
حرب غزة والنموذج المقاوم: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
مقالات مقالات,
الحرب الجارية على المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي الحرب السادسة عشرة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية، وفق رصد أ.د. نادية مصطفى ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة. وهي بهذا تستكمل ما قام به المستشار طارق البشري – المفكر والقاضي المصري رحمه الله – الذي يميز في محاضرة وورقة مهمة بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير.
ففي رأي البشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 – حين كتب ورقته – هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أم شعبية، ومتضمنة الحروب الأميركية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة.
وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمس كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب.
جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأميركان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009.
تمثِّل هذه الحروب – في نظر البشري – حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو إستراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية.
ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. لكن مع كل معركة جديدة في صراع سيمتد معنا لعقود قادمة؛ يحسن أن نتوقف لنستخلص الاتجاهات التاريخية، كما يرسمها نموذج التحرير والمقاومة.
إن إحدى سمات نموذج المقاومة/ التحرير هي سيرورته التي لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل أيضًا في نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة.
من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي.
ونقطة البدء في بناء النموذج المقاوم/ التحرر هي: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
أولًا: نظام رسمي عربي لم تعد له هوية واضحة
وهو نظام لم تعد له هوية واضحة، أصابه التفتت والانقسام، وباتت مكونات منه جزءًا من نظام صهيو/عربي يجري مأسسته بعد أن دشنته اتفاقات التطبيع.
أظهر الطوفان أن هناك أنظمة عربية لم تقم بواجب النصرة والمساندة للفلسطينيين فقط؛ بل تآمرت عليهم وقدمت الدعم المادي والمعنوي للكيان الصهيوني وبشكل علني، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع. قبل ذلك ربما تم ذلك من بعض الأنظمة، ولكنه كان يجري بشكل مستتر وخفي.
يستند هذا النظام إلى أسس أربعة:
المصالح القُطرية أولًا.
المصالح الاقتصادية تقود السياسة.
إخراج القيم من المشهد، حيث البراغماتية – تحت عنوان الواقعية – هي التي يجب أن تسود.
القفز على تطلعات الجماهير.
برز مع الطوفان الاختلاف الواضح بين موقف الأنظمة العربية من مساندة الفلسطينيين الذي اقتصر على التصريحات والبيانات اللفظية، وقد يمتد إلى الإغاثة، وبين موقف الشعوب العربية التي انحازت في مجملها لدعم ومساندة الفلسطينيين.
سبق أن تعرضت في مقال سابق لهذه السمات بالتفصيل والتي يطلق عليها البعض "الشرق الأوسط الجديد"، لكن الجديد الذي كشف عنه الطوفان هو كيف باتت إسرائيل جزءًا وأحد مكونات هذا النظام رغبًا ورهبًا؛ رغبًا من خلال قيام بعض الأنظمة ببناء مصالح مشتركة معها، ورهبًا من خلال التوحش المدعوم غربيًا، وهي تتطلع أن تقود هذا النظام في شقه الأمني على الأقل.
ثانيًا: عجز شعبي عربي عن النصرة والمساندة
العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات – هم أقل المساهمين في نصرة الفلسطينيين. المشكلة أن الدولة العربية تحجب نصرة الشعوب وتحول دون التعبير عن مواقفهم بحرية. الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة.
لا أدري إن بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؟ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب التي بات الإنهاك يحيط بها في كل ركن من حياتها.
المواطن العربي المنهك يشعر بثقل ووطأة المأساة، ولكنْ هناك أولويات وضغوط أخرى: اجتمعت على كثير من المواطنين العرب ضغوط كثيرة، فالمجتمع يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطى والدنيا إلى الانصراف إلى توفير الحياة الكريمة – في حدودها الدنيا – لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان؛ كما في ليبيا، والسودان، وسوريا.
على مدار 10 سنوات أو يزيد، تم تطبيعنا – نحن الشعوب العربية – مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات والتنظيمات غير الرسمية، ومن ثم كانت الحرب على الفلسطينيين واللبنانيين بعد "طوفان الأقصى" – للأسف – إحدى الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفًا هذه المرّة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها، لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة.
على مدار العقد الماضي، تفشت ولا تزال الحروب الأهلية في المنطقة، وشارك فيها الجميع بالدعم والمساندة أو بالصمت والسكوت. جرى إخفاء الضحايا والتحلل من المسؤولية الواجبة بالدعاية أو إثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسؤولية للآخرين أو بإثارة الأسئلة الخاطئة في اللحظة التي يتعرّض فيها البشر للإبادة.
أدرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأميركية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسؤولين، ولا الاعتراف بدولتهم.. فالمعاناة والمأساة اللتان يكابدونهما في كل لحظة هما معاناتهم ومأساتهم وحدهم.
من أبرز ما جرى في الطوفان هو التكيف المعرفي مع الإبادة. جرى ذلك عن طريق تزويدنا بروايات ودعايات سياسية لقبول العنف مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصى لم تستشر الفلسطينيين، أو أنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الإخوان الموصومين بالإرهاب، أو أنها غير وطنية، أو على أقل تقدير خرجت عن الإجماع الوطني، أو أنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلى نفسها جنت براقش، وأخيرًا وليس آخرًا؛ شريكة في الإبادة مع الإسرائيليين – كما صرح أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية.
رابعًا: التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر
هذا الاستعمار – بشكله القديم والمتجدد – هو المكون الرابع مما ينبغي أن نتحرر منه كسبيل لبناء النموذج المقاوم. أعادتنا الحرب الجارية في المنطقة لأكثر من عام للتساؤل عن: هل تحررنا نحن العرب من الاستعمار حقًا؟
كشفت الحرب على غزة حقائق خمسًا يجب أن نتوقف أمامها طويلًا:
نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا.
نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، التي انتشرت قواعدها العسكرية وجنودها في كل مكان في المنطقة (يتمركز نحو 30 ألفًا من جنودها بشكل دائم في العشرات من القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من 15 دولة في الإقليم)، وقدمت من خلالها الدعم المباشر وغير المباشر لإسرائيل. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991.
مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا. في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا. هل هناك علاقة بين التبشير باليوم التالي في غزة الذي ستكون فيه مركزا اقتصاديا على البحر المتوسط، وبين تفكيك المقاومة مستقبلًا من خلال هذا النموذج؟
قوى إقليمية غير عربية احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا.
أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي.
أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع والاتفاق المرشح مع الدولة اللبنانية، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى عاصمة للتجارة والأعمال على البحر المتوسط.
خامسًا: الاستقطاب المسموم
برز مع طوفان الأقصى موقفان كبيران يضم كل منهما أطرافًا متعددة مختلفة، وبين هذين الموقفين يوجد من ينتظر متفرجًا أو لم يحسم انحيازه بعد إلى أي الفريقين يجب أن ينضم؛ لعل تطور الأحداث ونهاية المعركة تساعده على حسم موقفه.
الموقف الأول يضم الإسلاميين في المنطقة، وقوميين ومجموعات علمانية ويسارية، ونخبًا مثقفة تضم تنويعات كثيرة. تدرك هذه المجموعات – وغيرها الكثير- التهديد الوجودي الذي يمثله المشروع الصهيوني في المنطقة، كما ظهر جليًا في الإبادة الجماعية التي تتدفق صورها على مدار اليوم والمستمرة لأكثر من عام حتى الآن.
يدرك هذا الفريق فداحة تأثير الإبادة الجارية على الفلسطينيين في مستقبل دول وشعوب المنطقة، وكيف سيكون لنتيجة هذه المعركة تأثير حاسم على ذاته ونفسيته أولًا، وعلى دور المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسس تأييد الحكومات الغربية له، وفي القلب منه علاقة حكومات دول المنطقة بهذا المشروع.
هؤلاء يقفون جميعًا في مواجهة موقف يضم كثيرًا من الأنظمة العربية، ومعظم الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. تملك هذه الأطراف تصورًا لمستقبل المنطقة يقوم أساسًا على قوة الاقتصاد والمصالح المالية في تفكيك جميع الصراعات، وإن لم يتمّ ذلك، فيمكن القفز عليها أو إنكار كثير من حقائقها.
الأيديولوجيات يجب أن يختفي أصحابها، والنضالات الاجتماعية مرفوضة، والمقاومة المسلحة مدانة، ونصرة المظلوم هي فقط بالإغاثة، والتضامن العربي أو الإسلامي بقايا ماضٍ انتهت صلاحيته؛ فالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للدولة الوطنية هي الحكم، وغير ذلك هراء أو من سفاسف الأمور التي نهينا عنها وطنيًّا وعقليًّا وربما شرعيًّا.
بين هذين الموقفين هناك من لا يزال يراجع موقفه، أو لم يحسم أمره بعد؛ تتملّكه الهواجس والمخاوف من "حماس الإسلامية"، أو لا يزال قابعًا في قفص الأيديولوجيا الجامد وانحيازاته السياسية، أو يعيش في ظلال الماضي القريب أو البعيد بمعاركه السياسية والفكرية.
طوفان المقاومة يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين متضادين يتجسدان في يحيى السنوار الذي مات لتحيا أمة، والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة أو انتماء. وبغية التغطية على هذا الاستقطاب تم بعث وإذكاء استقطابات أخرى مسمومة.
بناء نموذج المقاومة/ التحرر – كما كلمة التوحيد – له شقان: نفي وإثبات. عالجت في هذا المقال الشق الأول، ويتبقى أن أشير في التالي إلى مرتكزاته ومقوماته التي لا غنى عنها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- الجزيرة
'طارق البشري'.. نظرة عن قرب على حياة مؤرخ استثنائي
'ومن جهة أخرى، فلست ممن يخفون موقفا فكريا أتحفظ عليه الآن، ولست ممن يجدون الحرج في الإفصاح الجهير عن العدول عن موقف أو رأي سابق، ظننته صوابا في وقت ثم تبينتُ الصواب في غيره، ولست ممن يستحسنون إخفاء أمر كهذا'. هذا ما يفصح عنه الكاتب والمؤرخ الراحل طارق البشري، في مقدمته المثيرة للتأمل للطبعة الثانية من كتاب 'الحركة السياسية في مصر 1945- 1952″، وهي لا تعد بابا مشرعا لدراسة مهمة في أبعاد التاريخ المصري المعاصر فحسب، بل تمثل -بصراحتها وقدرتها على البوح والنقد الذاتي- مرجعا وتأصيلا لفهم ما تنطوي عليه شخصية متعددة الجوانب الفكرية، كشخصية المستشار طارق البشري. عرضت الجزيرة الوثائقية الفيلم الوثائقي 'طارق البشري.. القاضي الفقيه'، الذي أُنتج عام 2024، وكتبه وأخرجه أحمد سلطان، وينسج صورة بالغة الشمول والاتساع، عن شخصية كاتب ومؤرخ ذي ثقل استثنائي، على كلا المستويين الفكري الإبداعي، وما يوازي هذا الاتجاه من مستوى آخر مهموم في جوهره بالتعاطي مع مكونات السياسة الوطنية. ولأن التصدي لتناول الشخصيات العامة، أو ذات التأثير المتشعب، لا بد أن يرافقه سرد موازٍ، يرصد تبعات ما جرى في الوقائع المعاصرة، فإن تقديم سردية ذاتية عن شخصية بحجم طارق البشري الفكرية وقيمته، تستدعي استحضارا لشهادات التاريخ المعاصر ورؤاه، لتصبح قراءة ما تيسر من حياة الشخصية موضع التناول. رحلة متسعة الزوايا والأركان، تربط في باطنها بين الخاص، ألا وهو رسم صورة حية عن الشخصية، والعام الذي يزيح الستار عن الدوافع التاريخية والسياسية، التي تؤثر على الأفراد والجماعات، فالحقيقة التي لا تقبل الشك ولا التأويل، هي أن المناخ العام يختلط بدوافع الخاص، ويؤثر كل منهما على الآخر، تطبيقا للقاعدة العلمية حول تأثير البيئة العامة على الأفراد، فكل منهما يندمج مع الآخر، ويصبغ من صفاته عليه. وهكذا يصبح دخول عالم طارق البشري إبحارا عميقا بين سياقات متباينة، تحمل من التأريخ الشخصي قدرا ميسورا، مثلما تطمر على الناحية المقابلة قراءة استدلالية للماضي، بما يتضمنه من تفاعلات مؤكدة بين التيارات الاجتماعية والسياسية. وبناء على ما سبق، هل مزج فيلمنا بين تلك الأطروحات الشخصية الإنسانية بأبعادها المركبة، وتأويلات السياق الزمني المشغول بالاحتكاكات المألوفة بين التاريخ والسياسة؟ وإذا كان قد فعل.. فهل نجح؟ محاور البناء السردي ينبغي بداية أن نضع المسار الفيلمي على المجهر، لبيان مدى فاعلية أسلوبيته الفنية مع طرحه الفكري، وبنظرة واسعة الصدى على النسيج الفيلمي، نجد أن بنيانه يقوم على المزج بين المشاهد التمثيلية المنسقة فنيا وإخراجيا بحرفية وإتقان، يتوافق مع الأزمنة التي يستعرض الفيلم طياتها المتسعة، والمشاهد والصور الأرشيفية التي تشكل العمود الفقري لهيكل الفيلم الوثائقي، بجانب اللقاءات المصورة. وهكذا يمكن القول إن الاعتماد على تلك الأضلاع الثلاثة، خلق بطريقة أو بأخرى سردا متأرجحا، أي يتنقل بسلاسة وحرية بين هذا الوسيط وذاك، لكن هذا الانتقال لم يؤدّ إلى تشتت الفكر أو الانتباه، بل جاءت نتيجته معاكسة عن المعتاد، فبلورت المعلومة ورسختها في عقل المتفرج، استنادا على الإعادة المكررة، والكاشفة عن المزيد المستتر من الأحداث والمعلومات، على حد السواء. فالمشاهد الأولى قبل العنوان، نرى فيها مشهدا تمثيليا يعبر عن خوف المستشار عبد الفتاح البشري -والد طارق- أثناء الغارات الجوية على مصر خلال الحرب العالمية الثانية، ثم يطالعنا التعليق الصوتي، يستشهد بمقاطع من كتابات طارق عن ويلات تلك الحرب العظمى، التي لا ناقة للمصريين فيها ولا جمل، بحسب قوله. ثم نتنقل إلى المشهد التالي، فنرى المستشار إبراهيم البيومي غانم بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، يروي التاريخ الرسمي لميلاد بطل فيلمنا في عام 1933، ويسهب في توصيف ملامح العائلة، التي لا تخلو من عراقة وأصالة، أسهمت فيما بعد في تكوينه الفكري، وبين تسلسل الحكي يتداخل المونتاج، داعما هذا السرد بما تيسر من الصور والمشاهد الأرشيفية. وهكذا نطالع الفيلم من واقع زوايا متعددة الرؤى، انصهرت جميعا في كشف تفاصيل حياة صاحب كتاب 'نحو تيار أساسي للأمة'، لذا فإن البناء السردي يتكئ على عدة محاور، تدور جميعا على المتابعة الدؤوبة للمراحل الحياتية والفكرية لبطلنا، مما يشكل إطلالة شاملة على التطورات الفكرية التي تعاقبت على أفكار فقيهنا، فتجتمع هذه الشذرات كافة بجانب بعضها، مشكلة في مجموعها لوحة إنسانية، ثرية التفاصيل، تستحق الوقوف أمامها لتأمل محتوياتها. سنوات التكوين في عائلة ذات تاريخ يبدأ الحكي بالمرحلة الاستهلالية الأولى، فنرى الكشف عن البدايات وما يقبع وراءها من إحداثيات وتأثيرات، إذ يزيح السرد الستار عن عائلة البشري العريقة الأصل، التي يرأس هرمها الشيخ سليم البشري، شيخ المذهب المالكي. كان الشيخ سليم قد اعتزل مشيخة الجامع الأزهر، بعد مواجهة عتيدة مع خديوي مصر في ذلك الزمان عباس حلمي الثاني، على خلفية إصدار مرسومه القاضي بنقل أحد المشايخ من زاويته، فأصبح الأزهر -بعد هذا التطاول المؤسف على استقلاليته- ساحة ثورية لا يكاد يقام فيها درس ولا تعليم، احتجاجا على إزاحة الشيخ سليم من منصبه. ولا تتوقف مواقف الشيخ سليم الشجاعة عند ما ذكرنا، بل نرى صورته الشهيرة مع 'اللورد كتشنر'، المندوب السامي البريطاني في مصر، فنراه جالسا بشموخ والحاكم الأجنبي واقف، وعندئذ يمكن الإمساك ببداية الخيط التأسيسي لشخصية طارق البشري، وهو يقول عن نفسه إنه تأثر كثيرا باستقلالية جده، واستلهم منه هذا النموذج المتمرد المعتز بذاته. وبالإضافة إلى قوة تأثير شخصية الشيخ سليم، لا ينكر الفيلم دور الأب المحوري، ألا وهو المستشار عبد الفتاح البشري، رئيس محكمة الاستئناف، وكذلك العم الأديب عبد العزيز البشري، فالعائلة تتكئ على موروث ثقافي وفكري مرموق، ألقى بظلاله بكل تأكيد على مكنون الطفل وهويته، فالارتقاء العمري في بيئة غنية الثقافة، يشكل فيما بعد نبتا مورقا حسن الهيئة والطالع. وهكذا يسهب السرد في هذا الشق، في رواية ما لا يدرك عن شخصية الطفل طارق، ومع أنه كان متفوقا في الدراسة، فقد جابهته معضلة مادة الرسم الفني، ومن ثم أصبح اللجوء إلى القراءة النهمة ملاذا من هذا الإخفاق غير مقصود، فأصبحت عادة القراءة، والعطش الدائم لاقتناء المزيد من الكتب، مرافقا له طيلة حياته. أجواء ثورية تخمدها النكسة بعد أن استعرض السرد سنوات الطفولة، وما رافقها من مراحل التكوين الأساسية، ننتقل إلى المرحلة الأكثر تقدما، وفيها تتبلور هوية طارق البشري الفكرية، بالتوازي مع انطلاق حركة الضباط الأحرار في 23 تموز/ يوليو 1952، وما ترتب عليها من إنهاء عهد الملكية، والتحول الطوعي إلى جمهورية اشتراكية الهوى والمنطق. وفي أعقاب ما جرى من تبدلات وتغيرات سياسية، يقول 'أيدت الثورة على مضض، وعارضتها على مضض'، مما يؤكد أن استقلالية الفكر والرأي جزء لا يستهان به من تكوينه الذاتي، الذي لا يقبل استقطابات التوجهات السياسية، سواء كانت ذات اليمين، أو ذات اليسار. وهنا يأخذنا الفيلم في جولة موجزة عن تلك الحقبة بكل تقلباتها وحساسيتها، فمع أنها شهدت تطورات اقتصادية متصاعدة، صاحبتها تحسينات اجتماعية، فإن تقليص منسوب الحريات إلى معدلاته الأدنى، دوما ما جعلت تأييد النموذج الناصري ناقصا. ويواصل السرد حركته المتدفقة، الكاشفة عما جرى في بدايات تلك الحقبة من عدوان ثلاثي عام 1956، وهنا أوشكت تلك الركائز الداعمة للاستقلال على الأفول. وخشية حدوث هذا الخفوت، بدأت تظهر كتابات طارق المتنوعة الاتجاهات عن حقوق العمال، وغيرها من القضايا ذات البعد الفلسفي الفكري، كما أن مقالاته ودراساته عن التاريخ السياسي تميزت بمحاولة إعادة قراءة فصول التاريخ المعاصر، فأصبح فعل الكتابة معادلا للصمود، فالتعبير عن الأفكار والتشبث بأجنحتها نضال ومقاومة، وإن اختلفت ساحة المعركة، وخرجت عن سياقها التقليدي المألوف، إلى رحابة الورق الأبيض. بمحاذاة هذا التأريخ العام، يطعم الحكي -بحيلة ذكية- هذا الإطار، بلمسات إنسانية حانية، تتمثل في اللقاءات الأولى بين طارق وزوجته الكاتبة والباحثة عايدة العزب موسى، وقد شكلت الاهتمامات الفكرية عاملا مشتركا بينهما، أسهم فيما بعد في تغليف علاقتهما بالزواج، وهنا تتنقل دفة الحكي إلى عايدة، فتقول عن خيوط علاقتها بزوجها، إنه كان ذا فيض حنون، ساعد بالتأكيد في إكمال حلقة هذه العلاقة بالوئام والوفاق. عصف فكري في عواصف سياسية لا ينشغل الفيلم بتناول التطورات الفكرية والإنسانية لبطلنا فحسب، بل يخلق من واقع هذه السردية رؤية عامة على سياقات التاريخ المعاصر، الملبدة بالغيوم والعواصف، وفي تلك الأثناء يخبرنا السرد بتداعيات هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وأنها أنجبت من رحمها إنسانا مختلفا عن السابق المتداول، فأصبحت النسخة الحديثة من كاتبنا، تحمل على كاهلها هما دائما، ظل يرافقه حتى بعد تحقيق النصر المصري العربي في تشرين الأول/ أكتوبر 1973. وهنا نصل إلى أعمق نقطة من فيلمنا، وهي إلقاء الضوء على المراجعات الفكرية، التي اتخذ طريقها طارق البشري بعد هزيمة 1967، ومن ثم تصبح هذه التقييمات الداخلية مقاومة لمأساوية الواقع العام، فإذا كان الزمن السابق يدثر ذاته بادعاءات القوة والبطولة الوهمية، فإن الواجب يقتضي البحث عن بديل قومي وفكري، يمسك بزمام المبادرة. تصبح العودة إلى الجذور الأصيلة العربية والإسلامية هي الحصن والمرجع، وبذلك تتبدل البطانة الفكرية من الاشتراكية القومية إلى العربية الإسلامية، بحسب قوله. وفي أعقاب هذا العصف المزلزل لكيان شخصيته، أعاد كتابة مقدمة كتابه 'الحركة السياسية في مصر 1945-1952″، مراجعا فيها قناعاته الذاتية، كاشفا بين سطورها عن عمق الرؤية للنسيج الاجتماعي المصري. تلك الرؤية التي تمثل عصب كتاب 'المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية'، وقد صدر بعد اغتيال الرئيس محمد أنور السادات عام 1981، ولاقى زوابع التضييق والخناق، وصودر من المكتبات، وأصبحت تلك المعضلة سببا رئيسا في إصابته بجلطة القلب، التي رقد على إثر تداعياتها طريح الفراش زمنا ليس بالهين. وهكذا توالت مؤلفاته، التي يمكن القول بأريحية إنها تشتبك مع الواقع المعاش اشتباكا ينبض بفكر مختلف مغاير عن المتردد المسموع، لا لكون هذه الأطروحات حديثة الاكتشاف، بل لأن النداء بالعودة إلى الأصول المؤسسة للهوية المصرية العربية، والمستندة في جوهرها على الرواسب العربية الإسلامية، يدفع بالضرورة إلى إعمال العقل والتدبر، مثلما هو كفيل بإثارة شغب الاختلاف. التقاعد والعزلة يستكمل الفيلم إبحاره في عالم طارق البشري، ولكي تكتمل الصياغة الفنية، يلجأ الإخراج إلى الاستعانة بما يفيض من الشهادات، التي تنوعت بين أصدقاء الراحل وتلاميذه، يدلي كل منهم بما في حوزته من أخبار ووقائع، وحينها نصبح أمام صورة موسعة وشاملة، ترصد كافة التطورات الفكرية والإنسانية التي تصادف مرور بطلنا عليها. وفي هذا السياق يخبرنا السرد عن المراحل المتعاقبة لتقاعده، وأن هذا الفراغ الوظيفي رافقه ثراء إبداعي وغزارة إنتاجية، فأصبح للتوجه العقلي منحى واحد، ألا وهو التأمل والكتابة وإثارة الأفكار، بدلا من التشتت التقليدي بين قيود الوظيفة وحرية الكاتب، فقد تقاعد من عمله القضائي عام 1998، بعد أن وصل لدرجة النائب الأول لمجلس الدولة المصري، ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع القانوني. وعندها أصبحت دعوات التوفيق بين التيارات السياسية المتباينة داخل الوطن الواحد، تشكل النسبة الكبرى من غايات كتاباته وأطروحاته السياسية، وقد تبلورت تلك الرؤى على نحو أكثر تفصيلا، بعد انطلاق ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011، التي أطاحت جماهيرها بنظام الرئيس محمد حسني مبارك. حينها وفي ظل تصاعد المد الثوري والحماس للتجديد، أسهم البشري بآرائه وخبرته القانونية، في محاولة إمداد القماشة الوطنية بخيوط جديدة، تدفع المسيرة للأمام، وهكذا ظل يسعى بدأب نحو القيام بدوره الفكري المنوط به في الطرح والمناقشة أحيانا، والمبارزة بالسياسة والفكر حينا آخر، لكن لكل سياق زمني مقوماته وأهدافه وخطابه الفكري كذلك. ولأن الحياة اختيارات، فقد وقعت العزلة مع كاتبنا عقدا إجباريا، التزم فيه بالصمت المطعم بالرغبة في الانزواء والابتعاد، إلى أن التحق بجوار ربه في 26 من شهر شباط/ فبراير 2021، متأثرا بحلول فيروس كورونا ضيفا ثقيل الوطأة على جهازه التنفسي. لكن بعد مغادرته عالمنا بنحو 4 سنوات، ما تزال تأثيرات أفكاره ومؤلفاته حاضرة، بقدرتها على تقديم قراءة بانورامية للواقع، لتبدو إعادة اكتشاف كتاباته تجربة أساسية في فهم روافد التاريخ، سواء اتفقت مع محاورها أو رفضت مضمونها، ومن يقرأ ماضيه، حتما يدرك مدلولات الحاضر، وأبعاد المستقبل. .


الجزيرة
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- الجزيرة
الدكتور حسن الشافعي: الحل في التجديد الديني وإعادة الاعتبار للفكر الفلسفي الإسلامي
الدكتور حسن الشافعي عضو هيئة كبار علماء الأزهر، ورئيس المجامع العلمية اللغوية، يرى أن الفكر الإسلامي منفتح على العالم، وأن القرآن العظيم يحض على السير في الأرض ومعرفة السنن الكونية ومصائر الأمم، والفلسفة تتبع القرآن، ولهذا نراها تهتم بالنظر في كل مناحي الحياة، تهتم بالحياة اليومية للإنسان المسلم، وتهتم أيضا بتاريخ الإنسان وتراثه، بل وتراث الأمم الأخرى. حسن الشافعي -أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة- ولد بمحافظة بني سويف عام 1930 في بيت علم، التحق في 1953 بكلية أصول الدين بالأزهر، وفي الوقت عينه سجل نفسه طالبا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وحصل على الليسانس والشهادة العالية منهما بمرتبة الشرف وكان الأول في الترتيب على جامعة الأزهر، والثاني في كلية دار العلوم، واختير معيدًا بكلية دار العلوم في قسم الفلسفة الإسلامية عام 1963. اعتُقل عدة مرات منذ 1954 وهو في الفرقة الثانية بكلية دار العلوم، وكاد أن يموت تحت آلات التعذيب في السجن الحربي بتهمة انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، وقضى في المعتقلات 12 عاما على فترات مختلفة، وأفرج عنه سنة 1970، وواصل دراسته حتى حصل على الماجستير عام 1969م عن "سيف الدين الآمدي المتكلم الأشعري المتوفى سنة 631هـ"، وأُتيحت له فرصة السفرِ إلى "كلية الدراسات الشرقية والأفريقية" بجامعة لندن عام 1973م، ونال منها درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 1977م عن "تطور علم الكلام الاثنا عشري في القرن السابع الهجري". أُعير في عام 1981م إلى الجامعة الإسلامية بإسلام آباد في باكستان حيث عمل في إنشائها ووضع مناهج التدريس والعمل بها، وتولى عام 1983م عمادة كلية الشريعة والقانون فيها، ثم عُيِّن نائبًا لرئيس الجامعة، ثم صدر قرار إجماعي من مجلسِ أمناء "الجامعة الإسلامية العالمية" بإسلام آباد باختياره رئيسًا لها، وأنشأ المقرَّ الجديد لها في قلب العاصمة الباكستانية، وأضاف إليه 3 كليات جديدة؛ للعلوم الإدارية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم التطبيقية. وحين انتهت مدة رئاسته عام 2003م مُدَّتْ خدمته هناك عامين آخرين حتى عام 2004م فعاد إلى القاهرة أستاذًا غير متفرغ بكلية دار العلوم. د حسن الشافعي التقيناه في مجمع اللغة العربية بمنطقة الزمالك بالقاهرة، وكان هذا الحوار: مساهماتك الفكرية يقدرها العلماء في مجال الفلسفة الإسلامية، وكان الجديد في مجال علم الكلام، أنك أنشأت منهجا أو علما جديدا باسم "علم القواعد الشرعية الاعتقادية" هل كان هذا المنهج أو ذلك العلم هو المسوغ الرئيسي لنيل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، أم كان التقدير لمجمل أعمالك الفكرية؟ أرى أن نيل جائزة خدمة الإسلام تتطلب النظر لمجمل السيرة الفكرية والمسيرة العملية للفائز بالجائزة، فقد كانت براءة الجائزة تشير إلى مجمل أعمالي وما كتبته تحقيقا و تأليفا وترجمة، ولم يشيروا إلى مؤلف معين، ونوهوا إلى الجهد الذي قمت به في الجامعة العالمية الإسلامية في إسلام أباد، حيث أقمت هناك 15 عاما، حيث كان جهدي الأساسي في مناهجها ونظمها الإدارية وإنشاء كلياتها ومعاهدها، وأضفت لها 3 كليات جديدة، وانتقلت بها من مقر تابع لأحد المساجد، لتصبح جامعة عالمية ومكانا تعرف به الجامعة الآن، وهذا ما أعتز به حقيقة في مسيرتي الفكرية والعلمية، بالإضافة إلى دوري في هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومجلس حكماء المسلمين، وفي النهاية أشاروا إلى دوري في خدمة اللغة العربية ورئاستي السابقة لمجمع اللغة العربية، وقيامي الآن على دوري في اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، والمشروعات العلمية التي ننهض بها، كل هذا ينظر له على أنه خدمة للإسلام والعربية. علم جديد ما أهمية علم "القواعد الشرعية الاعتقادية" الذي استحدثته في مجال علم الكلام، وهل من الممكن أن نلقي عليه الضوء لتقريبه لأفهام الناس؟ وانا طالب أزهري درست علم الكلام، وهو علم العقيدة الإسلامية منذ عام 1950، وقرأت في هذا المجال وتخصصت فيه، حتى قدر لي الله أن أكون أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم، وكان معه اهتمامي بفرع علم الكلام، وبعد تعمق فيه أحسست بأنه يجب إنشاء فرع جديد، هناك في منظومة العلوم الفقهية علم يسمى علم القواعد الفقهية، وله نظائر في فكر القانون الغربي، ويهتم بالقواعد التي تحكم التفكير الفقهي ويلجأ إليها في الإجادة وتقديم الحلول التفصيلية المختلفة، والارتفاع إلى هذا المستوى للقواعد العامة التي تحكم الأحكام الاعتقادية، واستطاع علم الفقه أن يتفرع إلى فروع تخدم نفس النظرية العلمية، ومنها علم "القواعد الفقهية"، وفي هذا المجال مؤلفات كثيرة أشهرها كتاب "المصالح الكبرى" لعالم الفقه المصري العز بن عبدالسلام، الذي يتحدث عن مقاصد الشريعة وأهدافها، وأيضا كتاب الشاطبي المشهور "الموافقات". إذا كان الفقهاء الكبار استطاعوا أن يخترعوا فرعا من فروع الدراسات الفقهية يخدم فرعا من منظومة التفكير الفقهي، فلماذا لا يكون له مِثْل في علم الكلام وهو المقابل لعلم الفقه، فهذا هو أصول الفقه، وهذا أصول الدين، فلماذا لا نستحدث فرعا جديدا نسميه "علم القواعد الاعتقادية الشرعية" يجمع القواعد التي تحكم التفكير الاعتقادي، والتفكير في مسائل العقيدة، وبالفعل وجدت أن هذا التفكير ليس جديدا، وأن هناك من كتاب العقائد في الفقه من ضمَّنها بعض الرؤى التي تنظر في المسائل الاعتقادية، والتفكير في مسائل العقيدة، خاصة في علم أصول الفقه. وبعد تعمق فيه أحسست بأنه يجب إنشاء فرع جديد؛ قلت يجب أن نجمع من جديد هذه القواعد الشرعية في علم منفصل وإن كان متصلا، متخصص في جمع هذه القواعد، وقدمت نماذج منها في المجالات المختلفة في كتاب: "مقدمة أساسية لعلم القواعد الفقهية الشرعية" وفي الكتاب تأصيل للفكرة على نحو تأصيلي، لا تفصيلي، لأن التفصيل سيأتي من مصادره الأساسية في القرآن والسنة ومذاهب المتكلمين، وأيضا من علم القواعد الفقهية، وبعد أن أفرغ من مهامي التي تشغلني الآن من تحقيق كتب أبي الحسن الأشعري، ومنها كتاب "اللّمع" وهو كتاب نادر وله نسخة واحدة في العالم كله، وهو أهم كتب الشيخ الإمام الحسن الأشعري، والصادر عن مجلس حكماء المسلمين وتبرعت به لمجلس حكماء المسلمين، وأنا الآن مشغول بكتابة حاشية شارحة لهذا الكتاب حيث سيصدر كتاب يضم الأصل والحاشية قريبا إن شاء الله، وبعد ذلك سأتفرغ لعلم القواعد الاعتقادية الشرعية، وسأستخلصه من القرآن أولًا ثم السنة وبقية المصادر. مذهب الوسطية لكن لماذا حورب المذهب الأشعري في مصر والعالم الإسلامي من قبل، ثم لماذا الاتجاه الآن لتدريس هذا المذهب والدعوة للاهتمام به خاصة من الأزهر؟ أذكر هنا مقولة للشيخ أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر الشريف: أن هذا المذهب هو أحوج ما يحتاج المسلمون لمعرفته اليوم للخروج من هذه الفتنة الملعونة التي انزلق إليها المسلمون وهم لا يشعرون، وهي فكرة التكفير التي يُعنى بها من يريد استحلال المال والأعراض، ولا يوجد مذهب من مذاهب الأمة العقدية التي نزلت على أرض الواقع وتحركت على أرضها سلم من تكفير المؤمنين غير مذهب الإمام الأشعري! وأضيف أن هذا حدث أيضا من متعصبي الوهابية، ثم من القاعدة وداعش، وممن يدعون أنهم أنصار بيت المقدس وغيرهم الذين استحلوا الدماء والأعراض والأموال للمسلمين وغير المسلمين، وهذا التوجه ليس من توجه الشيخ أحمد الطيب، بل هذا توجه بدأ منذ أكثر من 700 عام، الأزهر بدأ مؤسسة شيعية كما هو معلوم على أيدي الفاطميين، بقيادة المعز لدين الله الفاطمي، وكانوا منحرفين جدا عن نهج الصحابة، ومتطرفين جدا في تعظيم الإمام، وكلنا يعلم قصيدة ابن هانئ الأندلسي عندما انتصر المعز لدين الله ودخل مصر قال له: خلع عليه أوصاف الله عز وجل وأسمائه الحسنى، وصفات النبي، ولهذا انتقم الله منهم ولم يعمروا في مصر سوى قرنين من الزمان وتم استئصال شأفتهم تماما، ولم يبق في مصر شيعي واحد، وتحول المصريون منذ عهد صلاح الدين إلى المذهب السني، ومنذ صلاح الدين ومذهب الأشاعرة السني هو المعتمد للدراسة بالأزهر، ونحن نمضي على نهج شيوخنا السابقين ومنهم الحسن العطار والطهطاوي والشيخ محمد عبده، وسائر المجددين الذين نرجو أن يكون لهم تلاميذ وعلماء وأبناء على نفس النهج في الوقت الحاضر. ابن رشد نموذج الحداثة أرى من ناحية أخرى إعجابك الواضح بالعلامة ابن رشد، ومحاولتك لترسيخ الفكر الوسطي، ومحاربة الأفكار المنحرفة في التفكير، ومقاومة الغلو في الدين في ظل الحوادث المتجددة؟ اهتمامي بابن رشد كان بتشجيع من أستاذنا الدكتور محمود قاسم عميد كلية دار العلوم، ورئيس قسم الفلسفة، والمؤسس الحقيقي لهذا القسم، وكانت قضية حياته إنصاف فكر ابن رشد، وكما نعرف أن فكر ابن رشد يختلف في التأويل بين الشرقيين والغربيين، الغربيون خاصة رجال الكنيسة يستخدمون أفكاره ويعتبرونه ملحدا ويحاربونه، مع أنهم تلاميذ على فكره، وأما التيار العلماني الإلحادي فيعتبر ابن رشد المؤسس لفكرهم العلماني، وهذا خطأ في فهم ابن رشد. ابن رشد مفكر مسلم مؤمن، ويقيم أفكاره النهضوية على أسس قرآنية ولا ننسى أنه كان قاضي قضاة قرطبة، وهو أكبر القضاة الشرعيين، ووالده وجده تسنموا هذا المنصب من قبله، وليس غريبا أن أول كتاب كتبه في الفقه كان "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" وهو كتاب في الفقه المقارن بين المذاهب المختلفة، ويحدد الحكم الأرجح. والتأويل الإسلامي الشرقي لفكر ابن رشد أنه فكر إسلامي صريح، وأنه عني بالجمع بين الشريعة والحكمة وبين العقل والنقل، وبين الفكر والفلسفة، كما جاء في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، ابن رشد مفكر مسلم، ولكن ما أشاعه عنه الغرب أنه قائد الاتجاه الالحادي اللاتيني كان هذا خطا في التفكير، وإن كان ما زال يجد له مؤيدين لدى البعض من الكتاب المصريين. وفي بعض الأقسام الفلسفية بالجامعات، حاولنا إنصاف ابن رشد كمفكر إسلامي، وكان معنا بعض الأساتذة مثل الدكتورة زينب الخضيري رئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وأثبت الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف الأسبق أن فكر الغزالي وابن سينا هو الأصل فيما قاله ديكارت، وديكارت قرأ بالعربية هذه الكتب وتأثر بها، فالدور الذي قام به فكر ابن رشد في الحضارة الغربية، يجب أن يوازيه اهتمام بهذا الفكر في الحياة الفكرية الإسلامية المشرقية، وإذا لم يكن هذا حدث في الماضي فممكن أن يحدث الآن. والأفكار المناديَة بالقطيعة مع التراث، والأخذ بالعلمانية المطلقة والخروج على الدين، وهذه الأفكار التي تعتبر خروجا على العقلية العربية من بعض المغاربة وبعض المصريين، هذه دعوات انتهت، وأصبح الجميع ينادون بتجديد الفكر الديني، في إطار يتسق مع الظروف الحاضرة، فلا قطيعة ولا تقديس مع التراث، وإنما هو التعامل مع الفكر الديني من خلال حداثة إسلامية تفيد هذا المجتمع العربي والإسلامي، والنموذج الذي يهدينا في هذا، هو نموذج ابن رشد. المعجم التاريخي المعجم التاريخي العربي الذي يقوم به اتحاد المعاجم العلمية العربية، حلم انتظرته الأمة العربية منذ أكثر من قرن، ويتم التجهيز والتخطيط له منذ 40 عاما، إلى أي مرحلة من الإنجاز وصل؟ وما المدة اللازمة لإنهاء المعجم التاريخي العربي، مع أن الإنجليز عندما قاموا بإنجاز هذا المعجم استغرق منهم قرنا كاملا؟ اهتدينا في المعجم التاريخي بأصول المعجميات العالمية، وما تم في معاجم أخرى ولكن مع مراعاة طبيعة اللغة العربية التي تعتمد على الجذر اللغوي ومنه ينبثق كل شيء في اللغة، ولحسن الحظ بدأت الفكرة من مشروع بدأه المغفور له الاستاذ سعيد بدوي، وهو صاحب الفكرة المطبقة الآن في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في معجم "تاريخ الشعر العربي" وهذا مشروع في إطار الشعر العربي فقط، إنما المعجم التاريخي يتناول اللغة بكل ميادينها، علم وفن وشعر ونثر وحكم وخطب وغيرها، وعن طريق الجذر وتطويره في منهج، وجاء من طوّر هذا، وقام الأستاذ مأمون وجيه بتحويل هذا إلى مشروع شبه رقمي يمكن أن ينتظم خطوات المعجم التاريخي من البداية للنهاية، ولما توفر هذا المنهج و طرحناه على العلماء العرب، وتوفر التمويل والإدارة عن طريق الدكتور القاسمي، وفي غضون عامين على الأكثر سوف يكتمل هذا المعجم التاريخي الذي قد يصل إلى 50 مجلدا.


الجزيرة
١٧-١١-٢٠٢٤
- الجزيرة
حرب غزة والنموذج المقاوم: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
مقالات مقالات, الحرب الجارية على المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هي الحرب السادسة عشرة في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية، وفق رصد أ.د. نادية مصطفى ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة. وهي بهذا تستكمل ما قام به المستشار طارق البشري – المفكر والقاضي المصري رحمه الله – الذي يميز في محاضرة وورقة مهمة بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير. ففي رأي البشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 – حين كتب ورقته – هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أم شعبية، ومتضمنة الحروب الأميركية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة. وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمس كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب. جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأميركان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولًا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009. تمثِّل هذه الحروب – في نظر البشري – حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو إستراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية. ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. لكن مع كل معركة جديدة في صراع سيمتد معنا لعقود قادمة؛ يحسن أن نتوقف لنستخلص الاتجاهات التاريخية، كما يرسمها نموذج التحرير والمقاومة. إن إحدى سمات نموذج المقاومة/ التحرير هي سيرورته التي لا تجد معناها في الامتداد التاريخي فقط؛ بل أيضًا في نضالات مستمرة تخبو حينًا، ولكنها سرعان ما تعاود الفعل الانتفاضي بأشكال جديدة. من المهم التفكير في الطوفان باعتباره جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني على مدار قرن أو يزيد، ونضالات الشعوب العربية نحو التحرر من العجز، وهو لا يمكن النظر إليه باعتباره حدثًا يمكن أن يفشل أو ينجح. فهْم البعد الزمني أمر حاسم في هذا القبيل؛ حيث إن إدراك تأثير الوقائع في مجمل عملية التحرر، يُكتب بأثر رجعي. ونقطة البدء في بناء النموذج المقاوم/ التحرر هي: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟ أولًا: نظام رسمي عربي لم تعد له هوية واضحة وهو نظام لم تعد له هوية واضحة، أصابه التفتت والانقسام، وباتت مكونات منه جزءًا من نظام صهيو/عربي يجري مأسسته بعد أن دشنته اتفاقات التطبيع. أظهر الطوفان أن هناك أنظمة عربية لم تقم بواجب النصرة والمساندة للفلسطينيين فقط؛ بل تآمرت عليهم وقدمت الدعم المادي والمعنوي للكيان الصهيوني وبشكل علني، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع. قبل ذلك ربما تم ذلك من بعض الأنظمة، ولكنه كان يجري بشكل مستتر وخفي. يستند هذا النظام إلى أسس أربعة: المصالح القُطرية أولًا. المصالح الاقتصادية تقود السياسة. إخراج القيم من المشهد، حيث البراغماتية – تحت عنوان الواقعية – هي التي يجب أن تسود. القفز على تطلعات الجماهير. برز مع الطوفان الاختلاف الواضح بين موقف الأنظمة العربية من مساندة الفلسطينيين الذي اقتصر على التصريحات والبيانات اللفظية، وقد يمتد إلى الإغاثة، وبين موقف الشعوب العربية التي انحازت في مجملها لدعم ومساندة الفلسطينيين. سبق أن تعرضت في مقال سابق لهذه السمات بالتفصيل والتي يطلق عليها البعض "الشرق الأوسط الجديد"، لكن الجديد الذي كشف عنه الطوفان هو كيف باتت إسرائيل جزءًا وأحد مكونات هذا النظام رغبًا ورهبًا؛ رغبًا من خلال قيام بعض الأنظمة ببناء مصالح مشتركة معها، ورهبًا من خلال التوحش المدعوم غربيًا، وهي تتطلع أن تقود هذا النظام في شقه الأمني على الأقل. ثانيًا: عجز شعبي عربي عن النصرة والمساندة العرب والمسلمون – شعوبًا وحكومات – هم أقل المساهمين في نصرة الفلسطينيين. المشكلة أن الدولة العربية تحجب نصرة الشعوب وتحول دون التعبير عن مواقفهم بحرية. الموقف الشعبي العربي يدفع الفلسطينيون ثمنَه بحرمان الأنظمة شعوبَها من الحرية وانتشار القمع بينهم، كما يدفعون ثمنه من إنهاك يتعرضون له بحكم سياسات نيوليبرالية شرسة. لا أدري إن بات قطاع معتبر من الشعوب العربية يدرك وحدة ساحات النضال لديه؟ فهذه الحكومات التي خذلت الفلسطينيين وتخلت عنهم هي المسؤول الأول عن إفقارهم وسوء معيشتهم. بات الأخيرون جزءًا من مشاريع نيوليبرالية معولمة تعود عليهم فقط وعلى تحالف حكمهم الضيق بالمنافع والامتيازات دون الشعوب التي بات الإنهاك يحيط بها في كل ركن من حياتها. المواطن العربي المنهك يشعر بثقل ووطأة المأساة، ولكنْ هناك أولويات وضغوط أخرى: اجتمعت على كثير من المواطنين العرب ضغوط كثيرة، فالمجتمع يرزح تحت وطأة سياسات اقتصادية ذات طبيعة نيوليبرالية شرسة تدفع بطبقاته الوسطى والدنيا إلى الانصراف إلى توفير الحياة الكريمة – في حدودها الدنيا – لهم ولأسرهم، وتحيط به الصراعات في كل مكان؛ كما في ليبيا، والسودان، وسوريا. على مدار 10 سنوات أو يزيد، تم تطبيعنا – نحن الشعوب العربية – مع الإبادة الجماعية وعنف الدولة والمجموعات والتنظيمات غير الرسمية، ومن ثم كانت الحرب على الفلسطينيين واللبنانيين بعد "طوفان الأقصى" – للأسف – إحدى الحلقات المستمرة لعملية التطبيع هذه. يبدو الفاعل مختلفًا هذه المرّة، وتتباين الشعوب التي تتعرض لها، لكن تظل التأثيرات واحدة والتداعيات مشتركة ومستمرة. على مدار العقد الماضي، تفشت ولا تزال الحروب الأهلية في المنطقة، وشارك فيها الجميع بالدعم والمساندة أو بالصمت والسكوت. جرى إخفاء الضحايا والتحلل من المسؤولية الواجبة بالدعاية أو إثارة الجدل السياسي أو الاستقطاب أو تحميل المسؤولية للآخرين أو بإثارة الأسئلة الخاطئة في اللحظة التي يتعرّض فيها البشر للإبادة. أدرك الفلسطينيون في حرب الإبادة أنهم وحدهم؛ فلم يسعفهم تضامن الآخرين: لا مظاهرات الجامعات الأميركية، ولا قرارات محكمة العدل والمنظمات الدولية، ولا مساندة الشعوب، ولا تصريحات المسؤولين، ولا الاعتراف بدولتهم.. فالمعاناة والمأساة اللتان يكابدونهما في كل لحظة هما معاناتهم ومأساتهم وحدهم. من أبرز ما جرى في الطوفان هو التكيف المعرفي مع الإبادة. جرى ذلك عن طريق تزويدنا بروايات ودعايات سياسية لقبول العنف مثل: عمل المقاومة لصالح إيران وبقرار منها، أو أنها حين قامت بعملية طوفان الأقصى لم تستشر الفلسطينيين، أو أنها من جماعات الإسلام السياسي وفصيل من الإخوان الموصومين بالإرهاب، أو أنها غير وطنية، أو على أقل تقدير خرجت عن الإجماع الوطني، أو أنهم يستحقون ما يتعرضون له؛ فعلى نفسها جنت براقش، وأخيرًا وليس آخرًا؛ شريكة في الإبادة مع الإسرائيليين – كما صرح أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية. رابعًا: التحرر من الاستعمار المباشر وغير المباشر هذا الاستعمار – بشكله القديم والمتجدد – هو المكون الرابع مما ينبغي أن نتحرر منه كسبيل لبناء النموذج المقاوم. أعادتنا الحرب الجارية في المنطقة لأكثر من عام للتساؤل عن: هل تحررنا نحن العرب من الاستعمار حقًا؟ كشفت الحرب على غزة حقائق خمسًا يجب أن نتوقف أمامها طويلًا: نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيوليبرالي، مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا. نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، التي انتشرت قواعدها العسكرية وجنودها في كل مكان في المنطقة (يتمركز نحو 30 ألفًا من جنودها بشكل دائم في العشرات من القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من 15 دولة في الإقليم)، وقدمت من خلالها الدعم المباشر وغير المباشر لإسرائيل. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991. مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا. في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا. هل هناك علاقة بين التبشير باليوم التالي في غزة الذي ستكون فيه مركزا اقتصاديا على البحر المتوسط، وبين تفكيك المقاومة مستقبلًا من خلال هذا النموذج؟ قوى إقليمية غير عربية احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا. أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة – هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي. أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع والاتفاق المرشح مع الدولة اللبنانية، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيوليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع – إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى عاصمة للتجارة والأعمال على البحر المتوسط. خامسًا: الاستقطاب المسموم برز مع طوفان الأقصى موقفان كبيران يضم كل منهما أطرافًا متعددة مختلفة، وبين هذين الموقفين يوجد من ينتظر متفرجًا أو لم يحسم انحيازه بعد إلى أي الفريقين يجب أن ينضم؛ لعل تطور الأحداث ونهاية المعركة تساعده على حسم موقفه. الموقف الأول يضم الإسلاميين في المنطقة، وقوميين ومجموعات علمانية ويسارية، ونخبًا مثقفة تضم تنويعات كثيرة. تدرك هذه المجموعات – وغيرها الكثير- التهديد الوجودي الذي يمثله المشروع الصهيوني في المنطقة، كما ظهر جليًا في الإبادة الجماعية التي تتدفق صورها على مدار اليوم والمستمرة لأكثر من عام حتى الآن. يدرك هذا الفريق فداحة تأثير الإبادة الجارية على الفلسطينيين في مستقبل دول وشعوب المنطقة، وكيف سيكون لنتيجة هذه المعركة تأثير حاسم على ذاته ونفسيته أولًا، وعلى دور المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسس تأييد الحكومات الغربية له، وفي القلب منه علاقة حكومات دول المنطقة بهذا المشروع. هؤلاء يقفون جميعًا في مواجهة موقف يضم كثيرًا من الأنظمة العربية، ومعظم الحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة. تملك هذه الأطراف تصورًا لمستقبل المنطقة يقوم أساسًا على قوة الاقتصاد والمصالح المالية في تفكيك جميع الصراعات، وإن لم يتمّ ذلك، فيمكن القفز عليها أو إنكار كثير من حقائقها. الأيديولوجيات يجب أن يختفي أصحابها، والنضالات الاجتماعية مرفوضة، والمقاومة المسلحة مدانة، ونصرة المظلوم هي فقط بالإغاثة، والتضامن العربي أو الإسلامي بقايا ماضٍ انتهت صلاحيته؛ فالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية للدولة الوطنية هي الحكم، وغير ذلك هراء أو من سفاسف الأمور التي نهينا عنها وطنيًّا وعقليًّا وربما شرعيًّا. بين هذين الموقفين هناك من لا يزال يراجع موقفه، أو لم يحسم أمره بعد؛ تتملّكه الهواجس والمخاوف من "حماس الإسلامية"، أو لا يزال قابعًا في قفص الأيديولوجيا الجامد وانحيازاته السياسية، أو يعيش في ظلال الماضي القريب أو البعيد بمعاركه السياسية والفكرية. طوفان المقاومة يحمل بذور صدام إستراتيجي بين تصورين وإدراكين متمايزين متضادين يتجسدان في يحيى السنوار الذي مات لتحيا أمة، والبراغماتي المنسلخ من أية قيمة أو انتماء. وبغية التغطية على هذا الاستقطاب تم بعث وإذكاء استقطابات أخرى مسمومة. بناء نموذج المقاومة/ التحرر – كما كلمة التوحيد – له شقان: نفي وإثبات. عالجت في هذا المقال الشق الأول، ويتبقى أن أشير في التالي إلى مرتكزاته ومقوماته التي لا غنى عنها.