
مفارقات ما بعد الليبرالية... مكافحة "الإرهاب" تفكك النظام الليبرالي؟!
تناول مفكرون وباحثون في العلاقات الدولية مؤخرا دور اليمين المتطرف في الغرب الأوروبي والأميركي في تقويض "النظام الدولي الليبرالي"، وهي التسمية التي اتخذها المشروع الإمبريالي الغربي لاستئناف هيمنة الغرب على العالم، بعد الحرب العالمية الثانية والراية الامبراطورية "المقدسة" التي خاض بها حرباً عالمية باردة، أطلقها ضد السوفيات والمنظومة الاشتراكية وحلف وارسو.
يتمثل اليمين المتطرف في الغرب بحركات قومية شعبوية (فاشية) تتبنّى مواقف معادية للعولمة والهجرة والسامية وأي نظام دولي قائم على القواعد. فاز الغرب في الحرب الباردة، وانتهت بسقوط وتفكك جمهوريات السوفيات وحلف وارسو والأنظمة الشيوعية الحاكمة في أوروبا، وتكرّست الهيمنة الإمبريالية الأميركية عالمياً بلا منافسة جيوسياسية، وانفردت بإدارة النظام الدولي كقوة عظمى وحيدة. لكن حركات اليمين المتطرف غير قانعة بالوضع الراهن، وتتشارك العداء للديمقراطية الليبرالية ومؤسساتها وقيمها وإن لم تعلن ذلك صراحةً.
لكن السؤال الراهن والأكثر إلحاحاً: كيف أمكن ذلك؟ وما الذي مهّد الطريق لصعودها على هذا النحو؟!
يطرح المفكر الإيرلندي البريطاني، ديلان إيفانز، دور استراتيجيات "الحرب على الإرهاب" في دول الغرب، في تقويض المثال الديمقراطي الليبرالي ذاته وتآكل قيمه وحرياته المدنية باضطراد، من خلال مفارقات جوهرية رصدها في حالة بريطانيا.
يقول إيفانز إن إحدى العواقب الفكرية للحرب العالمية على الإرهاب هي الإجماع الناشئ على أن الإرهاب يفرض تحديات فريدة على الدولة الديمقراطية الليبرالية. وبما أن الإرهابيين يستهدفون شرعية الدولة، فإن الدول الديمقراطية يجب أن تتوخى الحذر الشديد في تصميم استراتيجياتها لمكافحة "الإرهاب" حتى لا تُقوّض بغير قصد قيمها الديمقراطية. وإذا كانت استراتيجيات مكافحة الإرهاب شديدة القسوة، فهذا يعني أن الدولة قد قامت فعلياً بالعمل نيابة عن الإرهابيين.
لكن المؤسف أن هذا الإجماع العلمي قد طغى عليه ما يجري في بعض البلاد الغربية. في بريطانيا، مثلاً، يواصل الأكاديميون مناقشة التهديدات التي يمكن أن تشكلها سياسات مكافحة الإرهاب سيئة التصميم على الديمقراطية الليبرالية من دون ملاحظة أن هذه التهديدات لم تتحقق بالفعل فحسب، بل أدت في الواقع إلى تآكل آخر ركائز النظام الليبرالي بالكامل. وبسبب استراتيجية مكافحة الإرهاب ذاتها التي نُفِذت حفاظاً على النظام الليبرالي، أصبحت بريطانيا بالفعل مجتمعاً ما بعد ليبرالياً.
هناك ملامح لمشهد أمني جديد يميز هذا التكوين الاجتماعي والسياسي غير المسبوق. يصعب بشكل خاص المضي في هذا المشهد لأنه يتكون من عدة مفارقات. 14 نيسان 09:58
9 كانون الثاني 2023 14:20
المفارقة الأولى هي الانفصال بين تصميم واسع النطاق بين الأكاديميين والسياسيين وخبراء السياسة على تناول التهديدات التي تشكلها سياسات مكافحة الإرهاب سيئة التصميم على الديمقراطية الليبرالية، وفشل غالبية المشاركين في ملاحظة أن تلك التهديدات أصبحت حقيقة منذ فترة طويلة.
ورغم تعديلات طفيفة يجريها الساسة بين حين وآخر على استراتيجية مكافحة الإرهاب محلياً، تظل اليوم على النحو الأساسي نفسه، كما كانت لدى إنشائها أول مرة. لكنها تعمل الآن في البيئة نفسها التي صُممت لمنعها: نظام اجتماعي ما بعد الليبرالية.
المفارقة الثانية، في حين أن استراتيجية مكافحة الإرهاب كانت مصممة "ظاهرياً" لحماية الديمقراطية والحريات المدنية، بدلاً من ذلك رسّخت حالة طوارئ دائمة تعمل على تطبيع الحكم غير الليبرالي. فالتدابير التي وُضعت بدايةً كتدابير استثنائية ومؤقتة –كالمراقبة الموسعة، وتدخلات برنامج Prevent لـ"الوقاية" الاستباقية، وتقييد حرية التعبير– أصبحت روتينية.
ونتيجة لهذا، لم يعد الهيكل الأمني في المملكة المتحدة يعمل كآلية دفاعية للديمقراطية الليبرالية، بل أصبح سِمة هيكلية (بنيوية) لمنظومة سياسية جديدة دوافعها أمنية. في هذه البيئة، يصبح التزام الدولة بالقيم الليبرالية "مشروطاً" وليس "مطلقاً"، ومقبولاً فقط بقدر ما لا يتعارض مع متطلبات مكافحة الإرهاب.
المفارقة الثالثة هي طبيعة القبول العام لهذا التحول "ما بعد الليبرالي". وتظهر الروايات التقليدية عن الانجراف نحو الاستبداد أن مثل هذه التحولات إما أن تُفرَض بالقوة أو أن تكون مصحوبة بمقاومة جماهيرية. ورغم ذلك، قُوبل انتقال بريطانيا إلى نظام ما بعد الليبرالية بقدر كبير من اللامبالاة أو حتى الموافقة واسعة النطاق.
إن تطبيع المراقبة، وتقييد التعبير، والتدخلات الاستباقية لم تحدث من خلال الإكراه العلني، بل من خلال إعادة ضبط ومُعايَرة دقيقة للحس السياسي السليم. لا يُجبر المواطنون على الخضوع لسياسات أمنية ما بعد الليبرالية؛ بل يجري إقناعهم ودفعهم وتكييفهم لقبولها، باعتبارها ضرورية للسلامة العامة. ومن عجيب المفارقات، أن هذا التحول جرى تسهيله إلى حد كبير بواسطة طبقة المثقفين نفسها، التي حذرت ذات يوم من تآكل الديمقراطية الليبرالية.
وإذا أخذنا هذه المفارقات الثلاث في الاعتبار، فإنها ترسم الخطوط العريضة لمجتمع لا يزال يدّعي أنه ليبرالي، لكنه في الممارسة العملية تخلّى بالفعل عن الليبرالية باعتبارها أخلاقيات حاكمة. إن استمرار الخطاب الليبرالي – حرية التعبير، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون – يخلق وهم الاستمرارية، حتى حين تُجوَّف هذه المبادئ في الممارسة العملية. والنتيجة ليست دكتاتورية صريحة، بل هي نظام هجين تظل فيه الأشكال الديمقراطية سليمة، في حين يتآكل محتواها الجوهري بسبب الضرورات الأمنية.
تتجلّى تسوية ما بعد الليبرالية هذه بخاصة في طرق إدارة الاعتراض والمعارضة. فمثلاً، تُرسّخ استراتيجية "الوقاية" بعض أشكال التدخل قبل وقوع الجُرم، ما يطمس الخط الفاصل بين النوايا والأفعال. ومن خلال تصنيف قطاعات واسعة من التعبير الفكري والأيديولوجي، كمؤشرات تطرف محتمل، هيّأت الحكومة بيئة قاعدتها الرقابة الذاتية. ومع تصنيف وجهات النظر النقدية كتهديدات أمنية، تُعاد هيكلة الخطاب السياسي بشكل خفي لاستبعاد وجهات نظر معينة من النقاش المشروع.
كذلك، ظهرت لهذا التحول آثار تتجاوز مكافحة الإرهاب. فقد امتد منطق الاستباق والمراقبة والسيطرة، الذي يُحدد سياسات الدولة لمكافحة الإرهاب، ليشمل مجالات أخرى من الحوكمة، مُشكّلاً استجابات للاضطرابات الاجتماعية والهجرة، وحتى أزمات الصحة العامة. ومع تحول صنع السياسات القائم على الأمن إلى أسلوب حكم افتراضي، فإن النظام ما بعد الليبرالي لا يُرسّخ نفسه كاستجابة مؤقتة للإرهاب، بل كسِمة دائمة للمشهد السياسي.
لم تفشل استراتيجية مكافحة الإرهاب في الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية فحسب، بل أنتجت بنشاط دولة "ما بعد الليبرالية". لقد أسهم تآكل الحريات المدنية، وتطبيع إجراءات الطوارئ، وتَصوُّر المعارضة خطراً أمنياً، في تحول العلاقة بين الدولة والمجتمع جذرياً. وبينما لا تزال الديمقراطية الليبرالية تُستدعى كمثال أعلى، لم تعد تُمثل واقعاً سياسياً ذا معنى.
وأخيراً، يرصد إيفانز المفارقة الكبرى في الحرب العالمية على "الإرهاب"، في بريطانيا على الأقل، وهي أنها حققت بالتحديد ما لم يتمكن أعداؤها من تحقيقه: تفكيك النظام الليبرالي من الداخل!

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الديار
منذ 8 ساعات
- الديار
"حماس": دعوة نائب أميركي لقصف غزة نوويا تحريض على الإبادة وجريمة ضد الإنسانية
اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب أعربت حركة "حماس" عن إدانتها لتصريحات عضو الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري راندي فاين، التي دعا فيها إلى قصف غزة بالسلاح النووي. واعتبرت الحركة هذه "الدعوة المتطرفة جريمة مكتملة الأركان، ودليلا على العنصرية الفاشية التي تحكم تفكير بعض الساسة الأميركيين، وهو ما يستوجب الإدانة من الإدارة الأمريكية ومن الكونغرس، الذي بات منصة لتبرير جرائم الاحتلال وتشجيعها، عندما استقبل مجرم الحرب نتنياهو". وأضافت: "تمثل هذه التصريحات انتهاكا صارخا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، وتحريضا علنيا على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أكثر من مليوني مدني". وأكد أنه "ورغم هذه الدعوات الوحشية، فإنها لن تُضعف عزيمة شعبنا، ولا إيمانه بعدالة قضيته، بل تفضح مجددا الوجه الحقيقي للاحتلال وداعميه". ووصف فاين في وقت سابق القضية الفلسطينية بـ"الشريرة". وقال: "في الحرب العالمية الثانية، لم نتفاوض على استسلام مع النازيين، ولم نتفاوض مع اليابانيين. لقد استخدمنا القنابل النووية مرتين ضد اليابان من أجل تحقيق استسلام غير مشروط". وأضاف: "ينبغي أن يكون الموقف ذاته في هذا السياق، فهناك خلل عميق جداً في هذه الثقافة ويجب القضاء عليه".

المدن
منذ 10 ساعات
- المدن
"حماس" تندد بتصريحات فاين: تحريض صريح على الإبادة الجماعية
وصفت حركة "حماس"، دعوة النائب الجمهوري الأميركي راندي فاين إلى قصف قطاع غزة بالسلاح النووي، بأنها "جريمة مكتملة الأركان وتحريض صريح على الإبادة الجماعية"، مؤكدة أن هذه التصريحات "تعكس عنصرية فاشية تحكم عقل بعض الساسة الأميركيين". انتهاك صارخ للقانون الدولي وفي بيان رسمي، قالت الحركة، إن "هذه الدعوة المتطرفة تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، وتحريضاً علنياً على استخدام أسلحة دمار شامل ضد أكثر من مليوني مدني في غزة"، داعية الإدارة الأميركية والكونغرس إلى التنديد الفوري بالتصريحات، التي عدّتها "استمراراً لتحول الكونغرس إلى منصة لتبرير جرائم الاحتلال وتشجيعها، لا سيما بعد استقباله مجرم الحرب بنيامين نتنياهو". وأكدت الحركة أن "مثل هذه الدعوات الوحشية لن تضعف عزيمة شعبنا الفلسطيني ولا إيمانه بعدالة قضيته، بل تفضح الوجه الحقيقي للاحتلال وداعميه". وكان عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا راندي فاين، قد دعا خلال مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز"، إلى التعامل مع غزة كما تعاملت الولايات المتحدة مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، عبر قصفها بالقنابل النووية لتحقيق "استسلام غير مشروط". ووصف فاين القضية الفلسطينية بأنها "شر مطلق"، مضيفاً: "في الحرب العالمية الثانية، لم نتفاوض مع النازيين ولا مع اليابانيين، بل استخدمنا القنابل النووية مرتين وهذا ما ينبغي أن يحدث هنا أيضاً". وجاءت تصريحاته رداً على سؤال بشأن جدوى مفاوضات وقف إطلاق النار الجارية في غزة، على خلفية حادثة إطلاق نار في السفارة الإسرائيلية بواشنطن، والتي أسفرت عن مقتل اثنين من موظفيها. إدانة غير رسمية أميركية من جهته، أدان مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (CAIR) بشدة تصريحات فاين، واصفاً إياها بأنها "تحريض على الإبادة الجماعية"، داعياً الكونغرس إلى "إبعاده من جميع اللجان والكتل البرلمانية". وقال المجلس في بيان، إن "تصريح فاين يُمثل أحد أخطر التصريحات وأكثرها إهانة للإنسانية من قبل عضو حالي في الكونغرس، ويُعرض حياة المسلمين الأميركيين والفلسطينيين للخطر المباشر". وكان فاين قد فاز بالمقعد النيابي في انتخابات خاصة بولاية فلوريدا مطلع نيسان/أبريل الماضي، ويُعرف بدعمه الشديد للصهيونية، كما أثار جدلاً خلال حملته الانتخابية بعد مهاجمته خصمه الديمقراطي جوش ويل بسبب ديانته الإسلامية، واصفاً إياه بـ"الجهادي".


الشرق الجزائرية
منذ يوم واحد
- الشرق الجزائرية
نائب أميركي يدعو إلى قصف غزة نوويّاً ويصف القضية الفلسطينية بـ'الشر'
أثار النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا، راندي فاين، موجة من الغضب بعد دعوته إلى استخدام السلاح النووي ضد قطاع غزة، مشبّهًا ذلك بما فعلته الولايات المتحدة في هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية، ومعتبرًا أن 'القضية الفلسطينية شرّ يجب مواجهته بلا هوادة'. وفي تصريحات أدلى بها خلال ظهوره على قناة 'فوكس نيوز'، عقب مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن، أطلق فاين، وهو سياسي يهودي وناشط صهيوني، خطابًا تصعيديًا وصف فيه ما أسماه بـ'الفلسطينية' بأنها 'ثقافة قائمة على العنف'، داعيًا إلى التعامل معها على هذا الأساس. وقال فاين: 'هذا هو ما يبدو عليه تعميم الانتفاضة. (الفلسطينية) مبنية على العنف… علينا أن نبدأ بتسمية الشرّ باسمه الحقيقي، لا أن نبحث له عن أعذار. والحقيقة أن القضية الفلسطينية هي قضية شريرة'. وفي سياق حديثه عن تعثر المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس، اعتبر فاين أن الحل الوحيد يتمثل في الاستسلام غير المشروط للفلسطينيين، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة لم تتفاوض مع النازيين أو اليابانيين، بل لجأت إلى استخدام القنابل النووية لإجبارهم على الاستسلام، وأضاف: 'يجب أن يكون الأمر كذلك هنا'. وبحسب تقرير نشره موقع 'تروث أوت' الأميركي، تجاهل فاين السجلات التاريخية التي تؤكد أن الولايات المتحدة خاضت بالفعل مفاوضات مع قوى المحور لإنهاء الحرب العالمية الثانية، في تناقض واضح مع مزاعمه.