
الحياء.. هُوية الأمة وآخر حصونها
في زمن تتسارع فيه التغيرات الاجتماعية، وتضطرب فيه القيم، تبقى بعض الفضائل كالأوتاد الراسخة في أرض الأخلاق، ومن أسمى هذه الفضائل: الحياء، وهو ليس مجرد خُلق عابر أو مظهر خارجي، بل قيمة أصيلة تحفظ للإنسان كرامته، وتضبط سلوكه، وتُهذّب فِكره، وتبني به مجتمعًا أكثر نقاءً وتماسكًا.
الحياء في اللغة مأخوذ من "الحَيّ"، أي الحياة، ويُقال: من استحيا فقد استحيا، أي بقيت فيه الحياة، فهو انكسار النفس عن القبيح.
أما في الشرع، فهو خلق يدفع الإنسان لترك القبيح، ويمنعه من التقصير في حق الله أو الناس.
لذلك قال رسول الله ﷺ: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء شعبة من الإيمان" (متفق عليه).
وقد استمعتُ مؤخرًا إلى مقطع مؤثر لفضيلة الشيخ مسلم المسهلي يتحدث فيه عن واقع الحياء في مجتمعنا، حيث عبّر عن حزنه من تراجع هذا الخُلق، وظهور مظاهر لا تتسق مع البيئة العمانية المحافظة، خاصة في مظهر المرأة وسلوكها في الأماكن العامة.
كانت كلماته صادقة، وأثارت في نفسي دافعًا كبيرًا لكتابة هذا المقال، لعلّه يكون تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحياء ليس قيدًا، بل نور يُهتدى به.
في عالمنا المعاصر، تداخلت القيم وتشوش كثير من المفاهيم، حتى غدا التمييز بين الفضيلة والتفلت أمرًا ليس باليسير، خاصة حين نتحدث عن خلقٍ رفيع كان زينة النفوس وعنوان المجتمعات الراقية: الحياء.
تابعت عن كثب ما يشهده مجتمعنا من مظاهر انكشاف وجرأة لم تكن مألوفة من قبل، سلوكيات كانت يومًا تُعد من المحرمات، واليوم تُعرض بلا حرج.
وكأن غيمة كثيفة حجبت شمس النقاء التي كانت تضيء علاقاتنا، فأثّرت هذه التحولات في عمق الإنسان، وزعزعت ركائز الأسرة، وتسللت آثارها إلى نسيج المجتمع كله.
وقد قال النبي ﷺ: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" رواه البخاري.
وقال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...} [النور: 31]
فالحياء ليس قيدًا، بل حصانة تحفظ كرامة الإنسان، وتبني مجتمعًا تسوده الطمأنينة والنقاء.
إن ظاهرة تراجع الحياء لم تنشأ فجأة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة لعوامل متعددة.
أولها تغيّر القيم والمفاهيم، حيث تراجع الاهتمام بثوابتنا الأصيلة، وذابت ملامح الاحتشام في خضم ثقافات دخيلة لا تراعي خصوصيتنا، ولا تحترم جذور ديننا ومجتمعنا.
ثم يأتي ضعف الوازع الديني في البيوت، والانشغال المفرط بمشاغل الحياة، مما أضعف دور الأسرة في غرس قيم الحياء والانضباط الأخلاقي في نفوس الأبناء.
ولا يمكن إغفال دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت -في كثير من الأحيان- منصات لنشر أنماط بعيدة عن هويتنا، دون رقابة أو وعي، فشجّعت على تقليد أعمى وساهمت في تطبيع التمرد على القيم، حتى ضعفت الغيرة، وخفت نور الحياء، وتراجعت مسؤولية التربية.
كنتُ أراقب بقلق تراجع مظاهر الحياء في مجتمعنا، تلك الفضيلة التي كانت يومًا تاجًا للنفس، ودرعًا يحفظ كرامة المرأة ويصونها.
في زمن مضى، كانت المرأة تخرج كما يخرج الفجر، طاهرة، محتشمة، موقّرة في أعين الناس، محفوظة الستر والعفاف، كما وصفها القرآن الكريم:
﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34).
لكن المؤسف أن هذه الصورة بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، فصار بعض النساء يظهرن في الأماكن العامة والمقاهي وقد بالغن في الزينة واللباس اللافت، دون مراعاة لحدود الحياء التي رسمها الشرع، وغُيِّبت عن الأذهان آية الله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب: 33)، وحديث النبي ﷺ: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (رواه البخاري).
في السنوات الأخيرة، تصاعدت شعارات تمكين المرأة، حتى تجاوزت أحيانًا حدود التوازن، وتحولت في بعض الخطابات إلى دعوات لكسر كل الحواجز، دون تمييز بين الحق المشروع والتجاوز المرفوض.
ونحن لا نعارض تمكين المرأة، بل نؤمن أنها ركيزة المجتمع وأساسه، والإسلام كرّمها أعظم تكريم، فقال ﷺ: "النساء شقائق الرجال".
لكن التمكين لا يعني الخروج عن الفطرة، ولا مزاحمة الرجل فيما خُلق له، ولا التخلي عن الضوابط الشرعية، كما في حديثه ﷺ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم".
إن رفع الكلفة الاجتماعية، وتبدل المفاهيم، أثّر في العلاقة بين الجنسين، فأدى إلى عزوف عن الزواج، وظهور سلوكيات دخيلة لا تناسب بيئتنا المحافظة.
والتمكين الحقيقي هو منح الحقوق بلا إفراط ولا تفريط، وتقدير دور المرأة مع صون فطرتها، بعيدًا عن التماثل المصطنع والنماذج الوافدة.
قال تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، وقال: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ"، فالتكامل هو السبيل، لا الصراع. وإذا خرج كل من دوره، اختل البناء واهتزت الأسرة.
إن غياب الحياء لا يُضر بالمرأة وحدها، بل يُضعف جدار القيم في المجتمع كله، ويفتح الأبواب لمظاهر لا تليق بمجتمع يريد الحفاظ على أصالته وسموّه.
تُشكّل هذه التحوّلات كغيمة سوداء تقترب من قلب مجتمعنا، تُنذر بانحسار آخر خطوط الدفاع الأخلاقي. إنها صورة صريحة لتراجع الحياء، ونتيجة حتمية لانخفاض الوعي، وغياب التربية المتوازنة التي تجمع بين الدين والأخلاق.
وقد ساهم في هذا الانحدار اتساع تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل، التي تروّج لأنماط حياة دخيلة على قيمنا، في ظل تراجع الغيرة، وضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الكرامة والعِرض.
فأين الغيرة التي كانت مضرب الأمثال؟
أين الأب الذي كان يرى في سمعة بيته وعرض بناته شرفًا لا يُقدَّر بثمن؟
أين الزوج الذي يترجم غيرته إلى التزام وانضباط، انسجامًا مع قول النبي ﷺ: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه» (متفق عليه).
وأين الأخ الذي كان يرى في أخته امتدادًا لكرامته، فلا يرضى لها إلا الستر والصون؟
إنّ قلوب الرجال تغار على عورات نسائهم، والحياء مفتاح المجد، وأساس الكرامة.
حين تضعف الغيرة في القلوب، ينهار معها سور الحياء، فتتساقط القيم كأوراق الخريف تحت عاصفة لا ترحم، ويصبح المجتمع أرضًا خصبة للانحراف وتآكل الهوية.
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دون النجومِ
وليسَ الحياءُ بمانعٍ رزقَ امرئٍ
ولكنه يكسو وجوهَ العُفَّةِ نورا
الحياء ليس قيدًا يكبل صاحبه، بل نورٌ يضيء درب العفة والكرامة، وهو آخر حصن تتكئ عليه المجتمعات حين تهتز أركانها.
فلنعد إليه، وإلى الغيرة التي تبني ولا تهدم، وتحمي ولا تقسو، لئلا نستيقظ يومًا على مجتمع غريب عن قيمه، فاقد لبوصلته، لا يرى من ماضيه إلا ظلًّا باهتًا لا يُرشد ولا يُلهم.
ولكي ندرك عمق هذه الظاهرة، لا بد أن نُعيد الاعتبار للوعي الحقيقي، ذلك الوعي الذي لا يكتفي بالمعلومات السطحية، بل يغوص في فهم أن الحياء ليس ضعفًا، بل قوة تحفظ الكرامة، ورصيد حضاري ينبغي صونه.
إذ أن الوعي هو الأساس الذي تُبنى عليه كل فضائل الأخلاق، فإذا تراجع، تراجعت معه الحدود، واشتد الخطر بانهيار الثوابت الأخلاقية.
تأملت مليًّا في سيرة نبينا محمد ﷺ فوجدته أروع نموذج للحياء في أسمى معانيه. وصفه الصحابة بأنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، رغم مكانته العظيمة وسؤدده على البشرية. كان حياؤه متجذرًا في سلوكه اليومي؛ يظهر في أدبه، واعتداله، وانتقاء كلماته، وحرصه على صون كرامة الناس، وتواضعه في المظهر بعيدًا عن التكلف أو المبالغة.
وسار الصحابة على هذا النهج؛ فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رمزًا للحياء، لا يرفع بصره حياءً من الملائكة، وكان عمر بن الخطاب يزن كلماته بدقة في المواقف الخاصة، وكانت فاطمة الزهراء وأسماء بنت أبي بكر مثالًا للمرأة المسلمة التي تجمع بين الحياء وقوة الشخصية، والعمل وسمو الأخلاق."
"لقد كان الحياء عندهم متجذرًا، لا يعارض القوة ولا يُناقض العلم، بل يعزّز الهيبة ويُقرن بالإيمان، وكانوا يربّون أبناءهم على أن فقدان الحياء خللٌ في النفس، لا يُبرّره تطوّر ولا يغطّيه علم.
وفي زمننا هذا، تأملت التحديات التي تواجه المرأة في مجتمعنا، فرأيت أن التوازن ضرورة لا بد منها: تمكين حقيقي يعزز دورها ويحفظ كرامتها، لا انفلات يُفقدها وقارها ولا تقييد يُصادر حقوقها.
الحياء لا يتنافى مع التقدم، بل هو ركيزة له. فبه تُصان القيم، وتُبنى المجتمعات على أسس من الاحترام والعفة والمكانة."
كل ذلك يعود بنا إلى مسؤولية مشتركة بين الجميع؛ الأسرة التي تربي الصالح، والمدرسة التي تعزز الوعي، والمؤسسات الإعلامية التي تقع على عاتقها مهمة تشكيل الوجدان والاعتقاد.
علينا جميعًا أن نحمل شعلة الحياء واليقظة، فذلك النور لا يحدّ من الحرية، بل يرفعها، ويضعنا في موقع القوة والسمو.
ومن خلال متابعة التطورات الاجتماعية، أؤمن بأن استعادة الحياء تحتاج إلى صبر وإصرار، فلا يعود الحياء إلا عندما يستقبله فكرٌ وقلبٌ وأعيانٌ واعية.
مجتمعات تعلم شبابها أن الحياء قوة وتميز، لا ضعفًا، هي التي تضع الأساس لنهوض أخلاقي متين ومستدام.
فالحياء ليس قيدًا، بل هو نور داخلي يوجه السلوك، ويجعل الحياة أجمل وأنقى، يغرس المحبة والرحمة، ويمنع القسوة والأنانية.
لقد ورثنا الحياء من ديننا وتاريخنا وثقافتنا، وحافظت عليه أجيال سبقتنا رغم قلة الإمكانات وضيق الحياة، فكيف نفرط فيه نحن في زمن الوفرة وسهولة الوصول لكل شيء؟
ربما حان الوقت أن نسأل أنفسنا: هل مظاهرنا اليوم تعبّر عن قيمنا، أم أننا بتنا نعكس صورة لا تشبهنا؟
وفي الختام، لا بد أن نؤمن بأن الحياء هو آخر حصن نملكه في عالم توشك فيه الفوضى أن تلتهم ما تبقى من قيم صلبة.
هو السلاح الذي يجعلنا نواجه تحديات الحياة بمروءة وعزة.
هل نكون نحن الجيل الذي يعيد لهذا النور مكانه؟
هل نستطيع أن نعيد للحياء دوره في حفظ النفس والآداب؟ الأمل موجود، والقرار بأيدينا.
نسأل الله أن يمنحنا القوة والثبات على القيم، وأن يجعل هذا المقال بداية لانطلاقة جديدة تنير القلوب، وتحيي روح الحياء في حياة كل فرد ومجتمع.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ ساعة واحدة
- جريدة الرؤية
الوصول الميمون
محمد بن رامس الرواس ما كادت أنفاس صباح يومٍ من أيام الخريف الجميلة تطلق عبيرها العذب بين روابي صلالة، حتى أخذت الأجواء تتزين بنسائم الفرح، وابتهجت الأرواح بترحيب يفيض حبًا وولاء بمقدم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- إلى صلالة، مقدم سلطان الصلاح والثبات إلى أرض اللبان ومهوى الأفئدة، ومقدمه -أعزه الله- موعدٌ تلتقي فيه الأفئدة على تجديد العهد والوفاء لقائدها الحكيم الذي هو عنوان عزتها، وأصدق من حفظ العهد وأوفى بالأمانة. لقد بدت صلالة في ذلك اليوم كعروس مزهوة بثوب أخضر نسجه لها المولى عز وجل كأبهى حلة، وتزينت جبالها بالندى كحبات اللؤلؤ تتلألأ في فصل الخريف، ونشر بحر العرب أشرعته من الموج يردد سيمفونية الفرح كأنما كل موجة فيه تُجدِّد العهد للسلطان الحكيم -حفظه الله- الذي جمع في قلبه البصيرة النافذة، والرحمة الشاملة والحكمة الراسخة. وما القيادة في جوهرها إلّا عهد ومسؤولية، ورعاية ورحمة، وقد اجتمعت هذه الصفات جميعها في قلب السلطان هيثم -أيده الله- فهو الحازم إذا دعا الموقف إلى الحزم، والرفيق الذي يمسح بيده على كتف أبناء وطنه كما يمسح الأب الحنون على رأس طفله؛ فاجتمعت فيه قوة العزم ولين الجانب، فأدار الأمور بما يقيم العدل بين الرعية ويحفظ الكرامة، ومن قبل أن يتقلد أمانة النهضة المتجددة، وهو يرسم للوطن ملامح مستقبل مشرق، يخط فيه بالأمل واليقين طريق الغد من خلال رؤية "عُمان 2040"، فلا يعرف قلبه التردد، ولا تعرف عزيمته سبيل التراجع عن تنفيذ ما أبرمه من خطط النجاح. في هذا اليوم اكتمل في صلالة مشهد فريد، فقد اكتملت الفرحة وتضاعفت بمقدمه الميمون وتجدد فصل الخريف، فكان بموسم الخريف بما فيه من خضرة نضرة ونسمات ندية، قد صافحت مقدم السلطان هيثم، فجاء اللقاء كلقاء الجمال والطبيعة الخلابة بالسلطان الأمين الحكيم، الذي أوفى بالوعد والعهد. مرحبًا بسلطان الخير والنماء والسلام، مرحبًا بمن يصبح قدومه تجديد للعهد بين القائد وشعبه، وبشارات مستقبل يزهر في القلوب قبل أن يزهر في السهول. إن القيادة الحكيمة للسلطان هيثم وثَّقت غرسها؛ فأنبتت قيادة صالحة، وثباتًا راسخًا، ورؤية واعدة لا تغيب عنها شمس الخير والنماء. مرحبًا بكم مولاي، ومن خلفك شعبك يفتديك بالأرواح ويرفع أكف الضراعة بالدعاء لكم، أن يديم الله عليكم نعمة الصحة والعافية ويرزقكم طول العمر، ويزيدكم عزًا ومجدًا.. نمضي خلفكم مولاي المعظم، نحو مستقبل تصنعه بعزيمة السلاطين وحكمة العظماء.. والله نسأل لهذا الوطن الشامخ أن يظل حصنَ عزٍ وموئل أمن ومنارة حضارة، مُتضرعين للمولى -جل في علاه- أن يحرسكم في حلكم وترحالكم وفي كل وقت وحين.


جريدة الرؤية
منذ 2 ساعات
- جريدة الرؤية
كذَّب المغردون.. ولو صدقوا
خالد بن سعد الشنفري أستغربُ من هذه الموجة من الهجوم والانتقادات التي انهالت على موسم خريف ظفار هذا العام، وللأسف أنها صادرة عن عُمانيين وليس من أَغْرابٍ عنا، وقد صُدِمت حتى إخوة أعزاء لنا من دول مجلس التعاون ليقينهم بأنها مُغالى فيها كثيرًا وتفتقد المصداقية من الواقع المعاش لهم بيننا، وهم من يعتبرون أنفسهم نُدماء لخريف ظفار وشركاء فيه، وعايشوه معنا وشاركونا في كل تفاصيله على مدى أكثر من 40 عامًا مضت، فتصدوا لهذه التغريدات بتغريداتٍ مقابلة تُدحضها، فأنعِم وأكرِم بهم. مع يقيننا أن وصف "مُغرِّد" لا تنطبق على هؤلاء؛ فالتغريد ترتيل جميل يُطرب ويفرح النفس ويبعث السعادة، وما يصدر منهم ليس إلا صراخًا ونعيقًا، والتغريد أساسًا صفة لأصوات غناء الطيور الجميلة، أمّا هؤلاء؛ فالنشاز أو التغريد خارج السرب دَيدنهم، وهم أول من يعلمون أن ما قالوه عارٍ عن الصحة وعن منطق الأمور وطبيعتها، ولا يُعدّ نقدًا؛ فالنقد يبني ولا يهدم، وبالتالي لا يستحقون حتى مجرد الرد عليهم في الأساس، إلّا أن السلاح الذي بأيديهم خطير جدًا، ألا وهو وسائل التواصل التي أصبحت تتجاوز الحدود وتتعدى الآفاق بمجرد كبسة زر على لوحة مفاتيح هاتف محمول باليد الواحدة، وحتى لو كان هؤلاء المُغرِّدون يهرفون بما لا يعرفون! هذا الجهاز الصغير الذي أصبح في كل يد وفي متناول كل غرير لا بُد من كبحه بقانون، وعاجلًا وإلّا سيتغوّل وسيضرّ بالسياحة في بلادنا، ولا بُد من وقفه بقانون. البداية كانت بالأسعار وبالكرك بمئتين بيسة، دون مراعاة نوعية المقهى الذي يبيعه أو نوع الخدمة التي تُقدَّم فيه؛ مرورًا بالمشلي بثلاثمائة بيسة، دون أن يفهموا أبسط معوّقات شجرة النارجيل في المحافظة، وأن هذه الثمرة قد فتكت بها الأمراض دون مكافحة تُذكر، وقلَّ إنتاج الشجرة الواحدة منها من 500 كُزابة إلى 50 كُزابة، وأنها ما مكنوز ولب مغذٍّ لذيذ وغذاء مكتمل الخواص. أمّا علبة الكولا المسمومة والممقوتة بـ250 بيسة، فبردًا وسلامًا عليهم، ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب. في ذروة الضباب والرذاذ لم يجدوا إلّا موجة بحرٍ تنفّست في الخريف وامتدّت قليلًا على الشاطئ فبلّلت حذاءً هنا وثوبًا هناك، جعلتهم ينعقون تغريدًا وكأنها تسونامي تطاول عليهم ويطالبون الجهات المختصة على الملأ بالتدخل، ولا زلتُ عاجزًا إلى الآن عن فهم التدخل الذي يطالبون به، ولم أجد لهم سببًا أو عذرًا مقبولًا، اللهم إذا أرادوا من الجهات المختصة مخالفة هذه الموجة والمقهى الذي تطاولت عليه! لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد وجدوا ضالتهم بعد ذلك في انقشاعٍ متقطع للضباب وسطوعٍ دافئ للشمس فيه عظيم الفوائد في التسريع بنمو الزرع وفي صحة الإنسان والضرع بعد فترة متواصلة من الضباب والرذاذ، فقالوا: اقرأوا الفاتحة على موسم خريف ظفار؛ فهذا نذير بقرب نهايته أو موته السريري، وعلى من ينوي القدوم إلى ظفار أن يتوقف فورًا حيث هو، وصوّروا لهم الشمس في إشارة وكدليل قطعي على ما يقولون، وأن من سيأتي لن يجد إلا شمسًا كالتي عندهم هناك، وأنهم قد خُدعوا، وطالبوا الجميع بالتوقف عن القدوم إلى المحافظة، وعليهم أن يتوجّهوا إلى أي مكان آخر؛ فهنا مثل ما هناك: مجرد شمس! يا سبحان الله! وكأن الشمس من عمل الشيطان والضباب من عمل الرحمن! السؤال هو: هل أثّر ذلك على السياحة؟ نعم أثّر، فهنيئًا لكم يا من تدّعون حب الوطن، فلقد شوّهتم الوطن من حيث تدرون أو لا تدرون؛ لأن همّكم الأساسي كان مجرد الشهرة الرخيصة للأسف، عن طريق وسيلة التغريد هذه التي منحها لكم التطور العلمي في وسائل التواصل الاجتماعي لتُدمّروا بها مقدّرات وأرزاق بلدكم وأهلكم، عجبًا لكم. للأسف الشديد أن قرار العودة للمدارس أعانكم بدوره في تدني حراك موسم هذا العام أيضًا، وقد بُحّت أصواتنا منذ سنين على ضرورة تأخيره تناغمًا مع هذا الموسم المهم اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا، وألا تتقاطع معه العودة إلى المدارس؛ فهؤلاء من إخوتنا المعلّمين وأبنائنا الطلبة يشكّلون مع أسرهم -للارتباط الذي يفترض أن لا يخفى على حصيف- أكثر من نصف مجتمعنا العُماني عددًا؛ فلماذا هذا الإصرار على عدم تكييف قرار العودة إلى المدارس مع هذا الموسم الذي يهم عُماننا كلها ودول جوارنا؟ كأني بهذا القرار وهؤلاء المُغرّدين قد اتفقا مع سبق الإصرار على القضاء على أهم مواسمنا السياحية، والذي أصبح ينافس أكبر وأهم المزارات الصيفية في المنطقة. اللهم إني بلّغت.. اللهم فاشهد. حفظ الله عُماننا الحبيبة بحفظه وعينه التي لا تنام. لكن.. ها هو الخريف يعود ليكذبهم، وأقوى مما كان عليه، وكأنه يقول: كذب المُغرّدون ولو صدقوا، ونتوقع بإذن الله استمرار هذا الموسم، ورحمة الله عظيمة، وقد عشنا ذلك مرّات عديدة. ولكن للأسف لن يتمكّن من الاستمتاع به نصف عددنا إلّا من خلال نوافذ الفصول الدراسية المغلقة والمكتظّة بطلابها أصلًا، هذا في محافظة ظفار، أمّا في غيرها من المحافظات فلن يستمتعوا إلا من خلال شاشات التلفاز فقط، للأسف الشديد، ولهم جميعًا نقول: ليس لكم إلا الصبر والسلوان. ليت النعيق توقّف عند هذا الحد؛ بل تطاول بالسخرية من بداية موسم خريف هذا العام، وبعد أن تواتر وتعارف عليه أهل المنطقة وتوارثوه وتناقلوه جيلًا عن جيل من مئات السنين في الفترة من 21 يونيو إلى 21 سبتمبر من كل عام، قد يتأخر قدومه أو يتأخر مكوثه، وأن أواخره دائمًا نحسبها أجمل من بداياته، وهذه أيضًا لا يحتاج لحصيف يفهمها. ختامًا.. لن يأتي من الرحمن الرحيم لعباده إلا ما فيه الخير والصلاح لهم، فأهل هذه المنطقة لا يتحكّمون في سير حركة الضباب ولا صنبور الرذاذ والعياذ بالله، ولكن أهل مكة دائمًا أدرى بشعابها. وفقنا الله جميعًا لما فيه خير وصلاح بلدنا ومجتمعنا العُماني الطيب الشريف العفيف.


جريدة الرؤية
منذ يوم واحد
- جريدة الرؤية
الحياء.. هُوية الأمة وآخر حصونها
أحمد الفقيه العجيلي في زمن تتسارع فيه التغيرات الاجتماعية، وتضطرب فيه القيم، تبقى بعض الفضائل كالأوتاد الراسخة في أرض الأخلاق، ومن أسمى هذه الفضائل: الحياء، وهو ليس مجرد خُلق عابر أو مظهر خارجي، بل قيمة أصيلة تحفظ للإنسان كرامته، وتضبط سلوكه، وتُهذّب فِكره، وتبني به مجتمعًا أكثر نقاءً وتماسكًا. الحياء في اللغة مأخوذ من "الحَيّ"، أي الحياة، ويُقال: من استحيا فقد استحيا، أي بقيت فيه الحياة، فهو انكسار النفس عن القبيح. أما في الشرع، فهو خلق يدفع الإنسان لترك القبيح، ويمنعه من التقصير في حق الله أو الناس. لذلك قال رسول الله ﷺ: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء شعبة من الإيمان" (متفق عليه). وقد استمعتُ مؤخرًا إلى مقطع مؤثر لفضيلة الشيخ مسلم المسهلي يتحدث فيه عن واقع الحياء في مجتمعنا، حيث عبّر عن حزنه من تراجع هذا الخُلق، وظهور مظاهر لا تتسق مع البيئة العمانية المحافظة، خاصة في مظهر المرأة وسلوكها في الأماكن العامة. كانت كلماته صادقة، وأثارت في نفسي دافعًا كبيرًا لكتابة هذا المقال، لعلّه يكون تذكيرًا لنا جميعًا بأن الحياء ليس قيدًا، بل نور يُهتدى به. في عالمنا المعاصر، تداخلت القيم وتشوش كثير من المفاهيم، حتى غدا التمييز بين الفضيلة والتفلت أمرًا ليس باليسير، خاصة حين نتحدث عن خلقٍ رفيع كان زينة النفوس وعنوان المجتمعات الراقية: الحياء. تابعت عن كثب ما يشهده مجتمعنا من مظاهر انكشاف وجرأة لم تكن مألوفة من قبل، سلوكيات كانت يومًا تُعد من المحرمات، واليوم تُعرض بلا حرج. وكأن غيمة كثيفة حجبت شمس النقاء التي كانت تضيء علاقاتنا، فأثّرت هذه التحولات في عمق الإنسان، وزعزعت ركائز الأسرة، وتسللت آثارها إلى نسيج المجتمع كله. وقد قال النبي ﷺ: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" رواه البخاري. وقال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...} [النور: 31] فالحياء ليس قيدًا، بل حصانة تحفظ كرامة الإنسان، وتبني مجتمعًا تسوده الطمأنينة والنقاء. إن ظاهرة تراجع الحياء لم تنشأ فجأة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة لعوامل متعددة. أولها تغيّر القيم والمفاهيم، حيث تراجع الاهتمام بثوابتنا الأصيلة، وذابت ملامح الاحتشام في خضم ثقافات دخيلة لا تراعي خصوصيتنا، ولا تحترم جذور ديننا ومجتمعنا. ثم يأتي ضعف الوازع الديني في البيوت، والانشغال المفرط بمشاغل الحياة، مما أضعف دور الأسرة في غرس قيم الحياء والانضباط الأخلاقي في نفوس الأبناء. ولا يمكن إغفال دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت -في كثير من الأحيان- منصات لنشر أنماط بعيدة عن هويتنا، دون رقابة أو وعي، فشجّعت على تقليد أعمى وساهمت في تطبيع التمرد على القيم، حتى ضعفت الغيرة، وخفت نور الحياء، وتراجعت مسؤولية التربية. كنتُ أراقب بقلق تراجع مظاهر الحياء في مجتمعنا، تلك الفضيلة التي كانت يومًا تاجًا للنفس، ودرعًا يحفظ كرامة المرأة ويصونها. في زمن مضى، كانت المرأة تخرج كما يخرج الفجر، طاهرة، محتشمة، موقّرة في أعين الناس، محفوظة الستر والعفاف، كما وصفها القرآن الكريم: ﴿فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلغَيبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34). لكن المؤسف أن هذه الصورة بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، فصار بعض النساء يظهرن في الأماكن العامة والمقاهي وقد بالغن في الزينة واللباس اللافت، دون مراعاة لحدود الحياء التي رسمها الشرع، وغُيِّبت عن الأذهان آية الله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب: 33)، وحديث النبي ﷺ: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (رواه البخاري). في السنوات الأخيرة، تصاعدت شعارات تمكين المرأة، حتى تجاوزت أحيانًا حدود التوازن، وتحولت في بعض الخطابات إلى دعوات لكسر كل الحواجز، دون تمييز بين الحق المشروع والتجاوز المرفوض. ونحن لا نعارض تمكين المرأة، بل نؤمن أنها ركيزة المجتمع وأساسه، والإسلام كرّمها أعظم تكريم، فقال ﷺ: "النساء شقائق الرجال". لكن التمكين لا يعني الخروج عن الفطرة، ولا مزاحمة الرجل فيما خُلق له، ولا التخلي عن الضوابط الشرعية، كما في حديثه ﷺ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم". إن رفع الكلفة الاجتماعية، وتبدل المفاهيم، أثّر في العلاقة بين الجنسين، فأدى إلى عزوف عن الزواج، وظهور سلوكيات دخيلة لا تناسب بيئتنا المحافظة. والتمكين الحقيقي هو منح الحقوق بلا إفراط ولا تفريط، وتقدير دور المرأة مع صون فطرتها، بعيدًا عن التماثل المصطنع والنماذج الوافدة. قال تعالى: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، وقال: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ"، فالتكامل هو السبيل، لا الصراع. وإذا خرج كل من دوره، اختل البناء واهتزت الأسرة. إن غياب الحياء لا يُضر بالمرأة وحدها، بل يُضعف جدار القيم في المجتمع كله، ويفتح الأبواب لمظاهر لا تليق بمجتمع يريد الحفاظ على أصالته وسموّه. تُشكّل هذه التحوّلات كغيمة سوداء تقترب من قلب مجتمعنا، تُنذر بانحسار آخر خطوط الدفاع الأخلاقي. إنها صورة صريحة لتراجع الحياء، ونتيجة حتمية لانخفاض الوعي، وغياب التربية المتوازنة التي تجمع بين الدين والأخلاق. وقد ساهم في هذا الانحدار اتساع تأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل، التي تروّج لأنماط حياة دخيلة على قيمنا، في ظل تراجع الغيرة، وضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الكرامة والعِرض. فأين الغيرة التي كانت مضرب الأمثال؟ أين الأب الذي كان يرى في سمعة بيته وعرض بناته شرفًا لا يُقدَّر بثمن؟ أين الزوج الذي يترجم غيرته إلى التزام وانضباط، انسجامًا مع قول النبي ﷺ: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه» (متفق عليه). وأين الأخ الذي كان يرى في أخته امتدادًا لكرامته، فلا يرضى لها إلا الستر والصون؟ إنّ قلوب الرجال تغار على عورات نسائهم، والحياء مفتاح المجد، وأساس الكرامة. حين تضعف الغيرة في القلوب، ينهار معها سور الحياء، فتتساقط القيم كأوراق الخريف تحت عاصفة لا ترحم، ويصبح المجتمع أرضًا خصبة للانحراف وتآكل الهوية. إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بما دون النجومِ وليسَ الحياءُ بمانعٍ رزقَ امرئٍ ولكنه يكسو وجوهَ العُفَّةِ نورا الحياء ليس قيدًا يكبل صاحبه، بل نورٌ يضيء درب العفة والكرامة، وهو آخر حصن تتكئ عليه المجتمعات حين تهتز أركانها. فلنعد إليه، وإلى الغيرة التي تبني ولا تهدم، وتحمي ولا تقسو، لئلا نستيقظ يومًا على مجتمع غريب عن قيمه، فاقد لبوصلته، لا يرى من ماضيه إلا ظلًّا باهتًا لا يُرشد ولا يُلهم. ولكي ندرك عمق هذه الظاهرة، لا بد أن نُعيد الاعتبار للوعي الحقيقي، ذلك الوعي الذي لا يكتفي بالمعلومات السطحية، بل يغوص في فهم أن الحياء ليس ضعفًا، بل قوة تحفظ الكرامة، ورصيد حضاري ينبغي صونه. إذ أن الوعي هو الأساس الذي تُبنى عليه كل فضائل الأخلاق، فإذا تراجع، تراجعت معه الحدود، واشتد الخطر بانهيار الثوابت الأخلاقية. تأملت مليًّا في سيرة نبينا محمد ﷺ فوجدته أروع نموذج للحياء في أسمى معانيه. وصفه الصحابة بأنه كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، رغم مكانته العظيمة وسؤدده على البشرية. كان حياؤه متجذرًا في سلوكه اليومي؛ يظهر في أدبه، واعتداله، وانتقاء كلماته، وحرصه على صون كرامة الناس، وتواضعه في المظهر بعيدًا عن التكلف أو المبالغة. وسار الصحابة على هذا النهج؛ فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رمزًا للحياء، لا يرفع بصره حياءً من الملائكة، وكان عمر بن الخطاب يزن كلماته بدقة في المواقف الخاصة، وكانت فاطمة الزهراء وأسماء بنت أبي بكر مثالًا للمرأة المسلمة التي تجمع بين الحياء وقوة الشخصية، والعمل وسمو الأخلاق." "لقد كان الحياء عندهم متجذرًا، لا يعارض القوة ولا يُناقض العلم، بل يعزّز الهيبة ويُقرن بالإيمان، وكانوا يربّون أبناءهم على أن فقدان الحياء خللٌ في النفس، لا يُبرّره تطوّر ولا يغطّيه علم. وفي زمننا هذا، تأملت التحديات التي تواجه المرأة في مجتمعنا، فرأيت أن التوازن ضرورة لا بد منها: تمكين حقيقي يعزز دورها ويحفظ كرامتها، لا انفلات يُفقدها وقارها ولا تقييد يُصادر حقوقها. الحياء لا يتنافى مع التقدم، بل هو ركيزة له. فبه تُصان القيم، وتُبنى المجتمعات على أسس من الاحترام والعفة والمكانة." كل ذلك يعود بنا إلى مسؤولية مشتركة بين الجميع؛ الأسرة التي تربي الصالح، والمدرسة التي تعزز الوعي، والمؤسسات الإعلامية التي تقع على عاتقها مهمة تشكيل الوجدان والاعتقاد. علينا جميعًا أن نحمل شعلة الحياء واليقظة، فذلك النور لا يحدّ من الحرية، بل يرفعها، ويضعنا في موقع القوة والسمو. ومن خلال متابعة التطورات الاجتماعية، أؤمن بأن استعادة الحياء تحتاج إلى صبر وإصرار، فلا يعود الحياء إلا عندما يستقبله فكرٌ وقلبٌ وأعيانٌ واعية. مجتمعات تعلم شبابها أن الحياء قوة وتميز، لا ضعفًا، هي التي تضع الأساس لنهوض أخلاقي متين ومستدام. فالحياء ليس قيدًا، بل هو نور داخلي يوجه السلوك، ويجعل الحياة أجمل وأنقى، يغرس المحبة والرحمة، ويمنع القسوة والأنانية. لقد ورثنا الحياء من ديننا وتاريخنا وثقافتنا، وحافظت عليه أجيال سبقتنا رغم قلة الإمكانات وضيق الحياة، فكيف نفرط فيه نحن في زمن الوفرة وسهولة الوصول لكل شيء؟ ربما حان الوقت أن نسأل أنفسنا: هل مظاهرنا اليوم تعبّر عن قيمنا، أم أننا بتنا نعكس صورة لا تشبهنا؟ وفي الختام، لا بد أن نؤمن بأن الحياء هو آخر حصن نملكه في عالم توشك فيه الفوضى أن تلتهم ما تبقى من قيم صلبة. هو السلاح الذي يجعلنا نواجه تحديات الحياة بمروءة وعزة. هل نكون نحن الجيل الذي يعيد لهذا النور مكانه؟ هل نستطيع أن نعيد للحياء دوره في حفظ النفس والآداب؟ الأمل موجود، والقرار بأيدينا. نسأل الله أن يمنحنا القوة والثبات على القيم، وأن يجعل هذا المقال بداية لانطلاقة جديدة تنير القلوب، وتحيي روح الحياء في حياة كل فرد ومجتمع.