logo
لماذا فشل ترامب في إخضاع بوتين؟

لماذا فشل ترامب في إخضاع بوتين؟

الجزيرةمنذ 13 ساعات
في زمن تتكاثف فيه أزمات النظام الدولي، وتتعثر فيه موازين الردع التقليدي، تغدو الحرب في أوكرانيا أكثر من مجرد صراع مسلح على تخوم أوروبا الشرقية، إنها لحظة انعطاف في الإدراك الإستراتيجي الأميركي، ومرآة كاشفة لتحول معايير الفاعلية السياسية في عالم ما بعد الهيمنة.
فمنذ أن دخل دونالد ترامب البيت الأبيض متسلحا بوعد انتخابي مفرط في بساطته، يعد بإنهاء الحرب خلال 24 ساعة، بدأ التناقض يتسع بين خطاب الصرامة وأداء التردد، وبين منطق الصفقات وواقع النار.
ولم تمضِ سوى مئتي يوم حتى بدأت معالم العجز تظهر، لا كفشل ظرفي في إدارة الأزمة، بل كاختبار وجودي لمقدار ما تبقى من صدقية واشنطن كقوة قادرة على إدارة النظام لا الانكفاء أمامه.
لم يجد ترامب في فلاديمير بوتين الطرف الذي يمكن جذبه إلى طاولة تفاوض بنكهة السوق، بل واجه عقلا جيوسياسيا متمرسا لا يراكم النقاط بل يسعى للحسم، ولا يهادن إلا من موقع القوة.
رفض بوتين كل مساعي التجميد، ورفع من سقف شروطه حد المطالبة بانسحاب أوكرانيا من الأراضي التي ضمتها روسيا، وضمان عدم انضمامها إلى الناتو، ونزع سلاحها بالكامل، واضعا بذلك معادلة جديدة لا ترى في التسوية سوى غطاء للانتصار، ولا تقبل بأقل من إقرار دولي بخطته لإعادة ترسيم البيئة الأمنية لروسيا.
هذه الشروط، وإن بدت مستحيلة في نظر كييف والدول الغربية، جاءت مدعومة بإيقاع عسكري متقدم؛ فالقوات الروسية، خلال الشهرين الماضيين فقط، استولت على أكثر من ألف كيلومتر مربع، بينما فقدت أوكرانيا ما يقرب من سبعة آلاف كيلومتر مربع منذ بداية 2023.
ما يعني أن المبادرة على الأرض تميل بشكل متزايد لصالح موسكو، وأن آلة الحرب الروسية لم تتأثر بعد بما يكفي لاختلال ميزان المعركة.
وفي الوقت الذي كانت واشنطن تلوح بعقوبات جديدة، بدا أن أدوات الضغط القديمة فقدت زخمها. ففرض عقوبات ثانوية على شركاء روسيا التجاريين بدا أقرب إلى إطلاق الرصاص في الفراغ.
فالهند، مثلا، واصلت شراء النفط الروسي بموجب عقود طويلة الأجل وبأسعار تفضيلية، بل وأعادت تصديره محققة أرباحا ضخمة، في تجاهل تام لتحذيرات واشنطن.
وقد ردت نيودلهي بلهجة صارمة، واصفة استهدافها بأنه غير مبرر وغير معقول، في مؤشر واضح على حدود التأثير الأميركي حتى على حلفائه التقليديين. ولم تكن الصين وتركيا بأقل تمردا، ما جعل فرض العقوبات الشاملة أمرا محفوفا بالمخاطر الاقتصادية والسياسية في آن واحد.
وحتى مع تصعيد اللهجة، وتحديد مهل زمنية لإنهاء الحرب، بدا أن ترامب نفسه يشكك في جدوى ما يهدد به، إذ أقر في تصريح لافت: لا أعرف ما إذا كانت العقوبات تزعج بوتين، ثم استدرك: الروس بارعون جدا في التحايل عليها، في اعتراف مبطن بعجز الأداة الاقتصادية عن كبح جماح الرغبة الروسية في الحسم.
وفي لحظة بحث عن مخرج سياسي يحفظ ماء الوجه، عادت واشنطن للتلويح بمقاربة اللقاء المباشر، حيث أثيرت مجددا فكرة عقد قمة مرتقبة بين ترامب وبوتين، كتجسيد أخير لمحاولة الالتفاف على الميدان عبر مسار شخصي.
فقد وصل المبعوث الخاص للرئيس الأميركي وصديقه الشخصي، ستيف ويتكوف، إلى موسكو بصفة تمهيدية، وهو الذي سبق أن التقى بوتين دون مترجم رسمي، وتبادل معه الهدايا الشخصية، من بينها لوحة زيتية لدونالد ترامب نفسه، في مشهد أقرب إلى الطقس الدبلوماسي منه إلى المفاوضات الفعلية.
وقد سُربت معلومات تفيد بأن احتمال عقد قمة بين الزعيمين لم يُستبعد تماما، رغم غياب أي مؤشرات فعلية على استعداد بوتين للجلوس من موقع غير المنتصر.
وإن كان ترامب قد راهن منذ البداية على العلاقة الشخصية مع بوتين، فإن وقائع الميدان لا تساير ذلك الرهان، بل تقوضه. وظلت موسكو ترفض الانخراط في أي مفاوضات جدية، مواصلة عملياتها البرية، ومكثفة قصفها للمراكز المدنية، فيما كانت الإدارة الأميركية تمارس ضغطا عكسيا على كييف، حاثة إياها على القبول بتنازلات واقعية قد تفضي إلى اتفاق غير مشرف.
أما على الأرض، فتواصل روسيا قصفها المكثف باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ، مستهدفة البنية التحتية المدنية والعسكرية، في تكتيك منهجي يرهق الدفاعات الجوية الأوكرانية التي تعتمد بشكل شبه كلي على المساعدات الغربية.
بيد أن هذه المساعدات، ورغم رمزيتها، بدأت تظهر محدودية فعلية، لا بفعل تراجع الإرادة السياسية فقط، بل نتيجة العجز الصناعي البنيوي في كل من أوروبا والولايات المتحدة.
فالمصانع الغربية، المصممة لحروب محدودة أو حملات جوية خاطفة، ليست قادرة على مجاراة الطلب المتسارع في حرب استنزاف طويلة الأمد، خصوصا في مجال الدفاع الجوي، الذي بات يمثل نقطة الضعف المركزية في الأداء الأوكراني.
في هذا السياق، تتعمق أزمة واشنطن، لا لأنها عاجزة عن الدعم، بل لأنها لا تملك تصورا إستراتيجيا قادرا على ترجمة الدعم إلى نصر أو تسوية.
لقد تحول الصراع في أوكرانيا إلى مرآة لبنية القرار الأميركي: مترددة في التصعيد، عاجزة عن الانسحاب، محاصرة بوعود انتخابية، ومقيدة بتحالفات لا تتحمل صدمات مفاجئة.
وزاد من قتامة الصورة، رهان ترامب منذ البداية على علاقته الشخصية ببوتين، معتقدا أن الرجل الذي خاطبه مباشرة، وأبدى له الاحترام، يمكن استمالته، أو على الأقل، احتواؤه. غير أن الميدان كان أقسى من المجاملات، والسياسة الدولية أكثر عنادا من الكلمات.
وقد بلغ التوتر ذروته حين صعّد ترامب لهجته بعد تبادل حاد مع ديمتري ميدفيديف، معلنا تحريك غواصتين نوويتين كرد رمزي على التصعيد الروسي، ثم سرعان ما عاد إلى التهدئة، مكتفيا بالقول إن الغواصات في مواقعها.
لكنه، رغم هذه التصعيدات العرضية، بدا عاجزا عن فهم دوافع الكرملين، معترفا صراحة بأنه لا يعرف لماذا تصر روسيا على مواصلة الحرب، قائلا: هذا لا معنى له بالنسبة لي، في اعتراف نادر من رئيس أميركي بأن خصمه يفكر خارج الأطر المفهومة في واشنطن.
ووسط هذا التعقيد، تبدو أوكرانيا كمن يقاتل على جبهتين: ضد عدو يتقدم، وضد حليف يتردد. إنها تدفع الثمن ليس فقط في الجغرافيا والدماء، بل في الإخفاقات المتتالية للنظام الدولي الذي وعدها بالدعم، ثم تركها تنهار على مراحل، تماما كما تُطفأ الشموع واحدة تلو الأخرى في غرفة لا أبواب لها.
لم تعد الحرب مجرد اختبار إرادات، بل اختبار سرديات. فالرئيس الأميركي الذي بنى صورته على أنه صانع قرارات حاسمة، بات محاطا بشكوك تتنامى، داخل بلاده وخارجها، حول قدرته على التأثير في صراع يتجاوز حدود أوراق الضغط التقليدية.
لقد تبين أن الحرب في أوكرانيا ليست نزاعا قابلا للحل عبر تغريدة أو صفقة، بل هي اشتباك إستراتيجي طويل النفس، يُعاد فيه تشكيل التوازنات، وتتبدل خلاله مواقع القوى.
ترامب لم يفشل في تحقيق وعده فقط، بل كشف أن الرهانات المبنية على شخصنة السياسة الخارجية، وتبسيط صراعات معقدة في قوالب إعلامية، لن تصمد أمام وقائع الميدان.
أما بوتين، فبدا كمن يكتب نص الانتصار على مهل، مؤمنا بأن الهيمنة لا تُستعاد بالخطابة، بل بالزحف البطيء والمدروس، وأن الجغرافيا حين تمسك بخناق الوقت، تنقلب من ساحة صراع إلى أداة كتابة للتاريخ.
وبين هذا وذاك، يبقى النظام الدولي معلقا على أسلاك النار، عاجزا عن فرض النهاية، أو منع اتساع البداية.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل سنعود للحياة الطبيعية بعد الطوفان؟
هل سنعود للحياة الطبيعية بعد الطوفان؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

هل سنعود للحياة الطبيعية بعد الطوفان؟

لم أكتب في السياسة لسنوات طويلة من مسيرتي الصحفية، التي بدأت قبل ثلاثين عاما. لم تكن الأخبار السياسية تغويني كثيرا؛ كانت تبدو لي سطحية، تفتقر إلى العمق، ومحدودة التأثير. لكن حين أصبحت كاتب زاوية، بدأت التأثيرات السياسية، وجدية تطورات العالم، تجبرني على كسر ذلك المبدأ. صرت أكتب عن السياسة، غير أنني كنت أرغم نفسي، على الأقل يومين في الأسبوع، أن أكتب عن الحياة، الأدب، الطبيعة، والفنون. غير أن الأحداث تسارعت، والأزمات تفاقمت، حتى أصبح من المتعذر عليّ، في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، أن أكتب عن أي شيء آخر سوى ما يدور في الساحة من أزمات وتطورات مفاجئة. مضى أكثر من عام على كتابتي في "الجزيرة نت"، وحين أنظر إلى الوراء أجد أنني لم أكتب إلا عن الأزمات في منطقتنا. بينما أرى، على الخريطة التي تُظهر من أي الدول يأتي زوار موقعي الشخصي، أن لديّ قراء من معظم الدول، من أميركا إلى الصين، ومن الصومال إلى روسيا. منحتني الجزيرة فرصة أن أعبر عن آرائي على منصة دولية. وقد أسعدني أن أعلَم أن قرائي أبدوا اهتماما واسعا بمقالاتي في عام 2024، لكنني، في الوقت ذاته، أشعر بالحزن. كنت أتمنى لو أنني استطعت أن أشارك هؤلاء القراء المميزين في هذه الرقعة الجغرافية الواسعة قضايا مختلفة، أن نتبادل الهموم والأفكار، أن نسير معا في درب البحث عن الحقيقة. كنت أود لو أنني تحدثت لا عن السياسة فقط، ولا عن الحرب والأزمات، بل عن تلك الأمور التي تضفي على حياتنا معنى. وأنا أعلم أن كثيرين في أماكن مختلفة من العالم يفكرون كما أفعل. نحن جميعا نبحث عن الحقيقة، تلك الحقيقة التي تاهت وتحولت إلى سراب. لدينا جراح مشتركة، هموم وآمال مشتركة، وسعي مشترك نحو مستقبل أفضل. أما الشباب، فقلقهم وحيرتهم أشد. عقولهم ممتلئة بعلامات الاستفهام أكثر منا، وتثقلهم المخاوف واللايقين. كنت في الماضي أخصص يوما في الأسبوع لكتابة مقال موجه إليهم، حتى لا يعيشوا ما عشته من آلام، ولا يكرروا أخطائي، ويتعلموا من تجاربي. لكن انظروا كيف تحول العالم كله إلى فوضى عارمة! لم نعد قادرين حتى على كتابة مقالات عن الفن، الأدب، أو الطبيعة. بل لم نعد قادرين على إجراء تحليلات سياسية واقعية. ما يحدث يفوق حدود المنطق والعقل، لا يمكن تفسيره بعقل سليم. عندما ينزف الجسد نزفا حادا، يركز الدماغ على موضع الجرح ويتجاهل الألم في المواضع الأخرى. وهكذا هو حالنا الآن؛ بينما غزة جراحها نازفة، يصعب على عقولنا أن تلتفت إلى شيء آخر. لا نستطيع النظر إلى صور الأطفال بعظام مكشوفة، لكننا لا ننسى تلك الحقيقة المؤلمة التي يعيشونها. تلك الحقيقة تقلق نومنا، وتطفئ فرحتنا بالحياة، وتحول أيامنا إلى أرض قاحلة. لقد مضى زمن طويل لم أكتب فيه سطرين عن الحياة. لم أعد أقرأ أو أكتب في الفكر أو الفلسفة أو التاريخ أو الفن أو الأدب. لأن وحشية إسرائيل قد بلغت من التوحش مبلغا يجعلني أرى الظلم في كل اتجاه أنظر إليه. ومن عجزي عن إيقافهم، وعن تخفيف آلام الضحايا، أصاب بالهلاك النفسي. لذا أشعر أن كل ما أفعله بات بلا معنى. فكيف للإنسان أن يتحدث عن الفن أو الأدب في مثل هذا الواقع؟ باختصار، لقد أصبحت حياتنا كالأرض اليابسة، الأرض المتشققة التي تنتظر المطر… ولكن لا تظنوا أنني يائس. ما نعيشه من مآسٍ، يعلمنا دروسا جديدة، ويخط لنا خرائط طريق لأيام سنعود فيها للحياة من جديد. وسيأتي يوم، لا محالة، نشارك فيه قراءنا حول العالم أشياء جميلة عن الحياة. فقط إن تعلمنا من هذه الجراح، وعملنا بجد لتضميدها وتصحيحها… حينها، سيأتي المطر إلى أرضنا القاحلة، وسينزل الغيث بالخير والبركة، أنا واثق من ذلك.

من وثيقة سموتريتش إلى لحظة السقوط!
من وثيقة سموتريتش إلى لحظة السقوط!

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

من وثيقة سموتريتش إلى لحظة السقوط!

ليس ثمّة أكثر خطورة على الكيانات من لحظة شعورها بأنها بلغت ذروتها! في تلك اللحظة بالذات، تنفصل القوة عن معناها، ويتحول التفوق إلى استنزاف داخلي صامت. تلك هي طبيعة الذروة: تشبه القمة التي يضيق عندها الحيّز وتضطرب فيها الرؤية، لا لأنها لحظة قوة مفرطة، بل لأنها لحظة انكشاف. هذا ما وصفه إيمانويل تود، حين قرأ في سبعينيات القرن الماضي ملامح سقوط الاتحاد السوفييتي، لا من خلال الاقتصاد أو الجيوش، بل من خلال "الافتراق بين السلطة والمعنى، بين السلاح والشرعية، بين الدولة وسرديتها الداخلية". ولعل هذا بالضبط ما تعيشه إسرائيل الآن، وهي تقف فوق رماد غزة، ظنًّا منها أنها تسيّدت المعركة. الغرب يعيش صدامًا متصاعدًا بين مؤسساته التي تدعم إسرائيل بلا شروط، وبين شعوب بدأت تفقد الثقة في سردية أصبحت تثير الاشمئزاز، وهو ما ظهر في أكثر من 60 جامعة، من هارفارد إلى السوربون ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل التطبيق الوقح لأفكار جرى إعدادها بدم بارد، من خطة "الحسم" التي قدّمها بتسلئيل سموتريتش، والتي تقوم على تخيير الفلسطيني بين الخضوع والرحيل والإبادة، إلى طروحات إيتمار بن غفير حول "تهجير العدو من الداخل"، وصولًا إلى خطاب نتنياهو حول "حق إسرائيل الحصري في تعريف نفسها"، تبرز ملامح عقل استعماري فقد ثقته في التعايش، وصار يرى في القتل وسيلة ترتيب نهائي للواقع. لكن ما يغيب عن هذه العقول، رغم فظاعتها، هو إدراك أمر بسيط: لا يمكن لأي نظام استيطاني أن يتحول إلى أمر طبيعي، مهما استُخدمت القوّة. هذا ما أثبتته قرون الاستعمار، وما أكّده تاريخ الإمبراطوريات حين تفقد مركز المعنى. لقد وصف أرنولد توينبي، في دراسته لتحولات الحضارات، أن "كل حضارة تبدأ بالاستجابة لتحدٍّ، ثم تنحرف حين تنسى أسباب نشأتها، وتنهار حين تُمعن في قمع التحديات الجديدة". إسرائيل، في سياق كهذا، لم تعد حضارة تدافع عن نفسها، بل مشروعًا إحلاليًّا يرفض كل تحدٍّ، لأنه يرى فيه تهديدًا لشرعيته المختلقة. وفي اللحظة التي تتحوّل فيها أدوات القوّة إلى أدوات نفي، تفقد الدولة وظيفتها، وتتحوّل إلى كيان يُقاتل من أجل البقاء، لا من أجل المستقبل. في غزة، يُمارَس هذا المنطق على أوسع نطاق! ليس المطلوب نصرًا عسكريًّا، بل إنتاج حالة عدم رجعة: تفريغ السكان، ضرب البنية التحتية، قتل المعنى الجمعي، وتحويل النكبة من ذكرى إلى واقع. لكن ما يفعله الإسرائيليون اليوم هو تكرار- دون أن يدروا- لوهم الإمبراطوريات في لحظاتها الأخيرة.. كلما اقتربت من تحقيق حلمها، ابتعدت عن قدرتها على الاستمرار. فيتنام كانت نموذجًا، الجزائر كانت إعلانًا، جنوب أفريقيا كانت مفصلًا أخيرًا. كل هذه التجارب تقول شيئًا واحدًا: القوة حين تُستخدم لتجاهل التاريخ، لا لإعادة قراءته، تصبح أداة انتحار مؤجلة. الانهيار لا يبدأ من الجبهة العسكرية، بل من الداخل الأيديولوجي.. هذا ما ركّز عليه إيمانويل تود، حين رأى أن الدولة لا تسقط حين تُهزم، بل حين تتوقف عن الإقناع. إسرائيل اليوم لم تعد قادرة على الإقناع: لا للعالم، ولا لجمهورها؛ سردية "الدفاع عن النفس" تآكلت، لا بفعل المقاومة فقط، بل بفعل كثافة التناقض! دولة تملك أقوى ترسانة في المنطقة تخشى علمًا مرفوعًا، تُحارب طفلة تحمل اسم قريتها المهجّرة، تُغلق فم شاعر، وتعتقل أمًّا على كلمة.. مثل هذه الدولة لا تعيش ذروة سيطرتها، بل ذروة خوفها. وحين تبلغ الدولة ذروة الخوف، فإنها تدخل في دوامة استنزاف لا يوقفها إلا الانفجار. لكن السؤال ليس في إسرائيل وحدها، بل أيضًا في المنطقة، وفي العالم العربي، وفي الإقليم. الواقع لا يبشّر بانفجار قريب، لكنه كذلك لا يضمن استقرارًا طويلًا. هناك من يدير الملف على حافة التوازن؛ يخشى فتح المعركة، لكنه عاجز عن إغلاقها، ويحتفظ بالمعابر كسلاح صامت في لعبة الضغط المتبادل. وهناك من يتحرك بين ضغط الداخل وتنسيق الخارج، يحذّر من "الانفجار الكبير"، لكنه لا يقطع علاقاته الأمنية. وآخرون لا يتعاملون مع فلسطين كقضية مصير، بل كرمز يُوظَّف عند الحاجة؛ ونظرة واحدة إلى اتفاقيات التطبيع وما تبعها تكفي لفهم حجم التحوّل. تنسيق أمني لا يزال قائمًا بين السلطة والاحتلال رغم بحر الدم، وبيانات رسمية لا تزال توازن بين "مأساة المدنيين" و"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وأطراف أخرى تلوّح لكنها لا تتدخل إلا بقدر ما يضمن توازنًا دون تصعيد شامل، فيما هناك من، رغم صراخه الخطابي، لم يغيّر فعليًا في ميزان القوى. الغرب يعيش صدامًا متصاعدًا بين مؤسساته الرسمية التي تدعم إسرائيل بلا شروط، وبين شعوب بدأت تفقد الثقة في سردية أصبحت تثير الاشمئزاز، وهو ما ظهر في أكثر من 60 جامعة حول العالم من هارفارد إلى السوربون، حين رفع طلابها شعار "من النهر إلى البحر" متحدّين الرقابة، ومطالبين بفكّ الدعم غير المشروط لدولة الأبارتايد. ورغم هذا المشهد الرمادي، هناك ما يتحرك، ما يتراكم، ما ينمو تحت الطين. ليست المقاومة اليوم فقط في السلاح، بل في الصورة، في الكلمة، في الوثيقة، في الوعي.. وهذا ما لم تحسب له إسرائيل حسابًا. تمامًا كما لم تحسب فرنسا أن "كتابًا" سيُطيح بسطوتها في الجزائر، وكما لم تحسب قوى السيطرة أن نيلسون مانديلا سيحوّل النظام العنصري إلى ماضٍ محرَّم، أو أن قصيدة واحدة قد تغيّر نظرة العالم. في ظل هذا، تصبح السيناريوهات مفتوحة، لكن كلًّا منها مشروط بسياقه: تدخل إقليمي مباشر؟ لا يبدو قريبًا، لأنه يتطلب تحوّلًا جذريًّا في موازين المصالح، وهذا لم ينضج بعد. انسحاب إسرائيلي تكتيكي؟ ممكن، لكنه لن يكون ناتجًا عن شفقة أو ضغوط دولية، بل عن لحظة يصل فيها الجيش إلى قناعة بأن الاستمرار أصبح عبثًا. السيناريو الأقرب، في ضوء ما نرى، هو استمرار المقاومة الممتدة، الشاملة، الهادئة، تلك التي تعمل على تقويض الشرعية الإسرائيلية لا عبر المعركة فقط، بل عبر تفريغ الرواية الصهيونية من مركزها، وهذا ما بدأ يحدث. فلسطين لم تعد قضية على هامش الإعلام، بل باتت تختطف المنصّات، والجامعات، والأسواق، ولغة الفن، وسرديات السينما. هذا النوع من المقاومة، كما يقول إدوارد سعيد، ليس مقاومة السلاح فقط، بل مقاومة المعنى. حين تصبح فلسطين مرآة للعالم، وتتحوّل النكبة إلى عدسة يُفحص من خلالها الضمير العالمي، فإن إسرائيل تفقد مكانتها الاستثنائية، وتُعاد إلى حجمها: دولة أبارتايد متأخرة، تعيش خارج منطق التاريخ. وحين تفقد دولة ما حقها في "الاستثناء"، فإنها تفقد معها غطاءها الأخلاقي، ومن ثم السياسي، ومن ثم الاقتصادي، وتبدأ بالتحوّل من لاعب إقليمي إلى عبء جيوسياسي. وهذا بالضبط ما يحدث: واشنطن بدأت تشعر أن إسرائيل أصبحت ثغرة بدل أن تكون ورقة.. أوروبا لم تعد قادرة على ابتلاع المجازر.. اليسار العالمي استدار، وقطاعات الشباب اليهودي في الغرب بدأت تخرج عن صمتها. إن التقطنا الإشارة، وبنينا على لحظة الانكشاف هذه مشروعًا للتحرر لا يتوقف عند الجغرافيا، بل يصل إلى الوعي، فإننا لا ننتصر فقط في فلسطين، بل في الخرائط التي فُرضت علينا منذ قرن، وآن لها أن تُكسر لكن أخطر ما في هذه اللحظة، ليس ردّ الفعل الدولي، بل السؤال العربي: هل نملك مشروعًا لما بعد السقوط؟ لأن إسرائيل ستسقط، لا نتيجة هزيمة عسكرية شاملة، بل نتيجة تشققات طويلة المدى. لكنها إن سقطت في فراغ، فإن قوى أخرى ستملأ المكان، وربما تكرّر المأساة بثوب مختلف. هنا يظهر الفرق بين من يقاتل ليُسقط إسرائيل، ومن يقاتل ليبني ما بعدها؛ الأول ينتصر عسكريًا، ثم يفشل! والثاني، يُعدّ الجبهة الداخلية، يزرع المعنى، ويبني سردية لا تقل قوة عن السلاح. في النهاية، لا تقوم الدول بالقهر وحده، بل بالشرعية. وإسرائيل، في لحظتها الراهنة، فقدت معظم شرعيتها، حتى في نظر من أسسوها. لهذا، نحن في لحظة فاصلة! الذروة الإسرائيلية هي ذروة الخوف، وذروة العجز عن إنتاج معنى.. المشروع الصهيوني وصل إلى أقصى ما يستطيع: احتلال، وتطهير، وإنكار، وكذب، ومجازر علنية، لكنه لا يملك ما بعد ذلك.. لا رؤية، لا مشروع تعايش، لا لغة مقنعة حتى لجمهوره! إنه مشروع يعيش في زمن مضاد، ويتغذّى من خوفه، لا من طموحه. في هذه اللحظة، يتدخل التاريخ، ليس بمعناه الخطّي، بل بوصفه قانونًا غير مكتوب؛ كل مشروع قام على النفي سقط بالنفي، وكل احتلال ظنّ أنه أزلي انهار حين بلغ ذروته. ليست غزة وحدها على المحك، بل المنطقة كلّها، وإن لم نقرأ هذه اللحظة كما ينبغي فسنعيد تكرارها، كما تعوّد الضحايا الذين لا يملكون سردية. لكن إن التقطنا الإشارة، وبنينا على لحظة الانكشاف هذه مشروعًا للتحرر لا يتوقف عند الجغرافيا، بل يصل إلى الوعي، فإننا لا ننتصر فقط في فلسطين، بل في الخرائط التي فُرضت علينا منذ قرن، وآن لها أن تُكسر؛ لأن الذروة -كما قال توينبي- لا تكون نهاية الانحدار إلا لمن لا يفهم معناها. وإسرائيل -رغم سلاحها- لا تفهم.. ولهذا، ستُخذل من ذروتها، وسنبدأ نحن من هناك حكايتنا الحقيقية.

أكسيوس: ترامب يريد الترويج لخلو رئاسته من الأخبار السيئة
أكسيوس: ترامب يريد الترويج لخلو رئاسته من الأخبار السيئة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

أكسيوس: ترامب يريد الترويج لخلو رئاسته من الأخبار السيئة

كتب مدير شؤون الجمهور والنمو في موقع أكسيوس الأميركي نيل روتشيلد أن الرئيس دونالد ترامب يسرّع جهوده القديمة لإبعاد أي حقائق أو أرقام قد تتحدى روايته عن "رئاسة بلا أخطاء". وقال إن جزءا كبيرا من الحكومة الفدرالية أصبح يعمل وفقا لنسخة ترامب للواقع، والتي تقضي بأن الأرقام الجيدة في استطلاعات الرأي حقيقية (حتى لو اختلقها)، أما السيئة فهي مزيفة. وأورد الكاتب أمثلة لهذا النهج الترامبي، ومنها أن الأرقام الجيدة للوظائف تُعلن بفخر، في حين تُعتبر الأرقام السيئة حتى لو جاءت من نفس الجهة مجرد محاولات خبيثة لتشويه صورة الرئيس. وكذلك الاتهامات ضد الديمقراطيين يجب التحقيق فيها وملاحقتهم، أما الاتهامات ضده فهي "مطاردة ساحرات". إحصاءات الوظائف وكان الرئيس الأميركي قد أقال مفوض مكتب إحصاءات العمل بعد صدور أرقام الوظائف يوم الجمعة قبل الماضي، والتي كانت أسوأ بيانات اقتصادية خلال ولايته. ومن دون إعطاء تفاصيل زعم أن الأرقام تم التلاعب بها لتشويه صورته، وأشار إلى أن المراجعات التنازلية لأرقام الأشهر السابقة دليل على التلاعب في التقرير. وأضاف روتشيلد أن ترامب لم يعترف بالجوانب غير الشعبية من أجندته رغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع الدعم الشعبي بعد "شهر العسل" لولايته. نيل روتشيلد: نسخة ترامب للواقع تقضي بأن الأرقام الجيدة في استطلاعات الرأي حقيقية حتى لو كانت مختلقة، أما السيئة فهي مزيفة إنكار الحقائق ويزعم ترامب أن معدلات تأييده مرتفعة جدا، لكن متوسط استطلاعات الرأي يظهر أنه تحت مستوى الدعم الإيجابي منذ منتصف مارس/آذار الماضي، ويقف حاليا عند 46%. وأشار روتشيلد إلى أن ترامب يروّج لشعبية مشروعه القانوني "الكبير والجميل"، ويخطط البيت الأبيض لحملة كبيرة للترويج لهذا التشريع قبل انتخابات منتصف المدة لعام 2026، لكن استطلاعات الرأي تشير إلى أن أكثر من 50% يعارضونه. وقال الكاتب إن إدارة ترامب واصلت اتباع نهج متشدد في عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين رغم تحول الرأي العام نحو موقف أكثر اعتدالا مع ازدياد عدوانية أساليب وكالة الهجرة. وأضاف أن البيت الأبيض أعلن الأسبوع الماضي بعد أشهر من إلقاء اللوم على "اقتصاد بايدن" في ضعف المؤشرات بدء "اقتصاد ترامب"، وبعد يومين فقط صدرت أرقام الوظائف القاتمة. وحتى في القضايا التي حقق فيها ترامب نجاحات فإن روايته المبالغ فيها للأحداث تجاوزت الواقع. وزعم ترامب الأسبوع الماضي أنه أوقف 6 حروب، إذ توسط في اتفاقات بين كمبوديا و تايلند وكذلك بين الهند و باكستان ، لكن أكبر مأزقين في السياسة الخارجية (غزة وأوكرانيا) ما زالا مستمرين. كذلك، حافظ ترامب على انخفاض التضخم ، لكنه أدلى بادعاءات كاذبة بشكل مبالغ فيه، مثل خفض أسعار الأدوية بنسبة 1500% وخفض أسعار البنزين إلى دولارين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store