وطنية وقومية عابرة للطوائف، بحسب عالم السياسة والباحث الأميركي رايموند هينبوش. ولم يكن النظام السوري يقتصر على طائفةٍ معينةٍ تعتنق أيديولوجيا سياسية هُويّةً، كما روّج بعضهم في افتقار واضح إلى الدقّة والبرهان. هذا التقويض لاحتمال نشوء أيّ فكر مدني علماني معارض عبّد طريق الجوامع، ولكنّه كان طريقاً خاضعاً لرقابةٍ أمنيةٍ موسوسة. وبعد سقوط نظام 'البعث' وفرار الوريث إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تحرّرت سورية من الرقابة المخابراتية، وأفرغت سجونها من المساجين بصنوفهم كافّة (الجنائية والسياسية)، وكان هذا إيذاناً بعهد جديد احتفى به السوريون الذين تضرّروا من حكم 'البعث' عقوداً على الصعد كافّة.
جاء النظام الجديد بوجهٍ ملتحٍ وخطبة جامع معدّلة، مقيماً الصلاة في المطارات والجامعات والساحات العامّة. وكان أداء صلاة عيد الفطر في القصر الجمهوري حدثاً لا سابق له في تاريخ سورية الحديث، بما ينطوي عليه من دلالاتٍ واضحة. وعكس النظام الجديد بتركيبته الأيديولوجية الدينية تأثيرات وهابية نجدية. وحاول بعض المرتبطين فكرياً بنجد أن يعدّلوا في الخطاب الديني في الحواضر السورية من طريق استهداف وسطيّته ودفعه إلى التطرّف. وبدأ خطباء العهد الجديد بإلقاء خطبهم النارية، كما فعل من يعرّف نفسه بأنّه مقاتل في صفوف الثورة السورية محسن غصن، الذي ألقى في جامع زين العابدين في دمشق، في 7 مارس/ آذار الماضي، خطبةً بعنوان 'احذروا غضب أهل الشام'، أعلن فيها أن دمشق أرض المحشر، ويجب أن تُطهّر من 'الأرجاس' (الطوائف الأخرى)، لأنّها المدينة التي يرسل إليها الله صفوة خلقه: 'تخيلوا أن يكون خيرة خلقه في أرض الشام وبيننا أولئك الأرجاس'. ويضيف: 'لا يمكن أن تعكر صفونا أيُّ طائفة كانت فالشام سنّية وستبقى سنّية'، ثم بنبرة لا تخلو من تهديد أضاف: 'إننا نتوق للقتل'. وهذا يشير إلى طبيعة التديّن الذي يراد تعميمه. والخطير في الأمر أن عدداً كبيراً من الأطفال والمراهقين كانوا بين جمهور المستمعين للخطبة. وفي جامع السلطان إبراهيم في جبلة، ألقى أحد مشايخ الساحل السوري خطبةً ناريةً هدّد فيها وتوعّد بالسيف والرصاص قائلاً إن هذا هو الحوار الأنسب مع الآخر.
إذا ما سمح لخطباء متطرّفين بإلقاء ما يشاؤون من خطب تحريضية، فستُغسَل أدمغة الأجيال السورية الطالعة وتبقى أسيرةَ تديّن إلغائي
سمعنا أيضاً عن إطلاق نار واشتباك بالأيدي في المساجد في حماة وحلب لفرض وصفة وهابية عليها، تعالجها من الوسطية، وتضعها في إطار التوجّه المطلوب، إلا أن رجال الدين السوريين لم يتماشوا معه، وأعلوا أصوتهم ضدّه.
في غياب دور المدرسة والجامعة والصحافة الحرّة، لم يبقَ للسوريين على المستوى الشعبي إلا المساجد، وإذا ما سيطر خطباء متطرّفون على هذه المساجد، التي تحرّرت من المخابرات الجوّية والأرضية، وسُمح لهم بإلقاء ما يشاؤون من خطب تحريضية، ستُغسَل أدمغة الأجيال السورية الطالعة وتبقى أسيرةَ قالب تديّن أحادي إلغائي، قائم على ادّعاء امتلاك الحقيقة وتكفير الطرف الآخر. سيزيد من خطورة الأمر وجود مجاهدين أجانب متشدّدين دينياً يلعبون دوراً محورياً في بنية السلطة. إن خطاباً من هذا النوع، إذا ما مُنح الغطاء الرسمي، سيواصل شحن التديّن وتحويله عصبيةً طائفيةَ إلغائيةً لن تتمكّن من بناء دولة مواطنة يمكن العيش فيها، وربّما ستتحوّل سورية إلى ديكتاتورية دينية من لون واحد. وسيؤدّي هذا إلى تصعيد العنف القائم على الطائفية في ظلّ غياب عدالة انتقالية في إطار قانوني واستمرار الانتقامات العشوائية الفردية، التي أثارت نوعاً من الذعر العام، في وقت يحاول فيه أقطاب الحكم تسويق أنفسهم على الصعيد العالمي، وتجميل صورتهم من أجل إرساء السلطة والملك.
بقاء المساجد مصادرَ وحيدةً للثقافة، ومنابرَ للخطب العنصرية والإلغائية والطائفية، سيحرف التديّن عن طبيعته، وعن مفهوم الإيمان القائم على العلاقة التعبّدية بين الذات وخالقها. يجب ألا ننسى أن بعض المساجد العربية الكبرى لعبت دوراً تنويرياً في التاريخ العربي، ويذكر في هذا السياق من جوامعَ: القرويين والزيتونة والأموي والأزهر، في محطّاتٍ من تاريخها. والسؤال هنا: هل ستحدث نقلة في المساجد السورية بتحوّلها فضاءاتٍ للتنوير الديني، وللتعبّد الفردي والانفتاح الفكري الديني، ولنشر التسامح والإخاء واحترام الآخر، ولممارسة التديّن بعيداً من الانقسامات والتحريض والتمذهب والتفرقة الطائفية، أم سيحتلّ منابرها شيوخٌ لا تشرب عقولهم إلا من ينابيع نجد؟… يجب ألا تفوت الإشارة إلى أن هناك ميلاً واضحاً إلى الاستعراض الثقافي الديني المشهدي، الذي يذكّر بعروض طلائع البعث، يتجلّى في مسابقات ومناسبات دينية لتوجيه الأطفال والشبان كما حدث أخيراًً في الملعب البلدي في إدلب، حين كُرّم 1500 طالب وطالبة من حفاّظ القرآن الكريم. إن جهداً كهذا يجب احترامه، لكنّ التديّن العميق يقتضي علاقةً خاصّةً بين المؤمن وربّه بعيدة من السياسة، ومن الاستعراض المشهدي، وإذا كان على المتديّن أن يتباهى، فعليه أن يتباهى قبل أيّ شيء آخر بالأخلاق الحسنة، ونبذ العنف والطائفية وتكفير الآخرين والإفتاء بقتلهم. عليه أن يتباهى أيضاً بقبولهم واعتبارهم امتداداً للذات والانفتاح على علوم العصر وفصل الدين عن السياسة، وهذا ما يخدم بناء دولة عصرية تعلو على جراح الماضي من خلال العدالة الانتقالية.
من المناقض لشعارات الثورة المدنية السورية أن تصبح تلك المساجد التي انطلقت منها منابرَ للتحريض الطائفي ونزعات التكفير
لا تتوقّف حدود الإيمان عند مسألة حفظ آلي لآياتٍ من القرآن الكريم والاحتفاء بذلك منجزاً دينياً فقط، فهذا الحفظ كي يكون فعّالاً يجب أن يترافق مع فهم عميق للنصّ لا يكرّر رؤية السلف، بل يثبت اجتهاد الخلف، وقدرتهم على القيام بقراءة تواكب العصر واعتماد تأويل ينعكس على الوطن بتعدّد مشاربه وتوجّهاته السياسية والدينية، وهو أمر يجب أن يجري بعيداً عن التلقين والتطرّف والاستبداد، بامتلاك المعنى والإمساك بلجام فرس الحقيقة والسلطة، والركوب عليهما، والسير بهما حيث نريد.
ربّما هذا ما دفع الباحث السوري محمد حبش (يتبنّى آراءً متحضّرةً ومنفتحةً على الآخر تدعو إلى إخاء الأديان وصون كرامة الإنسان) إلى انتقاد فرض النقاب على حفّاظ القرآن الكريم من الفتيات، اللواتي حُشدن في الملعب البلدي في إدلب، بصفحته في 'فيسبوك'، معلّقاً على منظّمي الحدث: 'كنتُ أتمنّى أن يأخذوا بالجانب المتسامح في الفقه الإسلامي'، مضيفاً أن الدين 'يُسرٌ وليس عُسراً'، في دعوة صريحة لوقف مسار التشدّد الذي يسلكه التديّن السوري.
إذا كانت شرارة الانتفاضة المدنية السورية قد انطلقت من المساجد، فإن من المناقض والمخالف للشعارات التي طُرحِت على امتداد الأعوام السابقة أن يعود المنتصرون، بعد انتصارهم، إلى تحويل هذه المساجد، التي خرجوا منها لإسقاط نظام الأسد، منابر للتحريض الطائفي والنزعات التكفيرية والعسكرة، بدلاً من أن تكون منابرَ للحرّية والكرامة والانفتاح، ضمن المناخ الذي بشّرت به الانتفاضة في بداياتها المدنية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بلد نيوز
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- بلد نيوز
دارة الدكتور سلطان تستذكر حصول حاكم الشارقة على الدكتوراه الفخرية من جامعة كانازوا
نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي: دارة الدكتور سلطان تستذكر حصول حاكم الشارقة على الدكتوراه الفخرية من جامعة كانازوا - بلد نيوز, اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025 10:53 صباحاً استذكرت دارة الدكتور سلطان القاسمي ضمن مشروع «درجة علمية» حصول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة كانازوا اليابانية في إبريل عام 2010. جاءت هذه الشهادة الفخرية تقديراً لشخص سموه كأحد أبرز الرموز العربية في دعم التعليم والثقافة والفن في الشارقة والإمارات بصفة خاصة، والوطن العربي بصفة عامة، وكإحدى أبرز الشخصيات العربية اهتماماً بمد جسور التعاون والتآلف بين الثقافة العربية ومختلف الثقافات والحضارات الإنسانية من أجل سعادة البشر وترابطهم ورسم ملامح أفضل لمستقبل الإنسان. وخلال مراسم التكريم التي أُقيمت في مدينة كانازوا، ألقى صاحب السمو حاكم الشارقة كلمة باللغة العربية ترجمتها كريمته سمو الشيخة حور بنت سلطان القاسمي إلى اليابانية، أكد فيها أهمية التعليم والبحث العلمي للتقدم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للدول في جميع أنحاء العالم. وقال سموه: «من هذا المنطلق ومن رؤية واضحة لمستقبل مجتمعاتنا بدأنا في الشارقة منذ حوالي عشرين عاماً التخطيط لمشروع ضخم يهدف إلى الارتقاء بالقدرات المعرفية والفكرية لشبابنا وتمكينهم من المساهمة الفعالة في نمو مجتمعاتنا من خلال التنافس القوي في عالم تتميز فيه اقتصاديات المعرفة». وتطرّق سموه في كلمته إلى مشروع المدينة الجامعية في الشارقة، والجهود المبذولة للارتقاء بالتعليم العالي من خلال تأسيس جامعتي الشارقة والأمريكية في الشارقة، وتفعيل الشراكات الدولية في مجال البحث العلمي والابتكار، تأكيداً لدور المعرفة في بناء مجتمعات أكثر تقدّماً واستقراراً. وأشاد مسؤولون يابانيون بصاحب السمو حاكم الشارقة كإحدى أهم الشخصيات العربية المهمومة بالإنسان والارتقاء به وتنمية قدرته على التواصل والتفاعل مع شعوب الأرض من أجل مستقبل أكثر عدلاً وسعادة للبشرية جمعاء. ويُذكر أن صاحب السمو حاكم الشارقة من الشخصيات البارزة المنتقاة التي تتلقى هذا التكريم من جامعة كانازوا التي يعود إنشاؤها إلى عام 1949 وتعتبر من أهم وأعرق الجامعات في اليابان وشرق آسيا. ويُعدّ هذا التكريم إضافة جديدة إلى رصيد سموه من الشهادات الفخرية التي نالها من كبرى الجامعات العالمية، التي تعكس التقدير الدولي لدوره الريادي في النهضة الثقافية والمعرفية العربية.


بلد نيوز
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- بلد نيوز
مقتل سيدة بإطلاق نار في ملهى ليلي في العاصمة السورية
قتلت سيدة وأصيب ثلاث أخرين بجروح في إطلاق نار داخل ملهى ليلي بوسط العاصمة السورية دمشق. وقال أصحاب محال تجارية مجاورة لنادي الكروان الليلي لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) إنه " نقلا عن أشخاص يعملون في ملهى الكروان قرب ساحة الحجاز، فأن إطلاق النار وقع داخل الصالة إثر خلاف بين مجموعة أشخاص بعد عراك بالأيدي وأصيبت خلاله راقصة، وتوفيت على الفور، كما أصيب ثلاثة أخرين". إلى ذلك استنكر محافظ مدينة دمشق ماهر مروان " الحادث المؤسف الذي وقع في نادي الكروان الليلي والذي أسفر عن مقتل فتاة". وأكد المحافظ في تصريحات نقلتها صفحات مقربة من محافظة دمشق "على ضرورة الالتزام بالقوانين والأنظمة المعمول بها في البلاد وعدم مخالفتها" وشدد على "عدم التوانى عن محاسبة العابثين بأمن المدينة مع اتخاذ الإجراءات اللازمة ". وأضاف المحافظ " نسعى جاهدين للحفاظ على الأمن والسلامة العامة للمواطنين وضبط المخالفات غير القانونية". وقال سكان يعيشون في منطقة الحجاز لـ (د ب أ) "إنهم سمعوا دوي إطلاق نار كثير وأن سيارات الشرطة وصلت إلى موقع الحادث." وتشهد النوادي الليلة في العاصمة دمشق ومحيطها حالة من الحذر منذ سيطرة فصائل المعارضة على السلطة في العاصمة دمشق، حيث تم إغلاق أكثر من ناد ليلي في مناطق القصاع وباب توما بذريعة عدم وجود تراخيص عمل لدى العشرات منها وسط إقبال كبير من المرتادين على تلك النوادي للسهر . وكان هذا الحادث واحدا من ثلاثة حوادث منفصلة وقعت خلال 24 ساعة، حسبما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، حيث استهدفت جماعات مسلحة تابعة للحكومة السورية أماكن السهر وبائعي الكحول، مما أثار مخاوف جدية بشأن القيود المتزايدة على الحريات الشخصية. وذكر المرصد أن مسلحين اقتحموا المكان وأطلقوا النار. ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم حتى الآن. وفي حادث منفصل عن ملهى الكروان الليلي، داهم أفراد من مجموعات شبه عسكرية موالية للحكومة مطعما في ساحة المحافظة بدمشق، وهو مطعم يستخدم أيضاً كملهى ليلي، بحسب المرصد. وأضاف المرصد أن شهود عيان أفادوا بأن الرجال أطلقوا أعيرة نارية في الهواء واعتدوا جسديا على العديد من المدنيين، بمن فيهم النساء. وتابع المرصد ان قوات الأمن لم تتدخل بشكل فوري، بيد أنها اعتقلت المتورطين في وقت لاحق بعد تداول مقاطع فيديو للحادث على شبكة الإنترنت. في الوقت نفسه، وقع حادث ثالث في بلدة ربلة الواقعة في ريف حمص، حيث داهم مسلحون يرتدون الزي العسكري التابع للحكومة السورية متجرا لبيع الخمور في مجتمع محلي تقطنه أغلبية مسيحية.


إيطاليا تلغراف
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
كي لا يضيق الفضاء الثقافي للمساجد في سورية
أسامة إسبر نشر في 5 مايو 2025 الساعة 14 و 01 دقيقة إيطاليا تلغراف أسامة إسبر شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة انغلق الفضاء الثقافي في سورية منذ استولى حزب البعث على السلطة، وبدأ تهميش المثقّفين المستقلّين المغايرين أيديولوجياً، وبناء المثقّف الموظّف بحسب الوزارات والخطط التي تضعها من أجل الثقافة. كانت المطبوعات والصحف تتميّز أحياناً ببعض الإضاءات والترجمات المهمّة، لكنّها كانت تخلو بشكلٍ عام من الفكر النقدي والقراءة التحليلية للواقع السوري ولبنية السلطة والتديّن السائد فيه. ينطبق هذا أيضاً على منشوراتٍ (ومطبوعات) الأحزاب اليسارية، التي لم تركّز بما يكفي في الجانب الفكري المتعمِّق، وفي قراءة واقع تدّعي تغييره. كانت تحدُث بين الفينة والأخرى طفراتٌ وقفزاتٌ في السياق تخرج فيها كتب متميّزة من المطابع، لكنّ الرقابة المفروضة على المطبوعات خنقت حرّية الفكر، وكانت الكتب المسموحة (بعامّة) تتناغم مع البنى السائدة في المجتمع أو المُتحكِّمة به. وعلى مدى عقود، لم تلعب المدارس والجامعات، ولا الاجتماعات الحزبية العقائدية (بأشكالها كافّة)، دوراً في تثقيف الشباب السوري وزرع رؤية بديلة غير ملقَّنة للحياة في أذهانهم. فالمناهج المعتمدة لا تواكب تطوّر المعرفة في العالم على الصعيدين الفكري والعلمي. أمّا تلك المتعلّقة بالجانب النظري، فلا تتجاوز ملخصّاتٍ مدرسية مبسّطة تستهدف التدريس الببغائي، وبعيدة البعد كلّه عن ترسيخ الفكر النقدي. كانت مصادر المعرفة المتاحة في المدارس والجامعات (حتى الخاصّة منها) محدودةً وضيّقةً. لم نرَ كتباً وإصدارات وأبحاثاً مهمّة صدرت عن جامعاتنا فرضت حضوراً بين القرّاء العرب، وساهمت في الفتوح النظرية والعلمية، ولعبت دوراً في تقدّم المعرفة. كما أننا لم نسمع عن طلابٍ تخرّجوا ألّفوا كتباً نشرتها جامعاتنا السورية خارج الأطروحات التي غلب عليها الطابع الأكاديمي المدرسي، وتكرّر المذكور في المراجع، ولا ترقى إلى أن تكون كتباً تشكّل مصادر للمعرفة النقدية. شاب العبادة في المساجد في سورية، على امتداد التاريخ، شيء من السياسة لا يعني هذا الافتقار إلى أشخاصٍ قادرين على الإبداع في المجالات كلّها، إلا أن القصد هنا أن المؤسّسات البعثية لم تكن آفاقاً لاحتضان الإبداع والفكر المختلف. وبما أن المدارس والجامعات السورية لم تشكّل مصادرَ للمعرفة وروحاً للنقد والتساؤل في حقبة 'البعث'، بسبب الرقابة الأمنية المباشرة، والتحكم بمسار المناهج والمعارف في المجالات كلّها، وتسليم هذه المفاصل لعقلياتٍ أمنيةٍ في مملكة الفساد المستشرية، لم يبقَ في سورية سوى المساجد، التي واكبها في عهد الأسد (الأب) افتتاح وتمويل معاهد لتحفيظ القرآن الكريم تحت اسم 'معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم'، وتسهيل طبعات فاخرة من دور نشر معيّنة، من أجل استعراض إيماني شكلي. كانت الخطب الدينية تُراقَب على مدار الأسبوع، وكانت تُملى في أفرع الأمن كي تكرّر مقولاتها المبتذلة على الجمهور. لدور العبادة في أيّ بلد طابعها الخاصّ المستقلّ، وتُمارَس فيها الطقوس الدينية الخاصّة بشعب أو دين، إلا أن المساجد في سورية على امتداد التاريخ الحديث كان يشوب العبادة فيها شيء من السياسة. ففي العهد القمعي، كانت الرقابة على المساجد تفرض على المصلين خطباً لا يمكن أن تمرّ من دون عبارات التمجيد المنافقة لمن سمّته الدعاية المخابراتية 'القائد الخالد'. لكن مشهديّة الصلاة في حدّ ذاتها، وتدفّق أعداد المصلّين من داخل الجوامع إلى الشوارع، والتركيز في البعد الشكلي للصلوات، كانت توصل رسالةً لها طابعٌ سياسيٌّ واضح. ورغم أن التديّن في النهاية مسألة روحية عميقة بين الذات وخالقها، ويجب ألا تكون له علاقة بالسياسة، إلا أنه نتيجةً للقمع الشديد الذي طاول التديّن في سورية، كانت ردّات الفعل تتجلّى في المشهدية الدينية الجماعية، التي كان فعل الصلاة فيها تأكيداً للهُويَّة في وجه سلطة غاشمة ومُكفَّرة. قوّض نظام البعث الأطر المدنية لأيّ فكر جديد أو علماني في سورية، رغم ادّعائه العلمانية ونجاحه في مرحلة من المراحل في تجاوز الأطر الطائفية نحو أطر وطنية وقومية عابرة للطوائف، بحسب عالم السياسة والباحث الأميركي رايموند هينبوش. ولم يكن النظام السوري يقتصر على طائفةٍ معينةٍ تعتنق أيديولوجيا سياسية هُويّةً، كما روّج بعضهم في افتقار واضح إلى الدقّة والبرهان. هذا التقويض لاحتمال نشوء أيّ فكر مدني علماني معارض عبّد طريق الجوامع، ولكنّه كان طريقاً خاضعاً لرقابةٍ أمنيةٍ موسوسة. وبعد سقوط نظام 'البعث' وفرار الوريث إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تحرّرت سورية من الرقابة المخابراتية، وأفرغت سجونها من المساجين بصنوفهم كافّة (الجنائية والسياسية)، وكان هذا إيذاناً بعهد جديد احتفى به السوريون الذين تضرّروا من حكم 'البعث' عقوداً على الصعد كافّة. جاء النظام الجديد بوجهٍ ملتحٍ وخطبة جامع معدّلة، مقيماً الصلاة في المطارات والجامعات والساحات العامّة. وكان أداء صلاة عيد الفطر في القصر الجمهوري حدثاً لا سابق له في تاريخ سورية الحديث، بما ينطوي عليه من دلالاتٍ واضحة. وعكس النظام الجديد بتركيبته الأيديولوجية الدينية تأثيرات وهابية نجدية. وحاول بعض المرتبطين فكرياً بنجد أن يعدّلوا في الخطاب الديني في الحواضر السورية من طريق استهداف وسطيّته ودفعه إلى التطرّف. وبدأ خطباء العهد الجديد بإلقاء خطبهم النارية، كما فعل من يعرّف نفسه بأنّه مقاتل في صفوف الثورة السورية محسن غصن، الذي ألقى في جامع زين العابدين في دمشق، في 7 مارس/ آذار الماضي، خطبةً بعنوان 'احذروا غضب أهل الشام'، أعلن فيها أن دمشق أرض المحشر، ويجب أن تُطهّر من 'الأرجاس' (الطوائف الأخرى)، لأنّها المدينة التي يرسل إليها الله صفوة خلقه: 'تخيلوا أن يكون خيرة خلقه في أرض الشام وبيننا أولئك الأرجاس'. ويضيف: 'لا يمكن أن تعكر صفونا أيُّ طائفة كانت فالشام سنّية وستبقى سنّية'، ثم بنبرة لا تخلو من تهديد أضاف: 'إننا نتوق للقتل'. وهذا يشير إلى طبيعة التديّن الذي يراد تعميمه. والخطير في الأمر أن عدداً كبيراً من الأطفال والمراهقين كانوا بين جمهور المستمعين للخطبة. وفي جامع السلطان إبراهيم في جبلة، ألقى أحد مشايخ الساحل السوري خطبةً ناريةً هدّد فيها وتوعّد بالسيف والرصاص قائلاً إن هذا هو الحوار الأنسب مع الآخر. إذا ما سمح لخطباء متطرّفين بإلقاء ما يشاؤون من خطب تحريضية، فستُغسَل أدمغة الأجيال السورية الطالعة وتبقى أسيرةَ تديّن إلغائي سمعنا أيضاً عن إطلاق نار واشتباك بالأيدي في المساجد في حماة وحلب لفرض وصفة وهابية عليها، تعالجها من الوسطية، وتضعها في إطار التوجّه المطلوب، إلا أن رجال الدين السوريين لم يتماشوا معه، وأعلوا أصوتهم ضدّه. في غياب دور المدرسة والجامعة والصحافة الحرّة، لم يبقَ للسوريين على المستوى الشعبي إلا المساجد، وإذا ما سيطر خطباء متطرّفون على هذه المساجد، التي تحرّرت من المخابرات الجوّية والأرضية، وسُمح لهم بإلقاء ما يشاؤون من خطب تحريضية، ستُغسَل أدمغة الأجيال السورية الطالعة وتبقى أسيرةَ قالب تديّن أحادي إلغائي، قائم على ادّعاء امتلاك الحقيقة وتكفير الطرف الآخر. سيزيد من خطورة الأمر وجود مجاهدين أجانب متشدّدين دينياً يلعبون دوراً محورياً في بنية السلطة. إن خطاباً من هذا النوع، إذا ما مُنح الغطاء الرسمي، سيواصل شحن التديّن وتحويله عصبيةً طائفيةَ إلغائيةً لن تتمكّن من بناء دولة مواطنة يمكن العيش فيها، وربّما ستتحوّل سورية إلى ديكتاتورية دينية من لون واحد. وسيؤدّي هذا إلى تصعيد العنف القائم على الطائفية في ظلّ غياب عدالة انتقالية في إطار قانوني واستمرار الانتقامات العشوائية الفردية، التي أثارت نوعاً من الذعر العام، في وقت يحاول فيه أقطاب الحكم تسويق أنفسهم على الصعيد العالمي، وتجميل صورتهم من أجل إرساء السلطة والملك. بقاء المساجد مصادرَ وحيدةً للثقافة، ومنابرَ للخطب العنصرية والإلغائية والطائفية، سيحرف التديّن عن طبيعته، وعن مفهوم الإيمان القائم على العلاقة التعبّدية بين الذات وخالقها. يجب ألا ننسى أن بعض المساجد العربية الكبرى لعبت دوراً تنويرياً في التاريخ العربي، ويذكر في هذا السياق من جوامعَ: القرويين والزيتونة والأموي والأزهر، في محطّاتٍ من تاريخها. والسؤال هنا: هل ستحدث نقلة في المساجد السورية بتحوّلها فضاءاتٍ للتنوير الديني، وللتعبّد الفردي والانفتاح الفكري الديني، ولنشر التسامح والإخاء واحترام الآخر، ولممارسة التديّن بعيداً من الانقسامات والتحريض والتمذهب والتفرقة الطائفية، أم سيحتلّ منابرها شيوخٌ لا تشرب عقولهم إلا من ينابيع نجد؟… يجب ألا تفوت الإشارة إلى أن هناك ميلاً واضحاً إلى الاستعراض الثقافي الديني المشهدي، الذي يذكّر بعروض طلائع البعث، يتجلّى في مسابقات ومناسبات دينية لتوجيه الأطفال والشبان كما حدث أخيراًً في الملعب البلدي في إدلب، حين كُرّم 1500 طالب وطالبة من حفاّظ القرآن الكريم. إن جهداً كهذا يجب احترامه، لكنّ التديّن العميق يقتضي علاقةً خاصّةً بين المؤمن وربّه بعيدة من السياسة، ومن الاستعراض المشهدي، وإذا كان على المتديّن أن يتباهى، فعليه أن يتباهى قبل أيّ شيء آخر بالأخلاق الحسنة، ونبذ العنف والطائفية وتكفير الآخرين والإفتاء بقتلهم. عليه أن يتباهى أيضاً بقبولهم واعتبارهم امتداداً للذات والانفتاح على علوم العصر وفصل الدين عن السياسة، وهذا ما يخدم بناء دولة عصرية تعلو على جراح الماضي من خلال العدالة الانتقالية. من المناقض لشعارات الثورة المدنية السورية أن تصبح تلك المساجد التي انطلقت منها منابرَ للتحريض الطائفي ونزعات التكفير لا تتوقّف حدود الإيمان عند مسألة حفظ آلي لآياتٍ من القرآن الكريم والاحتفاء بذلك منجزاً دينياً فقط، فهذا الحفظ كي يكون فعّالاً يجب أن يترافق مع فهم عميق للنصّ لا يكرّر رؤية السلف، بل يثبت اجتهاد الخلف، وقدرتهم على القيام بقراءة تواكب العصر واعتماد تأويل ينعكس على الوطن بتعدّد مشاربه وتوجّهاته السياسية والدينية، وهو أمر يجب أن يجري بعيداً عن التلقين والتطرّف والاستبداد، بامتلاك المعنى والإمساك بلجام فرس الحقيقة والسلطة، والركوب عليهما، والسير بهما حيث نريد. ربّما هذا ما دفع الباحث السوري محمد حبش (يتبنّى آراءً متحضّرةً ومنفتحةً على الآخر تدعو إلى إخاء الأديان وصون كرامة الإنسان) إلى انتقاد فرض النقاب على حفّاظ القرآن الكريم من الفتيات، اللواتي حُشدن في الملعب البلدي في إدلب، بصفحته في 'فيسبوك'، معلّقاً على منظّمي الحدث: 'كنتُ أتمنّى أن يأخذوا بالجانب المتسامح في الفقه الإسلامي'، مضيفاً أن الدين 'يُسرٌ وليس عُسراً'، في دعوة صريحة لوقف مسار التشدّد الذي يسلكه التديّن السوري. إذا كانت شرارة الانتفاضة المدنية السورية قد انطلقت من المساجد، فإن من المناقض والمخالف للشعارات التي طُرحِت على امتداد الأعوام السابقة أن يعود المنتصرون، بعد انتصارهم، إلى تحويل هذه المساجد، التي خرجوا منها لإسقاط نظام الأسد، منابر للتحريض الطائفي والنزعات التكفيرية والعسكرة، بدلاً من أن تكون منابرَ للحرّية والكرامة والانفتاح، ضمن المناخ الذي بشّرت به الانتفاضة في بداياتها المدنية.