
«غرفة واحدة لا تكفي».. سردية الذاكرة المفتوحة
رواية الكاتب الإماراتي سلطان العميمي، «غرفة واحدة لا تكفي» الصادرة عام 2016، والتي دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية ( البوكر العربية) لعام 2017. تمثل محطة بارزة في تطور الرواية الإماراتية وتحاكي قضايا وجودية، وتستثمر أدوات السرد الحديث والمعاصر.
*بناء رمزي
تدور أحداث الرواية حول شخصية رئيسية تدعى «قرواش» يجد نفسه محبوساً فجأة في غرفة بلا نوافذ ولا وسيلة للفرار، ولا يتواصل مع العالم الخارجي إلا من خلال فتحة صغيرة بباب الغرفة تؤدي إلى غرفة أخرى يسكنها شخص شديد الشبه به في الملامح والسلوك، هذه البنية تعكس توجهاً نحو البناء الرمزي المحمل بالإحالات والاستعارات، وتوظف الغرفة المعزولة كسيمياء أو علامة دالة على العزلة النفسية والاجتماعية والبحث عن الهوية.
الفضاء المكاني المغلق الذي شكل خلفية سردية للرواية، ينهض بدور أساسي في تطوير الحدث وتنامي التوتر الداخلي، وهنا تتجلى جماليات معالجة المكان فيما يعرف في السرد الحديث بالاقتصاد الحكائي، حيث يتحول المكان الضيق لفضاء مفتوح للحلم والهواجس والتشظي.
تنتمي الرواية، إلى الأعمال التي تمنح العلامة السردية بعداً دينامياً: ثقب الباب، والكتاب الفارغ، والنافذة، والقلم الأحمر، كلها دوال رمزية تتناسل فيما بينها، وتنتج شبكة من المعاني المفتوحة، فثقب الباب علامة على «توق التلصص المعرفي» والتماس المستحيل مع الآخر، بينما الكتاب الفارغ علامة على القلق من الفراغ وسؤال الكتابة والوجود، والقلم الأحمر أداة تحول العزلة إلى «إبداع فني وسردي».
* تقنيات سردية
ضمن الحقل السيميائي، يتبدل كل عنصر صغير في الغرفة إلى علامة، وكل تكرار أو تشابه بين البطل وشبيهه يصبح انزياحاً نحو «تعدد الهويات» وتشظي الذات وانقسامها، يجد القارئ نفسه أمام نص ينتج معناه عبر تأويل العلامات المتكررة: العزلة، الشبيه، الباب المغلق، كلها تخلق فضاء من الدوال المركبة.
يستخدم العميمي تقنيات سردية متقدمة عبر تعدد الأصوات، والتناص مع الأدب العبثي وخاصة كافكا بوضوح من خلال الأجواء الكابوسية وعبثية الوضعية، يبدأ النص بحكاية البطل في عزلته، ويمتد إلى مدونات تاريخ الأسرة وحكايات الجد لتعزيز الموروث المحلي وتقاطع الأسطورة مع الواقع، كما يترك القارئ معلقاً بين عالمين: الواقع والخيال، ويكسر أفق التوقع في النهاية.
هذا «السرد المتداخل» يجسد أسمى أشكال التناص، حيث تصبح كل قصة تعبيراً عن مستويات متعددة من الوعي، ويتحول النص بما يشبه «اللعبة السردية» إلى تجريب وجودي وهوياتي بالدرجة الأولى.
*ثيمة فلسفية
الرواية تنطلق من سؤال فلسفي مركزي هو: من أنا في مواجهة ذاتي؟ وتبني عليه أسئلة حول ماهية الفرد في المجتمع، وتثير تساؤلات حول الكتابة بوصفها تأسيساً للوجود أو هروباً من العدم، كما تستحضر تاريخ الإمارات بذكريات الجد، وتخلق جدلية بين التراث والمعاصرة، الخاص والعام، المحلي والكوني.
يعتمد سلطان العميمي لغة مكثفة وتفاصيل دقيقة، تخلق جواً نفسياً مشحوناً وتبرز قدرة الكاتب على «المراقبة الداخلية»، فتتحول اللغة نفسها إلى علامة على الحيرة والوحدة والتوجس، وتمتزج اللغة الفصيحة بالأصداء المحلية الشعبية عبر استحضار حكايات البحر والصحراء، بهذا ينشئ توازياً بين اللغة وتعدد الدلالات والعلامات السردية.
رغم تسلل الأحداث في فضاء مكاني واحد «الغرفة»، إلا أن تداخل الأزمنة واضح: يراوح السرد بين حاضر الغرفة وماضي الأسرة، بل وينفتح على احتمالات مستقبلية غامضة، ما يمنح النص بعداً درامياً وتحليلياً، ويحقق الاتساع الزمني ضمن ضيق المكان.
«غرفة واحدة لا تكفي»، علامة على تطور الرواية الإماراتية ورمز للتجريب السردي المحلي المعاصر، وتستمد خصوصيتها من نجاحها في الجمع بين الحس الجمالي والتقنيات السردية، وذكاء التوظيف السيميائي للعلامات، فجميع عناصرها تتحول إلى إمكانات دلالية مفتوحة لا يحدها التأويل الواحد.
*إضاءة
سلطان العميمي كاتب وناقد وشاعر إماراتي، ولد في الذيد عام 1974، ويشغل حالياً منصب مدير أكاديمية الشعر العربي التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، تميز بإنتاجه الأدبي المتنوع بين القصة القصيرة والرواية والشعر، وله حضور فاعل في المشهد الثقافي عبر رئاسته لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ورئاسته لتحرير مجلة شاعر المليون، وعضويته الدائمة في لجنة تحكيم برنامج «شاعر المليون». صدر له عدد من الأعمال الأدبية والنقدية، منها «غرفة واحدة لا تكفي» و«ص.ب: 1003»، إلى جانب دراسات في السيميائيات والأدب الشعبي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ ساعة واحدة
- البيان
«كنز الجيل» تغلق باب الترشيحات
وهو ما يعكس تنامي الثقة بالجائزة ومكانتها المتقدمة على خارطة الجوائز الأدبية المتخصصة، كما يرسّخ حضور الثقافة الإماراتية في فضاء الشعر النبطي عربياً وعالمياً. والكاتب والباحث محمد أبو زيد، وناقش الاجتماع معايير التقييم وآليات اختيار الأعمال، بما يضمن أعلى درجات الشفافية والدقة، والالتزام بمعايير الجودة الأدبية والفنية في الترشيحات المتقدمة.


الإمارات اليوم
منذ 3 ساعات
- الإمارات اليوم
«الشارقة للفنون» تدعو إلى برنامج الفنان المقيم
دعت مؤسسة الشارقة للفنون الفنانين، والكتّاب، والشعراء، والباحثين، والموسيقيين، وفناني الأداء، وصنّاع الأفلام، وغيرهم من المبدعين، إلى التقدّم إلى برنامج الإقامة الفنية، الذي يتيح لهم فرصة استكشاف وتوسيع ممارساتهم التجريبية متعددة التخصصات، وتوفّر هذه الفرصة للمشاركين المختارين إمكانية التفاعل مع المجتمعات الإبداعية النشطة في الشارقة، وتطوير مشاريعهم ضمن بيئة داعمة وغنية بالموارد المؤسسية. يوفر البرنامج للمشاركين المختارين تذاكر السفر، والتنقل داخل إمارة الشارقة، والإقامة، ومبلغاً شهرياً، والوصول إلى شبكات مؤسسة الشارقة للفنون ومواردها المؤسسية الواسعة.


الإمارات اليوم
منذ 3 ساعات
- الإمارات اليوم
«أصداء الحداثة» تحتفل بـ 100 عام على تأسيس مكتبات الشارقة العامة
في إطار احتفالاتها بمرور 100 عام على تأسيسها، نظمت مكتبات الشارقة العامة، أمسية أدبية بعنوان «أصداء الحداثة»، في «بيت الحكمة» بالشارقة، استقطبت خلالها حضوراً نوعياً من الشعراء الإماراتيين الشباب والمبدعين والمثقفين والإعلاميين، للمشاركة والاطلاع على تجارب إماراتية معاصرة في الشعر الإنجليزي، ومواكبة التحولات الإبداعية التي تشهدها الساحة الثقافية. وافتُتحت الفعالية بجلسة حوارية بعنوان «آفاق الأدباء والشعراء»، أدارتها الشاعرة شهد ثاني، وشارك فيها الشاعر أحمد بن سليم، المعروف بأسلوبه الحُر، والشاعرة ميرة البوسميط، واستعرضت الجلسة كيفية تعبير الأصوات الإماراتية الشابة عن ذاتها من خلال مزج الذاكرة والهوية، والانفتاح الواعي على أشكال وأساليب مغايرة، تعكس تحولات جمالية وفكرية معاصرة بلغة عالمية. وخلال الجلسة، قال أحمد بن سليم: « أكتب بحرية مطلقة، بلا قيود ولا نماذج سابقة، وأرفض أن يُقيدني شكل أو أن تحاصرني تقاليد القصيدة، لأن الكلمة عندي كائن حي يتنفّس من ذاكرتي وهويتي وإرثي الذي أحمله بكل فخر كابن لهذه الأرض العريقة، وكل قصيدة أكتبها هي امتداد لحكايات من تراثنا والمغامرات التي ترويها ذاكرة الإمارات، حيث إن الشعر بالنسبة لي ليس ترفاً لغوياً، بل هو فعل صدق ووجود، يحمل أثر كل كتاب عبر بين يديّ، وكل لحظة صنعتني، وكل صمت تحدّث عني قبل أن أكتب». بدورها، قالت ميرة البوسميط: «الكتابة لديّ بدأت كهروب من النسيان، كمحاولة لتثبيت ذكريات وملامح كانت على وشك التلاشي، الذاكرة كانت أول باب فتحته، لكنها لم تكن الباب الوحيد، كامرأة إماراتية تعيش في عالم متعدد الثقافات وتعشق الأدب الإنجليزي بعمق، لا أكتب من موقع واحد، بل من مفترق طرق، أحياناً أجد نفسي في الإيقاع الكلاسيكي، أستريح فيه، لكنني سرعان ما أعود لأدفع حدود القصيدة بعيداً، لأكسر التوقعات، ولأكتب كما أشعر لا كما يُنتظر مني، الكتابة بالنسبة لي فعل إنساني خالص، لا يمكن لأي آلة أو تقليد أن يستنسخه». واختُتمت الفعالية بأمسية شعرية بعنوان «أصداء الحداثة»، شارك فيها خمسة من الشعراء، هم شهد ثاني ومحمد الغيث ومريم الشواب، وأحمد بن سليم وميرة البوسميط، حيث جسّدت قراءاتهم تجربة جيل يتلمّس هويته الشعرية من خلال أسئلة الانتماء، واستحضار الذاكرة الجمعية. وتنوّعت النصوص بين الحنين لطفولة تتسلّل من زوايا الصور، واستدعاء البحر كرمز للأمان وعدم اليقين معاً، وصولًا إلى تمجيد المكتبات كحاضن للمعرفة ومرآة للهوية الثقافية، وتجلّى في القصائد صوت داخلي جريء، يعبّر عن الذات، ويصطدم أحياناً بتحديات الواقع، لكنه يواصل سعيه الواعي لفهم العالم من حوله، وترسيخ شعوره بالانتماء ضمن محيطه الثقافي والاجتماعي. وتميّزت القراءات بلغتها المتجددة، حيث مزج الشعراء بين اللهجة الإماراتية والشعر الإنجليزي المعاصر، ما أضفى على النصوص طابعاً فنياً متفرداً، يعكس وعياً لغوياً متعدد الأبعاد، ويعبّر عن الجيل الإماراتي الجديد بلغة محلية النَفَس، مخاطبة للجمهور العالمي.