
مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بملتقى النيلين
"والدي آمون رع منحني أربع معجزات في السنة السادسة من حكمي، وإن الذين أتوا من قبلي لم يروا مثل هذا. فقد أتى الفيضان مثل لص الماشية وفاضت الأرض، لقد ازدهر الزرع وغرقت الفئران والأفاعي واختفى الجراد وامتلأت المخازن بالغلال. أعظم ما منحني إياه والدي آمون، وهو لم يمنح لأي ملك من قبلي، أن أقوم بقطع رؤوس أعدائي. أعدائي من الأقواس التسعة مقيدون تحت حذائي".
هذه الكلمات نُقِشَت في "لوح فيضان النيل" بأمر الملك المحارب تهارقا خامس ملوك الأسرة 25 والملقب بـ"سيد الأرضين" في عام جلوسه، ووزعت نسخ عديدة من اللوح في كل أرجاء مملكة كوش تباهيا بعظمة الملك الذي امتدت إمبراطوريته من مصر حتى دولة آشور وامتد حكمه أكثر من ألفي عام. مملكة كوش مهد الحضارة النوبية وعاصمتها نبتة (منطقة مدينتي كريمة ومروي بالسودان الآن).
عند احتدام حرب السودان الحالية بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، أطلق السودانيون اسم عرب الشتات أو "شتات الصحراء" على القوات التي استعان بها الدعم السريع في ما يعرف بالفزع "تنادي القبائل للنصرة". وتصادف أن يطابق الاسم الحافر للحافر اسم أحد الجيوش التسعة التي نقشها الملك تهارقا على "لوح الفيضان" لأعدائه وحفر أخبار انتصاراته عليهم على جدران المعابد.
نعم، لم يأت الفيضان في عام حرب السودان هذه لكن لص الماشية تسلل في غفلة من تهارقا ووطّن شيعته في أركان الخرطوم الأربعة استعدادا للانقضاض على الحرث والنسل.
بعد هزيمة تهارقا لهم لم ينس "شتات الصحراء"، كما نعتهم السودانيون، ثأرهم وعادوا مجددا في منتصف أبريل/نيسان 2023 في بزات عسكرية عصرية تزين أكتافهم نجوم وسواعدهم شارات كتب عليها بخط الثلث "قوات الدعم السريع".
استباحت هذه القوات أرض السودان في غياب الملك تهارقا، نهبوا ودمروا منزله الكائن عند ملتقى النيلين بالخرطوم والموسوم بمتحف السودان القومي، وسطوا على ذهب مملكته الذي يحفظه في "الغرفة المحصنة" أمام عينيه وهو يراقب عاجزا عن الحراك والقتال بسبب وزنه الذي يقارب 7 أطنان ثم غادروا وقد تركوه وحيدا في باحة منزله.
يقول الأمين العام السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف الدكتور حاتم النور "على ضفة النيل الأزرق وفي أمان الله حافظا لتاريخ الشعب السوداني وهويته، واحدة من أهم المؤسسات الثقافية في أفريقيا والعالم، هنا حيث يجتمع التاريخ المعرفي والفكري في السودان. عندما نشأت الجماعة والقبيلة وتطورت إلى مشيخة ثم صارت دولة وإمبراطورية. عندما دافع كاشتا عن عقيدة شعبه، عندما وحد بعنخي (أول ملوك مملكة كوش) النيل من المنبع إلى المصب، عندما تجلت أخلاق المكان بدفاع تهارقا عن أورشليم. في ذلك الزمان ذكرنا الله في الكتاب المقدس".
لم يكن هدف قوات الدعم السريع عودة الديمقراطية للسودان أو القضاء على الإسلاميين كما يدعون، بل كانوا يسعون إلى تدمير ما يسمونها "دولة 56" (المهيمنة على الحكم منذ الاستقلال)؛ إلى تدمير إرثها العمراني والأكاديمي والثقافي وسرقة تاريخها.
تقول البروفيسورة غالية جار النبي مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف للجزيرة نت:
"منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع تعرض كثير من المتاحف والمواقع الأثرية لمخاطر متعددة إذ إنها تقع في قلب مركز النيران بين الطرفين المتحاربين. ففي الخرطوم حيث انطلقت الشرارة الأولى توجد 4 متاحف للآثار والتراث جميعها كانت في مرمى النيران، لاحقا اتضح أن كميات كبيرة من القطع نُهِبَت من مستودع الآثار الذي يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل كل الحقب التاريخية التي مرت على السودان منذ أقدم العصور الحجرية حتى العهد الإسلامي بما فيها ذهب ومجوهرات ملوك وملكات نبتة ومروي قد نُهِبَت".
وتكمل قائلة "ليس هذا فحسب، بل دمرت القطع المتبقية التي لم تنهب، مما يؤكد أن هذه العملية عملية ممنهجة ومدروسة لطمس الهوية السودانية وليست مجرد عملية نهب عابرة. أما في دارفور حيث توجد 3 متاحف جميعها تعرضت للنهب والتدمير في أول شهور الحرب، نهب متحف نيالا ودمر وكذلك متحف الجنينة ومبنى ومتحف السلطان علي دينار بالفاشر. الشيء ذاته حدث لمتحف الجزيرة بود مدني عندما اجتاحت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة. ومن بين المتاحف التي دُمِّرَت ونهبت مقتنياتها متحف بيت الخليفة بأم درمان الذي يضم مقتنيات فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي، ومتحف السودان القومي للأثنوغرافيا، ومتحف القصر الجمهوري بعد تدمير وحرق جزء من مبنى القصر التاريخي".
وبحسب جار النبي، تعرضت أيضا مواقع أثرية للتدمير أو النهب خلال النزاع، منها مواقع أثرية بارزة مثل جزيرة مروي وجبل البركل، المدرجين على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وفي بداية شهور الحرب قام أفراد من قوات الدعم السريع باقتحام مبنى متحف السودان القومي الذي يُعد من أكبر المتاحف في السودان ومن أهم المتاحف في أفريقيا، وأظهرت مقاطع فيديو أفرادا منهم يعبثون بمقتنيات من المتحف كما أظهرت الصور جنود الدعم وهم يتجولون بحديقة المتحف ومبنى الإدارة، بحسب مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف.
وحصل التدمير للمواقع الأثرية على اهتمام عربي ودولي، وكتب رئيس مكتبة قطر الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري عما حدث للآثار السودانية من نهب على صفحته الشخصية بالفيسبوك تغريدة بعنوان "السودان، جرح الحضارة النازف، تدمير المتحف القومي السوداني"، فقال "كم كنت محظوظًا أن أزور هذا البلد العظيم أكثر من مرة، أن أسير بين آثاره التي تروي مجد أمم سادت وخلّدت اسمها في سجل الإنسانية. رأيت بعيني كيف يقف التاريخ شامخًا هناك، في تلك الأهرامات الشاهدة على عظمة حضارة كوش، في المعابد التي تهمس بأسرار الملوك العظماء، في كل حجر يحكي قصة شعب عريق. نيران الحرب لم تكتفِ بقتل الإنسان في السودان، بل امتدت إلى ذاكرته، إلى تاريخه، إلى روحه، فهدمت، ونهبت، وأحرقت. إن ما يحدث في السودان ليس مجرد حرب على السلطة، بل هو جريمة في حق الحضارة، إنه لأمر محزن أن نشهد هذا الدمار، أن نرى التاريخ يُباد تحت أقدام الطامعين، وأن يُسرق ما لا يُعوّض، ويُطمس ما لا يُقدّر بثمن".
تدمير ممنهج لذاكرة السودان البصرية
ما حدث لمتاحف السودان من نهب ممنهج يدحض بوضوح فرية نشوب حرب السودان بغتة، فالتي تحدث بغتة عادة ما يكون موضوعها القتال لا النهب وتدمير تراث الدولة منذ شهر الحرب الأول.
تقول أمينة متحف السودان القومي نسيبة محجوب عثمان:
"بعد تحرير منطقة المقرن كانت أول تقارير لجنة حصر المفقودات أنه تم تدمير كثير من الآثار الموجودة وسرقة ما يقارب 500 ألف قطعة أثرية من داخل المخازن وما زال حصر المفقودات مستمرا".
إذن، قضى تهارقا على أعداء مملكته السبعة لكن شتات الصحراء وبعض قبائل غرب أفريقيا عادوا ليثأروا لأسلافهم، لم تنج من بطشهم حتى المتاحف التي توثق للثورة المهدية على الاستعمار البريطاني. دمروا متحف شيكان ومتحف حوش الخليفة عبد الله التعايشي المجتمعي الذي يحتوي على غنائم جيش المهدي في معاركه مع الاحتلال.
إعلان
تقول أمينة متحف بيت الخليفة نعمات محمد الحسن عبد الرحمن أبو ريدة:
"نهبوا قطعا لها ثقل بوزن المتحف ومحتوياته التي تعود إلى عام 1880، دمروا المدافع غنائم معركة شيكان، نهبوا الأسلحة البيضاء والأسلحة النارية، نهبوا الزي الرسمي لجميع أنصار الإمام المهدي والخليفة عبد الله من بعده، دمروا الخطابات المتداولة في فترات مختلفة، نهبوا العملة المتداولة في فترتي الإمام المهدي ومن بعده الخليفة التعايشي، ولم تسلم حتى النقود الورقية التي صكت في أيام حصار الخرطوم بواسطة الجنرال غوردون وأدوات الطعام والزينة. سرقوا عدة الحرب الخاصة بالسلطان علي دينار ومطبعة الحجر التي غنمها الأنصار في حروبهم ضد الأتراك والمصريين، وأخيرا سرقوا قطعة نادرة عبارة عن كأس من قرن الخرتيت وهو الكأس الخاص بالخلفية عبد الله التعايشي الذي يكشف إذا كان الشراب مسموما".
ماتت العينات مع انطلاق أول رصاصة
نعم صمدت آثار السودان على مر آلاف السنين أمام عوامل التعرية في العراء ثم تناولتها أيد سودانية حاذقة واعتنت بها وحفظتها في متاحف مجهزة لكنها لم تنج من الحرب.
كذلك لم ينج متحف السودان للتاريخ الطبيعي الذي يقع في قلب مدينة الخرطوم ويتبع إداريا لجامعة الخرطوم ويعتبر قسما من أقسام كلية العلوم، الذي يضم عينات لمختلف أنواع الحيوانات جمعت من بيئات سودانية مختلفة بالإضافة إلى حفريات وعينات جيولوجية وعينات لأنواع متعددة من نباتات وأعشاب عطرية وطبية.
يحتوي المتحف على عينات مرجعية تجعله من أهم متاحف التاريخ الطبيعي في العالم، كما يحتوي على حيوانات حية من زواحف وطيور وثدييات بالإضافة إلى العينات البحثية من ثعابين سامة وعقارب والتي تخص مركز أبحاث الكائنات السامة بجامعة الخرطوم. كل هذا الثراء لم يجد من يعتني به، الحيوانات افتقدت من يطعمها منذ انطلاق أول رصاصة فماتت.
كيفية استعادة الآثار المنهوبة!
تقول مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف البروفيسورة جار النبي "في يوم 22 يوليو/تموز 2024 تلقيت اتصالا من أحد معارفي في جوبا أن شخصا اتصل به وأخبره أن لديهم كمية من القطع الأثرية يريدون تسويقها، طلبوا مساعدته على بيعها وأرسلوا له صورا لكميات كبيرة من القطع الأثرية وذكروا له أن هذه القطع موجودة في منطقة سوق النعام وبعضها في منطقة أويل. قام هذا الشخص بالاتصال بي وطلب مني أن يكون الأمر سرا وأن نتصرف بمنتهى الحرص لأنه يخشى على نفسه وأسرته. كانت تحركاتنا سرية مع الجهات الأمنية فقط، وكان الخوف من أن يقوم اللصوص بإخفاء أو تدمير المقتنيات إذا شعروا أنهم ملاحقون".
وفي خطوة توضح اهتمام الدولة السودانية بالآثار، قامت الهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية بمشاركة "اليونسكو" وعدد من الوكالات الدولية في يناير/كانون الثاني 2023 بنقل تمثال الملك تهارقا من باحة متحف السودان القومي إلى البهو الداخلي تحت إشراف فريق عمل إيطالي متخصص. تقول البروفيسورة جار النبي "نحن اليوم نحتفل بنقل الملك تهارقا، لأنه سيد العروش الأرضية كما لقب نفسه، وهو الحاكم القوي في مملكة كوش".
وتستطرد جار النبي "قمنا بتكوين لجنة لحصر المنهوبات وحجم الدمار الذي لحق بالمتاحف وإعداد تقرير واف لرفعه إلى الجهات المعنية بتتبع الآثار المنهوبة واستعادتها. تم الاتصال بمنظمات عالمية متخصصة في تتبع الآثار المسروقة بالإضافة إلى الإنتربول ومنظمة اليونسكو لمنع بيعها وتداولها، كما حدث بالنسبة لآثار العراق وسوريا فقد تمت إعادة كثير من آثارهم المسروقة عن طريق هذه المنظمات. أيضا، هنالك مبادرة من جمعية الدراسات النوبية لجمع تمويل دولي لتقييم حجم الضرر والتلف والسرقة التي حدثت للمتاحف والآثار في السودان".
غدا سينهض تهارقا ماردا ترتعد منه الفرائص، معلنا تاريخا جديدا للسودان، مستردا ثرواته المنهوبة، يتقدمه جنوده الآتون "كنسمة الريح، كطيور الكايتس التي تضرب على الهواء بأجنحتها. حتى قوات النخبة ليست أفضل منهم فكلهم نخبة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الوطن
منذ 3 ساعات
- جريدة الوطن
مـــوظَّـفـــون!
في كتابِ أخبار القُضاة لمحمد بن خلف وكيع: قال معاذ بن معاذ القاضي لابنه: أي بُنيَّ، امضِ بنا نجلسُ للناس! أي نكون في مجلس القضاء فنسمع للخصوم ونقضي بينهم. فقال له ابنه: يا أبتِ، هذا يومٌ مطيرٌ لا يجيءُ فيه النّاس! فقال له: يا بُنيَّ، امضِ بنا، فبِمَ نستحِلُّ أن نأخذ كل يومٍ كذا وكذا درهماً أُجرة على عملنا؟ وخرج تحت المطر، وجلس للناس للقضاء! هذه القصَّة حريُّ أن يعرفها كلُّ موظف، وأن تُعلَّقَ على أبواب الشركات، والمؤسسات، والمدارس، والمستشفيات، وكلُّ مكان فيه ناسٌ يعملون مقابل أُجرة، ليقرؤوها كلَّ صباحٍ فيتذكرون هذه المقولة العذبة: فبمَ نستحلُّ أن نأخذ؟! من الأشياء التي اُبتليَ بها النَّاسُ على مرِّ العصور هو مرض «التطفيف»، بحيث لا يقبل أحدٌ من الناس حقَّه ناقصاً قشَّة، وهذا شيء جميل، يُعجبني الذي لا يتهاون بحقه! ولكنه في المقابل لا يُؤدي واجبه كاملاً! يريدُ أن ينزل الراتب على الوقت، ولا يحضرُ هو إلى الدوام على الوقت! يريدُ من مدرائه أن يعاملوه باحترام، ويسيء هو إلى مراجعيه أو من يُؤدي لهم خدمة ما! يقيم الدُّنيا ولا يُقعدها إذا طُلبَ منه أن يعملَ في يوم إجازة، ولكنه يغيب عن عمله دون سبب مبرر للغياب! هكذا نحن دوماً، ثوَّار إذا ما تعلَّق الأمر بحقوقنا، فاسدون إذا ما تعلّق الأمر بواجباتنا! وهذا توصيف من باب الغالب المُشاهَدِ، لا من باب التعميم غير المسؤول! ما منا من أحدٍ إلا وتمَّتْ «مرمطته» فيإحدى الدوائر الرَّسمية، والمعاملة لا تحتاج إلا إلى دقائق لإنجازها، ولكنهم دوماً يقولون لكَ: اِرجِعْ في الغد! ولا أذكر أن أحداً قال لي مرَّةً: اِرجع في الغد، وكان يعمل في تلك اللحظة! ثم عندما ترجع في الغد، يُخرج لكَ معاملتكَ من بين المعاملات، ويضع عليها ختمه، ويناولكَ إياها، الأمر لم يكن يحتاج إلا إلى ثوانٍ، ولكن لا أحد يعرف لماذا عليكَ أن ترجعَ في الغد! المشكلة أننا لا ننتبه إلى أمر هام وهو أن كثرة الموظفين ناشئ عن «بيروقراطية» إدارية، هات وخُذْ، تشقلبْ هُنا، ازحَفْ هناكَ، وإلا لو نظرنا إلى كمية العمل لوجدنا أن عَشْرَ وظائف يمكن أن يؤديها موظف واحد، ولكن على قول جدتي رحمها الله: رضينا بالبين والبين ما رضي فينا! يشعرونك دوماً أنهم يعملون صدقةً لا مقابل راتب، لا بُدَّ أن يُسمعوكَ موشحة ضغط العمل، عليكَ أن تتحمل أمزجتهم لأنهم مضغطون أما أنتَ فحياتكَ بسبوسة بالقشطة! السَّرقة ليست فقط أن تأخذ مالاً عاماً، وإنما أن تأخذ أُجرة مقابل عملٍ لم تؤده كما يجب!


العرب القطرية
منذ 12 ساعات
- العرب القطرية
مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل
قنا تحل اليوم الذكرى الرابعة والأربعون لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي مناسبة تاريخية تعكس مسيرة طويلة من العمل المشترك والتكامل بين دول الخليج، ودليل يؤكد نجاح خطواته وصلابة بنيانه، بفضل السياسات الحكيمة والمتوازنة التي يتبناها، بتوجيهات كريمة وحكمة سديدة من أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس الست. ففي الخامس والعشرين من مايو، قبل أربعة وأربعين عاماً، انطلقت الخطوات الأولى للصرح الخليجي، حيث عقدت أول قمة خليجية في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وقد تم فيها الإعلان رسمياً عن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككيان إقليمي يهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع المجالات وصولاً إلى وحدتها. وقد جاء تأسيس المجلس انطلاقاً من إدراك قادة دول الخليج لما يربط بين دولهم من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، والإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبهم، والرغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين. ومنذ اللحظات الأولى لميلاد المجلس، لم يكن الهدف مجرد إنشاء تكتل سياسي أو اقتصادي عابر، بل كان مشروعا لتحويل حلم الأجيال الخليجية إلى حقيقة والوصول إلى وحدة الصف، وتكامل المصير، وتعزيز الهوية الخليجية الأصيلة لمواكبة متطلبات الحاضر والمستقبل ومواجهة رياح التغيير. وقد مضى المجلس في مسيرته المباركة بدعم وتوجيه ورعاية من أصحاب الجلالة والسمو قادة دوله الست، حتى أضحى اليوم مؤسسة شامخة البنيان راسخة الأركان استنادا إلى جذورها الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا ، وعمق الأخوة وروابط الدم والدين واللغة والمصير الواحد والتطلعات والطموحات المشتركة لدول الخليج وشعوبها. وتعتبر مسيرة مجلس التعاون الحافلة بالعمل الدؤوب المشترك، وسِجل الإنجازات على مدى أربعة وأربعين عامًا، نموذجًا يُحتذى به للتكامل والترابط الناجح على المستويَيْن الإقليمي والدولي، ويعود ذلك لفضل الله –عز وجل-، ثم لإيمان قيادات دول المجلس بأهمية ودور المجلس في حماية الأمن، وترسيخ الاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة لأجل شعوبهم. وقد وضع مجلس التعاون منذ إنشائه رؤية واضحة لمستوى التكامل المشترك بين دوله، ترتكز على حماية مجلس التعاون من التهديدات كافة من منطلق أن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ، ودعم وزيادة النمو الاقتصادي واستدامته من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية، والانتقال إلى الاقتصاد المرتكز على المعرفة والابتكار، والحفاظ على مستوى عال من التنمية البشرية انطلاقًا من القناعة الراسخة بأن الإنسان هو هدف التنمية، وتمكين مجلس التعاون من التعامل مع الأزمات بأنواعها كافة، والتعافي منها، إضافة إلى تعزيز مكانة مجلس التعاون الإقليمية والدولية، ونصرة القضايا العادلة، وتقديم الدعم خلال الأزمات الدولية. وتحل الذكرى الرابعة والأربعون لقيام مجلس التعاون في وقت أثبت فيه المجلس أنه أنجح تجربة تكاملية في المنطقة، وهي تجربة باتت محط إشادة وإعجاب من القاصي والداني، وأضحت ركيزة أساسية للأمن والاستقرار، وصوتا للحكمة والاتزان، ونموذجا فريدا للحياة الكريمة، كما تأتي هذه الذكرى السنوية والمواطن الخليجي ينعم بفضل الله بالأمن والاستقرار، ويسمو بانتمائه ومبادئه، ويشعر بالفخر بمنجزاته ومكتسباته، ويمد يد العون والمساعدة لأشقائه والإنسانية جمعاء. وفي مارس الماضي قال البيان الختامي الصادر عن المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الـ163 ، إن المجلس الوزاري اطلع على ما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قراره في دورته الثالثة والثلاثين، بشأن مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتوجيه المجلس الوزاري بالاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليفه المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى المجلس الوزاري في دورته القادمة. وأكد المجلس الوزاري حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، وتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين، بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مجددا تأكيده على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس. تم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الـ25 من مايو 1981م في ظروف استثنائية نتيجة للتوترات الإقليمية في ذلك الوقت وللتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه دول المنطقة مما دفع دول المجلس إلى توحيد الجهود والتعاون بينها، وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني لتحقيق الاستقرار والتعاون ومواجهة هذه التحديات. وتتمثل الأهداف الرئيسة لإنشاء مجلس التعاون الخليجي التي حددها نظامه الأساسي، في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله الأعضاء في جميع المجالات، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية والتجارية والجمارك والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية والسـياحية، والتشـريعية والإدارية، ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء مراكز بحوث علمية وإقامة مشروعات مشـتركة، وتشجيع تعاون القطاع الخاص. وقد نص النظام الأساسي لمجلس التعاون على أن تأسيسه جاء إدراكا من دوله الأعضاء لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعا بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية. ولقد أنجز مجلس التعاون عبر مسيرته الممتدة لأكثر من أربعة عقود العديد من الخطوات التاريخية التي تعزز بنيان المجلس وترسخ أهدافه وطموحاته في وجدان أبناء الخليج، ومنها إنشاء السوق الخليجية المشتركة، التي توفر فوائد عديدة تشمل ضمان انسياب السلع بين دول مجلس التعاون بما يؤدي إلى زيادة التنافس بين المؤسسات الخليجية لصالح المستهلك، كما أنشأت دول المجلس "منطقة التجارة الحرة"، التي تتميز بشكل رئيسي بإعفاء منتجات دول مجلس التعاون الصناعية والزراعية ومنتجات الثروات الطبيعية من الرسوم الجمركية، وقد دخلت منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ في مارس 1983، واستمرت نحو عشرين عاما إلى نهاية عام 2002 حين حل محلها الاتحاد الجمركي لدول المجلس. وقد بلغ حجم التجارة البينية لدول المجلس في عام 2023 أكثر من 131 مليار دولار أمريكي بنمو 3.3%، بينما بلغ حجم التجارة الخارجية السلعية بما يصل إلى 1.5 ترليون دولار أمريكي بنمو 4%، حيث تشير هذه المؤشرات الاقتصادية إلى الفرص الواعدة التي ينبغي الاستفادة منها لتعزيز التعاون الخليجي المشترك في كافة المجالات التجارية. كما أنجز مجلس التعاون خلال مسيرته التي دخلت عقدها الخامس مشروع بطاقة الهوية الموحدة لدول المجلس (البطاقة الذكية)، والتي أسهمت بتسهيل تنقل المواطنين بين الدول الأعضاء، وتقليل فترة الانتظار أمام المنافذ عن طريق الدخول بواسطة البوابات الإلكترونية، كما ساعدت في انسيابية حركة العمالة الوطنية بين الدول الأعضاء. وفي سياق محطات ومشاريع مسيرة مجلس التعاون جاء إقرار الاستراتيجية الأمنية الشاملة لدوله الأعضاء، وكذلك الاتفاقية الأمنية لدول المجلس، كما حظي العمل العسكري المشترك باهتمام أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون منذ نشأته، ومن أبرز ما تحقق على هذا المسار إقرار اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون، والاستراتيجية الدفاعية للمجلس، وتشكيل قوات درع الجزيرة المشتركة، والقيام بالتمارين العسكرية المشتركة. ويعتبر الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون من أهم مشروعات البنى الأساسية التي أقرها المجلس، وتشمل فوائد المشروع تخفيض الاحتياطي المطلوب بكل دولة، والتغطية المتبادلة في حالة الطوارئ، والاستفادة من الفائض، وتقليل تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية. كما أقر المجلس الأعلى الاستراتيجية الإعلامية، ومن أبرز أهدافها تعزيز التعاون وفرص الوحدة بين دول المجلس، وترسيخ الهوية الخليجية والعربية والإسلامية لدول مجلس التعاون، وتعميق المواطنة الخليجية، ودعم ترابط المجتمع الخليجي وأمنه واستقراره، وتنمية الوعي المجتمعي العام لدى المواطنين والمقيمين، ودعم مسيرة المجلس والتعاون والتكامل بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بالدول الأعضاء. واعتمد المجلس الأعلى في دورته الثالثة والثلاثين، الاستراتيجية البترولية للدول الأعضاء، انطلاقا من أهمية دول المجلس على المستوى العالمي، سياسيا واقتصاديا، ودورها الريادي في الصناعة البترولية، وثقلها البترولي باعتبارها تملك أكبر احتياطي مؤكد من البترول، وتشكل أكبر منطقة لإنتاجه وتصديره. وعلى صعيد السياسة الخارجية عمل مجلس التعاون على صياغة مواقف مشتركة وموحدة تجاه القضايا السياسية التي تهم دوله الست في الأطر العربية والإقليمية والدولية، والتعامل كتجمع واحد مع العالم، في إطار الأسس والمرتكزات القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة، بما يصون مصالح دول المجلس، ويعزز أمنها واستقرارها ورخاء شعوبها، وعلى هذا المسار، نجح مجلس التعاون الخليجي في تعزيز مكانته الإقليمية وتأكيد حضوره على الساحة الدولية، وبات شريكا فاعلا وموثوقا به لترسيخ الأمن والاستقرار حول العالم، كما سعى المجلس منذ انطلاقته إلى توسيع شراكاته وحواراته الاستراتيجية مع العديد من الدول والتجمعات والدخول في مفاوضات التجارة الحرة مع الدول والمجموعات الاقتصادية الدولية تحقيقا للمصالح المشتركة، ووقعت دول المجلس على العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى حول العالم لتسهيل حركة السلع، وتعزيز التجارة البينية وتوسيع فرص الاستثمار وتنمية العلاقات التجارية القوية. ويعد مجلس التعاون لاعبا اقتصاديا موثوقا على الصعيد الدولي، فهو سوق ضخمة للصادرات من جميع أنحاء العالم، كما تلعب دول المجلس دورا متميزا في تزويد أسواق الطاقة العالمية بالنفط والغاز اللذين يعدان المحركين الرئيسيين للاقتصاد العالمي، ويشكلان قرابة ستين بالمئة من الطاقة المستهلكة على الصعيد الدولي. وتتحكم دول المجلس بنحو ثلث احتياطي النفط العالمي، وتعتبر الأولى في إنتاج النفط الخام واحتياطياته، والثالثة عالميا في إنتاج الغاز الطبيعي المسوق، والأولى عالميا في احتياطي الغاز الطبيعي، الأمر الذي يمنح المجلس نفوذا جوهريا في استقرار أسواق الطاقة، كما تحتل دول مجلس التعاون مراتب متقدمة في قائمة أكبر الصناديق السيادية في العالم، وتمتلك دول المجلس صناديق للثروة السيادية، يبلغ حجم أصولها نحو 4.4 تريليون دولار، وهو ما يعادل نسبة أربعة وثلاثين بالمئة من مجموع أصول أكبر 100 صندوق ثروة سيادي في العالم، وهو ما يمنحها تأثيرا في الأسواق العالمية والاستثمار الدولي، كما اعتمدت دول المجلس استراتيجيات للتحول إلى اقتصادات قائمة على المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة النظيفة، ما يعزز موقعها كمراكز استثمار عالمي متقدم. وهكذا تمضي مسيرة مجلس التعاون بعزم وثقة من قادته وأبنائه متطلعة لغد مشرق والمزيد من الإنجازات، وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة في كل دولة من دول المجلس لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة، والتي ارتكزت على المواطن الخليجي كمحور للتنمية وهدفها الرئيسي ومحركها الأساسي، والتي عكست مؤشراتها المتقدمة عالميا المكانة الاقتصادية لدول المجلس، والتي أصبحت نموذجا رائدا ليس على المستوى الخليجي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والعالمي.


العرب القطرية
منذ 16 ساعات
- العرب القطرية
مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل
قنا تحل اليوم الذكرى الرابعة والأربعون لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي مناسبة تاريخية تعكس مسيرة طويلة من العمل المشترك والتكامل بين دول الخليج، ودليل يؤكد نجاح خطواته وصلابة بنيانه، بفضل السياسات الحكيمة والمتوازنة التي يتبناها، بتوجيهات كريمة وحكمة سديدة من أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس الست. ففي الخامس والعشرين من مايو، قبل أربعة وأربعين عاماً، انطلقت الخطوات الأولى للصرح الخليجي، حيث عقدت أول قمة خليجية في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وقد تم فيها الإعلان رسمياً عن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككيان إقليمي يهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع المجالات وصولاً إلى وحدتها. وقد جاء تأسيس المجلس انطلاقاً من إدراك قادة دول الخليج لما يربط بين دولهم من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، والإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبهم، والرغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين. ومنذ اللحظات الأولى لميلاد المجلس، لم يكن الهدف مجرد إنشاء تكتل سياسي أو اقتصادي عابر، بل كان مشروعا لتحويل حلم الأجيال الخليجية إلى حقيقة والوصول إلى وحدة الصف، وتكامل المصير، وتعزيز الهوية الخليجية الأصيلة لمواكبة متطلبات الحاضر والمستقبل ومواجهة رياح التغيير. وقد مضى المجلس في مسيرته المباركة بدعم وتوجيه ورعاية من أصحاب الجلالة والسمو قادة دوله الست، حتى أضحى اليوم مؤسسة شامخة البنيان راسخة الأركان استنادا إلى جذورها الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا ، وعمق الأخوة وروابط الدم والدين واللغة والمصير الواحد والتطلعات والطموحات المشتركة لدول الخليج وشعوبها. وتعتبر مسيرة مجلس التعاون الحافلة بالعمل الدؤوب المشترك، وسِجل الإنجازات على مدى أربعة وأربعين عامًا، نموذجًا يُحتذى به للتكامل والترابط الناجح على المستويَيْن الإقليمي والدولي، ويعود ذلك لفضل الله –عز وجل-، ثم لإيمان قيادات دول المجلس بأهمية ودور المجلس في حماية الأمن، وترسيخ الاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة لأجل شعوبهم. وقد وضع مجلس التعاون منذ إنشائه رؤية واضحة لمستوى التكامل المشترك بين دوله، ترتكز على حماية مجلس التعاون من التهديدات كافة من منطلق أن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ، ودعم وزيادة النمو الاقتصادي واستدامته من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية، والانتقال إلى الاقتصاد المرتكز على المعرفة والابتكار، والحفاظ على مستوى عال من التنمية البشرية انطلاقًا من القناعة الراسخة بأن الإنسان هو هدف التنمية، وتمكين مجلس التعاون من التعامل مع الأزمات بأنواعها كافة، والتعافي منها، إضافة إلى تعزيز مكانة مجلس التعاون الإقليمية والدولية، ونصرة القضايا العادلة، وتقديم الدعم خلال الأزمات الدولية. وتحل الذكرى الرابعة والأربعون لقيام مجلس التعاون في وقت أثبت فيه المجلس أنه أنجح تجربة تكاملية في المنطقة، وهي تجربة باتت محط إشادة وإعجاب من القاصي والداني، وأضحت ركيزة أساسية للأمن والاستقرار، وصوتا للحكمة والاتزان، ونموذجا فريدا للحياة الكريمة، كما تأتي هذه الذكرى السنوية والمواطن الخليجي ينعم بفضل الله بالأمن والاستقرار، ويسمو بانتمائه ومبادئه، ويشعر بالفخر بمنجزاته ومكتسباته، ويمد يد العون والمساعدة لأشقائه والإنسانية جمعاء. وفي مارس الماضي قال البيان الختامي الصادر عن المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الـ163 ، إن المجلس الوزاري اطلع على ما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قراره في دورته الثالثة والثلاثين، بشأن مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتوجيه المجلس الوزاري بالاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليفه المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى المجلس الوزاري في دورته القادمة. وأكد المجلس الوزاري حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، وتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين، بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مجددا تأكيده على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس. تم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الـ25 من مايو 1981م في ظروف استثنائية نتيجة للتوترات الإقليمية في ذلك الوقت وللتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه دول المنطقة مما دفع دول المجلس إلى توحيد الجهود والتعاون بينها، وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني لتحقيق الاستقرار والتعاون ومواجهة هذه التحديات. وتتمثل الأهداف الرئيسة لإنشاء مجلس التعاون الخليجي التي حددها نظامه الأساسي، في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله الأعضاء في جميع المجالات، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية والتجارية والجمارك والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية والسـياحية، والتشـريعية والإدارية، ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء مراكز بحوث علمية وإقامة مشروعات مشـتركة، وتشجيع تعاون القطاع الخاص. وقد نص النظام الأساسي لمجلس التعاون على أن تأسيسه جاء إدراكا من دوله الأعضاء لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعا بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية. ولقد أنجز مجلس التعاون عبر مسيرته الممتدة لأكثر من أربعة عقود العديد من الخطوات التاريخية التي تعزز بنيان المجلس وترسخ أهدافه وطموحاته في وجدان أبناء الخليج، ومنها إنشاء السوق الخليجية المشتركة، التي توفر فوائد عديدة تشمل ضمان انسياب السلع بين دول مجلس التعاون بما يؤدي إلى زيادة التنافس بين المؤسسات الخليجية لصالح المستهلك، كما أنشأت دول المجلس "منطقة التجارة الحرة"، التي تتميز بشكل رئيسي بإعفاء منتجات دول مجلس التعاون الصناعية والزراعية ومنتجات الثروات الطبيعية من الرسوم الجمركية، وقد دخلت منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ في مارس 1983، واستمرت نحو عشرين عاما إلى نهاية عام 2002 حين حل محلها الاتحاد الجمركي لدول المجلس. وقد بلغ حجم التجارة البينية لدول المجلس في عام 2023 أكثر من 131 مليار دولار أمريكي بنمو 3.3%، بينما بلغ حجم التجارة الخارجية السلعية بما يصل إلى 1.5 ترليون دولار أمريكي بنمو 4%، حيث تشير هذه المؤشرات الاقتصادية إلى الفرص الواعدة التي ينبغي الاستفادة منها لتعزيز التعاون الخليجي المشترك في كافة المجالات التجارية. كما أنجز مجلس التعاون خلال مسيرته التي دخلت عقدها الخامس مشروع بطاقة الهوية الموحدة لدول المجلس (البطاقة الذكية)، والتي أسهمت بتسهيل تنقل المواطنين بين الدول الأعضاء، وتقليل فترة الانتظار أمام المنافذ عن طريق الدخول بواسطة البوابات الإلكترونية، كما ساعدت في انسيابية حركة العمالة الوطنية بين الدول الأعضاء. وفي سياق محطات ومشاريع مسيرة مجلس التعاون جاء إقرار الاستراتيجية الأمنية الشاملة لدوله الأعضاء، وكذلك الاتفاقية الأمنية لدول المجلس، كما حظي العمل العسكري المشترك باهتمام أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون منذ نشأته، ومن أبرز ما تحقق على هذا المسار إقرار اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون، والاستراتيجية الدفاعية للمجلس، وتشكيل قوات درع الجزيرة المشتركة، والقيام بالتمارين العسكرية المشتركة. ويعتبر الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون من أهم مشروعات البنى الأساسية التي أقرها المجلس، وتشمل فوائد المشروع تخفيض الاحتياطي المطلوب بكل دولة، والتغطية المتبادلة في حالة الطوارئ، والاستفادة من الفائض، وتقليل تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية. كما أقر المجلس الأعلى الاستراتيجية الإعلامية، ومن أبرز أهدافها تعزيز التعاون وفرص الوحدة بين دول المجلس، وترسيخ الهوية الخليجية والعربية والإسلامية لدول مجلس التعاون، وتعميق المواطنة الخليجية، ودعم ترابط المجتمع الخليجي وأمنه واستقراره، وتنمية الوعي المجتمعي العام لدى المواطنين والمقيمين، ودعم مسيرة المجلس والتعاون والتكامل بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بالدول الأعضاء. واعتمد المجلس الأعلى في دورته الثالثة والثلاثين، الاستراتيجية البترولية للدول الأعضاء، انطلاقا من أهمية دول المجلس على المستوى العالمي، سياسيا واقتصاديا، ودورها الريادي في الصناعة البترولية، وثقلها البترولي باعتبارها تملك أكبر احتياطي مؤكد من البترول، وتشكل أكبر منطقة لإنتاجه وتصديره. وعلى صعيد السياسة الخارجية عمل مجلس التعاون على صياغة مواقف مشتركة وموحدة تجاه القضايا السياسية التي تهم دوله الست في الأطر العربية والإقليمية والدولية، والتعامل كتجمع واحد مع العالم، في إطار الأسس والمرتكزات القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة، بما يصون مصالح دول المجلس، ويعزز أمنها واستقرارها ورخاء شعوبها، وعلى هذا المسار، نجح مجلس التعاون الخليجي في تعزيز مكانته الإقليمية وتأكيد حضوره على الساحة الدولية، وبات شريكا فاعلا وموثوقا به لترسيخ الأمن والاستقرار حول العالم، كما سعى المجلس منذ انطلاقته إلى توسيع شراكاته وحواراته الاستراتيجية مع العديد من الدول والتجمعات والدخول في مفاوضات التجارة الحرة مع الدول والمجموعات الاقتصادية الدولية تحقيقا للمصالح المشتركة، ووقعت دول المجلس على العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى حول العالم لتسهيل حركة السلع، وتعزيز التجارة البينية وتوسيع فرص الاستثمار وتنمية العلاقات التجارية القوية. ويعد مجلس التعاون لاعبا اقتصاديا موثوقا على الصعيد الدولي، فهو سوق ضخمة للصادرات من جميع أنحاء العالم، كما تلعب دول المجلس دورا متميزا في تزويد أسواق الطاقة العالمية بالنفط والغاز اللذين يعدان المحركين الرئيسيين للاقتصاد العالمي، ويشكلان قرابة ستين بالمئة من الطاقة المستهلكة على الصعيد الدولي. وتتحكم دول المجلس بنحو ثلث احتياطي النفط العالمي، وتعتبر الأولى في إنتاج النفط الخام واحتياطياته، والثالثة عالميا في إنتاج الغاز الطبيعي المسوق، والأولى عالميا في احتياطي الغاز الطبيعي، الأمر الذي يمنح المجلس نفوذا جوهريا في استقرار أسواق الطاقة، كما تحتل دول مجلس التعاون مراتب متقدمة في قائمة أكبر الصناديق السيادية في العالم، وتمتلك دول المجلس صناديق للثروة السيادية، يبلغ حجم أصولها نحو 4.4 تريليون دولار، وهو ما يعادل نسبة أربعة وثلاثين بالمئة من مجموع أصول أكبر 100 صندوق ثروة سيادي في العالم، وهو ما يمنحها تأثيرا في الأسواق العالمية والاستثمار الدولي، كما اعتمدت دول المجلس استراتيجيات للتحول إلى اقتصادات قائمة على المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة النظيفة، ما يعزز موقعها كمراكز استثمار عالمي متقدم. وهكذا تمضي مسيرة مجلس التعاون بعزم وثقة من قادته وأبنائه متطلعة لغد مشرق والمزيد من الإنجازات، وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة في كل دولة من دول المجلس لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة، والتي ارتكزت على المواطن الخليجي كمحور للتنمية وهدفها الرئيسي ومحركها الأساسي، والتي عكست مؤشراتها المتقدمة عالميا المكانة الاقتصادية لدول المجلس، والتي أصبحت نموذجا رائدا ليس على المستوى الخليجي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والعالمي.