logo
موسيقى زياد الرحباني.. حين تتحول النغمات إلى منشور سياسي غاضب

موسيقى زياد الرحباني.. حين تتحول النغمات إلى منشور سياسي غاضب

الجزيرةمنذ 7 أيام
في حوار أُجري معه عام 2018، انفتح زياد الرحباني كما يليق برجل في الـ63 من عمره، يحمل في داخله روح طفل في الرابعة عشرة، يتكلم بجرأة وحرية نادرتين، يعبّر عن رأيه في كل شيء: الفن، الموسيقى، الصحافة، الإعلام الجديد، الرؤساء، السياسات الإقليمية والدولية، العولمة، وحتى عن نفسه، وعن علاقته بوالديه، السيدة فيروز والسيد عاصي الرحباني، اللذين لم يكونا عاديين بأي شكل. بدا كتابا مفتوحا، يجيب على كل سؤال يُطرح عليه دون تردد أو مواربة، كأنه يقطع الطريق على أي تأويل أو سوء فهم قبل أن يبدأ. كان صريحًا إلى درجة تُربك، وربما إلى حد "قلة التهذيب" كما اعتادت أمه أن تصفه، بعبارتها الشهيرة: "بلا مربى".
ابن فيروز وليس ظلها
أن تولد لأبوين فنانين بقامتي فيروز وعاصي الرحباني، فذلك يعني أنك محكوم بالشبه وبالمقارنة، وربما بالامتثال لصورة نمطية معينة. لكن زياد، ومنذ أولى خطواته، قرر أن يكون شيئًا آخر. صحيح أنه كتب لفيروز ولحن لها ألحانا لا تُنسى مثل "عودك رنان"، و"بكتب اسمك يا حبيبي"، و"سألوني الناس" لكنه لم يقف عند حدود الابن الموهوب الذي يكتب لأمه. كان يرى في فيروز أيقونةً، لكنه لم يتردد في معاملتها كـ"مطربة"، تماما كما عرّفها ذات مرة في أحد لقاءاته: "عم بيغنّي مطربتي فيروز"، تعبير يبدو كأنه يرسم حدودا واضحة بين الشخصي والفني، ويؤكد أن فيروز جزء من حياته، لا كلّها.
علاقته بها لم تكن دائما سهلة. خيمت عليها خلافات. لكنها، رغم كل شيء، غنّت من كلماته، واحتفظت بصوته داخل صوتها، كما احتفظ هو بها كصوت لا يشبه شيئًا. يحكي زياد كيف تمكن من الهرب من سلطة البيت وهو بعد في الرابعة عشرة من عمره، كانت الخلافات بين فيروز وعاصي لا يمكن احتمالها، مناوشات يومية وعلاقة تشوبها غيرة الأب التي لا يمكن تحملها، كان يكفي أن يندمج أحد الحاضرين مع جملة غنائية تؤديها فيروز، وأن يعبّر عن إعجابه بعبارة مثل "الله الله"، لتتحوّل الليلة إلى كابوس مزعج لجارة القمر، رغم أنها لم ترتكب ذنبا.
تلك التوترات، التي خيمت على علاقة والديه، دفعت زياد المراهق إلى الهروب من بيت الرحابنة، الذي كان يعجّ بالمسرح والشعر والموسيقى، إلى بيت صديقه ورفيق مسيرته الفنية جوزيف صقر، قبل أن يُكمل الخامسة عشرة من عمره. وهناك بدأ في رسم ملامح طريق فني مختلف، لا يشبه البيت الذي خرج منه، ولا يشبه أحدا سوا.
يكتب مسرحيات ويمثلها يكتب أغنيات ويلحنها وأحياناً يغنيها لو لم يغنها جوزيف صقر، حتى إن إحدى أغنيات فيروز الشهيرة لم تكن لها من الأصل "هدير البوسطة" كانت مكتوبة وغناها جوزيف صقر قبل أن تعجب عاصي الرحباني الذي أصر أن تغنيها السيدة فيروز وهو ما حدث بالفعل.
مثقف متمرد على الجميع
بعدما تمرد زياد على بيت نشأته في كنف عاصي وفيروز، ووسط خلافاتهم اليومية، تمكن من إيجاد صوته الخاص، صوت يتجلى في الموسيقى والكتابة والصحافة والمسرح، استهوته الأفكار الشيوعية فصار سياسيا شيوعيًا، أعلن زياد انتماءه إلى الحزب الشيوعي اللبناني في وقتٍ كان الانقسام الطائفي يأكل كل شيء. تمسّك بفكرة العدالة الاجتماعية، وعادى النظام الطائفي، وانتقد الجميع تقريبًا، من اليمين إلى اليسار، ومن المقاومة إلى اللامقاومة. حتى حلفاؤه لم يسلموا من نقده.
قد يبدو ذلك تناقضًا صارخًا، لكنه في الواقع جوهر شخصيته. فهو مثقف غاضب لا يُراهن على المثاليات، وواقعي لا يعترف بالحلول الوسط. عدوّ للنظام، لكنه في الوقت نفسه مرآة تعكس بصدق تناقضات الناس ومعاناتهم. "أبو الزوز"، كما يحب أن يناديه محبوه، لم يكن مجرد ابن لعاصي وفيروز، بل كان ابن الحرب، ابن الشارع، ابن الأسئلة التي لا تهدأ.
تفجرت مواهبه بالتزامن مع فترة حافلة بالأحداث في المنطقة بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، حرب السنتين، أو بدايات الحرب الأهلية اللبنانية التي أثرت في كل أبناء جيله وحتى الأجيال الأكبر، فرّ من تمكّن من الهرب إلى خارج لبنان، لكنه ظل في الداخل، يتنقل بين أحيائها، يقدم برامجه عبر إذاعة "صوت الشعب"، ويؤدي مسرحياته التي وصل عددها 7، حيث لم يكن فقط ممثلا عابرا في مسرحه، بل معلّقا سياسيا، وفيلسوف شارع.
نصوصه المسرحية حفلت بالنقد، من "نزل السرور" إلى "فيلم أميركي طويل" وأغنيتها الشهيرة "يا زمان الطائفية"، ومن "بالنسبة لبكرا شو؟" إلى "شي فاشل"، رسم صورة لبنانية مرّة، لكنها مضحكة. هذا الضحك الأسود كان، في الغالب، محاولة للبقاء والتنفس تحت وطأة حرب أهلية بين الطوائف. يجسدها شخصيات مألوفة: البائع، الموظف، المثقف الفاشل، المتدين المتعصّب، الزعيم الفاسد. الجميع يمرّ عبر غربال زياد، والجميع يُعرّى.
موسيقى تمزج بين أرواح العالم
رغم أن أول أعماله الموسيقية كملحن كانت "سألوني الناس" التي ألفها ولحنها وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، بروح من الموسيقى الرحبانية، لكنه سرعان ما انفتح أكثر على موسيقات من أنحاء العالم؛ موسيقى تحمل أرواح شعوبها، الجاز والبلوز، والموسيقى الكلاسيكية الشرقية والغربية، سيد درويش وبيتهوفن، وواصل رحلته في المزج بينها على مدار عمره ما بين ألبومات موسيقية منفردة أو ألحان له ولغيره، لكن زياد لم يرَ في الموسيقى مجرد حرفة، بل كانت سلاحًا. كان البيانو بندقيته، والنغمة منشورًا سياسيًا. ففي أواخر السبعينيات، قدّم مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"، التي بدت كأنها تلخيصٌ عبقري لفوضى الحرب الأهلية، ولعبث الطبقة السياسية، وانكسار الإنسان اللبناني. موسيقاه منفتحة بين عوالم الموسيقى وألوانها، تسخر من التصنيفات: مزيجٌ من الجاز، والمقامات الشرقية، والإيقاعات اللاتينية، والارتجال الأوبرالي، وكأنها تعكس شخصه القلِق، والرافض للثوابت.
هو أيضًا من القلائل والرواد الذين عربّوا الجاز و"شرّقوه" من دون أن يُفقدوه روحه. لم يكن مقلدًا، بل متمرّدًا في كل نغمة. يكفي أن تسمع افتتاحية "اسمع يا رضا" أو مقاطع من "العقل زينة" لتدرك أنك أمام موسيقي يرى العالم من زاوية مختلفة، ولكنها صادقة، صدق دفع البعض حين يسمع السيمفونية الرابعة لبيتهوفن لأن يتذكر على التو أغنية "يا أنا" للسيدة فيروز.
"شو هالجيل!" جيل الحرب
عرف اللبنانيون الحرب الأهلية ككابوس متواصل، أما زياد فعاشها كمادة خام لإعادة التفكير في كل شيء. دمّرته، لكنها غذّته وغذّت أفكاره السياسية. لم يغنّ للحرب ببطولية، بل بالسخرية والتشريح. صوته المتهكم في أغنية "أنا مش كافر" ليس تبريرا دينيا، بل اعتراف سياسي ونقد كامل لكافة الطوائف والمنتمين لها. الحرب عنده ليست جغرافيا ولا طوائف، بل لعبة مصالح تسحق الإنسان وهو وغيره تحت وطأتها، وهو ما شكّل فلسفته ورأيه في الحياة، ربما لم يكن زياد فيلسوفًا أكاديميًا، لكنه بالتأكيد شحن فنونه ومقالاته بأسئلة كبرى: عن الوجود، والحرية، والمعنى، والجنون. في مقابلاته كان كثير التهكم، يجيب بسؤال، أو بسخرية تشبه الحكمة. فـ"شو بدّك بالحكي؟" ليست فقط جملة عابرة، بل صيغة وجودية تختصر حالة شعب خائف من الكلام، ومن المعنى ويبحث عن المضمون والجدوى.
حتى في عز مجده، كان زياد يجلس بين الناس، في المقاهي البيروتية، في الجميزة أو الحمرا، يتأمل الحياة، كأنه أحد شخصياته التي كتبها أو جسدها: منهك، ولكنه ما زال يراقب.
كان زياد الرحباني ظاهرة، لا تشبه أحدا. ابن فيروز الذي أحبّها بطريقته، وعادى العالم بطريقته، وابتكر موسيقاه كما يكتب الإنسان وصيته الأخيرة: صادقة، ناقصة، لكنها خالدة، زياد الرحباني كان أكثر من ملحن وكاتب ومسرحي، كان ظاهرة ثقافية وسياسية، صوتًا لا يهادن ولا يساوم، اختار الفن طريقا، والموسيقى منصة، والمسرح ميدانًا، لفعل نقدي يواجه الواقع بجرأة. رحل اليوم، لكن صوته باق حيا في أغنياته، على خشبة المسارح، وفي أروقة المقاهي اللبنانية، وفي ذاكرة كل لبناني وعربي وأحبه ووجد في أغنياته وإرثه شيئًا من نفسه.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بسبب "صوت مصر".. شيرين عبد الوهاب تلجأ إلى القضاء ردا على تصريحات مسيئة
بسبب "صوت مصر".. شيرين عبد الوهاب تلجأ إلى القضاء ردا على تصريحات مسيئة

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

بسبب "صوت مصر".. شيرين عبد الوهاب تلجأ إلى القضاء ردا على تصريحات مسيئة

تجدد الخلاف بين الفنانة المصرية شيرين عبد الوهاب وطليقها المطرب حسام حبيب، بعد أن تقدّمت ببلاغ رسمي تتهمه فيه بالإساءة إليها والتشهير بها، على خلفية حديثه عنها في أحد البرامج التلفزيونية في مارس/آذار الماضي. ووجهت الفنانة المصرية اتهاما لحسام حبيب بالإساءة إليها من خلال تصريحات أدلى بها خلال ظهوره في برنامج "العرافة" الذي بث خلال شهر رمضان، مشيرة إلى أن تلك التصريحات تسببت لها في أذى نفسي ومعنوي. من جانبه، أوضح المستشار ياسر قنطوش، محامي شيرين عبد الوهاب، أن الشكوى المقدمة ضد حسام حبيب لا تزال قيد النظر لدى الجهات المعنية، مؤكدا أن تقديم البلاغ تم في وقت وقوع التصريحات خلال مارس/آذار، وليس في توقيت لاحق. وعاد التوتر إلى الواجهة مجددا بعد تصريحات مثيرة للجدل أطلقها حسام حبيب خلال استضافته في برنامج "العرافة" الذي عُرض في شهر رمضان، حيث شكّك في مدى أحقية شيرين عبد الوهاب بلقب "صوت مصر"، مشيرا إلى أن سلوكياتها -بحسب تعبيره- لا تُمثل هذا اللقب، مضيفا: "إذا كانت هذه الصورة تعكس مصر، فلا مانع لدي من التنازل عن جنسيتي". كما تحدّث عن تأثير علاقتهما الزوجية على مسيرته الفنية، مؤكدًا أنه ابتعد لسنوات عن الحفلات وإطلاق الأعمال الجديدة، ليتفرغ -حسب قوله- لدعم شيرين في أزماتها المتكررة على الصعيدين الشخصي والمهني. وفي جانب آخر من الحوار، أوضح أنه استعان بمحاسب خاص لمراجعة تعاملاته المالية معها، ليتبيّن له أن المبالغ المستحقة له تتجاوز 60 مليون جنيه. ولفت إلى أن الهدف من هذه الخطوة لم يكن المطالبة باسترداد الأموال، بل تسليط الضوء على حجم الالتزامات التي تحملها، مؤكدا امتلاكه مستندات وأرقاما تدعم أقواله. في تصريحات إعلامية أدلى بها مؤخرا بعد حفله الأخير في المملكة العربية السعودية، اعترف الفنان حسام حبيب بأنه أخطأ في حق طليقته الفنانة شيرين عبد الوهاب، مؤكدا أنها تستحق عن جدارة لقب "صوت مصر"، وأنها تحتل مكانة بارزة في الساحة الغنائية العربية. ورغم اعتذاره العلني، لم تصدر شيرين أي تعليق على تلك التصريحات، وفضّلت اللجوء إلى المسار القانوني من دون الإدلاء بأي تصريحات إعلامية. شهدت علاقة شيرين عبد الوهاب والمطرب حسام حبيب سلسلة من الخلافات خلال فترة زواجهما التي استمرت 5 سنوات، وانعكست تلك التوترات على مسيرتها الفنية، قبل أن يعلن الانفصال بشكل نهائي في عام 2023. وكان من بين الوقائع اللافتة في تلك المرحلة ظهور شيرين وهي حليقة الرأس، في خطوة أثارت جدلا واسعا. وفي مداخلة هاتفية أجرتها لاحقا مع الإعلامية لميس الحديدي، أعربت شيرين عن أسفها لمحاولتها الدفاع عن حسام حبيب أمام الجمهور، مشيرة إلى أنه سبب لها أزمات نفسية وأثر على علاقتها بعائلتها، كما تحدثت عن تعرضها للعنف الجسدي، ووصفت ما جرى بأنه ضرب مبرح. ورغم محاولات شيرين عبد الوهاب خلال الفترة الماضية الحفاظ على تركيزها في مسيرتها الفنية بعيدا عن حياتها الشخصية، عادت الخلافات القديمة إلى الواجهة مجددا بعد الإعلان عن البلاغ الذي تقدمت به ضد زوجها الأسبق حسام حبيب.

"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطن
"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطن

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطن

ربّما يعرف كثيرون واحة الراهب الممثّلة والمخرجة والفنّانة التشكيليّة، لكن تبقى الروائيّة غائبة عن أذهان الناس عند ذكر اسمها. لواحة الراهب 4 روايات وهي "مذكرات روح منحوسة" عن دار العين بمصر، "الجنون طليقا" و"حاجز لكفن" و"غرق السلمون" عن دار نوفل هاشيت أنطوان بلبنان. تركز واحة الراهب في مشروعها الروائي الذي لا يتجزّأ عن مشروعها الإنساني السياسي على الظلم الواقع على المواطن السوري العادي من نظام حكم الأسد الذي كان في السلطة عند صدور روايات واحة الأربع. ومن يعرف واحة الراهب يعرف تماما موقفها السياسي الواضح من نظام الأسد، وهو ما أفصحت عنه في مقالاتها ومقابلاتها التلفزيونية بالإضافة إلى رواياتها. في روايتها الأحدث "غرق السلمون" تناقش واحة الراهب فساد السلطة من منبعها، أي من منزل شخصية تعمل لدى السلطات السورية لتدخلنا إلى عالم الحكام الخاص، حياتهم اليومية، مخاوفهم، علاقاتهم الأسرية، كيف يمضون وقتهم في منازلهم مع عوائلهم، كيف يمارسون نشاطاتهم كأفراد عاديين بعيدا عن الكراسي المعلقة في سماوات نسمع عنها ولا نعرف عنها إلا النزر المتواضع. تستخدم واحة الراهب في روايتها أسلوب الراوي الأول العليم والمتعدد، إذ تفرد المساحة لغالبية الشخوص الأساس في العمل ليتحدثوا بألسنتهم عن حيواتهم، مشاعرهم، طفولتهم، تطلعاتهم ونظرتهم الخاصة لكل ما يدور حولهم من أحداث، خالقة مسافة حرية لكل شخصية بعيدا عن سلطة الكاتبة وبعيدا أيضا عن سلطة الراوي العليم. تبين واحة الراهب بهذه التقنية مدى وضوحها وشفافيّتها في مشروعها الأدبي، فهي وإن كانت تهاجم سلطة نظام الأسد، لكنها أبقت على تلك الفسحة الإنسانية لشخوص السلطة، سمحت لهم بالحديث عن أنفسهم من دون إقحام لرأيها الشخصي بهم. فنرى كل شخصية حصلت على مساحة مقبولة من السرد بلسانها، لا لتبرير إجرام بعضهم، ولكن للطرح الحر، وترك الحكم للقارئ. مشروع واحة يعد هذا النوع من الكتابة سردا شجاعا، إذ يصعب على الكاتب أحيانا أن يتجرد من كينونته، عواطفه، وانفعالاته ويترك المجال لشخوصه للكتابة عن ذواتها بواقعية أو غير واقعية قد يكون الكاتب مختلف تماما مع تفاصيلها. فمشروع واحة، وتحديدا في هذه الرواية هو ليس الهجوم، بل الاستفادة من إخفاقات الماضي لبناء وطنا لا يبكي أبناءه يوميا. واليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، كم هو مهم لنا كقراء عرب نعيش في منطقة تغلي سياسيا أن نقرأ عملا كغرق السلمون لنعتبر من الأمس المظلم، ننسى خلافاتنا، أحقادنا، ثأرنا، لنتحد كوطن واحد، شعب واحد، وأسرة واحدة. وهل أسمى من هكذا قيم يقدمها لنا الأدب؟ الرواية لم تناقش معاناة السوريين في نظام الأسد فقط، بل تطرقت إلى مواضيع أخرى مهمة وهو موضوع الانعتاق، التي قد تبدو بظاهرها انعتاق سياسي بحت، لكنها في الواقع تناقش الانعتاق من قيود كثيرة وقاسية تفرضها علينا الحياة، كسلطة الأب والأخ على الابنة، أو سلطة العائلة بشكل عام إن صح التعبير، سلطة الزوج، سلطة المجتمع ونظرته للمرأة المطلقة، والأهم، سلطة الذات الأكثر قسوة علينا من أية سلطة خارجية. تهتم واحة الراهب بشخوص روايتها. هي الأم التي تعتني بكل تفصيلة تشكل بناء حيواتهم. تُلبسهم، تُطعمهم، تخاف عليهم، لتأتي كل شخصية محملة بالكثير من المعاني والثيمات التي تتقاطع مع شخوص أخرى في الرواية مشكلة دائرة متصلة من الأحداث تدفع دفتي الرواية إلى الأمام. هل تغرق سمكة السلمون؟ "غرق السلمون" عنوان جذّاب. لماذا السلمون؟ تلك السمكة التي تسبح عكس التيار، كأمل، واحدة من شخوص العمل الأساس، التي عتقت نفسها من مشنقة البيت، الأب المتسلط، الأخ السائر على نهج والده، الزوج اللاحس لأحذية السلطة، الوطن الذي بات يضيق عليها، والنفس الضعيفة العاجزة دوما عن العيش. وهل تغرق سمكة السلمون؟ نعم، عندما لا يكفي الأكسجين المذاب في الماء تغرق السمكة، فما كان أكسجين أمل المذاب؟ وهل غرقت؟ الرواية تجيب عن هذه التساؤلات. ناقشت الرواية أيضا آلة صنع الطاغية وكيف يتبدل حال الفرد منا أحيانا وفقا لما يعيشه من أزمات. فربيع الحالم، الشاب المناضل في الثورة السورية، العاشق لأمل هل هو نفسه الذي أصبح داعشيا؟ ورند، شقيق أمل، ذاك الشاب الطموح، كيف مزقته أنياب والده وألقت به في لج المسلحين في العراق؟ إنها آلة الطغيان التي لا تسرف الوقت في المضغ، بل تبتلع لقمة واحدة وتبصق طغاة جددا. لغة الرواية مقتل رواية "غرق السلمون" كان اللغة. استخدمت الراهب لغة متكلفة جدا لا تناسب مواضيع الرواية الحساسة والتي تمس الإنسان بشكل مباشر. قررت واحة الراهب السرد بلغة كانت غير مفهومة وتحديدا في فصول السرد الذاتي المونولوجي بشخصية أمل عن تجسدها بصورة سمكة السلمون. لغة متخشبة خالية من المعنى أتت بصورة أحاج غير مفهومة وغير مترابطة أدت وللأسف فصل اندماج القارئ مع العمل. هذه اللغة المسرفة بعدم الوضوح في تلك الفصول تحديدا ناقصت كثيرا من متعة قراءة العمل وإن كان موضوع الرواية شديد العمق والأهميّة. أقدر كثيرا جهد الكاتبة وسعيها الحثيث في استخدام لغة راقية وأدبية، لكن اللغة الأدبية لا تعني بالضرورة تعجيز القارئ على الفهم، ولا تعني أبدا استخدام النعوت القديمة غير المتداولة في اللغة الحديثة، ولا يعني الإسهاب في أوصاف لا تقدم ولا تؤخر في سيلان الحدث والعمل كله، بل تعطل القارئ وتفصله عن تلك الحميمية التي تبنى عادة بين القارئ والنص على جسر اللغة الذي يشيده الكاتب وهذا ما، وللأسف، أخفقت به الراهب في هذه الرواية. أكثر ما يزعجني كقارئ قبل أن أكون ناقدا، أن نصا بهذه الجودة من الأفكار تشوهه اللغة غير المناسبة له وغير المتكافئة مع وحدته ومغزاه. السؤال هنا، هل طرح هذه المشكلة من حرر النص في دار النشر؟

زياد الرحباني.. خاطب الوعي وانتقد الطائفية بأعماله الفنية
زياد الرحباني.. خاطب الوعي وانتقد الطائفية بأعماله الفنية

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

زياد الرحباني.. خاطب الوعي وانتقد الطائفية بأعماله الفنية

ملحن وكاتب ومؤلف مسرحي وعازف وصحفي وسياسي لبناني، وُلد في بيروت مطلع يناير/كانون الثاني 1956، وهو الابن البكر للفنانة فيروز. أبدى مبكرا موهبة استثنائية، وألّف أول كتبه بعنوان "صديقي الله" في سن الثالثة عشرة، ودخل عالم المسرح عام 1973 حين قدم أولى مسرحياته "سهرية" ولم يكن قد بلغ الـ17 بعد. تميّز بأسلوبه الموسيقي المتفرّد الذي مزج بين الموسيقى الشرقية والجاز، وترك بصمته في الأغنية العربية المعاصرة عبر ألحان أبرزها "سألوني الناس" التي غنتها والدته. توفي يوم 26 يوليو/تموز 2025. المولد والنشأة وُلد زياد عاصي الرحباني في الأول من يناير/كانون الثاني 1956 في بلدة أنطلياس، الواقعة شمالي العاصمة بيروت. نشأ في كنف أسرة فنية استثنائية، فوالدته هي نهاد رزق وديع المعروفة باسم فيروز إحدى أيقونات الغناء العربي، ووالده الملحن الراحل عاصي الرحباني، أحد أبرز أعمدة الموسيقى اللبنانية والعربية. الدراسة والتكوين تلقى زياد الرحباني تعليمه في مدارس فرنسية ببيروت المعروفة بانضباطها الأكاديمي وانفتاحها الثقافي، وتأثر بالفكر الفلسفي والنقدي الغربي، إلى جانب انغماسه في البيئة الفنية التي نشأ فيها. منذ طفولته، أبدى شغفا بالموسيقى وبدأ العزف على البيانو تحت إشراف موسيقيين مقربين من والده وعمه. كان يقضي ساعات يوميا في التمرين، مما مكنه من تطوير أسلوبه الخاص في التأليف والعزف. ورغم تجربته في العزف على العود والطبلة، مال لاحقا إلى الآلات الغربية مثل البيانو الرقمي والساكسوفون، متأثرا برواد الجاز والبلوز من مثل مايلز ديفيس وديف بروبك، واستلهم منهم أساليب في التوزيع والارتجال. جمع زياد في تكوينه بين روح الموسيقى الشرقية وبنية الموسيقى الغربية، مما منحه هوية موسيقية فريدة مهدت لانطلاقته في عالم المسرح والموسيقى، بعيدا عن النمط الأكاديمي التقليدي. التجربة المسرحية لمع اسم زياد الرحباني في المسرح وهو لم يتجاوز الـ17 من عمره حين قدّم أولى مسرحياته "سهرية" عام 1973، والتي تميزت بمزيج من السخرية الحادة والنقد الاجتماعي والسياسي، وعكست واقع المواطن اللبناني بهمومه اليومية وتعقيداته المجتمعية. واستخدم في المسرحية لغة عامية قريبة من الناس، وهو ما رسّخ مكانته باعتباره صوتا نقديا جريئا ومختلفا في المسرح اللبناني. تابع بعد ذلك إنتاج أعمال مسرحية بارزة، من بينها: "نزل السرور" عام 1974: وهي مسرحية سياسية كوميدية تناولت الفوارق الطبقية عبر قصة عمال يستولون على مطعم شعبي، في سعيهم لتحقيق العدالة. "فيلم أميركي طويل" عام 1980: جرت أحداثها في مستشفى للأمراض النفسية، وعكست أزمات لبنان الطائفية والسياسية والاقتصادية في أوج الحرب الأهلية التي استمرت إلى حتى عام 1990. "شي فاشل" عام 1983: قدم فيها نقدا لاذعا للواقع اللبناني بعد الحرب عبر حوارات تدور بين شخصيات منهكة في مقهى شعبي. "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993: عاد فيها الرحباني إلى المسرح بعد غياب عشر سنوات، وتناولت بأسلوب ساخر مفاهيم الكرامة والوطن. "لولا فسحة أمل" (1994): وهي مسرحية مكملة لسابقتها. التجربة الموسيقية لم تقتصر تجربة الرحباني على خشبة المسرح، بل امتدت إلى عالم الموسيقى وبرز فيه ملحنا موهوبا منذ بداياته. ففي العام نفسه الذي قدّم فيه أولى مسرحياته، لحّن أولى أغاني والدته فيروز "سألوني الناس"، وكانت بمثابة انطلاقة فعلية له في مجال التلحين. ولاحقا، أصبح الرحباني أحد أبرز من جددوا في الأغنية الفيروزية الحديثة، عبر ألحان حملت بصمته الخاصة، ومزجت بين الإحساس الشرقي والأسلوب الغربي. ومن بين أشهر أعماله: "كيفك إنت"، "صباح ومساء"، "وعودك رنان"، و"بكتب اسمك يا حبيبي" التي أصبحت من كلاسيكيات أرشيف فيروز. وإلى جانب الأغاني، خاض زياد تجربة الألبومات الموسيقية المستقلة، وأطلق عدة أعمال موسيقية مميزة منها: "إلى عاصي" عام 1986: وهي تحية موسيقية مؤثرة أهداها إلى روح والده. "أنا مش كافر" بين عامي 1995 و1996. "مونودوز" عام 2001: وهي عمل موسيقي بالكامل بدون كلمات، وتميز بمزجه الفريد بين الموسيقى الشرقية وأنماط الجاز. التجربة الصحفية خاض الرحباني تجربته الصحفية في منتصف سبعينيات القرن الـ20، عبر كتاباته في "جريدة السفير" اللبنانية، إذ قدّم سلسلة مقالات ساخرة تحت عنوان "بالصميم"، تميزت بلغتها الشعبية القريبة من الناس، واعتمد فيها اللهجة اللبنانية العامية لنقد الواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب لاذع ومباشر. وفي عام 2006، انضم إلى "جريدة الأخبار" منذ انطلاقتها، وكتب فيها مقالات أسبوعية امتدت حتى عام 2014، مستفيدا من الخط التحريري اليساري للصحيفة، الذي انسجم مع رؤاه السياسية. واتسم أسلوبه في المقالة بالحوار الداخلي (مونولوغ)، فقد كان يعالج القضايا اللبنانية والعربية من منظور نقدي شخصي، يمزج بين التهكم والأسى. الوفاة توفي زياد الرحباني يوم 26 يوليو/تموز 2025 عن عمر ناهز 69 عاما، بعد معاناة طويلة مع مرض تليف الكبد، وشارك الآلاف في تشييعه من أمام مستشفى "خوري" في بيروت. كما رفع المشاركون في الجنازة العلم الفلسطيني وارتدوا الكوفيات، في إشارة إلى مواقف الرحباني المناصرة للقضية الفلسطينية، وظهرت ملصقات تجمع صورته مع الناشط اللبناني جورج عبد الله. انطلق موكب تشييعه من بيروت إلى بلدة المحيدثة في قضاء المتن، وأقيمت مراسم الدفن في كنيسة "رقاد السيدة"، قبل أن يُوارى الثرى في مدافن العائلة. نعاه عدد من المسؤولين اللبنانيين، بينهم رئيس الجمهورية جوزيف عون ، الذي وصفه بـ"الضمير الحي"، ورئيس الحكومة نواف سلام الذي اعتبره رمزا فنيا وفكريا. كما أشاد به الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب واصفا إياه بـ"الثائر الإنساني" الحالم بلبنان ديمقراطي بلا طائفية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store