الوقف: مشروعيته في الإسلام
يُعد الوقف إحدى الركائز الحضارية العميقة في البناء الاجتماعي والاقتصادي للأمة الإسلامية، إذ لا يقتصر على كونه آلية للتكافل أو نظامًا خيريًا تقليديًا، بل يُعبّر عن منظومة متكاملة من القيم المستندة إلى مبادئ العطاء الإنساني المستدام. يقوم الوقف على حبس الأصل وتخصيص منفعته في سبيل الله، وهو ما يجعله شكلاً فريدًا من أشكال الملكية العامة الدائمة التي لا تخضع للبيع أو الهبة أو الإرث، وإنما تُخصص لخدمة المنافع العامة بصورة مستمرة.وهذا يعني إن مفهوم الوقف في الإسلام لا يمكن اختزاله في البعد الخيري فحسب، بل يُعد تعبيرًا عن فلسفة اجتماعية واقتصادية تعكس الرؤية الإسلامية للعدالة التوزيعية والمسؤولية الجماعية. ويتميّز الوقف بأنه يتجاوز حدود الزمان والمكان، لكونه نظامًا دائمًا تُنقل ملكيته من الفرد إلى المجتمع، ويُستثمر ريعه في تلبية حاجات إنسانية متنوعة كالتعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، مما يُسهم في بناء مجتمع متماسك ومستدام. وقد مثّل الوقف أحد أعمدة الحضارة الإسلامية، حيث تجلّت من خلاله القدرة الفريدة للإسلام على تحويل المبادئ الأخلاقية إلى مؤسسات عملية ذات أثر مستمر.ولهذا فقد عرّفه الفقهاء، في المذهب الحنفي، بأنه «نزع ملكية المال من يد مالكه وتخصيصه لله تعالى، على نحو يجعل منافعه دائمة ومستمرة لصالح البشرية»، مما يعكس عمق البُعد الاجتماعي والروحي لهذه المؤسسة.ويتضح من هذا التعريف أن الوقف لا يُنظر إليه كفعل فردي عابر، بل كمؤسسة ذات طبيعة قانونية واجتماعية مركبة، ترتكز على إخراج المال من حيازة المالك إلى حيازة جماعية مشروطة لا يملك أحد التصرف فيها إلا بما يوافق شرط الواقف. وتُبرز هذه الرؤية الفقهية للوقف عنصرين جوهريين: الاستدامة، من خلال حبس الأصل، والتخصيص، من خلال توجيه العائد إلى مصارف مشروعة. وهذا التوازن بين الحفاظ على رأس المال وتحقيق المنفعة ينسجم مع مقاصد الشريعة في تعظيم النفع ودفع الضرر، ما يجعل الوقف إحدى الأدوات التشريعية التي جمعت بين التعبد والمصلحة العامة.ثلاثة مرتكزات لمشروعية الوقفأولًا: القرآن الكريمرغم أن لفظ «الوقف» لم يرد صراحة في القرآن الكريم، إلا أن جوهره ومقاصده حاضرة بجلاء في عدد كبير من الآيات التي تحث على الإنفاق في سبيل الله، وتدعو إلى البذل والعطاء، ومنها قوله تعالى:لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92وقوله تعالى:مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ البقرة: 261وتشير هذه الآيات إلى تأصيل مبدأ البذل من أجود ما يملك الإنسان، وهو ما يتجلى بوضوح في الوقف الذي يشترط غالبًا أن يكون من أطيب الأموال وأغلاها قيمة. وتؤكد الآيات كذلك على الطابع المضاعف للثواب الناتج عن الإنفاق في سبيل الله، مما يدفع الإنسان المسلم إلى اعتماد الوقف كأداة دائمة لتحقيق هذا الأجر المضاعف. وبالرغم من عدم التصريح باللفظ، إلا أن التوجيه القرآني نحو «الإنفاق المستمر» و»العطاء النافع» يمثل أرضية تشريعية صلبة لمشروعية الوقف بوصفه أحد أشكال الصدقة الجارية التي تخدم المجتمع وتُبقي العمل الصالح ممتدًا إلى ما بعد وفاة صاحبه.ثانيًا: السنة النبويةأكدت السنة النبوية على مشروعية الوقف من خلال التطبيق العملي والتشجيع عليه، إذ كان النبي محمد ? أول من أوقف أرضًا لبناء مسجد قباء، وغرس بذلك النموذج الأول لمفهوم «حبس الأصل وتسبيل المنفعة». ويُستدل من الحديث الشريف:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»أن الصدقة الجارية – والتي فسرها العلماء بأنها الوقف – تُعد من الأعمال المستدامة التي تبقى آثارها بعد الوفاة. وتُظهر هذه السنة الفعلية والتقريرية بوضوح كيف أن الوقف يُعد من الأدوات الشرعية التي تحفظ استمرارية الخير في المجتمع.تعكس السنة النبوية في هذا السياق الطابع العملي والتطبيقي للتشريع الإسلامي، حيث لا يكتفي بتقديم المبادئ المجردة، بل يقرنها بنماذج تطبيقية فعلية. فمبادرة النبي ? إلى إنشاء الوقف وتوجيه الصحابة إليه - كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقفه لأرض خيبر - تؤكد على تأصيل هذا النظام في التجربة الإسلامية الأولى. كما أن الحديث الشريف يضع الوقف في صدارة الأعمال الصالحة التي يستمر نفعها بعد وفاة الإنسان، مما يمنحه بُعدًا أخرويًا إضافة إلى نفعه الدنيوي، ويُكرّس لمفهوم «الاستدامة في الأجر» من خلال الاستدامة في الأثر المجتمعي.ثالثًا: الاجتهاد الفقهيأسهم الفقهاء عبر العصور في بناء منظومة الوقف من خلال اجتهادات مستندة إلى النصوص العامة للكتاب والسنة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية الكبرى مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». ورغم اختلاف التفاصيل الفقهية بين المذاهب، إلا أن هناك إجماعًا على أن مشروعية الوقف تتطلب النية الصادقة لوجه الله، وأن تُوجه منافعه إلى أهداف مشروعة تعود بالنفع العام. هذه الاجتهادات أثبتت قدرة الفقه الإسلامي على تطوير أدوات تنظيمية فعالة تحقّق المقاصد العليا للشريعة في مجالات العدالة والتكافل والاستدامة.تميز الفقه الإسلامي بمرونته في التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وقد ظهر ذلك جليًا في تطور أحكام الوقف. فمن خلال قاعدة «شرط الواقف كنص الشارع» أُعطي الواقف سلطة كبيرة في توجيه ريعه بما يحقق غايات متعددة. كما أن تنوع الأوقاف تاريخيًا – من أوقاف العلم والصحة إلى أوقاف الحيوانات والعابرين – يدل على اتساع دائرة المصالح المعتبرة شرعًا التي يمكن للوقف أن يخدمها. إن تضافر النصوص مع الاجتهاد الفقهي يؤسس لشرعية الوقف ضمن بنية متكاملة من مقاصد الشريعة التي توازن بين حقوق الفرد والصالح العام.الوقف: عبادة اختيارية لا إلزام فيهاالوقف لا يُعد فريضة واجبة، وإنما هو من أعظم القربات المستحبّة التي يتقرب بها العبد إلى ربه. فهو يعكس صورة حضارية راقية لمسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، كما يسهم في إعادة توزيع الثروات، وتوفير الخدمات الحيوية للفئات الأقل حظًا، ويعزز من مفاهيم العدالة الاجتماعية والرحمة في الإسلام. بهذه الخصائص، يبرز الوقف كأداة تنموية متقدمة تجمع بين الأجر الأخروي والمنفعة الدنيوية.الطابع الاختياري للوقف يمنحه خصوصية متميزة، إذ يُمارس بدافع من الإيمان والضمير الأخلاقي، لا من باب الالتزام القانوني أو الجبري، مما يجعل أثره في النفوس والمجتمعات أكثر عمقًا وتجذرًا. وقد نجح الوقف تاريخيًا في سد ثغرات كبرى في الخدمات العامة دون أن يُثقل كاهل الدولة، بما يجعله من أهم أدوات «الاقتصاد المجتمعي» الذي يعتمد على المبادرات الذاتية والمؤسسات المدنية في تلبية الحاجات العامة. وهو بذلك يُعد تجسيدًا حيًّا لمبدأ «التنمية من الداخل»، التي تقوم على وعي الأفراد والتزامهم الاجتماعي والأخلاقي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 7 ساعات
- أخبارنا
لارا سامي خمش : الوقف: مشروعيته في الإسلام
أخبارنا : يُعد الوقف إحدى الركائز الحضارية العميقة في البناء الاجتماعي والاقتصادي للأمة الإسلامية، إذ لا يقتصر على كونه آلية للتكافل أو نظامًا خيريًا تقليديًا، بل يُعبّر عن منظومة متكاملة من القيم المستندة إلى مبادئ العطاء الإنساني المستدام. يقوم الوقف على حبس الأصل وتخصيص منفعته في سبيل الله، وهو ما يجعله شكلاً فريدًا من أشكال الملكية العامة الدائمة التي لا تخضع للبيع أو الهبة أو الإرث، وإنما تُخصص لخدمة المنافع العامة بصورة مستمرة. وهذا يعني إن مفهوم الوقف في الإسلام لا يمكن اختزاله في البعد الخيري فحسب، بل يُعد تعبيرًا عن فلسفة اجتماعية واقتصادية تعكس الرؤية الإسلامية للعدالة التوزيعية والمسؤولية الجماعية. ويتميّز الوقف بأنه يتجاوز حدود الزمان والمكان، لكونه نظامًا دائمًا تُنقل ملكيته من الفرد إلى المجتمع، ويُستثمر ريعه في تلبية حاجات إنسانية متنوعة كالتعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، مما يُسهم في بناء مجتمع متماسك ومستدام. وقد مثّل الوقف أحد أعمدة الحضارة الإسلامية، حيث تجلّت من خلاله القدرة الفريدة للإسلام على تحويل المبادئ الأخلاقية إلى مؤسسات عملية ذات أثر مستمر. ولهذا فقد عرّفه الفقهاء، في المذهب الحنفي، بأنه «نزع ملكية المال من يد مالكه وتخصيصه لله تعالى، على نحو يجعل منافعه دائمة ومستمرة لصالح البشرية»، مما يعكس عمق البُعد الاجتماعي والروحي لهذه المؤسسة. ويتضح من هذا التعريف أن الوقف لا يُنظر إليه كفعل فردي عابر، بل كمؤسسة ذات طبيعة قانونية واجتماعية مركبة، ترتكز على إخراج المال من حيازة المالك إلى حيازة جماعية مشروطة لا يملك أحد التصرف فيها إلا بما يوافق شرط الواقف. وتُبرز هذه الرؤية الفقهية للوقف عنصرين جوهريين: الاستدامة، من خلال حبس الأصل، والتخصيص، من خلال توجيه العائد إلى مصارف مشروعة. وهذا التوازن بين الحفاظ على رأس المال وتحقيق المنفعة ينسجم مع مقاصد الشريعة في تعظيم النفع ودفع الضرر، ما يجعل الوقف إحدى الأدوات التشريعية التي جمعت بين التعبد والمصلحة العامة. ثلاثة مرتكزات لمشروعية الوقف أولًا: القرآن الكريم رغم أن لفظ «الوقف» لم يرد صراحة في القرآن الكريم، إلا أن جوهره ومقاصده حاضرة بجلاء في عدد كبير من الآيات التي تحث على الإنفاق في سبيل الله، وتدعو إلى البذل والعطاء، ومنها قوله تعالى: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92 وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ البقرة: 261 وتشير هذه الآيات إلى تأصيل مبدأ البذل من أجود ما يملك الإنسان، وهو ما يتجلى بوضوح في الوقف الذي يشترط غالبًا أن يكون من أطيب الأموال وأغلاها قيمة. وتؤكد الآيات كذلك على الطابع المضاعف للثواب الناتج عن الإنفاق في سبيل الله، مما يدفع الإنسان المسلم إلى اعتماد الوقف كأداة دائمة لتحقيق هذا الأجر المضاعف. وبالرغم من عدم التصريح باللفظ، إلا أن التوجيه القرآني نحو «الإنفاق المستمر» و»العطاء النافع» يمثل أرضية تشريعية صلبة لمشروعية الوقف بوصفه أحد أشكال الصدقة الجارية التي تخدم المجتمع وتُبقي العمل الصالح ممتدًا إلى ما بعد وفاة صاحبه. ثانيًا: السنة النبوية أكدت السنة النبوية على مشروعية الوقف من خلال التطبيق العملي والتشجيع عليه، إذ كان النبي محمد ? أول من أوقف أرضًا لبناء مسجد قباء، وغرس بذلك النموذج الأول لمفهوم «حبس الأصل وتسبيل المنفعة». ويُستدل من الحديث الشريف: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» أن الصدقة الجارية – والتي فسرها العلماء بأنها الوقف – تُعد من الأعمال المستدامة التي تبقى آثارها بعد الوفاة. وتُظهر هذه السنة الفعلية والتقريرية بوضوح كيف أن الوقف يُعد من الأدوات الشرعية التي تحفظ استمرارية الخير في المجتمع. تعكس السنة النبوية في هذا السياق الطابع العملي والتطبيقي للتشريع الإسلامي، حيث لا يكتفي بتقديم المبادئ المجردة، بل يقرنها بنماذج تطبيقية فعلية. فمبادرة النبي ? إلى إنشاء الوقف وتوجيه الصحابة إليه - كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقفه لأرض خيبر - تؤكد على تأصيل هذا النظام في التجربة الإسلامية الأولى. كما أن الحديث الشريف يضع الوقف في صدارة الأعمال الصالحة التي يستمر نفعها بعد وفاة الإنسان، مما يمنحه بُعدًا أخرويًا إضافة إلى نفعه الدنيوي، ويُكرّس لمفهوم «الاستدامة في الأجر» من خلال الاستدامة في الأثر المجتمعي. ثالثًا: الاجتهاد الفقهي أسهم الفقهاء عبر العصور في بناء منظومة الوقف من خلال اجتهادات مستندة إلى النصوص العامة للكتاب والسنة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية الكبرى مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». ورغم اختلاف التفاصيل الفقهية بين المذاهب، إلا أن هناك إجماعًا على أن مشروعية الوقف تتطلب النية الصادقة لوجه الله، وأن تُوجه منافعه إلى أهداف مشروعة تعود بالنفع العام. هذه الاجتهادات أثبتت قدرة الفقه الإسلامي على تطوير أدوات تنظيمية فعالة تحقّق المقاصد العليا للشريعة في مجالات العدالة والتكافل والاستدامة. تميز الفقه الإسلامي بمرونته في التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وقد ظهر ذلك جليًا في تطور أحكام الوقف. فمن خلال قاعدة «شرط الواقف كنص الشارع» أُعطي الواقف سلطة كبيرة في توجيه ريعه بما يحقق غايات متعددة. كما أن تنوع الأوقاف تاريخيًا – من أوقاف العلم والصحة إلى أوقاف الحيوانات والعابرين – يدل على اتساع دائرة المصالح المعتبرة شرعًا التي يمكن للوقف أن يخدمها. إن تضافر النصوص مع الاجتهاد الفقهي يؤسس لشرعية الوقف ضمن بنية متكاملة من مقاصد الشريعة التي توازن بين حقوق الفرد والصالح العام. الوقف: عبادة اختيارية لا إلزام فيها الوقف لا يُعد فريضة واجبة، وإنما هو من أعظم القربات المستحبّة التي يتقرب بها العبد إلى ربه. فهو يعكس صورة حضارية راقية لمسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، كما يسهم في إعادة توزيع الثروات، وتوفير الخدمات الحيوية للفئات الأقل حظًا، ويعزز من مفاهيم العدالة الاجتماعية والرحمة في الإسلام. بهذه الخصائص، يبرز الوقف كأداة تنموية متقدمة تجمع بين الأجر الأخروي والمنفعة الدنيوية. الطابع الاختياري للوقف يمنحه خصوصية متميزة، إذ يُمارس بدافع من الإيمان والضمير الأخلاقي، لا من باب الالتزام القانوني أو الجبري، مما يجعل أثره في النفوس والمجتمعات أكثر عمقًا وتجذرًا. وقد نجح الوقف تاريخيًا في سد ثغرات كبرى في الخدمات العامة دون أن يُثقل كاهل الدولة، بما يجعله من أهم أدوات «الاقتصاد المجتمعي» الذي يعتمد على المبادرات الذاتية والمؤسسات المدنية في تلبية الحاجات العامة. وهو بذلك يُعد تجسيدًا حيًّا لمبدأ «التنمية من الداخل»، التي تقوم على وعي الأفراد والتزامهم الاجتماعي والأخلاقي.

عمون
منذ 9 ساعات
- عمون
هديرس يرعى تخريج طالبات الثانوية العامة في مدرسة سويمة
عمون - من شادي نبيل - رعى مدير التربية والتعليم للواء الشونة الجنوبية د. مازن هديرس، يرافقه مدير الشؤون التعليمية د.شاهر الدريدي حفل تخريج طالبات الثانوية العامة فوج 2007 من مدرسة سويمة الثانوية الشاملة للبنات، والذي أقيم في ساحة المدرسة بحضور عدد من موظفي المديرية، وأهالي الطلبة، وأبناء المجتمع المحلي. واستهل الحفل الذي أقيم في ساحة المدرسة، بالسلام الملكي وتلاوة عطرة من القرآن الكريم، أعقبتها فقرة شعرية وطنية، قبل أن تدخل الخريجات في موكب مهيب وسط تصفيق الحضور. وفي كلمته خلال الحفل، أكد الدكتور مازن هديرس أهمية الاحتفاء بإنجاز الطالبات، مشيداً بجهود الكادر الإداري والتدريسي في المدرسة، ودورهم في تعزيز قيم الانتماء والتميز، ومواكبة تطلعات وزارة التربية والتعليم في بناء جيل واعٍ ومبدع. مثمناً الدعم الكبير الذي يقدمه أولياء الأمور، والذي كان له بالغ الأثر في تحقيق هذا النجاح. وتخلل الحفل كلمات لكل من رئيس مركز أمن البحر الميت العقيد مهند بيك الرباعية، ورئيس بلدية سويمة السيد عيسى الجعارات، وولي الأمر السيد محمد الجعارات، حيث عبروا عن فخرهم واعتزازهم بالخريجات، وقدموا التهاني لهن ولأسرهن. وشهد الحفل فقرات وطنية وفنية متنوعة، وقصائد شعرية، وكلمة مؤثرة ألقتها إحدى الخريجات نيابة عن زميلاتها، عبّرت فيها عن مشاعر الامتنان والفخر بهذا اليوم الاستثنائي. وفي لفتة إنسانية مميزة، قام الدكتور هديرس بتكريم الخريجات وتسليمهن شهادات كتاب شكر تقديراً لتفوقهن، وسط أجواء احتفالية رسمت البسمة على وجوه الطالبات وأسرهن. من جانبها، تقدمت مديرة المدرسة السيدة بلقيس العدوان، والهيئة التدريسية والطالبات وأولياء الأمور، برسالة شكر وامتنان لمدير التربية والتعليم على رعايته الكريمة واهتمامه المتواصل، مثمنين هذه اللفتة التي أدخلت الفرح إلى قلوب الجميع. وفي ختام الحفل، تم تسليم الراية للخريجات الجدد والتقاط الصور التذكارية، في أجواء من الفخر والاعتزاز، تأكيداً على استمرار مسيرة التميز والعطاء في مدرسة سويمة الثانوية الشاملة للبنات.

الدستور
منذ 10 ساعات
- الدستور
الوقف: مشروعيته في الإسلام
يُعد الوقف إحدى الركائز الحضارية العميقة في البناء الاجتماعي والاقتصادي للأمة الإسلامية، إذ لا يقتصر على كونه آلية للتكافل أو نظامًا خيريًا تقليديًا، بل يُعبّر عن منظومة متكاملة من القيم المستندة إلى مبادئ العطاء الإنساني المستدام. يقوم الوقف على حبس الأصل وتخصيص منفعته في سبيل الله، وهو ما يجعله شكلاً فريدًا من أشكال الملكية العامة الدائمة التي لا تخضع للبيع أو الهبة أو الإرث، وإنما تُخصص لخدمة المنافع العامة بصورة مستمرة.وهذا يعني إن مفهوم الوقف في الإسلام لا يمكن اختزاله في البعد الخيري فحسب، بل يُعد تعبيرًا عن فلسفة اجتماعية واقتصادية تعكس الرؤية الإسلامية للعدالة التوزيعية والمسؤولية الجماعية. ويتميّز الوقف بأنه يتجاوز حدود الزمان والمكان، لكونه نظامًا دائمًا تُنقل ملكيته من الفرد إلى المجتمع، ويُستثمر ريعه في تلبية حاجات إنسانية متنوعة كالتعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، مما يُسهم في بناء مجتمع متماسك ومستدام. وقد مثّل الوقف أحد أعمدة الحضارة الإسلامية، حيث تجلّت من خلاله القدرة الفريدة للإسلام على تحويل المبادئ الأخلاقية إلى مؤسسات عملية ذات أثر مستمر.ولهذا فقد عرّفه الفقهاء، في المذهب الحنفي، بأنه «نزع ملكية المال من يد مالكه وتخصيصه لله تعالى، على نحو يجعل منافعه دائمة ومستمرة لصالح البشرية»، مما يعكس عمق البُعد الاجتماعي والروحي لهذه المؤسسة.ويتضح من هذا التعريف أن الوقف لا يُنظر إليه كفعل فردي عابر، بل كمؤسسة ذات طبيعة قانونية واجتماعية مركبة، ترتكز على إخراج المال من حيازة المالك إلى حيازة جماعية مشروطة لا يملك أحد التصرف فيها إلا بما يوافق شرط الواقف. وتُبرز هذه الرؤية الفقهية للوقف عنصرين جوهريين: الاستدامة، من خلال حبس الأصل، والتخصيص، من خلال توجيه العائد إلى مصارف مشروعة. وهذا التوازن بين الحفاظ على رأس المال وتحقيق المنفعة ينسجم مع مقاصد الشريعة في تعظيم النفع ودفع الضرر، ما يجعل الوقف إحدى الأدوات التشريعية التي جمعت بين التعبد والمصلحة العامة.ثلاثة مرتكزات لمشروعية الوقفأولًا: القرآن الكريمرغم أن لفظ «الوقف» لم يرد صراحة في القرآن الكريم، إلا أن جوهره ومقاصده حاضرة بجلاء في عدد كبير من الآيات التي تحث على الإنفاق في سبيل الله، وتدعو إلى البذل والعطاء، ومنها قوله تعالى:لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92وقوله تعالى:مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ البقرة: 261وتشير هذه الآيات إلى تأصيل مبدأ البذل من أجود ما يملك الإنسان، وهو ما يتجلى بوضوح في الوقف الذي يشترط غالبًا أن يكون من أطيب الأموال وأغلاها قيمة. وتؤكد الآيات كذلك على الطابع المضاعف للثواب الناتج عن الإنفاق في سبيل الله، مما يدفع الإنسان المسلم إلى اعتماد الوقف كأداة دائمة لتحقيق هذا الأجر المضاعف. وبالرغم من عدم التصريح باللفظ، إلا أن التوجيه القرآني نحو «الإنفاق المستمر» و»العطاء النافع» يمثل أرضية تشريعية صلبة لمشروعية الوقف بوصفه أحد أشكال الصدقة الجارية التي تخدم المجتمع وتُبقي العمل الصالح ممتدًا إلى ما بعد وفاة صاحبه.ثانيًا: السنة النبويةأكدت السنة النبوية على مشروعية الوقف من خلال التطبيق العملي والتشجيع عليه، إذ كان النبي محمد ? أول من أوقف أرضًا لبناء مسجد قباء، وغرس بذلك النموذج الأول لمفهوم «حبس الأصل وتسبيل المنفعة». ويُستدل من الحديث الشريف:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»أن الصدقة الجارية – والتي فسرها العلماء بأنها الوقف – تُعد من الأعمال المستدامة التي تبقى آثارها بعد الوفاة. وتُظهر هذه السنة الفعلية والتقريرية بوضوح كيف أن الوقف يُعد من الأدوات الشرعية التي تحفظ استمرارية الخير في المجتمع.تعكس السنة النبوية في هذا السياق الطابع العملي والتطبيقي للتشريع الإسلامي، حيث لا يكتفي بتقديم المبادئ المجردة، بل يقرنها بنماذج تطبيقية فعلية. فمبادرة النبي ? إلى إنشاء الوقف وتوجيه الصحابة إليه - كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقفه لأرض خيبر - تؤكد على تأصيل هذا النظام في التجربة الإسلامية الأولى. كما أن الحديث الشريف يضع الوقف في صدارة الأعمال الصالحة التي يستمر نفعها بعد وفاة الإنسان، مما يمنحه بُعدًا أخرويًا إضافة إلى نفعه الدنيوي، ويُكرّس لمفهوم «الاستدامة في الأجر» من خلال الاستدامة في الأثر المجتمعي.ثالثًا: الاجتهاد الفقهيأسهم الفقهاء عبر العصور في بناء منظومة الوقف من خلال اجتهادات مستندة إلى النصوص العامة للكتاب والسنة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية الكبرى مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». ورغم اختلاف التفاصيل الفقهية بين المذاهب، إلا أن هناك إجماعًا على أن مشروعية الوقف تتطلب النية الصادقة لوجه الله، وأن تُوجه منافعه إلى أهداف مشروعة تعود بالنفع العام. هذه الاجتهادات أثبتت قدرة الفقه الإسلامي على تطوير أدوات تنظيمية فعالة تحقّق المقاصد العليا للشريعة في مجالات العدالة والتكافل والاستدامة.تميز الفقه الإسلامي بمرونته في التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وقد ظهر ذلك جليًا في تطور أحكام الوقف. فمن خلال قاعدة «شرط الواقف كنص الشارع» أُعطي الواقف سلطة كبيرة في توجيه ريعه بما يحقق غايات متعددة. كما أن تنوع الأوقاف تاريخيًا – من أوقاف العلم والصحة إلى أوقاف الحيوانات والعابرين – يدل على اتساع دائرة المصالح المعتبرة شرعًا التي يمكن للوقف أن يخدمها. إن تضافر النصوص مع الاجتهاد الفقهي يؤسس لشرعية الوقف ضمن بنية متكاملة من مقاصد الشريعة التي توازن بين حقوق الفرد والصالح العام.الوقف: عبادة اختيارية لا إلزام فيهاالوقف لا يُعد فريضة واجبة، وإنما هو من أعظم القربات المستحبّة التي يتقرب بها العبد إلى ربه. فهو يعكس صورة حضارية راقية لمسؤولية الفرد تجاه مجتمعه، كما يسهم في إعادة توزيع الثروات، وتوفير الخدمات الحيوية للفئات الأقل حظًا، ويعزز من مفاهيم العدالة الاجتماعية والرحمة في الإسلام. بهذه الخصائص، يبرز الوقف كأداة تنموية متقدمة تجمع بين الأجر الأخروي والمنفعة الدنيوية.الطابع الاختياري للوقف يمنحه خصوصية متميزة، إذ يُمارس بدافع من الإيمان والضمير الأخلاقي، لا من باب الالتزام القانوني أو الجبري، مما يجعل أثره في النفوس والمجتمعات أكثر عمقًا وتجذرًا. وقد نجح الوقف تاريخيًا في سد ثغرات كبرى في الخدمات العامة دون أن يُثقل كاهل الدولة، بما يجعله من أهم أدوات «الاقتصاد المجتمعي» الذي يعتمد على المبادرات الذاتية والمؤسسات المدنية في تلبية الحاجات العامة. وهو بذلك يُعد تجسيدًا حيًّا لمبدأ «التنمية من الداخل»، التي تقوم على وعي الأفراد والتزامهم الاجتماعي والأخلاقي.