
دولة عظمى تشن إعصارًا فترد الأخرى بتسونامي.. حروب المناخ قادمة!
كانت فكرة أن تتحكم الدول في الطقس لأغراض عسكرية أو سياسية مجرد مادة للخيال العلمي وا في زمن الحرب الباردة. لكن التطورات التقنية، إلى جانب تصاعد التوترات الجيوسياسية وتفاقم الأزمة المناخية العالمية، أعادت إحياء الاهتمام بالطقس كسلاح.
فمن تقنية استجلاب الأمطار في فيتنام إلى تجارب حقن الهباء الجوي في الستراتوسفير في روسيا والصين، لم يعد الطقس خارج متناول قوة الإنسان الحديث، على الأقل من بعض نواحيه، بل أصبح في حالات بعينها القوة ذاتها.
هذه القوة تظهر أحيانًا متخفية تحت مصطلح "الهندسة الجيولوجية"، والذي يعني عملية التدخلات الصناعية التي تهدف إلى عكس ضوء الشمس، أو تلقيح السحب، أو تبريد أجزاء من الأرض في مواجهة الاحترار العالمي المتسارع. لكن في الظروف المواتية، يمكن استغلال هذه الأدوات نفسها لتعطيل الأمطار في دول مجاورة، أو عدوّة، أو إثارة الجفاف، أو تحفيز فيضانات في المناطق الساحلية دون إطلاق طلقة واحدة.
وإذا كانت الحرب استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى، كما كتب الجنرال والمؤرخ الحربي في القرن التاسع عشر كارل فون كلاوزفيتز، فإن التلاعب بالمناخ قد يصبح استمرارًا للحرب بوسائل مختلفة تمامًا عما عهدناه.
تثير هذه الإمكانية أسئلة عميقة، لا حول التقنيات المستخدمة فقط، بل عن الفلسفة والأخلاق أيضًا. فكيف يحدث هذا الاعتداء؟ وإذا كان بمقدور أحد فعل ذلك، فمن يملك حق التحكم بالسماء، ومن يستطيع مساءلة صاحب هذا الحق؟ وما السيناريوهات التي نتوقعها إذا ما سمح العالم لأقويائه بهذا التدخل؟ هل سنكون أمام احتمالية أن تثير طائرة دون طيار فيضانًا؟ وكيف نوقف ذلك؟
هذا المقال يحاول الولوج إلى هذا النقاش، ولا يدّعي القدرة على الإحاطة به. لذلك سنقدم عرضا تاريخيا وجيوسياسيا لتوظيف الطقس كسلاح: من العمليات السرية الأميركية في فيتنام إلى تجارب الاتحاد السوفياتي والصيني ضمن محاولات السيطرة على الغلاف الجوي، ومن معاهدات الحرب الباردة إلى المخاوف المعاصرة حول هندسة المناخ.
ومع تقلص الفاصل بين علم المناخ وحرب المناخ، قد لا يكون السؤال في المستقبل ما إذا كان بالإمكان تحويل الطقس إلى سلاح، بل سنتساءل عما إذا كنا قادرين على منعه!
أول قنبلة مطرية
أولى المحاولات الفعلية لتسليح الطقس ظهرت خلال حرب فيتنام، في ما عُرف بعملية "باباي" (Popeye). وهي تجربة سرية انطلقت بين عامي 1967-1972، قامت خلالها القوات الجوية الأميركية باستمطار السحب عبر نثر يوديد الفضة فوق مسار "هو تشي منه"، الذي كانت تمر عبره الإمدادات إلى فيتنام الجنوبية من لاوس وكمبوديا.
كان الهدف من ذلك تمديد الأمطار الموسمية لأسابيع إضافية، بحيث تتحول طرق الإمداد إلى مستنقعات طينية تعيق حركة العدو.
وقد كشفت وثائق لاحقة أن العملية نجحت بالفعل في رفع معدلات الهطول بنسبة تصل إلى 30%، مما تسبّب في فيضانات وانهيارات طينية أعاقت تحركات القوات الفيتنامية الشمالية.
ورغم أن الكشف عن هذا التوظيف العسكري للطقس أثار قلقا عالميا، وأفضى إلى توقيع معاهدة التعديل البيئي (ENMOD) في عام 1977، والتي حظرت الاستخدام العسكري أو أي استخدام عدائي آخر لتقنيات تعديل البيئة، فإن ذلك لم يتحول إلى قيد فعلي على البحث والتمويل، حيث استمر العمل في مشروعات مماثلة تحت عناوين مدنية أو مناخية.
من ضمنها مشروع "ستورم فيوري" الذي أطلقته الولايات المتحدة في الستينيات لمحاولة إضعاف الأعاصير المدارية من خلال تلقيح السحب لتقليل شدّتها. لكن النتائج المتفاوتة، وعدم القدرة على عزل أثر التلقيح عن التغيرات الطبيعية، أدّيا إلى تعليق المشروع نهائيًا في عام 1983.
محاولة تجميد السباق
لكن هذا الإيقاف، كما يوضّح جاستن كانفيل، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كارنيجي ميلون، لم يكن نتيجة قناعة علمية أو استجابة لضغط شعبي، بل هو ناجم عن إدراك إستراتيجي في واشنطن بأن السباق قد ينقلب ضدها.
ففي أعقاب عملية "باباي"، سعى البيت الأبيض إلى مواصلة تطوير تقنيات التعديل البيئي، بل اقترح في عهد نيكسون مضاعفة تمويل التجارب، لكن تقارير استخباراتية لاحقة رجّحت أن الاتحاد السوفياتي بات يمتلك برنامجًا أكثر اتساعًا وتسارعًا، وأن معرفته العلمية في هذا المجال صارت تضاهي نظيرتها الأميركية.
ويرى كانفيل أن صانعي القرار الأميركيين وجدوا أنفسهم أمام خيار صعب، إما تعميق الاستثمار في تقنية مثيرة للجدل، أو الدفع نحو حظر دولي استباقي يمنع الخصم من تطويرها إلى حد يصعب ردعه، فاختارت واشنطن المسار الثاني.
ومع ذلك، لم يتخلَّ التفكير العسكري الأميركي عن تناول هذا المجال بالبحث، ففي عام 1996، أصدر مركز قيادة القوات الجوية الأميركية دراسة داخلية بعنوان: "الطقس كقوة مضاعِفة: امتلاك الطقس عام 2025″، تناولت بشكل استشرافي إمكانية تحويل الطقس من متغيّر طبيعي إلى أداة إستراتيجية تتحكم في مخرجات ساحة المعركة المستقبلية.
وقد طمحت هذه الوثيقة إلى استخدام الطقس في تعزيز العمليات الصديقة وتعطيل عمليات العدو، فضلا عن تحقيق هيمنة كاملة على الاتصالات العالمية والتحكم في الفضاء المضاد، من خلال مجموعة من التطبيقات التي تتجاوز نطاق الاستمطار التقليدي، ومن أبرزها:
إعلان
تحفيز المطر أو الثلوج في مناطق مختارة بدقة، مثل مناطق العدو أو ساحات العمليات، من خلال تقنيات "بذر السحب"، أي نثر مواد كيميائية داخل الغيوم لتشجيعها على المطر.
تفريق الضباب في ممرات الطيران أو فوق القواعد العسكرية، عبر رشّ جسيمات صغيرة تسرّع تجمع قطرات الضباب، مما يفتح الرؤية ويسمح بالإقلاع والهبوط في ظروف جوية سيئة.
التحكم بالصواعق ، إما عبر تفريغها مبكرًا في أماكن آمنة، أو توجيهها لتصيب أهدافا معادية.
تسخين الجو باستخدام غبار الكربون ، وهي فكرة تقوم على نشر جزيئات سوداء دقيقة في الهواء لامتصاص حرارة الشمس، مما يغيّر تدفق الهواء والضغط الجوي، وبالتالي قد يؤثر على تكوّن السحب أو مسارها.
إنشاء "مرايا كهرومغناطيسية" في السماء ، من خلال التلاعب بطبقة الأيونوسفير، وهي طبقة مرتفعة جدا في الغلاف الجوي تحتوي على جسيمات مشحونة كهربائيا، وتساعد في عكس موجات الراديو، مما يعني أن تكوين مرايا كهرومغناطيسية خلالها قد يعمل على قطع الاتصالات عن الخصم.
صراع في الغلاف الجوي
تدعم وثائق علمية أخرى الطرح الذي قدمه كانفيل، بل إن بعضها يؤكد على أن برامج موسكو البحثية في هذا المجال تجاوزت بالفعل ما عرفه الغرب في تلك الحقبة.
فبحسب "مراجعة أبحاث تعديل الأيونوسفير" التي أعدّها الفيزيائي الأميركي لويس دانكن، بدأت الأبحاث السوفياتية حول تعديل طبقة الأيونوسفير منذ خمسينيات القرن العشرين، وركّزت على تسخين مناطق محددة من الغلاف الجوي العلوي باستخدام موجات راديو عالية التردد.
وقد استُخدمت هذه الموجات إما بشكل رأسي مباشر نحو السماء، أو بزوايا مائلة لزيادة فعالية التداخل مع الجسيمات المشحونة. وهي التقنية التي شكّلت لاحقًا الأساس لتجارب الولايات المتحدة في مشروعها الشهير "هارب" (HAARP).
وإلى جانب ذلك، استخدم السوفيات موجات ميكروويف شبيهة بتلك المستخدمة في الأفران المنزلية، كما أجروا تجارب على التلاعب بالمجالات المغناطيسية في الغلاف الجوي لتعزيز التأثيرات المنشودة.
وتشير الوثيقة نفسها إلى أن مفهوم "المرآة الأيونوسفيرية الصناعية"، طُرح للمرة الأولى في السبعينيات على يد الفيزيائي الروسي أناتولي غوريفيتش، بغرض التحكم في بيئة الاتصالات والرادارات وتوجيهها أو تعطيلها.
وتعدّ روسيا اليوم بين القوى الرائدة في أبحاث "صناعة الطقس". ويحذر تقرير حديث صادر عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، أن موسكو قد تتجه خلال هذا العقد إلى استخدام تقنيات تُعرف باسم "الهندسة الشمسية للمناخ" لإحداث اضطرابات متعمّدة في الأجواء الأوروبية، دون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية التقليدية.
ومن أبرز التقنيات التي تمتلكها موسكو لهذا الغرض، ما يُعرف بـ"حقن الستراتوسفير"، وهي عملية تعتمد على إطلاق جسيمات دقيقة في طبقة الستراتوسفير، وهي الطبقة الثانية من الغلاف الجوي المحتوية على طبقة الأوزون، والتي تمتد بين 10-50 كيلومترًا فوق سطح الأرض.
وتشير الدراسات إلى أن نشر جسيمات مثل مركبات الكبريت، قد يؤدي إلى عكس جزء من أشعة الشمس وتقليل حرارة الأرض في مناطق محددة. كما يُعتقد أن موسكو مهتمة أيضًا بتقنيات أخرى، مثل تعديل طبيعة السحب فوق المحيطات لجعلها أكثر انعكاسية، وهو ما من شأنه تقليل كمية الحرارة الممتصة، وفتح الباب أمام توجيه الظروف المناخية لأغراض إستراتيجية.
ورغم أن هذه الأساليب طُورت بالأساس لمواجهة الاحتباس الحراري، فإن استخدامها لأغراض عدائية قد يخلّف آثارًا مدمرة، تتراوح بين جفاف وفيضانات إلى اضطرابات زراعية تهدد الأمن الغذائي والاقتصادي. كما تكمن خطورتها في صعوبة رصدها أو إثبات الجهة المسؤولة عنها، في ظل غياب قواعد دولية واضحة.
بدورها، بدأت الصين، منذ خمسينيات القرن الماضي، العمل على مشروع موازٍ لـ "ستورم فيوري" الأميركي، لكنه سرعان ما تطوّر ليصبح أكبر برنامج تعديل الطقس في العالم، يعمل به أكثر من 37 ألف شخص بين علماء وفنيين، بحسب تقارير غربية حديثة.
وقد استخدمت الصين بالفعل تقنيات الاستمطار والتفريق الجوي في مناسبات حساسة، أبرزها أولمبياد بكين 2008، حيث عمدت السلطات إلى تفجير مركبات كيميائية في السحب على أطراف العاصمة لإفراغها من الأمطار قبل أن تصل إلى مواقع الاحتفالات.
وفي عام 2020، أعلنت بكين عزمها توسيع نطاق مشروعها التجريبي ليغطي أكثر من 5.5 ملايين كيلومتر مربع، أي ما يفوق مساحة الهند بأكملها. وقد باتت عمليات "بذر السحب" جزءًا من سياسات الدولة في مواجهة الكوارث المناخية وتوزيع الموارد، حيث تُستخدم تقنيات الاستمطار والتفريق الجوي لتوجيه الطقس نحو أهداف محددة؛ كتعزيز الهطول في مقاطعات تعاني الجفاف، أو تفادي الأمطار في مدن مكتظة أو مواقع إستراتيجية. ويُطلق بعض الباحثين على هذا البرنامج اسم "بذور" (Seeds)، في إشارة إلى السحب المُلقّحة صناعيا والتي باتت تُعامل كأصول قابلة للإدارة.
ورغم اتسام هذه البرامج بطابع مدني، فإنها تثير قلق المراقبين من احتمال استخدامها لأغراض هجومية أو للضغط على دول مجاورة. كما تزداد هذه الشكوك بسبب الطابع المغلق لتلك البرامج التي تخضع لإشراف مباشر من الجيش الصيني.
هارب.. حدود العلم وبداية المؤامرة
في ظلّ بيئة كهذه، تتسم بالغموض المؤسسي والانغلاق المعلوماتي وتداخل الأغراض المدنية والعسكرية، من الطبيعي أن تنشأ نظريات مؤامرة وتكهنات شعبية يصعب دحضها، وأن تصبح كل كارثة مناخية أو ظاهرة غير مألوفة عرضة للتأويل والاتهام.
ولعل المثال الأبرز هو "برنامج أبحاث الشفق القطبي النشط عالي التردد"، المعروف اختصارًا بمشروع "هارب" ، والذي تحوّل من برنامج بحثي لدراسة طبقة الأيونوسفير إلى أيقونة شبه أسطورية في مخيلة المؤمنين بالتحكم في الطقس والكوارث.
تعود الجذور النظرية لـ"هارب" إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين وضع الفيزيائي الأميركي نيكولا تسلا تصوّره الأولي لإمكانية التأثير في الطبقات العليا من الغلاف الجوي باستخدام موجات كهرومغناطيسية. وفي عام 1993، أُطلق البرنامج كمشروع مشترك بين القوات الجوية والبحرية الأميركية، بالتعاون مع جامعة ولاية ألاسكا، ووكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة.
وقد استمر المشروع تحت إشراف الجيش الأميركي حتى عام 2015، حين أعلنت القوات الجوية إغلاقه رسميا، وتسليمه إلى جامعة ألاسكا فيربانكس التي تديره حاليا لأغراض البحث العلمي الأكاديمي.
ويُعدّ "هارب" أحد أقوى أنظمة الإرسال الراديوي عالي التردد المختصة في دراسة الأيونوسفير، وهي الطبقة المشحونة كهربائيا من الغلاف الجوي التي تمتد بين 50-400 كيلومتر فوق سطح الأرض. ولا يعمل النظام باستمرار، بل يتم تشغيله لبضعة أسابيع فقط خلال العام. فمثلًا، لم يُفعَّل البرنامج في عام 2022 إلا 4 مرات.
ورغم ما يُثار من تكهنات حول "هارب"، فإن العلماء يؤكدون بشكل قاطع أن البرنامج لا يمتلك أي قدرة على التحكم بالطقس أو افتعال الزلازل. فالمشروع، كما تشير الجامعات والمراكز البحثية المشاركة فيه، لا يتجاوز كونه برنامجا علميا لدراسة الطبقات العليا من الغلاف الجوي باستخدام موجات راديو عالية التردد. هذه الموجات تُوجّه نحو ارتفاعات تتجاوز 60 كيلومترًا، أي أعلى بكثير من نطاق الطقس الفعلي الذي يتكوّن في طبقتي التروبوسفير والستراتوسفير.
فضلا عن ذلك، لا يوجد أي تفاعل مباشر بين إشارات "هارب" والظواهر المناخية في الطبقات السفلى للغلاف الجوي. كما أن الطاقة التي يبثها البرنامج محدودة للغاية، ولا تكفي إلا لإحداث تغييرات صغيرة ومؤقتة في بقعة ضيقة من الأيونوسفير، بهدف رصدها علميا.
بديل زائف للإصلاح
لكن انتشار الخرافات ونظريات المؤامرة حول استخدام الطقس كسلاح، لا يلغي حقيقة أن تقنيات التلاعب المناخي قد تتحول فعليا إلى أدوات سياسية وأمنية توظفها الدول في سياقات الصراع والتفاوض، وإن كانت ليست بالقدرات الخارقة التي يتخيلها البعض.
فلم تعد الهندسة الجيولوجية الشمسية تُطرح كتقنية بيئية بحتة لتخفيف آثار التغير المناخي، بل كأداة إستراتيجية تُلوّح بها بعض الدول القوية لحماية مصالحها أو لانتزاع تنازلات سياسية واقتصادية، مما دفع باحثين إلى التحذير من إمكانية تحوُّلها إلى وسيلة ضغط تخدم أجندات ضيقة.
ويشير دان ماركس، باحث أمن الطاقة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إلى أن الحديث عن استخدامها العسكري قد يكون مبكرًا، لكنه لا يستبعد إمكانية توظيفها لاحقًا لأغراض عدائية، مثل استهداف الزراعة أو البنية التحتية أو المياه في سياق صراعات مستقبلية، فمعظم الدول عرضة للطقس المتطرف، وإذا ما بات بالإمكان تعديل هذا الطقس، فقد يصبح سلاحًا يُستخدم بالعكس، من خلال تفاقم الظواهر بدلًا من التخفيف منها.
في هذه الحالة، يمكن توظيف أدوات التلاعب المناخي ضمن تكتيكات ما قبل أو أثناء الحملات العسكرية، سواء بإضعاف مجتمعات عبر الجفاف، أو إغراق مناطق حساسة بفيضانات مدمّرة، مما يجعل السكان أكثر هشاشة واستغلالا من قبل أطراف الصراع.
وفي مثل هذه السياقات، لن يكون الطقس نفسه "سلاحًا" بالمعنى الصريح، بل تُستغل الفوضى التي يخلّفها لصالح أهداف إستراتيجية، في ما يمكن تسميته بـ"حرب المناخ غير المباشرة"، خصوصًا أن قابلية الإنكار تجعل من المناخ أداة مثالية في الحروب الهجينة، التي تمزج بين الوسائل العسكرية والتخريبية غير المباشرة. ففي حين تترك الحرب التقليدية أدلة مادية واضحة، فإن التلاعب بالبيئة يمكن أن يبدو كارثةً طبيعية، مما يصعّب كثيرًا تحميل المسؤولية لجهة بعينها.
وتحذر إحدى الدراسات المنشورة عام 2023، من إمكانية توظيف هذه التقنيات كورقة تفاوضية أو تهديد سياسي واقتصادي ضد دول أخرى. إذ يمكن لدولة ما أن تلوّح باستخدام هذه الأدوات أو تنشرها بالفعل، فتفرض اتفاقيات تجارية تفضيلية أو تطالب بتعويضات نظير وقف التدخل المناخي.
فضلا عن ذلك، يمكن استغلال هذه التكنولوجيا لضمان بقاء أنماط الحياة القائمة على استهلاك الوقود الأحفوري، عبر تخفيف الآثار المناخية دون معالجة جذرية لانبعاثات الكربون، لا سيما في الدول الصناعية الكبرى، أو الدول التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على سوق المواد البترولية، مما يعني تأجيل التحول الحقيقي نحو الطاقات النظيفة، والارتكان إلى الهندسة المناخية بدلًا من اتخاذ خطوات جدية نحو الإصلاح المناخي.
في النهاية، يحذّر الفيلسوف ستيفن جاردنر من اعتبار الهندسة الجيولوجية حلا تقنيا سهلا، ويرى في هذا الإطار مخاطرة أخلاقية وجنوحا نحو قرارات متهورة فيما يسميه "الاستكبار التقني". في كتابه 'أخلاقيات الهندسة الجيولوجية'، يفكك جاردنر الفرضية القائلة إن هذه التدخلات التكنولوجية أقل ضررًا من الكوارث المناخية التي يُفترض أن تُخفَّف.
يقدم جاردنر نقدًا واضحًا مفاده أن الإيمان بالتكنولوجيا باعتبارها قادرة على التحكم بنتائج المناخ يعكس أزمة أخلاقية أعمق، أزمة تنبع من تخلينا عن مسؤولياتنا لصالح أنظمة من صنع أيدينا. هذا النوع من الغرور قد يؤدي إلى نتائج كارثية، وأضرار عابرة للحدود لم تكن مقصودة، وظلم عميق لفئات لا تملك الدفاع عن نفسها.
ويخلص جاردنر في تأملاته الأخلاقية إلى الإشارة أن علينا مقاومة إغراء تحويل الغلاف الجوي إلى ملعب للتكنولوجيا، وتذكّر حدودنا ومسؤولياتنا في مواجهة تعقيد الطبيعة.
إن تحذيره يذكرنا بحقيقة تكرر صداها طوال تاريخ البشر منذ بدأ في إدراك نقاط قوته وتجاهل نقاط ضعفه، فحين تغرينا التكنولوجيا بالاعتقاد أننا قادرون على حل كل شيء، فسنكون أمام مخاطرة حقيقية بصناعة كوارث أسوأ كثيرًا من تلك التي نسعى لتجنّبها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
ثورة البراكين بعد زلزال كامتشاتكا الروسية تثير تفاعل المنصات
شبكات أيقظ زلزال شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية سلسلة براكين متزامنة غير معتادة في المنطقة، مما أحدث مخاوف وتحذيرات وتساؤلات حول هذه الظاهرة الطبيعية. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
حرب على "آلة التفكير" بين الصين وأميركا.. من يبتلع من؟
هذا قرنٌ مفعمٌ بالصراع، بيد أن هذا الصراع فيه بين القوى العظمى لم يعد تقليديًا؛ فلم تعد معادلة القوة الكبرى تُحسب بعدد الدبابات، ولا تُقاس بمَدَيات الصواريخ العابرة للقارات. ما بات يحدّد التوازن اليوم هو حجم السحابة الرقمية، وسرعة المعالج، ومدى دقة الخوارزمية. في عالمٍ انقلبت فيه خرائط الهيمنة من الجغرافيا إلى البيانات، تدور واحدة من أخطر وأعمق المواجهات في التاريخ المعاصر: السباق بين الولايات المتحدة والصين على الزعامة في الذكاء الاصطناعي. هذه ليست منافسة بين شركتين أو مختبرين، بل تنافس حضاري يمتد من أقبية مراكز الأبحاث السرية إلى طوابق البنتاغون ، ومن أبراج بكين إلى جامعاتها التي تفور بعقول جيل جديد. لقد بات الذكاء الاصطناعي، بما فيه من نماذج لغوية، ومسيّرات حربية، وأنظمة معقدة، العدسة التي تُقاس من خلالها المسافة الحضارية بين أمّتين. في العام ٢٠٣٠، تعهّدت الصين صراحة بتجاوز الولايات المتحدة وبلوغ الريادة العالمية في الذكاء الاصطناعي. الردّ الأميركي لم يطل: حزم من التمويل، وسباق محموم على المعالِجات، وتحالفات ضخمة مع شركات وادي السيليكون. هذه المقالة تحكي قصة الصراع المركّب، مفكّكة أدواته ومجالاته: من الجبهة السيبرانية إلى ساحة المعركة، ومن أقبية المختبرات العلمية إلى خوارزميات صناعة الرأي العام. سنغوص في عمق التحولات الاستراتيجية، ونتفحّص ساحات الحروب الجديدة. الساحة الأولى: البرمجيات والمعلومات في سباق التسلح التكنولوجي المعاصر، تتجه كل من الصين والولايات المتحدة بقوة نحو دمج الذكاء الاصطناعي في صميم بنيتها العسكرية، وتحديدًا في أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات والحواسيب والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (C4ISR). لكن الرؤية الصينية تتجاوز مجرد تحديث الأنظمة القائمة؛ ففي فكرها الإستراتيجي، يُعتبر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة حجر الزاوية لدعم اتخاذ القرار، وتحديد الأهداف، بل وحتى شن ما يُعرف بـ"الحرب المعرفية أو حرب الوعي". وفي إطار ذلك، يُطلق الجيش الصيني على المرحلة التالية من العمليات العسكرية اسم "الحرب الذكية" (Intelligentized Warfare)، وهو إطار عمل متكامل يقوم فيه الذكاء الاصطناعي بالربط بين المستشعرات ومنصات الإطلاق، وأتمتة معالجة معلومات ساحة المعركة، وصولًا إلى استهداف عمليات صنع القرار لدى الخصم نفسه. وعلى الصعيد العملي، بدأت شركات الدفاع الصينية تسويق أنظمة تعكس هذه الرؤية، مثل "نظام الضربات الدقيقة الذكي" من شركة "نورينكو". حيث قام هذا النظام أوتوماتيكيًّا بإرسال طائرات مسيّرة خلال مناورات جيش التحرير الشعبي ، مستخدمًا بياناتها الفورية لـ"نمذجة ساحة المعركة، وتتبع الأهداف، ووضع خطط الهجوم، وتوزيع معلومات إطلاق النار، وتنفيذ ضربات المتابعة". تُظهر هذه التجارب طموح بكين لطمس الحدود الفاصلة بين أدوار الإنسان والآلة. ففي مقاطع فيديو من معرض "تشوهاي" العسكري الأخير، اتضح أن سلسلة تتبع الأهداف وتخطيط الضربات بأكملها تقريبًا كانت تتم بشكل أتوماتيكي مستقل، مع اقتصار الدور البشري على إعطاء الموافقة النهائية على الإطلاق. ويؤكد المعلقون الصينيون أن هذه المنظومات المترابطة من الأسلحة والمستشعرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تشكل ما يسمونه "شبكات قتل ديناميكية" عابرة لمختلف ميادين القتال (البرية والبحرية والجوية). خلاصة القول، إن سعي الصين لتوظيف الذكاء الاصطناعي لا يهدف فقط إلى تسريع المهام الروتينية، بل يتعداه إلى تشكيل عقول الخصوم. ويوضح محللون إستراتيجيون أن الكتابات الصينية حول "الحرب الذكية" تركز صراحةً على "الحرب المعرفية أو حرب الوعي"، أي استخدام الذكاء الاصطناعي "للسيطرة المباشرة على إرادة العدو"، بدءًا من كبار القادة وصولًا إلى السكان المدنيين. بعبارة أخرى، لا ترى بكين في الذكاء الاصطناعي أداة للقوة النارية فقط، بل أيضًا للدعاية وعمليات التأثير، علمًا بأنها اتُّهمت مرارًا برعاية حملات تجسس سيبراني متطورة مثل تلك التي تقوم بها مجموعة "APT41" أو "التنين الثنائي". في المقابل، يستثمر الجيش الأميركي كذلك بكثافة في أدوات الذكاء الاصطناعي لحروب عصر المعلومات، ولكن بمنطلقات إستراتيجية مغايرة. يتحدث البنتاغون اليوم عن تحقيق ما يسميه "التفوق القراري" للقادة الميدانيين، وذلك عبر توسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات في كافة أفرع القوات المسلحة. تأتي في صميم هذا التوجه مبادرات أميركية رئيسية مثل "القيادة والسيطرة المشتركة لجميع الميادين" (JADC2)، التي تهدف إلى ربط الأقمار الصناعية والسفن والطائرات والأدوات السيبرانية والوحدات الأرضية في شبكة واحدة متكاملة وسلسة. ويُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه العصب المحوري لهذه المنظومة؛ حيث ستقوم الخوارزميات بدمج المعلومات الاستخبارية من مختلف الميادين (المسيّرات، المستشعرات، الأقمار الصناعية، الاعتراضات السيبرانية، وغيرها) وتقديمها في خلاصة ورؤى فورية للقادة. وكمثال آخر، يوظف "مشروع مايفن" (Project Maven)، وهو ثمرة شراكة سابقة لم تعد قائمة اليوم بين شركة غوغل والبنتاغون، تقنيات "رؤية الآلة" في الطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية في ساحة المعركة للكشف التلقائي عن الأفراد أو المركبات أو الصواريخ ضمن بث الفيديو المباشر. وفي ندوة حول الذكاء الاصطناعي عُقدت مطلع عام ٢٠٢٤ حث كريغ مارتل، رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في البنتاغون، الحاضرين على تخيل "عالم يستطيع فيه القادة المقاتلون رؤية كل ما يحتاجون إليه… دون انتظار تقارير أو عروض تقديمية". بعبارة أخرى، سيقوم الذكاء الاصطناعي بصياغة الوعي الموقفي للقائد بشكل مباشر وفوري. كما تختبر القوات الأميركية العمليات السيبرانية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل الفحص الآلي للشبكات بحثًا عن نقاط الضعف أو التحليل التنبؤي للتهديدات. خلاصة القول، أن النهج الأميركي يركز على الذكاء الاصطناعي باعتباره "مُضاعِفًا للقوة" (Force Multiplier)؛ فهو يعمل على أتمتة التحليلات المُرهِقة، ورصد الأنماط وسط بحر هائل من البيانات القادمة من المستشعرات، وتقديم توصيات سريعة ليتمكن القادة البشر من اتخاذ قراراتهم بشكل أسرع وأكثر فاعلية. (على سبيل المثال، قام سلاح الجو الأميركي بتصميم نماذج أولية لـ"حزم أدوات" ذكاء اصطناعي للقيادة والسيطرة السحابية، بحيث يمكن تحليل بيانات مثل الاتصالات اللاسلكية أو كاشفات الأهداف المتحركة بواسطة أدوات تعمل بالذكاء الاصطناعي). لكن على الرغم من هذا التسابق المحموم، يدرك الطرفان حجم الأخطار الكامنة. ففي حين يخشى المخططون الأميركيون من مغبة الاعتماد المفرط على هذه التقنيات أو تعرضها لهجمات إلكترونية معادية، يحذر المحللون في جيش التحرير الشعبي من أن الثقة المفرطة والوهمية في تحقيق "الهيمنة المعرفية" قد تقود إلى قرارات خاطئة تضلل القيادة. إلا أن المنشورات الرسمية الصينية لا تترك مجالًا للشك في أنها ماضيةٌ بقوة في دمج الذكاء الاصطناعي في صلب عملياتها المعلوماتية والحرب النفسية. تشير دراسة أجرتها مؤسسة "راند" للعقيدة العسكرية لجيش التحرير الشعبي إلى أن الصين أصبحت تعتبر "الحرب النفسية" أحد المكونات الرئيسية للحرب الحديثة، مستفيدةً من أدوات متقدمة كتحليلات البيانات الضخمة وتقنيات مسح الدماغ للتنبؤ بسلوك العدو أو التأثير فيه. وتعكس عقيدة الجيش الصيني تركيزًا متزايدًا على "الحرب المعرفية أو حرب الوعي"، التي تهدف إلى السيطرة على تصورات الخصم وقراراته باعتبارها مفتاحًا لتحقيق النصر. ويُعزّز هذا التوجه بجهود الأفرع الجديدة في الجيش، مثل "قوة الدعم المعلوماتي" و"قوة الدعم الإستراتيجي"، التي توحّد قدراتها في مجالات الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي والاستخبارات الإلكترونية، لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الدعاية، والرسائل المضادة، والحرب الإلكترونية. وفي هذا الإطار الأوسع لحرب المعلومات، تستخدم الصين والولايات المتحدة الذكاء الاصطناعي لتحليل الرأي العام ونشر الدعاية أو المعلومات المضللة، حيث تُسهم الروبوتات (البوتات) المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تضخيم الروايات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتصميم محتوى "تزييف عميق" (deepfake) لتشويه سمعة القادة، وتنفيذ عمليات نفسية (psyops) موجهة لفئات ديموغرافية محددة. وقد حذر تقرير حديث من مايكروسوفت من عمليات تأثير صينية تعتمد على محتوى من إنتاج الذكاء الاصطناعي للتأثير في الرأي العام في الولايات المتحدة ودول أخرى. في المقابل، تبقى العقائد العسكرية الأميركية الرسمية أكثر تحفظًا في تناولها المعلن للحرب المعلوماتية، إذ تركز "العقيدة المشتركة" الأميركية على "العمليات المعلوماتية" -بما في ذلك العمليات النفسية، والحرب الإلكترونية، والخداع السيبراني- ولكن في إطار دفاعي وإستراتيجي إلى حد كبير، مع تركيز الاستثمارات الأميركية على مواجهة حملات التضليل الأجنبي وكشف تقنيات التزييف العميق والروبوتات الخبيثة باستخدام الذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، يركز الجنرالات الأميركيون على التقنيات التي تساعد الجنود على الرؤية والرمي، بدلًا من استهداف العقول بشكل صريح. كما لم تتبنَّ أي وثيقة إستراتيجية أميركية رسمية حتى الآن دعوات صريحة مشابهة للرؤية الصينية بضرورة "السيطرة على إرادة العدو". ومع ذلك، تبقى التقنيات الأساسية التي يستخدمها الطرفان -مثل التنقيب في البيانات، وتحليل المشاعر، والرسائل الموجهة- متشابهة إلى حد كبير. فوكالات الدفاع الأميركية تمول أبحاثًا في الجوانب المعرفية للذكاء الاصطناعي (مثل أبحاث وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة "داربا"، حول الإدراك البشري، وكشف الكذب القائم على الذكاء الاصطناعي) ومكافحة الدعاية المعتمدة عليه. لكن الفارق الجوهري يكمن في أن استخدام الذكاء الاصطناعي في السياق العسكري الأميركي محكومٌ بقيود قانونية وأخلاقية أكثر صرامة، مثل السياسات التي تفرض وجود "سيطرة بشرية فاعلة" على الأسلحة الفتاكة. على النقيض من ذلك، تعمل المنظومات الصينية بتوجيه مباشر من الدولة وفي ظل قيود محدودة جدًّا على الخصوصية، مستخدمةً شبكات المراقبة الداخلية الهائلة في الصين كحقل تجارب لتدريب وتطوير خوارزمياتها. الساحة الثانية: الأسلحة والعتاد تسعى كل من القوتين (الولايات المتحدة والصين) إلى دمج الذكاء الاصطناعي في العتاد العسكري المادي من أجل إنتاج جيل جديد من الأسلحة الآلية المستقلة وشبه المستقلة، من السماء إلى الأرض، بدءًا من أسراب الطائرات المسيّرة جوًّا، وصولًا إلى "الكلاب الآلية" والمركبات الأرضية الموجّهة، وذلك بهدف تقليل الأخطار على الجنود ومضاعفة حجم القوات. يحتدم السباق بشكل خاص في مجال الطائرات المسيّرة المستقلة. يمتلك الجيشان الأميركي والصيني سلالات متعددة من الطائرات المسيّرة المخصصة لمهام المراقبة والهجوم والتمويه. ففي الصين -التي تعد مُصَدِّرًا رئيسيًّا للطائرات المسيّرة- تنتج شركتا "تشنغدو" و"CAIC" طائرات مسلحة مسيّرة مثل سلسلة "وينغ لونغ" و"CH"، التي تم تصديرها وشوهدت بالفعل في مناطق الصراع (مثل أوكرانيا والشرق الأوسط). في المقابل، يستخدم الجيش الأميركي طائرات "إم كيو-٩ ريبر" و"إم كيو-١ بريديتور" لتوجيه ضربات دقيقة، إضافة إلى منصات تجريبية أخرى مثل "إم كيو-٢٥ ستنجراي" (طائرة تزويد وقود مستقلة). ولكن الرؤية تتجاوز مجرد استخدام طائرات فردية، لتصل إلى مفهوم "أسراب المسيّرات". ووفقًا لتقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس في يناير/كانون الثاني ٢٠٢٤ فإن المخططين العسكريين في الولايات المتحدة والصين "يستعدون لنوع جديد من الحروب"، تعمل فيه الطائرات المسيّرة الجوية والقوارب المسيّرة البحرية المدعومة بالذكاء الاصطناعي "معًا مثل أسراب النحل" لسحق العدو. في مثل هذه السيناريوهات، يمكن لمشغل واحد أن يشرف على عشرات المسيّرات في آن واحد، حيث تكون المجموعات مبرمجة مسبقًا للاستطلاع أو الهجوم أو تغيير مسارها دون الحاجة إلى إدارة تفصيلية دقيقة، وقد كان هجوم أسراب المسيّرات الأوكرانية على قاذفات الصواريخ الروسية في منتصف ٢٠٢٥ مثالًا عمليًّا على هذه التكنولوجيا ذات التكلفة المنخفضة نسبيا والكفاءة العالية. لهذه الأسباب يؤكد الإعلام والمحللون في الصين أن أسراب المسيّرات أصبحت "حتمية"، مما يجعل تطويرها ضرورة قصوى. وفي الواقع، تشير تقارير تايوانية حديثة إلى أن الجيش الصيني قد حشد عشرات الآلاف من الطائرات المسيّرة، ويستكشف إضافة قوارب وغواصات مسيّرة إلى ترسانته العسكرية. وردًّا على ذلك، موّل البنتاغون الأميركي صراحةً جهودًا لإنتاج آلاف الطائرات المسيّرة الرخيصة والمعدة للاستخدام مرة واحدة، وذلك كقوة ردع حول تايوان، بحجة أن مواجهة الحشد الصيني الهائل من المسيّرات يتطلب من أميركا أيضًا إغراق ساحات المعارك المحتملة بمركبات آلية منخفضة التكلفة، وهو ما أسماه الأدميرال "سامويل بابارو" قائد القيادة الأميركية في المحيطين الهادي والهندي، خطّة تحويل مضيق تايوان إلى "جحيم بلا طيارين". خلاصة القول، رغم أنه من غير الواضح أي جانب يمتلك التفوق التقني، فإن كليهما ينظر إلى تكتيكات أسراب الطائرات المسيّرة كسباق تسلح جديد أشبه بالحرب الباردة. وكما يصف أحد المحللين الوضع، فإن "احتواء أسراب المسيّرات… سيكون أصعب بكثير من احتواء الأسلحة النووية"، خاصة إذا وقعت في أيدي جهات فاعلة من غير الدول. أما على الأرض، فقد كشفت شركات الروبوتات في كلا البلدين عن مركبات موجهة تتخذ أشكالًا متنوعة، بعضها يحاكي الحيوانات والبعض الآخر يأتي على هيئة صناديق. وكانت "الكلاب الآلية" الرباعية الأرجل هي الأكثر لفتًا للأنظار. ففي الولايات المتحدة، عقدت شركات مثل "جوست روبوتكس" (Ghost Robotics) و"بوسطن ديناميكس" (Boston Dynamics) شراكات مع الجيش لأغراض تأمين القواعد والاستطلاع. وكمثال على ذلك، قامت القوات الجوية والفضائية الأميركية في أوائل عام 2023 بنشر روبوتات رباعية الأرجل في قواعد مثل "تيندال" و"كيب كود" لتسيير دوريات في محيطها. وتحمل هذه الروبوتات الأميركية أجهزة استشعار (مثل الكاميرات الحرارية والرادارات) ووسائل ردع غير فتاكة كرذاذ الفلفل أو صفارات الإنذار، لكن السياسة الأميركية الحالية تمنع تسليحها بأسلحة فتاكة. في المقابل، كانت الشركات الصينية أكثر جرأة. في تدريبات عسكرية بثها التلفزيون عام ٢٠٢٤، ظهر جنود من جيش التحرير الشعبي الصيني وهم يتدربون على اقتحام الغرف بمساعدة كلب آلي صيني -مُصنّع من قبل شركات صينية مثل "ينيتري"- مثبتة عليه بندقية هجومية قياسية، قادر على دخول المباني بشكل مستقل لقمع الأهداف عن بعد. كما أظهرت مقاطع فيديو من شركة "كيستريل ديفينس" الصينية روبوتات رباعية الأرجل يتم إنزالها جوًّا بواسطة طائرات مسيّرة، وهي مسلحة برشاشات أو ذخائر تجسسية انتحارية أو قاذفات قنابل. ولهذا، يلاحظ المحللون أن الجيش الأميركي أصبح "في سباق محموم لتسليح الروبوتات الرباعية الأرجل" لمواكبة التطورات الصينية. لا يقتصر السباق على الروبوتات الكلبية، بل يمتد ليشمل المجال الأوسع للمركبات الأرضية الموجّهة. على سبيل المثال، أجرى الجيش الأميركي تجارب على مركبات "ميول" (Mule)، وهي بمثابة حمّالات آلية لنقل العتاد، إضافة إلى دبابات تعمل بدون طاقم. كما أظهرت تحديات مثل "التحدي تحت الأرضي" الذي أطلقته وكالة "داربا"، ومناورات عسكرية حديثة، قدرة الروبوتات الأميركية ذات العجلات والجنازير (مثل روبوت "أطلس" في نسخته ذات العجلات) على دخول الأنقاض والكهوف. ولدى الصين مشاريع مكافئة؛ إذ تعمل كبرى شركات الدفاع مثل "نورينكو" و"أفيك" على تطوير مركبات أرضية مجنزرة لمرافقة المشاة أو إلقاء قنابل الدخان أو حمل أجهزة الاستشعار إلى المناطق الخطرة تحديدا في البيئات الحضرية. ولديها أيضًا نماذج أولية لروبوتات شبيهة بالبشر. علاوة على ذلك، تتصدر الصين مجال المسيّرات البحرية، حيث تختبر سفنًا سطحية وغواصات مسيّرة. فقد أوردت وسائل الإعلام الصينية تقارير عن تجارب بحرية لقوارب هجومية شبحية مستقلة وغواصات استطلاع، يُزعم أنها موجهة بالكامل بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي. في المقابل، تعمل البحرية الأميركية بدورها على تطوير نماذج أولية لأسراب من المسيّرات فوق سطح الماء وتحته، كما يتجلى في برامج مثل "أوركا" (Orca) و"أسطول الأشباح" (Ghost Fleet Overlord). إجمالًا، يبدو سباق العتاد أشبه بماراثون من النماذج الأولية والبرامج الرائدة. وقد أصبح جيشا البلدين يعرضان بانتظام فرقهما الآلية في المناورات العسكرية. ففي الصين، تتفاخر وسائل الإعلام الرسمية بمناورات "التنين الذهبي" التي يجريها جيش التحرير الشعبي، حيث استُخدمت كلاب آلية مزودة بأسلحة وطائرات كوادكوبتر مجهزة بأنظمة تشويش لاستطلاع البيئات الحضرية. أما في الولايات المتحدة، فتُبرز البيانات الصحفية وطلبات الميزانية الخاصة بأفرع الجيش عشرات الاختبارات التي أُجريت على الكلاب الآلية والطائرات المسيّرة. ففي غضون ثلاث سنوات فقط، وسّع الجيش الأميركي استخدام الكلاب الآلية من مجرد تجارب محدودة إلى "عدد متزايد من التطبيقات" باعتبارها أدوات "لمضاعفة القوة". كما تبرز في هذا السياق الشراكات مع شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون وغيرها من الشركات العالمية. ففي الجانب الأميركي، تتعاون شركات مثل "شيلد إيه آي" (Shield AI) و"ريثيون" (Raytheon) و"جوست روبوتكس" (Ghost Robotics) مع وزارة الدفاع. كما يمتلك عمالقة التكنولوجيا في الصين مثل "هواوي" و"آي فلاي تيك" (iFlyTek) و"دي جيه آي" (DJI) (عبر شركات تابعة لها) وحدات متخصصة تعمل على تطوير الروبوتات العسكرية. باختصار، لقد ضاقت الفجوة التكنولوجية بين الجانبين. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تطور منصات فريدة (مثل الطائرات المسيّرة المرافقة للمقاتلات من بوينغ أو الروبوتات الثقيلة من بوسطن ديناميكس)، إلا أن قدرة الصين على الإنتاج الضخم للروبوتات المنخفضة التكلفة (سواء المسيّرات أو المركبات الأرضية) وسوقها المحلية الضخمة، تزيد بسرعة من أعدادها المنتشرة في الميدان. وكما يحذر أحد محللي الدفاع، فإن التقدم الذي يحرزه الطرفان في عتاد الأسلحة الذكية "يجعل من هذه القضية مسألة تمس الاستقرار العالمي"؛ فكلما انتشرت الأسلحة المستقلة، زاد خطر التصعيد غير المقصود أو انتشارها خارج السيطرة. الساحة الثالثة: النماذج والتطبيقات غير الحربية في ساحة بعيدة كل البعد عن الدبابات والطائرات الحربية، يتجلى سباق التقدم العلمي في عالم الذكاء الاصطناعي بوضوح، خاصةً في ميدان الذكاء الاصطناعي التوليدي ونماذج اللغة الكبيرة (LLMs). فلقد أصبحت روبوتات المحادثة والخدمات الذكية أيقونات دالة على الريادة والتفوق التقني للدول. ففي المعسكر الأميركي، تبرز أسماء لامعة مثل "تشات جي بي تي" من شركة "أوبن أيه آي" و"جيميني" من غوغل، و"كلود" من أنثروبيك. أما في الصين، فقد أطلقت شركات الذكاء الاصطناعي المحلية عمالقتها المنافسين، ومنهم على سبيل المثال: "ديب سيك" (وهو روبوت محادثة أطلقته شركة ناشئة في مدينة هانغتشو)، و"إرني بوت" من بايدو، و"كوين" من علي بابا، و"سبارك ديسك" من آي فلاي تيك، و"سينس نوفا" من سينس تايم، وغيرها الكثير. وتخضع هذه النماذج للمقارنة ليس فقط بناءً على قدراتها التقنية -كفهم اللغة، والاستنتاج المنطقي، والمهارات المتعددة اللغات- بل أيضًا بناءً على الميزات والخصائص التي تصوغها الاعتبارات السياسية. أما على صعيد الأداء الفعلي، فقد أعلنت النماذج الصينية تحقيق قفزات نوعية. على سبيل المثال، كشفت شركة "ديب سيك"، وهي شركة ناشئة تأسست عام ٢٠٢٤ في مقاطعة جيجيانغ، عن نموذجها "ديب سيك آر ١" الذي يضم مليارات المعلمات، وتزعم أن قدراته في الرياضيات والاستدلال تضاهي أحدث نماذج شركة "أوبن أيه آي". ويؤكد مطورو النموذج أن "ديب سيك" يتفوق على "تشات جي بي تي" و"كلود" في اختبارات الاستدلال المنطقي بنسبة تتراوح بين ٧٪ و١٤٪، وأن تكلفة تدريبه لا تتجاوز جزءًا ضئيلًا من تكلفة منافسيه (حوالي ٦ ملايين دولار مقابل أكثر من ١٠٠ مليون دولار). وكذلك خلال المؤتمر الصيني للذكاء الاصطناعي لعام ٢٠٢٤، أعلنت الشركات المحلية عن تكافؤ نماذجها مع النماذج الغربية أو حتى تفوقها عليها. فقد أعلنت بايدو أن نموذجها "إرني بوت" يعادل أداء "جي بي تي-4" في اللغة الإنجليزية، وصرحت علي بابا بأن نموذجها "كوين-ماكس" حقق نتيجة تعادل "جي بي تي-4 توربو"، وكشفت آي فلاي تيك عن "سبارك ديسك 4.0" الذي يحقق "تقدمًا ملحوظًا" على "جي بي تي-4 توربو" في مجالات توليد النصوص، والاستدلال، والفهم المتعدد اللغات. تجدر الإشارة إلى أن بايدو وعلي بابا تعتمدان غالبًا على مقاييس أداء داخلية، مما يدفع الخبراء الغربيين إلى الدعوة لتوخي الحذر عند تقييم هذه الادعاءات. ومع ذلك، فإن هذه التصريحات تؤكد على الأقل أن نماذج اللغة الصينية الكبيرة تلحق بالركب بخطى متسارعة. ولتبيان الأثر والتهديد الاقتصاديين؛ ذكرت وسائل الإعلام المتخصصة في التكنولوجيا أن تطبيق "ديب سيك" للهواتف الذكية تصدر قوائم متجر التطبيقات الأميركي فور إطلاقه، مما أثر لفترة وجيزة في ثقة المستثمرين في شركة إنفيديا، عملاق صناعة الرقائق الإلكترونية وأدى إلى انهيار ملحوظ وحاد في سوق الأسهم الأميركية بمقدار 2 تريليون دولار. إلا أن التشابه بين المعسكرين تجاوز مجرد القدرات التقنية الخام وتعمق ليشمل المبادئ الأساسية. تخضع نماذج اللغة الصينية لرقابة حكومية صارمة، فجميع روبوتات المحادثة الصينية المتاحة للجمهور مبرمجة لحجب أي محتوى يُعتبر حساسًا من الناحية السياسية. وكما أظهر تحقيق لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، فإن روبوت "ديب سيك" يرفض الإجابة حتى عن أسئلة واقعية حول أحداث ميدان تيانانمين عام ١٩٨٩. كما ترفض العديد من النماذج الصينية بشكل صريح مناقشة قضايا الدين أو العرق أو أي نقد موجه للحزب الشيوعي. فبموجب القانون، يجب أن تتماشى مخرجاتها مع "القيم الاشتراكية الأساسية"، وأن تتجنب "الشائعات" والأفكار "التخريبية". بشكل مشابه، تقوم النماذج الأميركية أيضًا بتصفية المحتوى (لحظر خطاب الكراهية، أو تعليمات إيذاء النفس، وما إلى ذلك)، لكنها تسمح بشكل عام بالنقاش السياسي المفتوح بشرط أن يوافق توجهاتها. فمثلا، يدعي المحللون أنه عندما يسأل المستخدم "شات جي بي تي" عن حدث تاريخي، فإنه يحصل على إجابة غنية بالمعلومات، بينما يلجأ نظيراه الصينيان "إرني" أو "ديب سيك" إلى المراوغة أو تقديم إجابة منقحة ومُطهرة. ولكن هذا الادعاء يخالف التجربة الواقعية حيث إن "تشات جي بي تي" يراوغ بالإجابة عندما يتعلق السؤال بالقضية الفلسطينية بل أبعد من ذلك يصل إلى حد التفرقة والتمييز بين حق الفلسطيني في الحرية وحق الإسرائيلي فيها. وهكذا، يشكل التحكم في المحتوى وفرض الرقابة محورًا رئيسيًّا مشتركًا. أما التباين فيكمن في الانتشار في الأسواق. فالنماذج الأميركية مثل "تشات جي بي تي" و"جيميني" و"كلود" ونظائرها تتمتع بانتشار عالمي واسع، حيث تُستخدم في تشغيل مليارات المحادثات الشهرية، وتطوير أدوات للشركات، وتحسين محركات البحث، والمساعدة في الكتابة. أما في الصين، فقد شهد استخدام النماذج المحلية طفرة هائلة خلال العام الماضي. ووفقًا لوسائل الإعلام الرسمية، تضاعف عدد مرات تحميل تطبيق "كوين" من شركة "علي بابا" ليصل إلى ٢٠ مليونًا في غضون شهرين فقط. كما أن الانتشار السريع الذي حققه "ديب سيك" مؤخرًا، على الرغم من التوترات الجيوسياسية، يعد مؤشرًا على الاهتمام العالمي؛ فقد أقبل عليه المستخدمون بكثافة في الصين، بل وفي بعض الدول الأخرى أيضًا، وإن كانت بعض الحكومات، مثل أستراليا وإيطاليا، قد سارعت إلى حظره مؤقتًا لدواعٍ أمنية. واللافت للنظر هنا هو المفارقة الواضحة: فبينما يكاد ينعدم حضور عمالقة الذكاء الاصطناعي الأميركيين في السوق الاستهلاكية الصينية بسبب القيود التنظيمية، نجد أن الشركات الصينية، في المقابل، تسعى بنشاط للترويج لتقنياتها في الأسواق الخارجية. إذ تقوم بدعم مزودي الحلول وعقد الشراكات في الأسواق الناشئة، فعلى سبيل المثال، تقدم شركة هواوي حزمًا متكاملة تضم أدوات الذكاء الاصطناعي مع معداتها لشبكات الاتصالات في أفريقيا. في الواقع، يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي حدود المجالات العسكرية والخدمات الاستهلاكية، ليُحدث ثورة حقيقية في ميادين العلوم والهندسة في كل من الولايات المتحدة والصين. فمن اكتشاف الأدوية وتصميم المواد إلى المحاكاة الفيزيائية، يستفيد الباحثون في كلا الجانبين من تقنيات تعلم الآلة لمعالجة أعقد المشكلات. فمثلا في مجال اكتشاف الأدوية والطب الحيوي، يُسرّع الذكاء الاصطناعي من وتيرة البحث عن علاجات جديدة. ففي الولايات المتحدة، تستخدم عشرات شركات التكنولوجيا الحيوية تقنيات التعلم العميق لتصميم الجزيئات الدوائية أو التنبؤ بالبنى البروتينية. ويُعد "ألفا فولد" (AlphaFold) الذي طورته شركة "ديب مايند" (DeepMind) التابعة لغوغل، المثال الأشهر على ذلك خصوصًا بعد حصول مؤسسها على جائزة نوبل في الكيمياء بسبب "ألفا فولد"؛ فهو يتنبأ بدقة مذهلة بكيفية طي البروتينات، ويُستخدم على نطاق واسع في أبحاث وتطوير الأدوية عالميًّا. كما تموّل مؤسسات أميركية مرموقة مثل معاهد الصحة الوطنية (NIH) والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF) مشاريع ضخمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في مجالات علم الجينوم، والطب الشخصي، والتأهب للأوبئة (مثل منصة الوقاية من الجوائح التابعة لوكالة "داربا"). بدورها، تستكشف المختبرات الدفاعية مثل "لوس ألاموس" و"أرغون" استخدامات الذكاء الاصطناعي في الرصد البيولوجي وتصميم اللقاحات. ولم تتخلف الصين عن الركب، بل حققت قفزات نوعية في هذا المجال. إذ تتعاون الشركات الصينية الناشئة (مثل شركة "Insilico Medicine" التي تعود جذورها إلى هونغ كونغ، ومختبرات تينسنت، وغيرها) والشركات الحكومية مع عمالقة صناعة الأدوية لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، أعلنت شركة "Insilico Medicine" في عام ٢٠٢٤ أن عقارها الذي تم تصميمه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي لعلاج مرض رئوي نادر، قد دخل المرحلة الثانية من التجارب السريرية في كل من الصين والولايات المتحدة في وقت واحد، وهي سابقة عالمية لدواء مطوّر بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي. ويشير الرئيس التنفيذي للشركة إلى أن "المنهجية القائمة على الذكاء الاصطناعي" قد اختصرت الجداول الزمنية للتطوير بشكل هائل، وأنها "تُبشّر بتحول جذري في هذه الصناعة". وتدعم الأبحاث والتطوير في القطاعين الحكومي والخاص في الصين هذه القفزات؛ فوزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية لديها مشاريع رئيسية في مجال الطب المعتمد على الذكاء الاصطناعي (مثل المستشفيات الذكية وقواعد بيانات الأهداف الدوائية). كما تُجري الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع، التابعة للجيش الصيني، أبحاثًا في الذكاء الاصطناعي الطبي المخصص لإصابات الميدان والمراقبة الصحية. وبشكل عام، يلاحظ المحللون أن الصين تجري اليوم تجارب سريرية أكثر من الولايات المتحدة، وأن قطاع التكنولوجيا الحيوية فيها قد بدأ "يحدد وتيرة التقدم" على الساحة العالمية. خلاصة القول، يضخ كلا البلدين موارد هائلة في مسارات تطوير الأدوية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مع إظهار الصين حماسًا خاصًّا في مجالي تصميم اللقاحات ودمج الطب الصيني التقليدي في هذه المنظومة الحديثة. وفي مجال هندسة المواد، تؤدّي نماذج الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًّا في البحث عن مركبات مبتكرة وتحسين عمليات التصنيع. أطلقت الولايات المتحدة في هذا الصدد "مبادرة الجينوم للمواد" (Materials Genome Initiative) عام ٢٠١١ بهدف توظيف الحوسبة والبيانات لتسريع وتيرة اكتشاف المواد الجديدة. واليوم، تشكّل أساليب الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في هذه الإستراتيجية. إذ تستخدم المختبرات الوطنية (كمشروع المواد في مختبر لورانس ليفرمور) تقنيات تعلم الآلة للتنبؤ بخصائص السبائك والبوليمرات ومواد البطاريات الجديدة. وعلى الصعيد الأكاديمي، توظف فرق بحثية في جامعات مرموقة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهارفارد الشبكات العصبية لتصميم المحفزات الكيميائية ومحاكاة نمو البلورات. وتحذو الصين حذو هذا النهج، حيث موّلت حكومتها مراكز متخصصة في "جينوم المواد" تجمع بين قدرات الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، تنشر جامعة تسينغهوا والأكاديمية الصينية للعلوم أبحاثًا غزيرة حول تصميم المواد الموجَّه بتعلم الآلة. وقد أشار تحليل أوروبي حديث إلى أن "الصين قد تبوأت الصدارة في مجال الأبحاث القائمة على الذكاء الاصطناعي" بشكل عام، ويشمل ذلك علوم المواد[31]. وينعكس هذا التقدم في القطاع الصناعي الصيني أيضًا، فشركات مثل هواوي وبايدو تمتلك مصانع ذكية، كما تستخدم شركات ناشئة مثل "بروبساي" (ProbSci) في شنغهاي الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بخصائص المواد. والجدير بالذكر أن كلا البلدين يستفيدان من مبادرات البيانات الضخمة (مثل قاعدة بيانات "مشروع المواد" المفتوحة في الولايات المتحدة، وقاعدة البيانات الوطنية للمواد في الصين)، التي تُعتبر بمثابة الوقود الذي يغذي نماذج الذكاء الاصطناعي ويزيد من دقتها وفعاليتها. في ميادين الفيزياء والمحاكاة المناخية، يُسرّع الذكاء الاصطناعي من وتيرة إيجاد حلول للمعادلات الرياضية المعقدة. ففي الولايات المتحدة، توظف المختبرات الكبرى (مثل مختبرات وزارة الطاقة، ووكالة ناسا، والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (نوا) الذكاء الاصطناعي في نمذجة المناخ، والفيزياء الفلكية (كتحليل بيانات التلسكوبات الفضائية)، والمحاكاة النووية. كما تموّل وزارة الطاقة الأميركية شراكات بحثية متخصصة (مثل معهد "الذكاء الاصطناعي لتغير المناخ"). وعلى صعيد مماثل، تستخدم الصين الذكاء الاصطناعي في مشاريعها العلمية العملاقة؛ حيث تستعين الأكاديمية الصينية للعلوم بتقنيات تعلم الآلة في أبحاث الاندماج النووي (ضمن تعاونها في مشروع "إيتر" الدولي) وفي تحليل البيانات الهائلة الواردة من منشآت ضخمة مثل تلسكوب "فاست" الراديوي أو مصادم بكين للإلكترون والبوزيترون. وعلى سبيل المثال، تساعد الخوارزميات الذكية في رصد موجات الجاذبية ومحاكاة اندماج الثقوب السوداء ضمن مشاريع مشتركة بين الصين والولايات المتحدة في الفيزياء الفلكية. وفي مجال التنبؤ بالطقس، أصبحت كل من إدارة "نوا" الأميركية وإدارة الأرصاد الجوية الصينية تدمج نماذج الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة تنبؤاتها. وتبقى هناك جبهة أخيرة بالغة الأهمية، وهي توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم عمليات البحث والتطوير العسكري نفسها، بما يتجاوز مجرد تصميم الأسلحة بشكل مباشر. فلدى القوات الجوية الأميركية ووكالة "داربا" برامج تهدف إلى "تسريع وتيرة الابتكار بالذكاء الاصطناعي"، مثل استخدام تعلم الآلة لتصميم أنظمة الرادار أو محركات الطائرات النفاثة عبر الخوارزميات التوليدية. كما يستخدم مختبر أبحاث الجيش الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة سلاسل الإمداد وجدولة أعمال الصيانة. وكذلك، تطبق وكالات البحث والتطوير العسكري في الصين الذكاء الاصطناعي في مختبراتها؛ حيث كشفت الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع التابعة لجيش التحرير الشعبي عن رقائق إلكترونية دقيقة ومخططات أولية لسفن حربية تم تصميمها كليًّا بواسطة الذكاء الاصطناعي. كما تنشر مراكز الفكر الدفاعية الصينية أبحاثًا حول ما تسميه "العلوم المعززة بالذكاء الاصطناعي" في سياق التطبيقات العسكرية. تقف وراء جهود تطوير الذكاء الاصطناعي في كل من الصين والولايات المتحدة مبادرات وطنية كبرى واستثمارات ضخمة، إلا أن المشهد المؤسسي في البلدين يختلف جذريًّا. ففي الصين، يُوجَّه البحث العلمي عبر تخطيط إستراتيجي مركزي وتمويل حكومي سخي، وقد أرست "خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل الجديد" (٢٠١٧) الأساس لهذا التوجه، من خلال تخصيص مئات المليارات من اليوان على مدى عشر سنوات لتطوير التقنيات الجوهرية للذكاء الاصطناعي، ودمجه في القطاعات التعليمية، ومراكز الحوسبة، والمختبرات الوطنية مثل معهد بكين للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى إستراتيجية "التكامل العسكري-المدني" التي تعزز التعاون بين المؤسسات المدنية والجيش. وقد وُضع الذكاء الاصطناعي أولوية قصوى في "الخطة الخمسية الرابعة عشرة" (٢٠٢١–٢٠٢٥) و"خطة الابتكار العلمي والتكنولوجي لعام ٢٠٣٠"، مع مشاركة فعالة من عمالقة التكنولوجيا والوزارات في بناء نماذج صناعية متخصصة وقواعد تنظيمية صارمة، خاصة في المجالات الحساسة كالطب والقانون. أما في الولايات المتحدة، فيأخذ الدعم الحكومي طابعًا لا مركزيًّا، إذ يُنسَّق عبر "قانون المبادرة الوطنية للذكاء الاصطناعي" (٢٠٢٠)، وتعتمد البلاد على مزيج من ريادة القطاع الخاص في وادي السيليكون والدعم الفدرالي الذي تقدمه وكالات مثل "NSF" و"NIH" و"DOE"، التي أطلقت عشرات المعاهد المتخصصة بميزانيات تفوق مليار دولار. كما خُصصت عشرات المليارات من الدولارات من خلال "قانون الرقائق والعلوم" (٢٠٢٢) وميزانية البنتاغون، وتدرس مقترحات جديدة بقيمة ٣٢ مليار دولار لتعزيز التفوق الأميركي في مواجهة الصين. وفي هذا السياق، يُعد مشروع "ستارجيت" "Stargate" من أكبر المبادرات الاستثمارية في تاريخ الذكاء الاصطناعي، حيث خصص له مبلغ ٥٠٠ مليار دولار لتطوير بنية تحتية متقدمة للحوسبة وبناء نماذج ذكاء اصطناعي ضخمة بقيادة "أوبن أيه آي" وبدعم من "سوفت بنك" و"أوراكل" وبمشاركة فاعلة من عمالقة التكنولوجيا مايكروسوفت، وإنفيديا، وآرم، وذلك بهدف إبقاء الولايات المتحدة في طليعة سباق الذكاء الاصطناعي. ويستفيد كلا الجانبين من انفتاح المجتمعات العلمية، حيث أظهرت دراسة للمفوضية الأوروبية أن الصين تصدرت من حيث نسبة الأبحاث التي تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي، متفوقة على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من حيث الكم، والابتكار، والتأثير النوعي. إلا أن استمرار هذا التفوق مرهون باستمرار التمويل، وتطوير البنية التحتية، ووضع أطر تنظيمية وأخلاقية متينة تضمن الاستدامة. وفي حين ينشغل الخطاب الغربي بأخطار التحيز والخصوصية والتهديدات الوجودية، يركز المنظمون في الصين على ضمان الاستقرار الاجتماعي والامتثال الأيديولوجي، مما يبرز الفجوة الكبيرة بين البلدين في مقاربات تقنين الذكاء الاصطناعي وأمنه. مستقبل غائم إن سباق الذكاء الاصطناعي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين يتجاوز في أبعاده وتأثيراته مجرد كونه منافسة في قطاع واحد، بل يمتد ليلامس كافة جوانب القوة والنفوذ في العالم. على الصعيد العسكري، بدأ هذا السباق يمحو الفوارق التقليدية بين مفهومي "الهجوم" و"الدفاع"، فأدوات الذكاء الاصطناعي ستكون هي المحرك الأساسي لعمليات المراقبة والهجمات السيبرانية، بل وحتى لتوجيه عقول الأعداء والتأثير فيهم، بنفس قدر أهمية المدافع والصواريخ. أما على صعيد العتاد، فنحن نتجه نحو ساحات معارك مستقبلية تملؤها القوات الآلية المستقلة أسراب المسيرات والمستشعرات الذكية، مما يثير تساؤلات أخلاقية عميقة ويطرح تحديات جديدة حول الاستقرار العالمي. وفي ميدان التكنولوجيا، تعني هذه المنافسة أن الجيل القادم من الحوسبة -المتمثل في النماذج اللغوية الكبيرة ومنصات الذكاء الاصطناعي- سيكون خاضعًا لهيمنة الشركات الأميركية والصينية، وهو ما سيمنحها نفوذًا هائلًا على المحتوى الذي يراه ويتبادله المليارات من البشر عبر شبكة الإنترنت. وعلميًّا، يبشّر هذا السباق بتحقيق طفرات متسارعة في مجالات حيوية كالطب والطاقة والبحوث الأساسية، ولكنه في الوقت نفسه يشعل سباق تسلح من نوع آخر هو سباق في استقطاب ألمع العقول وامتلاك أقوى الحواسيب الفائقة. قد يؤدي هذا التنافس إلى تسريع عجلة الابتكار، ولكنه ينطوي أيضًا على خطر إحداث شرخ في الأنظمة العالمية. وها نحن نرى بالفعل كيف بدأت الأهمية الإستراتيجية للذكاء الاصطناعي تؤثر في الحروب التجارية، وتفرض قيودًا على الصادرات، وتتحكم في وضع المعايير التقنية. يكمن الخطر في أن تؤدي ضغوط المنافسة إلى نشر متهور لأسلحة ذكاء اصطناعي لم تُختبر بعد، أو إلى الدخول في "سباق تسلح في مجال الذكاء الاصطناعي" شبيه إلى حد كبير بسباق التسلح النووي إبان الحرب الباردة. وهذا ما يدفع بعض الخبراء إلى حث القوى العظمى على وضع ضوابط وقواعد مشتركة (فيما يتعلق بالأسلحة المستقلة، والحد من التسلح، ومشاركة البيانات) حتى في خضم تنافسها على النفوذ. إن نتيجة هذا الصراع على الريادة التكنولوجية العالمية ليست محسومة بعد. فلا تزال الولايات المتحدة تتفوق في تصميم عتاد الذكاء الاصطناعي المتطور، وفي مجال البحوث المفتوحة، وريادة الأعمال التقنية. وفي المقابل، تتمتع الصين بمزايا ضخمة من حيث حجم البيانات المتاحة، والتنسيق الحكومي المركزي، وضخامة سوقها المحلية. ويعلمنا التاريخ أن الطفرات الكبرى قد تأتي من أي من الجانبين (أو حتى من دول أخرى أو مختبرات دولية). ولكن الأمر الواضح والمؤكد هو أن المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين أصبحت اليوم بُعدًا محوريًّا في سياسات الأمن والاقتصاد على الساحة الدولية. ومع احتدام هذا الصراع، فإنه لن يحدد مستقبل واشنطن وبكين فحسب، بل سيرسم أيضًا ملامح القواعد والمعايير التي ستحكم تطوير الذكاء الاصطناعي في العالم بأسره


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
الصين تكشف عن روبوتات "ذئاب" قاتلة
عرضت وسائل إعلام محلية اليوم الأربعاء أحدث طراز من الروبوتات العسكرية الصينية التي أُطلق عليها اسم "الذئاب" وهي آلات رباعية الأرجل مزودة بأسلحة نارية، صُممت للتسلل إلى مواقع العدو، وتنفيذ ضربات دقيقة، والعمل بكفاءة في التضاريس الوعرة. وأفادت قناة "سي سي تي في" الرسمية أن هذه الروبوتات تمثل نسخة مطوّرة من نماذج سابقة للكلاب الروبوتية، وتتمتع بقدرة على أداء مهام الجنود في البيئات الخطرة، بهدف تقليص الخسائر البشرية في ساحات القتال. وتستثمر الصين بشكل واسع في قطاع الروبوتات، الذي يرى بعض الخبراء أنها تتفوق فيه على الولايات المتحدة من حيث التطوير والابتكار. وفي إطار استعراض قدرات بكين الدفاعية، حرص الجيش الصيني على إبراز هذه التقنيات المتقدمة، بما فيها الروبوتات الشبيهة بالكلاب، خلال تدريبات مشتركة مع دول مثل كمبوديا. وفي مقطع فيديو بثّه التلفزيون الرسمي اليوم، ظهر أحدث نموذج من "الذئاب" مزوّدا ببندقية مثبتة على الظهر، وهو يتحرك في ساحة معركة وسط سحب الدخان. وأظهرت اللقطات هذه الآلات الرشيقة وهي تصعد السلالم، وتحمل حقائب ظهر ثقيلة، وتنفذ هجمات على أهداف تدريبية بدقة وسرعة. ورغم التشابه الكبير في الشكل بينها وبين الكلاب الروبوتية العسكرية، تتميز "الذئاب" بقدرات محسّنة في مجالي الاستطلاع والهجوم، وفق ما ذكرت القناة التي أوضحت أنها "قادرة على التنقل في بيئات متنوعة، وتنفيذ ضربات دقيقة من مسافة تصل إلى 100 متر". كما أشارت إلى أن هذه الروبوتات ستكون قادرة، في ساحة العمليات، على التنسيق فيما بينها بطريقة تشبه سلوك قطيع الذئاب، من خلال توزيع الأدوار وتنسيق المهام. ويُكلّف "قائد القطيع" بالتمركز في مقدمة الوحدة، لجمع المعلومات عن الأهداف ونقل صور الاستطلاع، فيما تتولى الروبوتات الأخرى مهام إطلاق النار أو نقل الإمدادات والذخيرة. وقال تشونغ جا إيان، الأستاذ المشارك في الجامعة الوطنية في سنغافورة، إن هذه الروبوتات قد تكون مؤشرا على أن ساحة المعركة المستقبلية ستشهد اعتمادا متزايدا على الأنظمة الآلية، وستكون أكثر فتكا. وأضاف أن الكشف عن هذه الروبوتات المتطورة "يأتي جزئيا لغرس الشعور بالفخر الوطني داخليا، ولترهيب الخصوم المحتملين خارجيا".