
سعود الناصري… قلمه لم ينكسر، وصوته لم يُخرس حتى وهو يودع الحياة
رحل سعود الناصري، فاستيقظت الأقلام، وتدافعت المراثي، واشتعلت ذاكرة الصحف والمواقع بخيوط من السيرة والنضال. ولكنه، كما قال الشاعر العربي القديم:
'لأن أموتَ فبعد الموت تندبني… وفي حياتي ما زوّدتني زادي.'
نعم، عاش سعود الناصري غريبًا في وطنه، مهمشًا في ذاكرة الإعلام، ومنسيًا في دهاليز المؤسسات الثقافية. لكنه لم يشكُ، لم ينكفئ، لم يهادن، بل راح يمضي بثبات على طريق الموقف، موقنًا أن القلم أشرف من الخضوع، وأن الكلمة أشد فتكًا من الرصاص حين تكون على حق.
ولد سعود في خمسينات العراق المتخم بالتناقضات، وراوده الفن صغيرًا، فانتسب إلى معهد الفنون الجميلة، وراح يصوغ ذائقته الجمالية على أنغام الريشة والصورة والمشهد المسرحي، لكنه وجد في الصحافة منبرًا أكثر قدرة على البوح، فاتجه مبكرًا إلى بلاطها، فكتب في صحيفة الرأي العام التي أصدرها الجواهري الكبير، وصحيفة البلاد التي أسسها الرائد روفائيل بطي، وتعلّم من أعمدتها أن الصحافة ليست مهنة، بل مسؤولية وطنية.
كتب، واشتغل، وتقدّم الصفوف، فكان من أبرز من صاغوا الكلمة الوطنية في إذاعة بغداد، قبل أن يغادر إلى موسكو مطلع الستينيات، ليغترف من ينابيع الفكر والفلسفة. هناك، حاز على دبلوم العلوم الفلسفية سنة 1965، ثم ماجستير في الصحافة، ليعود إلى العراق مشبعًا بروح التنوير، ويعمل في صحيفة الجمهورية حتى سنة 1978، حين بدأت آلة القمع تطحن الوطنيين، ويُضيّق الخناق على الأحرار.
اختار المنفى، ولم يختر السقوط. غادر إلى موسكو، ثم إلى لندن سنة 1992، حيث أعاد تنظيم صفوفه، وعاد إلى النضال من منفاه، لا كلاجئ منكسر، بل كمقاتل بالكلمة، سلاحه القلم، ودرعه الضمير، ينخر بصوته جدران الطغيان، ويزرع الرعب في قلوب المستبدين.
مارس العمل السياسي مبكرًا، فانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي، وانخرط في اتحاد الطلبة العام، ثم تولّى مسؤولية الإعلام والنشر، وأشرف على إصدار صوت الطلبة عام 1960، وانتُخب رئيسًا لرابطة الطلبة العراقيين في موسكو، ثم رئيسًا لاتحاد منظمات طلبة البلدان العربية. وكان عضوًا مؤسسًا في رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين، وشارك في مؤتمرها التأسيسي عام 1980، وأطلق صحيفة 'الأبيض' الإلكترونية التي كانت شاهدة على حيوية قلمه ووضوح موقفه، وعمل في هيئة تحرير مجلة 'رسالة العراق.' التي كانت تصدر عن الحزب الشيوعي العراقي.
لم تكن المنافي تضعف صوته، بل كانت تغذّيه. ولم تكن الأمراض ترهق روحه، بل تجعله أكثر إصرارًا. حتى حين تكالبت عليه الآلام، وجثا المرض على جسده، أجرى عملية جراحية في سوريا، وهناك أسلم الروح، لكنه أسلمها وشفاهه تهمس: 'بعين الله يا عراق… لا بد أن ينبلج الصبح.'
دفن في مقبرة الغرباء في دمشق، تلك التي لا تليق باسمها، فهي، كما قال محبوه، مقبرة الشهداء، لأنها تضم رموزًا من وزن الجواهري، ومصطفى جمال الدين، وهادي العلوي… وكأنما كل من أحبّ العراق بصدق، لا يحق له أن يُدفن في ترابه.
وقد أجمع محبوه على أنّ سعود لم يكن مجرد صحفي، بل ضميرًا وطنيًا حيًا، وصوتًا لا يعرف المساومة، ولا يلبس الأقنعة. قال أحدهم:'كان يكتب وكأنه ينزف، وكل سطر في مقالاته كان رصاصة في قلب الظلم.'
وقال آخر:'في زمن تكدّست فيه الأقلام المرتزقة، كان سعود يكتب بدم قلبه.'
وقال ثالث:'رحل سعود كما عاش، نقيًا، شجاعًا، لا يتلوّن، ولا ينكسر.'
و بعد أن طوى جسده الثرى، لا زالت روحه ترفرف في سماء العراق، وتهيم في أزقة بغداد، وساحات النضال، تهمس في آذان الجيل الجديد: 'اكتبوا… قاوموا… لا تصمتوا.'

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ ساعة واحدة
- موقع كتابات
'زياد الرحباني'.. استخدم المسرح كأداة نقد اجتماعي وسياسي
خاص: إعداد- سماح عادل 'زياد الرحباني' فنان وملحن ومسرحي وكاتب لبناني، اشتهر بموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني الحزين بفكاهة عالية الدقة. تميز أسلوبه بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع، كما أنه يعتبر طليعيا وصاحب مدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر. وُلد 'زياد عاصي الرحباني' في 1 يناير 1956 في بلدة أنطلياس، قضاء المتن، في محافظة جبل لبنان. هو الابن البكر للموسيقار 'عاصي الرحباني' (1923–1986) والمطربة 'نهاد حداد' (فيروز، مواليد 1935). كان والده جزءا من ثنائي 'الأخوين رحباني' (عاصي ومنصور الرحباني) الذين شكّلوا ظاهرة في المسرح الغنائي اللبناني منذ خمسينيات القرن العشرين، بالتعاون مع إذاعة 'صوت لبنان' ثم 'الإذاعة اللبنانية الرسمية'، وبرزوا في المهرجانات الكبرى كـ'بعلبك' و'بيت الدين'. نشأ 'زياد' في منزل عرف بكثافة الإنتاج الفني والعمل الإذاعي والمسرحي اليومي، وكان محاطا بكتاب وموسيقيين وممثلين منذ سنواته الأولى. تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة 'جبل أنطلياس' الكاثوليكية، ثم انتقل إلى مدرسة 'اليسوعية' في بيروت. لاحقا، درس الموسيقى الكلاسيكية والجاز على البيانو بشكل غير أكاديمي، وتعلم التأليف الموسيقي بمجهود ذاتي معتمدا على ما شاهده من عمل والده وعمه، فضلا عن تأثره بموسيقى الجاز الأميركية. لدى زياد شقيقان: 'هالي' الذي يعاني من إعاقة ذهنية منذ الطفولة، و'ليال' (توفيت عام 1988) لم تتجه إلى الفن، وأُضيف على كاهله، بصفته الابن الأكبر، مسؤوليات خاصة داخل العائلة بعد مرض والده في أواخر السبعينيات. الأدب.. جاءت بداية 'زياد الرحباني' في الأدب كتب في سن مبكرة نصوصا شعرية بعنوان 'صديقي الله'، أنجزها بين عامي 1967 و1968، وقد لفتت هذه النصوص الانتباه إلى موهبة أدبية واعدة، كانت تبشر بولادة شاعر متمكن، لولا أن اختار لاحقا تكريس طاقته بالكامل للموسيقى والتأليف المسرحي. في عام 1971، وضع أول ألحانه الغنائية بعنوان 'ضلك حبيني يا لوزية'، والتي شكلت مدخله الفعلي إلى عالم التلحين. ثم جاءت اللحظة المفصلية في عام 1973، حين كان لا يزال في السابعة عشرة من عمره، حين لحن أغنية لوالدته فيروز، وذلك في ظل دخول والده عاصي الرحباني إلى المستشفى وتغيبه عن العمل الفني. كانت فيروز حينها تستعد لبطولة مسرحية 'المحطة' من تأليف الأخوين رحباني، فكتب منصور الرحباني كلمات أغنية تعكس الغياب المفاجئ لعاصي، وأسند مهمة التلحين إلى زياد. جاءت النتيجة على شكل الأغنية الشهيرة 'سألوني الناس'، التي أدتها فيروز ضمن المسرحية، وأحدثت صدى واسعا فور صدورها، إذ مثّلت أول ظهور حقيقي لزياد كملحن ضمن أعمال العائلة الرحبانية. وقد شكلت هذه الأغنية بداية مرحلة جديدة في مسيرته، وأظهرت ملامح أسلوبه الخاص، المختلف عن نهج والده وعمه، وفتحت أمامه باب التعاون الموسيقي مع فيروز الذي امتد لعقود لاحقة. لاقت تلك الأغنية نجاحا كبيرا، ودهش الجمهور للرصانة الموسيقية لابن السابعة عشرة ذاك، وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده، ولو أنه قريب من المدرسة الرحبانية في التأليف الموسيقي. مسرح.. شارك 'زياد الرحباني' في أول ظهور له على خشبة المسرح في مسرحية 'المحطة'، مجسدا دور الشرطي، وهو الدور ذاته الذي كرره لاحقا في مسرحية 'ميس الريم'، حيث قدم مشهدا حواريا موسيقيا مع فيروز، سائلا إياها عن اسمها وبلدتها في قالب ملحن. إلا أن مشاركته لم تقتصر على التمثيل، فقد قام أيضا بتأليف موسيقى مقدمة 'ميس الريم'، والتي أثارت إعجاب الجمهور لما حملته من تجديد في الإيقاع والأسلوب، كاشفة عن لمساته الشابة المختلفة عن أعمال والده وعمه. لاحقا، طلبت منه فرقة مسرحية لبنانية كانت تعيد تقديم مسرحيات الأخوين رحباني، وتضم المغنية مادونا التي كانت تؤدي دور فيروز– أن يكتب مسرحية أصلية جديدة من تأليفه وتلحينه، فاستجاب لذلك وكتب أول أعماله المسرحية: 'سهرية'. وقد احتفظت هذه المسرحية بشكل المسرح الرحباني الكلاسيكي، إلا أنها كانت أقرب إلى ما وصفه زياد بـ'حفلة غنائية'، حيث كانت الأغاني هي العنصر الأبرز، وتدور الأحداث فقط لتخدم تقديم المقطوعات الموسيقية، في تقليد واع للمسرح الرحباني. مع مرور الوقت، أحدث زياد تحولا كبيرا في شكل المسرح اللبناني؛ إذ ابتعد عن النمط المثالي والخيالي الذي تميز به مسرح الأخوين رحباني، واتجه إلى مسرح سياسي واقعي يعكس حياة الناس اليومية، خصوصا في ظل أجواء الحرب الأهلية اللبنانية. فكانت أعماله تعبيرا مباشرا عن هموم المجتمع اللبناني، بلغة نقدية لاذعة وسخرية ذكية. وفي دراسة بعنوان 'حصاد الشوك: المسرح السياسي الكوميدي في سورية ولبنان'، أشار الباحث أكثم اليوسف إلى أن زياد فرض نفسه خلال تلك الفترة كـكاتب ومخرج ومؤلف موسيقي وممثل بارز، معتبرًا أن مسرحه أصبح منبرا يعبر عن جيل ضائع تتقاذفه أهوال الحرب والضياع، ويشكل صوتا نقديا بارزا في المشهد الثقافي اللبناني. الزواج.. تزوج من 'دلال كرم'، ورزق منها بولد أُطلق عليه اسم 'عاصي'، إلا أنه تبين لاحقا أنه ليس ابنه البيولوجي. انتهت علاقتهما بالطلاق، مما دفع كرم إلى كتابة سلسلة من المقالات في مجلة 'الشبكة' تناولت تفاصيل علاقتهما الزوجية. وقد ألّف الرحباني عددا من الأغاني التي تعكس تجربته في هذه العلاقة، من أبرزها: 'مربى دلال' و'بصراحة'. بعد انفصاله عن زوجته 'دلال كرم' خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حرم زياد الرحباني من رؤية ابنه حتى بلغ التاسعة، بسبب سكنه في بيروت الغربية وسكن والدته في الشرقية. لاحقا، دخل في علاقة استمرت 15 عاما مع الممثلة اللبنانية 'كارمن لبّس'، وانتهت بسبب عدم قدرة زياد على توفير الاستقرار الذي كانت تطمح إليه. وصرحت كارمن لاحقا: «كان زياد الشخص الوحيد الذي أحببته»، بينما اعترف زياد أن كارمن كانت محقّة في قرارها، مضيفا أنه لم يتمكن من إصلاح الفوضى التي كانت تحيط بحياتهما. انعكست تجربته العاطفية مع كارمن في عدد من أعماله الفنية، أبرزها أغنية 'ولعت كتير' من ألبوم 'مونودوز'، التي تناولت قصة حب طويلة. في عام 2008، أثارت الصحف اللبنانية جدلا واسعا بعد كشف دعوى قضائية قدمها زياد لإنكار أبوته لابنه 'عاصي'، المسجلة تحت الرقم 910/2008. وأكدت الوثائق أن فحص الحمض النووي عام 2004 أظهر عدم النسب. وصرح زياد لجريدة الأخبار أن موقفه القانوني جاء اضطراريا بعدما فشلت والدة عاصي في تسوية القضية بشكل خاص. وأكد أن كلا الطرفين، عائلته وعاصي نفسه، تضررا من هذا الواقع، وأنه لا يتحمل مسؤولية ما حدث. عرف زياد الرحباني بعلاقته الطويلة مع الحركات اليسارية اللبنانية، وصرح بأنه شيوعي الهوى، وظل منخرطًا في الحزب الشيوعي اللبناني طوال حياته. أثار جدلا كبيرا بمقالاته الإذاعية الساخرة وبرامجه السياسية الفنية مثل برنامج 'العقل زينة'. وفي مقابلة أجراها مع الصحفي غسان بن جدو، صرح الرحباني بأن مجزرة تل الزعتر التي ارتكبتها ميليشيات مسيحية يمينية متطرفة في عام 1976، كانت الدافع الرئيسي لانتقاله إلى بيروت الغربية. وعلى الرغم من ذلك، عبر أيضا عن دعمه للمقاومة اللبنانية ومشروعها في مواجهة 'الاحتلال الإسرائيلي ونظامه العنصري الأبارتايد'. ورغم نقده الحاد للأنظمة والحكومات، إلا أنه بقي مناصرًا للقضايا القومية مثل القضية الفلسطينية، وانتقد ما سماه 'تحالف السلطة والمال والدين'. وفاته.. توفي 'زياد الرحباني' في 26 يوليو 2025 في بيروت عن عمر 69 عاما، بعد معاناة طويلة مع مرض تليف الكبد، الذي تدهورت حالته الصحية بسببه خلال الأشهر الأخيرة من حياته. نقل إلى المستشفى في يونيو 2025 إثر مضاعفات صحية متكررة، وأفادت مصادر طبية بأنه خضع لعلاج طويل الأمد لم يكن جسده قادرا على الاستجابة له في المراحل الأخيرة. لم تقتصر أعمال زياد الرحباني على الكتابة المسرحية وكتابة الشعر والموسيقى فكان الوجه الثاني لزياد هو «السياسي»، وقد تميز بجرأة منقطعة النظير، وفي مهرجان الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ألقى كلمة إلى جانب كلمة الأمين العام وتتطرق فيها لإعادة هيكلة الحزب الشيوعي اللبناني قائلا أنه لم يخرج من الحزب إلا من كان يجب أن يخرج، وعبر عن انتمائه العميق قائلا الشيوعي لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت. أما زياد الرحباني الصحفي الذي كتب في أكثر من جريدة لبنانية منها جريدة النداء والنهار أثناء الوجود السوري في لبنان، فقد تميزت كتاباته بالجرأة والقدرة الهائلة على التوصيف. وقد كتب لفترة في جريدة الأخبار اللبنانية دعما لانطلاق الجريدة الجديدة في زحمة الإعلام والصحافة اللبنانية. يكتب عمود مانيفستو في جريدة الأخبار. تميز زياد بأسلوب موسيقي متمرد يمزج بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية وأنماط الجاز، البلوز، الفانك، وحتى الروك. استعمل المقامات العربية في توليفات غير تقليدية، وجمع بين الأنغام اللبنانية والإيقاعات الغربية، ما شكل نهجا جديدا في الموسيقى العربية. وإضافة إلى ألحانه لفيروز، قدم ألبومات غنائية بصوته تضمنت أغاني مثل: 'عودك رنان' 'أنا مش كافر' 'إي في أمل' 'بما إنو' 'مارغريتا' كما عمل موزعا موسيقيا في العديد من الأعمال الفنية والمسرحية، وأعاد توزيع أغنيات تراثية بروح عصرية. استخدم المسرح كأداة نقد اجتماعي وسياسي، عالج من خلاله قضايا الحرب الأهلية، الفساد، الطائفية، العدالة الاجتماعية، وقضايا المواطن اليومية. من أبرز مسرحياته التي تحولت إلى ظواهر ثقافية في لبنان: بالنسبة لبكرا شو؟ (1978): تناولت بأسلوب ساخر قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسي الهش. فيلم أميركي طويل (1980): طرحت بأسلوب عبثي مأساوي وضع المثقف والسياسي في ظل الحرب. شي فاشل (1983): انتقد فيها النظام التعليمي والفساد الإداري. نزل السرور (1974): كانت من أوائل أعماله الناقدة للطائفية. اعتمد على شخصيات متكررة من الطبقات الشعبية كناقلين لرسالته، ومنحهم أدوار البطولة بدلاً من النخب التقليدية.


اذاعة طهران العربية
منذ 8 ساعات
- اذاعة طهران العربية
الأربعين، رحلة إلى بناء مستقبل أكثر إشراقا للبشرية
يعتبر الأربعين حدثا فريدا في تاريخ البشرية، حيث تُوجد فيه عناصر قيّمة لطالما بحثت عنها فطرة الإنسان الساعية إلى الله، لكنها غالبًا ما ضاعت في صخب الحياة العصرية. إن الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية متعطشة للصدق، العدالة والإيثار، الحنان والتعاطف؛ لكن هذه الجواهر الثمينة تتلاشى ببطء وسط غبار الدنيا وهموم الحياة، ويجد الإنسان نفسه بعيدًا عن جوهره. والأربعين يعد أكثر من مجرد مناسبة دينية، وبل هو ملتقى عظيم للعودة إلى هذه الينابيع النقية. يجتمع الناس في مسيرة الأربعين، من جنسيات وأديان وثقافات مختلفة دون توقعات مادية وبنوايا صافية. ويوفر هذا التجمع الضخم مساحة جديدة لممارسة التعاطف والحوار والتسامح وقبول الآخرين. ربما لم تتح للكثيرين فرصة تجربة التعايش السلمي والعطاء خلال العام، ولكن هنا، يجد التائهون طريق الحب والمودة من جديد، ويتبادلون الهدايا. تكتسب قيمٌ كالإيثار والضيافة معنىً أعمق خلال الأربعين. فالناس الذين يبذلون دون انتظار شيء من ممتلكاتهم المادية، والزوار الذين يضحون بالراحة والرفاهية ليستفيدوا من مشاق الطريق الروحي، يجدون أنفسهم في جوٍّ من البهجة والسرور تجاه الدنيا، ويقتربون من حقيقة الوجود. وفي هذه الأثناء، حتى الأطفال الصغار والمراهقون و كبار السن يدركون معنى المشاركة والتعاطف والتضامن بكل وجودهم. ومن الإنجازات العظيمة الأخرى للأربعين استعادة الشعور ب العدالة ومقاومة الظلم، وإعادة تأهيله. كما أن إن ذكرى الإمام الحسين وأصحابه (ع)، بثباتهم وعدم مهادنتهم للباطل، تُلهم الإنسان المعاصر للنهوض من جديد والحفاظ على قيمه إذا شعر بضياع العدالة والحرية، مستلهما هذه الحقيقة التاريخية. ويتخذ هذا التعافي شكلًا جماعيًا واعيًا، ويربط الإنسان برسالته التاريخية في نصرة المظلومين. يجد الإنسان وسط هذا الحشد وصحبة ملايين البشر، فرصة للتفكير في معنى الحياة وإعادة تفسير هويته. ويرى العديد من الزوار أنفسهم في المرآة من منظور مختلف، ويلمسون بشكل أفضل آلامهم ورغباتهم وآمالهم المشتركة. وهذه التجربة الجماعية لا تُعزز الروحانية الفردية فحسب، بل تُوفر أيضًا رصيدًا روحيًا لإصلاح المجتمع والتآزر الفكري والعملي. إذن الأربعين ليس مجرد إحياء للقيم المفقودة، بل هو أيضا مدرسة إنسانية وحضارية؛ تجربة تُظهر أن الإنسان، بانخراطه في هذه الشعائر، يستطيع العودة إلى منبع الفضائل والنقاء، وبترميم هذه القيم، يلعب دورا فعالًا في بناء مستقبل أكثر إشراقًا للبشرية. كما أن الأربعين فرصة لهذه العودة المجيدة وتذكير بعهد جديد مع الذات ومع الله سبحانه وتعالى.


وكالة الصحافة المستقلة
منذ 9 ساعات
- وكالة الصحافة المستقلة
لبنان تنعى فنانها الكبير زياد الرحباني
المستقلة/-رحل صباح السبت، الموسيقي والكاتب المسرحي اللبناني زياد الرحباني عن 69 عاماً، بحسب ما أفادت وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية، دون الكشف عن سبب الوفاة، بينما لم يصدر بعد بيان عن العائلة. زياد، هو نجل المطربة اللبنانية الشهيرة فيروز ووالده هو الموسيقي الراحل عاصي الرحباني، ويُعد أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. بدأ مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدم أولى مسرحياته الشهيرة 'سهرية'، وكتب ولحن لاحقًا لوالدته فيروز. ونعى رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، الرحباني وكتب عبر موقع 'إكس' (تويتر سابقاً): 'زياد الرحباني، يفقد لبنان فنانًا مبدعاً استثنائيًّا وصوتًا حرًّا ظلّ وفيًّا لقيم العدالة والكرامة. زياد جسّد التزامًا عميقًا بقضايا الإنسان والوطن'. من هو زياد؟ ولد في الأول من يناير/ كانون الثاني من العام 1956 في مدينة أنطلياس، التي تبعد بضعة كيلومترات شمال بيروت لعائلة مارونية. وهو ابن عاصي الرحباني الذي يشكل مع شقيقه منصور الرحباني ما يعرف اليوم بالأخوين الرحباني في تاريخ الموسيقى العربية. والدته نهاد حداد، المعروفة بالسيدة فيروز. تلقى زياد تعليمه في مدرسة الجمهور للأباء اليسوعيين في لبنان، حيث برزت موهبته الموسيقية في وقتٍ مبكر. كتب زياد الرحباني يوماً في كتابه 'صديقي الله' الذي دونه بين عامي 1967 و1968، وهو في عمر الثانية عشر فقط 'في الأرض ليس من كتّاب كلنا كتّاب نكتب حياتنا على الأيام وكل يخاف على حبره ولا يعطي منه الآخر'. في عام 1971، وبعمر الـ15 عاماً، لحن للمرة الأولى أغنية 'ضلي حبيني يا لوزية'، التي غنتها الفنانة هدى في مسلسل 'من يوم ليوم'. وفي عام 1973، كان من المقرر أن تلعب فيروز الدور الرئيسي في مسرحية 'المحطة' كتابة الأخوين الرحباني التي لعب فيها زياد أولى أدواره التمثيلية بشخصية الشرطي. وفي نفس العام، كان عاصي والده في المستشفى، فكتب منصور الرحباني كلمات أغنية تعبر عن غياب عاصي أسماها 'سألوني الناس' فقام زياد بتلحينها في السابعة عشر من عمره لتكون هذه الأغنية الأولى التي يلحنها زياد لوالدته فيروز، والتي لاقت رواجاً وإستحساناً واسعاً لدى الجمهور العريض. الفنان الشامل كان أول ظهور لزياد على المسرح في المسرحية ذاتها أي 'المحطة'، حيث لعب فيها دور الشرطي. كما ظهر بعدها في 'ميس الريم' بدور الشرطي أيضاً والذي يسأل فيروز عن اسمها الأول والأخير، وعن ضيعتها في حوار ملحن. وفي ذات المسرحية قام زياد بكتابة موسيقى المقدمة، والتي أذهلت الجمهور بالرتم الموسيقي الجديد الذي يدخله هذا الشاب على مسرحيات والده وعمه. بعدها توالت المسرحيات، ولكن بأسلوب مختلف جداً عن الأسلوب السابق (الرحباني) حيث اتخذت مسرحيات زياد الشكل السياسي الواقعي جداً، الذي يمس حياة الشعب اليومية، بعد أن كانت مسرحيات الأخوين رحباني تغوص في المثالية وتبتعد قدر الإمكان عن الواقع، ويعيش فيها المشاهد خيالاً آخر وعالماً آخر. هذا ما لم يقبله زياد لجمهوره، وخاصة أن الحرب الأهلية كانت قد بدأت. قدم زياد الرحباني منذ 1973 وحتى 1994 عدة مسرحيات 'سياسية' بامتياز، تناول فيها مختلف قضايا وطنه وأزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكانت باكورة أعماله مسرحية 'سهرية' عام 1973، وفي العام 1974 قدم مسرحية 'نزل السرور'، حيث أعلن بوضح أن التغيير يحدث بثورة. وعرض الرحباني في العام 1980 مسرحية 'فيلم أميركي طويل'، متحدثا فيها عن لبنان وحربه الأهلية وتدخلات الخارج في شؤونه. وفي 1983 قدم 'شي فاشل' متناولا مسرحية فاشلة بشكل يسخر من تراث وطنه، وحاول في 'بخصوص الكرامة والشعب العنيد' عام 1993 والجزء الثاني منها في العام 1994 'لولا فسحة الأمل' تقديم قراءة في المسرحيتين لتوقعاته السياسية المستقبلية للبنان. عرف الجمهور معظم مسرحيات زياد عن طريق الصوت حيث كانت تبثّ عبر الإذاعة وتباع عبر الأشرطة. أخرج زياد لاحقاً بعضاً من مسرحياته إلى النور وكان أولها 'بالنسبة لبكرا شو؟' التي عرضت في السينما عام 2016 بعد نحو 38 عاماً على تقديمها على خشبة المسرح. لدى زياد علاقة مع الإذاعة أيضاً، إذ له عدة برامج إذاعية كانت تبث من إذاعة 'صوت الشعب' التابعة للحزب الشيوعي في لبنان عبر فيها عن مواقفه السياسية من الأحداث اللبنانية الجارية وهي: بعدنا طيبين، قول الله، تابع لشي تابع شي، العقل زينة، ياه ما أحلاكم، نص الألف خمسمية. زياد وفيروز والعائلة قدّم زياد باكورة كبيرة من الأعمال مع والدته فيروز، فوزّع عدداً من الأغاني أشهرها: نحن والقمر جيران، أنا لحبيبي، شتي يا دني، هيلا يا واسع ونسّم علينا الهوا. وقدّم مع والدته ألبومات كاملة من تأليفه وتلحينه وتوزيعه أبرزها كيفك إنت، إيه في أمل، ومش كاين هيك تكون، إضافة إلى مشاركته في توزيع أو كتابة أو تلحين عشرات الأغنيات لها. مرّت علاقته بوالدته بتقلّبات كثيرة وهو الأمر ذاته مع باقي العائلة، إذ استقل عنهم باكراً وأخذ نوعاً مستقلاً من الفنّ منذ صغره. ذكر زياد في مقابلة تلفزيونية عام 2016 أن فيروز كانت مهتمة في طفولته باستكمال تعليمه، بينما كان والده يصر على دفعه أكثر نحو احتراف الموسيقى. وبعد خصام طويل بينهما بسبب نقله عن فيروز رأياً سياسياً وهي نادرة التصريح عن آرائها الصحفية، كشف تفاصيل خدعة قام بها كي تتم المصالحة بينه وبين والدته حيث اتصل بها وظلّ ساكتاً ثمّ تعاتبا. كما تحسّنت في السنوات الأخيرة علاقة زياد بشقيقته ريما والتي اختلف معها بسبب إدارتها لأعمال فيروز واختيارها أعمالاً لا تليق بها، بحسب وصفه.