
أفول الجماعات الأدبية
في أثناء تصفّح صفحات فيسبوك، يمرّ القارئ بظاهرة غريبة تتمثل في وجود صفحات تحمل أسماء
أدبية
، يدّعي أصحابها أنها "أكاديميات إبداعية" تحمل تراخيص ما، وتنسج علاقات تمتد من الجامعات الرصينة إلى المراكز البحثية الكبرى. يقوم القائمون عليها بمنح المنتسبين شهادات تعترف بهم أدباءً "لا يُشق لهم غبار"!
يسأل القارئ: من هؤلاء؟ ولا أحد يقدّم الجواب سوى الواقع ذاته! فهذه
المؤسسات
الوهمية، المنشأة في العالم الافتراضي، ليست سوى دكاكين يفتتحها أصحابها إما تعويضًا عن فشلهم في دخول عالم الإبداع التقليدي، فيحاولون إنشاء عالم موازٍ، أو بحثًا عن واجهات للاستعراض والتكسب المعنوي، وتحشيد مئات الأسماء التي تكتب كلامًا مكرّرًا، وتبحث بدورها عن مساحات للنشر.
تكرّست هذه الظاهرة خلال عقد ونصف، ومع توفّر المنصات الرقمية المتطوّرة، بات الفاعلون فيها يمتلكون فرصًا متعدّدة للحضور بالصوت والصورة، عبر منصة "تيك توك" وغيرها. لكن هذا كله لم يُساهم في دفع منتجات المشاركين نحو جمهور القرّاء أو نقّاد الأدب، وذلك لسبب رئيس: أن أغلب ما يُحتفى به هنا ليس سوى كلام عادي، تظهر فيه ظلال واضحة لتجارب أدبية مكرّسة.
لماذا لا تثير فكرة "الجماعة الأدبية" اهتمام الأدباء الشباب؟
غير أن هذا لم يوقف الساعين إلى ارتقاء درجات الشهرة، بل زاد من إصرارهم على تكرار الفعل ذاته، مع الشكوى الدائمة من أن الصفحات الثقافية مغلقة على "المكرّسين"، وأنها محكومة بـ"الشللية".
يرى بعض المراقبين أن أسباب تفاقم هذا النشاط تعود إلى تضخم "الأنا" الأدبية في ظل الفراغ المؤسّساتي، وتلاشي آليات الفلترة الأدبية أو الإبداعية التي كانت تفرضها المجلات والنقّاد، إضافة إلى تركيز "المبدع" على تسويق ذاته، بدلًا من تمثّل دوره كمشروع جمالي أو فكري. وهنا يتقاطع هذا السلوك مع ما سمّاه بيير بورديو بـ"رأس المال الرمزي"، حين يُستبدل الفعل الثقافي الحقيقي بـ"الظهور" و"الاعتراف الخارجي"، حتى وإن كان وهميًا.
رصد هذه الظاهرة يعيدنا إلى سؤال الجماعات الأدبية في المنطقة العربية، حيث إن التاريخ يربط ظهورها إما بأسباب جغرافية، مثل "الرابطة القلمية" التي تأسّست في نيويورك عام 1920، و"العصبة الأندلسية" في ساو باولو بالبرازيل، مطلع 1933، أو بأسباب إبداعية تتعلّق بتبنّي مجموعة من الأدباء أسلوبًا محددًا، كما في جماعة "مجلة شعر" التي تأسّست عام 1957، ونبضت بشعارات الحداثة، فصارت واجهتها العربية الأبرز، وكذلك جماعة "كركوك" العراقية التي عملت على تعميق تيار الحداثة في فضاء تجريبي خاص.
وفي قراءة أعمق لآليات ظهور هذه الجماعات، فإن التحليل الذي يربط الإبداع بتحولات الواقع يرى أن هذه الظواهر تنشأ على هامش التحولات العميقة التي تشهدها مجتمعاتها. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار الجماعات الأدبية حاملةً لرؤى تسعى إلى التعبير عن وجهة نظر مختلفة حيال ما يجري في الواقع السياسي والاجتماعي وارتداداتهما في الحيّز الثقافي. وحتى تلك التي نشأت في المهجر، إنما كانت صدى لتحولات مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
تحوّل النشر إلى مساحة رقمية مفتوحة قلّل من مركزية الجماعات
وعبر هذا التأريخ المشبع بروابط واضحة بين التيارات الأدبية والواقع المجتمعي، صار لدى القارئ العربي تاريخ أدبي موازٍ للتاريخ السياسي. ورغم أن مساحة تأويل هذه الظواهر من خلال تحليل نتاجات أصحابها لا تزال حتى اليوم شاغرة، وتطالب النقّاد والدارسين بالمزيد، إلا أن الثابت أن سلسلة طويلة من الجماعات ظهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أغلب الأدباء المكرّسين في وقتنا الحالي أعضاء فيها أو على تماس معها.
أُصيبت هذه الجماعات، منذ تسعينيات القرن الماضي وصولًا إلى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، بانكماشٍ واضح، يُعزى إلى خلل أصاب الواقع ذاته: فبعد اجتياح جيش صدام حسين للكويت، حدث انهيار كبير في الأفكار القومية العربية، كما شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي صدمة كبرى لتيار واسع من اليساريين العرب، ما جعل فكرة التجمع وتأسيس التكتلات عرضةً للشك في جدواها.
لكن هذا لم يمنع بعض التجارب قصيرة العمر من التشكل، مثل جماعة "مجلة ألف" السورية، التي ظهرت في بداية التسعينيات، وحاول أصحابها التحايل على القمع وتكميم الأفواه، والتصرّف خارج إطار المؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب، فنشروا نصوصًا مغايرة في 23 عددًا من المجلة، قبل أن تُمنع من التوزيع في أغلب البلدان العربية وتتوقّف.
إذا جاز لنا الاعتداد بفكرة طرحها الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت، ومفادها أننا لا نكون بحاجة إلى طليعة إلا عندما يكون المجتمع في مأزق، فإن سلسلة المآزق التي تعرّضت لها بلدان "الربيع العربي" منذ عقد ونصف، نتيجة سعي البُنى العميقة المكرّسة لكبح جماح القوى المجتمعية الراغبة في تغيير الواقع السياسي، كان يُفترض أن تفضي إلى ظهور جماعات أدبية تتبنّى شعارات مختلفة عن تلك التي سادت في أزمنة سابقة.
لكن الواقع يكشف أن همة المثقفين ورغبتهم في الاجتماع تحت أطر محددة عانت من نكوص كبير، خنق أنفاس الفكرة ذاتها، فلا نعثر على جماعة تحاول الظهور بحمولة فكرية عميقة، تشتبك مع الواقع وتحلّله.
ولا يخلو المشهد من اجتهادات شبابية تظهر وتنطفئ سريعًا، رغم ما تحمله من بذور واعدة، كجماعة "مليشيا الثقافة"، التي ظهرت قبل نحو عشر سنوات، واشترك فيها شعراء عراقيون (مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، محمد كريم، أحمد ضياء، علي تاج الدين، وسام علي، أحمد جبور، وخالد الشاطي)، وحاولوا عبر نشاطها تقديم صياغة بصرية تناسب الواقع المستجد في فضاء الشبكة الإلكترونية، احتجاجًا على واقع العراق بما فيه من خراب وقتل وانقسام طائفي. ولكن لماذا لم تعد فكرة "الجماعة الأدبية" تثير اهتمام الأدباء الشباب، وحتى أصحاب التجارب المكرّسة؟
الإجابة تقف عند عدة احتمالات، تنطبق على النشاط الإبداعي في مختلف أنحاء العالم، مثل تفكك الأطر الإيديولوجية الكبرى، وزوال أهمية المنابر الورقية، وتصاعد الفردانية الثقافية، وسيطرة وسائل التواصل التي تعزّز الصوت الفردي على حساب المشاريع الجماعية.
كما أن تحوّل النشر إلى مساحة رقمية مفتوحة قلّل من مركزية الجماعات. ويُضاف إلى ما سبق، وضمن خصوصية السياق العربي، أن التفكير في القطيعة الإبداعية مع ما سبق، والتفكير في بنى جديدة، لم يعد حاضرًا في المشهد العام؛ فلا نرى بيانات شعرية أو بيانات جمالية، ولا نسمع أصواتًا تعارض نوعًا إبداعيًا لصالح آخر، بل إن الجميع يعيش حالة "تجاور" لا تستدعي الصخب، ولا تطلب المعارضة.
كما أن السلطات القائمة لم تواجه الأشكال الحداثية (قصيدة النثر، الرواية المفتوحة، التعدّد الصوتي...)، بل طَبّعت معها، حتى صارت دراستها جزءًا من النشاط الأكاديمي، ولم تعد ناتئة في نظر العقل التقليدي. وتحولت، بمرور الوقت، إلى مادة مقبولة ضمن شروط السوق (الناشر، الترجمة، الجوائز، المهرجانات). وأُضيف إلى هذا الواقع دعم المؤسسات التمويلية للكتّاب، عبر دعوات التفرغ والإقامات الإبداعية، في سياق يحتفي بالفردية.
* شاعر وكاتب سوري
موقف
التحديثات الحية
عواصم الكتاب.. ما الجدوى وراء اللقب؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 5 أيام
- العربي الجديد
أفول الجماعات الأدبية
في أثناء تصفّح صفحات فيسبوك، يمرّ القارئ بظاهرة غريبة تتمثل في وجود صفحات تحمل أسماء أدبية ، يدّعي أصحابها أنها "أكاديميات إبداعية" تحمل تراخيص ما، وتنسج علاقات تمتد من الجامعات الرصينة إلى المراكز البحثية الكبرى. يقوم القائمون عليها بمنح المنتسبين شهادات تعترف بهم أدباءً "لا يُشق لهم غبار"! يسأل القارئ: من هؤلاء؟ ولا أحد يقدّم الجواب سوى الواقع ذاته! فهذه المؤسسات الوهمية، المنشأة في العالم الافتراضي، ليست سوى دكاكين يفتتحها أصحابها إما تعويضًا عن فشلهم في دخول عالم الإبداع التقليدي، فيحاولون إنشاء عالم موازٍ، أو بحثًا عن واجهات للاستعراض والتكسب المعنوي، وتحشيد مئات الأسماء التي تكتب كلامًا مكرّرًا، وتبحث بدورها عن مساحات للنشر. تكرّست هذه الظاهرة خلال عقد ونصف، ومع توفّر المنصات الرقمية المتطوّرة، بات الفاعلون فيها يمتلكون فرصًا متعدّدة للحضور بالصوت والصورة، عبر منصة "تيك توك" وغيرها. لكن هذا كله لم يُساهم في دفع منتجات المشاركين نحو جمهور القرّاء أو نقّاد الأدب، وذلك لسبب رئيس: أن أغلب ما يُحتفى به هنا ليس سوى كلام عادي، تظهر فيه ظلال واضحة لتجارب أدبية مكرّسة. لماذا لا تثير فكرة "الجماعة الأدبية" اهتمام الأدباء الشباب؟ غير أن هذا لم يوقف الساعين إلى ارتقاء درجات الشهرة، بل زاد من إصرارهم على تكرار الفعل ذاته، مع الشكوى الدائمة من أن الصفحات الثقافية مغلقة على "المكرّسين"، وأنها محكومة بـ"الشللية". يرى بعض المراقبين أن أسباب تفاقم هذا النشاط تعود إلى تضخم "الأنا" الأدبية في ظل الفراغ المؤسّساتي، وتلاشي آليات الفلترة الأدبية أو الإبداعية التي كانت تفرضها المجلات والنقّاد، إضافة إلى تركيز "المبدع" على تسويق ذاته، بدلًا من تمثّل دوره كمشروع جمالي أو فكري. وهنا يتقاطع هذا السلوك مع ما سمّاه بيير بورديو بـ"رأس المال الرمزي"، حين يُستبدل الفعل الثقافي الحقيقي بـ"الظهور" و"الاعتراف الخارجي"، حتى وإن كان وهميًا. رصد هذه الظاهرة يعيدنا إلى سؤال الجماعات الأدبية في المنطقة العربية، حيث إن التاريخ يربط ظهورها إما بأسباب جغرافية، مثل "الرابطة القلمية" التي تأسّست في نيويورك عام 1920، و"العصبة الأندلسية" في ساو باولو بالبرازيل، مطلع 1933، أو بأسباب إبداعية تتعلّق بتبنّي مجموعة من الأدباء أسلوبًا محددًا، كما في جماعة "مجلة شعر" التي تأسّست عام 1957، ونبضت بشعارات الحداثة، فصارت واجهتها العربية الأبرز، وكذلك جماعة "كركوك" العراقية التي عملت على تعميق تيار الحداثة في فضاء تجريبي خاص. وفي قراءة أعمق لآليات ظهور هذه الجماعات، فإن التحليل الذي يربط الإبداع بتحولات الواقع يرى أن هذه الظواهر تنشأ على هامش التحولات العميقة التي تشهدها مجتمعاتها. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار الجماعات الأدبية حاملةً لرؤى تسعى إلى التعبير عن وجهة نظر مختلفة حيال ما يجري في الواقع السياسي والاجتماعي وارتداداتهما في الحيّز الثقافي. وحتى تلك التي نشأت في المهجر، إنما كانت صدى لتحولات مرحلة ما بين الحربين العالميتين. تحوّل النشر إلى مساحة رقمية مفتوحة قلّل من مركزية الجماعات وعبر هذا التأريخ المشبع بروابط واضحة بين التيارات الأدبية والواقع المجتمعي، صار لدى القارئ العربي تاريخ أدبي موازٍ للتاريخ السياسي. ورغم أن مساحة تأويل هذه الظواهر من خلال تحليل نتاجات أصحابها لا تزال حتى اليوم شاغرة، وتطالب النقّاد والدارسين بالمزيد، إلا أن الثابت أن سلسلة طويلة من الجماعات ظهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أغلب الأدباء المكرّسين في وقتنا الحالي أعضاء فيها أو على تماس معها. أُصيبت هذه الجماعات، منذ تسعينيات القرن الماضي وصولًا إلى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، بانكماشٍ واضح، يُعزى إلى خلل أصاب الواقع ذاته: فبعد اجتياح جيش صدام حسين للكويت، حدث انهيار كبير في الأفكار القومية العربية، كما شكّل انهيار الاتحاد السوفييتي صدمة كبرى لتيار واسع من اليساريين العرب، ما جعل فكرة التجمع وتأسيس التكتلات عرضةً للشك في جدواها. لكن هذا لم يمنع بعض التجارب قصيرة العمر من التشكل، مثل جماعة "مجلة ألف" السورية، التي ظهرت في بداية التسعينيات، وحاول أصحابها التحايل على القمع وتكميم الأفواه، والتصرّف خارج إطار المؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب، فنشروا نصوصًا مغايرة في 23 عددًا من المجلة، قبل أن تُمنع من التوزيع في أغلب البلدان العربية وتتوقّف. إذا جاز لنا الاعتداد بفكرة طرحها الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت، ومفادها أننا لا نكون بحاجة إلى طليعة إلا عندما يكون المجتمع في مأزق، فإن سلسلة المآزق التي تعرّضت لها بلدان "الربيع العربي" منذ عقد ونصف، نتيجة سعي البُنى العميقة المكرّسة لكبح جماح القوى المجتمعية الراغبة في تغيير الواقع السياسي، كان يُفترض أن تفضي إلى ظهور جماعات أدبية تتبنّى شعارات مختلفة عن تلك التي سادت في أزمنة سابقة. لكن الواقع يكشف أن همة المثقفين ورغبتهم في الاجتماع تحت أطر محددة عانت من نكوص كبير، خنق أنفاس الفكرة ذاتها، فلا نعثر على جماعة تحاول الظهور بحمولة فكرية عميقة، تشتبك مع الواقع وتحلّله. ولا يخلو المشهد من اجتهادات شبابية تظهر وتنطفئ سريعًا، رغم ما تحمله من بذور واعدة، كجماعة "مليشيا الثقافة"، التي ظهرت قبل نحو عشر سنوات، واشترك فيها شعراء عراقيون (مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، محمد كريم، أحمد ضياء، علي تاج الدين، وسام علي، أحمد جبور، وخالد الشاطي)، وحاولوا عبر نشاطها تقديم صياغة بصرية تناسب الواقع المستجد في فضاء الشبكة الإلكترونية، احتجاجًا على واقع العراق بما فيه من خراب وقتل وانقسام طائفي. ولكن لماذا لم تعد فكرة "الجماعة الأدبية" تثير اهتمام الأدباء الشباب، وحتى أصحاب التجارب المكرّسة؟ الإجابة تقف عند عدة احتمالات، تنطبق على النشاط الإبداعي في مختلف أنحاء العالم، مثل تفكك الأطر الإيديولوجية الكبرى، وزوال أهمية المنابر الورقية، وتصاعد الفردانية الثقافية، وسيطرة وسائل التواصل التي تعزّز الصوت الفردي على حساب المشاريع الجماعية. كما أن تحوّل النشر إلى مساحة رقمية مفتوحة قلّل من مركزية الجماعات. ويُضاف إلى ما سبق، وضمن خصوصية السياق العربي، أن التفكير في القطيعة الإبداعية مع ما سبق، والتفكير في بنى جديدة، لم يعد حاضرًا في المشهد العام؛ فلا نرى بيانات شعرية أو بيانات جمالية، ولا نسمع أصواتًا تعارض نوعًا إبداعيًا لصالح آخر، بل إن الجميع يعيش حالة "تجاور" لا تستدعي الصخب، ولا تطلب المعارضة. كما أن السلطات القائمة لم تواجه الأشكال الحداثية (قصيدة النثر، الرواية المفتوحة، التعدّد الصوتي...)، بل طَبّعت معها، حتى صارت دراستها جزءًا من النشاط الأكاديمي، ولم تعد ناتئة في نظر العقل التقليدي. وتحولت، بمرور الوقت، إلى مادة مقبولة ضمن شروط السوق (الناشر، الترجمة، الجوائز، المهرجانات). وأُضيف إلى هذا الواقع دعم المؤسسات التمويلية للكتّاب، عبر دعوات التفرغ والإقامات الإبداعية، في سياق يحتفي بالفردية. * شاعر وكاتب سوري موقف التحديثات الحية عواصم الكتاب.. ما الجدوى وراء اللقب؟


العربي الجديد
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
سيلينا غوميز... ضجيج موسيقي على "تيك توك"
حقّقت حملة "تيك توك" لأغنية I Said I Love You First للمغنية الأميركية سيلينا غوميز (1992) نجاحاً كبيراً في التطبيق، محدثةً ضجةً وسجالات بين الجمهور. الانتشار لم يقتصر على تحقيق مشاهدات هائلة فحسب، بل جذب أيضاً معجبي سيلينا غوميز كثيراً. وأشار موقع "إنفلونسر ماركتنغ هاب" التسويقي إلى أن الحملة تمثّل درساً مُتقناً في تسويق الموسيقى في عصر الفيديوهات القصيرة. بهذا، حققت حملة الأغنية 24.4 مليون مشاهدة وثلاثة ملايين إعجاب على فيديو إعلان الألبوم، و52.9 مليون مشاهدة و5.2 ملايين إعجاب على مقطع فيديو مرح يظهر فيه كاتب الأغاني بيني بلانكو وهو يضع مكياج سيلينا غوميز أثناء عزف أغنية Call Me When You Break Up، إضافةً إلى 31.6 مليون مشاهدة وأربعة ملايين إعجاب لفيديو غوميز وهي تؤدّي الأغنية السابقة، و3.4 ملايين مشاهدة و300 ألف إعجاب على منشور يروّج فيديو أغنية Sunset Blvd، في أقل من أسبوع. @selenagomez Letting my fiancé do my makeup using @Rare Beauty ♥️ @benny blanco ♬ Call Me When You Break Up - Selena Gomez & benny blanco & Gracie Abrams وهدفت استراتيجية سيلينا غوميز على "تيك توك" إلى أكثر من مجرد نشر خبر صدور الألبوم، بل تعدّته إلى إشراك جمهور الجيل زي، تحديداً الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، وتحويل هذا التفاعل إلى تنزيلات حقيقية. كيف نجحت سيلينا غوميز في تسويق جديدها عبر "تيك توك"؟ نجحت المغنية الأميركية في الاستفادة من قوة "تيك توك" لتحويل إصدار ألبوم إلى حدث واسع الانتشار بحسب "إنفلونسر ماركتنغ هاب"، وذلك من خلال الاستفادة من ميزة "تسليط الضوء على المعجبين" في "تيك توك". دعت سيلينا غوميز معجبيها إلى استخدام وسم #ISaidILoveYouFirst، ونشر نسخهم الإبداعية الخاصة لموسيقاها. أصبح محتوى المعجبين جزءاً لا يتجزّأ من القصة، وحصل أفضل المبتكرين على مكان في قسم "تسليط الضوء على المعجبين"، ليصلوا إلى جمهور أكبر. لزيادة التشويق، تضمنت الحملة محتوىً حصرياً، إذ تمكّن المعجبون من الاطلاع على لمحات سريعة، مثل الأغاني ومقاطع الفيديو الموسيقية غير المنشورة، مقابل المشاركة في التحديات. لم يُؤجّج هذا النهج التفاعلي ترقُّب الألبوم فحسب، بل ارتبط أيضاً بتركيز "تيك توك" المتزايد على التجارة الاجتماعية. تمكّن المعجبون المشاركون أيضاً من ربح إطارات (Frames) خاصة بالألبوم في حساباتهم الشخصية، يضعونها حول صورهم، بل وحتى الوصول إلى المنتجات الرسمية عبر متجر "تيك توك"، ما أضاف طبقة من المكافآت الحصرية إلى الحملة. ثلاث مراحل لم تتردد حسابات غوميز وبيني بلانكو على "تيك توك" في استغلال الصيغ الرائجة واستخدام محتوى أصلي من المنصة للوصول إلى المستخدمين طبيعياً، من فيديوهات تغيير المكياج إلى المقاطع الموسيقية. واعتماداً على مقاطع منخفضة الدقة تناسب قاعدة مستخدمي "تيك توك"، بدا كل فيديو أصلياً للمنصة بدلاً من كونه إعلاناً مصقولاً. هذا ساعد على الاندماج بسلاسة في خلاصات المستخدمين وتعزيز التفاعل. امتدت الحملة على ثلاث مراحل، صُممت كل منها لبناء زخم نحو إصدار الألبوم النهائي، والمراحل كانت كالآتي: 1- إثارة الضجة: ركزت هذه المرحلة على إثارة الضجة وجذب الانتباه. تميز فيديو إعلان الألبوم بنهج جريء وإبداعي، جمع بين اللحظات الشخصية والمحتوى المرح وغير التقليدي، ليحقّق 24.4 مليون مشاهدة وثلاثة ملايين إعجاب. هذا مهّد الطريق لما سيأتي بعده. 2- إثارة الرغبة: استندت المرحلة الثانية إلى قوة ترندات "تيك توك"، إذ ظهرت سيلينا غوميز وبيني بلانكو في مواقف مرحة وواقعية، مثل مقطع فيديو يظهر فيه بلانكو وهو يضع المكياج لغوميز أثناء تشغيل أغنية Call Me When You Break Up. حقق هذا الفيديو 52.9 مليون مشاهدة و5.2 ملايين إعجاب، مجسّداً الطبيعة المرحة والغريبة لمحتوى "تيك توك". 3- تعزيز قابلية الاكتشاف: مع اقتراب موعد إصدار الألبوم، استمر التفاعل في النمو. حقّق فيديو غوميز وهي تؤدّي أغنية Call Me When You Break Up ما ناهز 31.6 مليون مشاهدة. وأثار كليب أغنية Sunset Blvd حماس الجمهور وحقق 3.4 ملايين مشاهدة في أقل من أسبوع، ما يُظهر قدرة "تيك توك" على الحفاظ على زخم الحملة حتى إصدار الألبوم. بحسب تحليل "إنفلونسر ماركتنغ هاب"، نجحت استراتيجية سيلينا غوميز على "تيك توك" لأنها احتضنت ثقافة "تيك توك" الفريدة بدلاً من محاولة إقحام نهج تسويقي تقليدي على المنصة. من خلال الاعتماد على ميزات "تيك توك" الأصلية، مثل "تسليط الضوء على المعجبين"، والتحديات التفاعلية، والمحتوى الذي يُنشئه المستخدمون، ابتكرت غوميز وبلانكو حملة أصيلة وعفوية لاقت صدىً واسعاً لدى جمهورهما من الجيل زي. لا يرغب مستخدمو "تيك توك" في رؤية إعلانات مشغولة بعناية، بل يريدون محتوى يبدو حقيقياً وأصيلاً، وقد حققت هذه الحملة ذلك تماماً. مع توسُّع تأثير "تيك توك" على صناعة الموسيقى في العالم، لا يمثّل التطبيق أداة بيد المشاهير ونخبة الفن فقط، بل ظلّ ولا يزال طوق نجاة لموسيقيين كثيرين في بدايات طريقهم الفنية، إذ ساعد في صعود مغنّين وتحقيق شهرتهم أسوةً بباقي صنّاع المحتوى الآخرين في المنصة. إضافةً إلى ذلك، أثّر التطبيق على شكل الأغاني نفسها التي أصبحت تراعي متطلبات التطبيق التسويقية، مثل جعل المدة الزمنية للأغاني أقصر، وتحمل دعوة إلى الحركة والرقص والتفاعل، وتتضمّن لحظات خاطفة بدلاً من التعامل مع الألبوم بوصفه وحدة متماسكة.


العربي الجديد
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
"إنقاذ مسابقة ملكة جمال إيطاليا": صراخ في غرفة صدى
بين تسليع الجسد وتمجيد الذّكاء والحذاقة، وبين النسويّة الراديكاليّة والدفاع عن التقاليد بوصفها عنصراً من الهوية الوطنية، يأتي فيلم Miss Italy Must Not Die (إنقاذ مسابقة ملكة جمال إيطاليا) الصادر عام 2025 عن " نتفليكس "، للمخرجين بيترو دافيدي وديفيد غاليرانو، ليرسم لوحة سينمائية وثائقية معقدة عن أزمة مسابقة ملكة جمال إيطاليا. هذا الوثائقي لا يقدم حقائق موضوعية، بل انعكاسات ملتقطة عبر عدسة موجهة تعكس صراعاً أعمق بين المحافظة والحداثة، فالمسابقة التي تقدّم معايير الجمال مجسّدة بامرأة، تتحوّل إلى ساحة حرب لاختبار حدود الأنوثة والسياسة. يسرد المخرجان قصة انهيار مسابقة ملكة جمال إيطاليا، ويشاركان مع شخوصهما السينمائية في تشريح جثة نظام أبويٍّ يحتضر، ذلك في مجتمع تنحني فيه القيم القديمة أمام رياح التغيير التي تهب من الثقافة الإيطالية المعاصرة. يركز الفيلم في تقديم قصته عبر سرد مخاتل يركز على الشخصيات بدل البُنى الحكائية، ليكشف ما وراء كواليس المسابقة عبر مقابلات مع القائمين عليها. تبدأ الحكاية مع مديرة المسابقة المثابرة، باتريشيا ميريلياني، التي تحمل عبء إرث عائلي يعود إلى والدها إنزو، مؤسس المسابقة. تُصوَّر المديرة بطلةً تراجيدية تحارب لإنقاذ إرث عائلتها، بينما تُختزل الأزمة المؤسسية في صراعها الشخصي مع الذكورية ونسوية العالم الحديث. هنا، تتحول الأيديولوجيا إلى دراما إنسانية، تُبرر فيها المعاناة الفردية استمرارَ نظامٍ فاسد، ويلتقط الفيلم التناقض الصارخ: امرأة تقود مؤسسة تُتهم بتهميش النساء. تدرك باتريشيا أن المسابقة فقدت بريقها في عصر " إنستغرام " و" تيك توك "، ولم تعد أجساد النساء حكراً على منصات المسابقات. في أحد المشاهد، تواجه باتريشيا اتهامات تسليع جسد المرأة، بينما تدافع عن حق النساء في الاختيار. هذا المشهد يُجسد الصراع الأخلاقي الذي تعيشه؛ فتصويرها ضحيةً، يطمس النظام البطريركي الذي صنعها، حتى رفضها لمشاركة النساء المتحولات جنسياً في المسابقة يُقدّم لنا بوصفه حماقةً بريئة، وليس تناقضاً جذرياً في خطابها النسوي. تتصاعد أصوات النسويات لكننا لا نَراهنّ. ينتقدن رجالاً يقيمون أجساد فتيات في عمر أحفادهن. يخفف المخرجان حدة الصراعات عبر شخصية أورورا، الفتاة ذات الشعر القصير، فالمسابقة ليست شرّاً مطلقاً، ومن الممكن أن تكون وسيلة للتمرد من الداخل على المعايير نفسها. هذه كانت رسالة أورورا عبر مشاركتها في المسابقة، فتفضيلها الجمالي يتناقض مع جوهر المسابقة ويتجاوز الشكل. عندما ترفض القنوات الحكومية الإيطالية RAI بثّ المسابقة، تتحول القصة إلى معركة سياسيّة رمزيّة بين اليمين المحافظ الذي يرى في المسابقة جزءاً من الهوية الوطنية، واليسار التقدمي الذي يرفضها لأنها ترويجٌ لتسليع النساء وأجسادهنّ. مشهد آخر يدين الفكر المحافظ للقائمين على المسابقة هو محاولة باتريشيا لتقديم رقصة إجبارية كانت قد اشتهرت على "تيك توك"، وكانت هذه إحدى محاولاتها الكثيرة لاسترضاء الجمهور من دون المساس بالبنية الحقيقية للمسابقة. هذا يذكرنا بأن جسد النساء كان دوماً ساحة لصراعات السلطة. يُستوعب تمرّد أورورا ضمن إطار السوق، فتظهر بجانب ستة آلاف متسابقة يتنافسن بفساتين متطابقة وابتسامة محدّدة. الخطاب النسوي الموجه إلى المتشاركات يُختزل إلى سلعة كالجمال الذكي والمرأة القوية والتنوع العرقي. هذه الشعارات تُباع للمشاهد بوصفها بديلاً حضارياً عن البكّيني، وكل ما ذكر هو إكسسوارات توضع على الجسد المُشيّأ لرفع فرص نجاحه في المسابقة. المشهد الذي تُوزَّع فيه القضايا الإنسانية كالحرب والتغير المناخي على المتسابقات هو ذروة السخرية، إذ تتحوّل المعاناة العالميّة إلى ديكور لمسابقة جمال. الفيلم يعتمد على خطابٍ رومانسيّ تقليديّ أركانه هي الحلم والتضحية والإرث. باتريشيا تُقدّم نفسها أمّاً تحتضن فتيات المسابقة، وحقيقة أن هذه العائلة مبنية على منافسة قاسية، وأن فتاة واحدة ستنتصر فهي حقيقة مهمشة. سينما ودراما التحديثات الحية صدام مرتقب بين ترامب ونجوم الصناعة: رسوم جمركية تهدد مستقبل هوليوود من جهة أخرى، يتعامل الوثائقي مع النسوية على أنها ظلّ طويل يحاول مطاردته. المشاهد التي تهاجم فيها ناشطات المسابقة باعتبارها معرضاً لبيع الجسد، تقابلها لقطات لنساء مشاركات يرين في المسابقة فرصة للتمكين الاقتصادي والاجتماعي. الإجابات ليست واضحة عن هذه الأسئلة والقضايا المركبة، وهذا ما يجعل العمل ثريّاً. ينجح "إنقاذ مسابقة ملكة جمال إيطاليا"، بالرغم من طوله المبالغ فيه قليلاً (ساعة و38 دقيقة)، في أن يكون مرآة لصراعات إيطاليا، ينتهي بتتويج فرانشيسكا بيرجيزيو التي تبدو نسخة حديثة من ملكة تقليدية. نجاة المسابقة من الموت والتركيز على أزمتها، دليلٌ على أقطاب سياسية واقتصادية تتصارع في ما بينها، ويبدو في مواضع معينة أن المخرجين يقدمان انحدار المسابقة والمعارضة الشديدة لها بوصفها بدايةً لنهاية حقبة من التسلط الذكوري.