
نحوَ إعلامٍ مُنتِجٍ يربط الجسور بين الشعوب
ومن بين الإنجازات اللافتة للقناتين أنّهما لم تكتفيا بالخطّ التقليديّ للتغطية؛ بل فتحتا نوافذَ معرفيّةً نحو مناطقَ طالها التهميش الإعلاميّ أو حُجِبت أخبارُها وراءَ الحواجز، فحين توجّه فريقاهما إلى دمشق، على سبيل المثال، لتغطية مسار المفاوضات بين «قسد» والإدارة السورية، أدارتا ملفّاً بالغ التشابك تمسّه حساسيّاتٌ قوميّة وجيوسياسيّة بالغة، ومع ذلك حافظتا على نبرةٍ تحليليّةٍ محايدةٍ تُبيّن حيثيّات الموقف التركيّ ومخاوفه دون تضخيمٍ أو ازدراء، وتشرح للقارئ العربيّ تعقيدات المشهد الكرديّ السوريّ من الداخل، هذا الحذر المنهجيّ وفّر للمشاهد العربيّ فرصةً نادرةً لفهم المشهد السوريّ بعيداً عن الصنيع الدعائيّ المسطّح.
وفيما يتعلّق بالقضية الفلسطينيّة، أثبتَت القناتان أنّ المهنية لا تعني حياداً مُتبلّداً يغمض العين عن المأساة الإنسانيّة؛ إذ بثّتا سلسلة تقارير ميدانيّة وشهاداتٍ حيّة من قلب قطاع غزة تكشف حجم الكارثة الإنسانيّة دون أن تُعلّبها في خطاب شماتةٍ أو تحريض، التغطية كانت متعاطفةً مع المدنيّين وناقدةً لكلّ استهدافٍ غيرِ مميّز، لكنّها بقيَت وفيّةً لقواعد الدقّة، فتتحقّق من الأرقام والوقائع قبل بثّها وتستضيف خبراءَ قانونٍ دوليّ لتأطير الحدث حقوقيّاً. وبالمثل، حين عطّل المركزُ الاتّحاديّ في بغداد رواتبَ إقليم كردستان، سلّطت «العربية» و«الحدث» الضوء على الأزمة بلغةٍ إنسانيّةٍ تُظهِر معاناة الأسر بلا تحريضٍ قوميٍّ ولا استدعاءٍ لماضي الخصومات، فكانت التغطية بلسَماً يُذكّر المشرقَ بأنّ القضايا المعيشيّة لا تعرف خطوط تماسٍّ مذهبيّة أو قوميّة.
البرامج الحواريّة تُعدّ ركيزة قيمة في هذه التجربة، فـ «نقطة نظام» و«خارج الصندوق» و«ساعة حوار» و«بانوراما» و«الحدث اليوم»، وغيرها، نجحت في جمع أطرافٍ متناقضةٍ آيديولوجيّاً على طاولةٍ واحدة؛ من محلّلين من كل الاتجاهات، إلى دبلوماسيّين إيرانيّين وخبراء عسكريّين غربيّين، يديرُ هذه النقاشات محاورون يتقنون فنَّ طرح السؤال الحادّ دون الوقوع في فخّ الاستفزاز، فيكفلون ألّا ينزلق الحوار إلى تبادل الشتائم، بل يبقى فضاءً لتقاطع الحجج. هذه القدرة على إدارة «التنوّع في أتون التنافر» جعلت الشاشتين رئةً يتنفّس منها المشاهد العربيّ طيفاً فكريّاً عريضاً يندر أن يجتمع في مكانٍ واحد.
مكمنُ القوّة الآخر يكمن في الإنتاج التحليليّ المتعمّق؛ فقد استحدثت القناتان وحداتٍ خاصّةً للبيانات المرئيّة (Data Visualization) تُقارب الأزمات برسومٍ تفاعلية وخرائط تحليليّة، فتُبنى القصة الصحافية على أساس الأرقام الصلبة لا على الاتّكاءات الإنشائية، هذا المنهج أعطاها الأسبقيّة في كشف تفاصيلَ دقيقةٍ حول شبكات تهريب السلاح الحوثيّة، أو تغيّر خرائط السيطرة في غزة ومخيّم جنين، ما رسّخ دورهما مرجعاً موثوقاً لكثيرٍ من الصحف الدولية التي أخذت تقتبس من تغطياتهما عربيّاً وإنجليزيّاً.
وعلى المستوى الأخلاقيّ، حرصت القناتان على التقيّد الصارم بمعايير الـ BBC / RTDNA في التحقّق من المصادر، فثلاثة مصادر مستقلّة شرطٌ قبل نشر أيّ معلومة حسّاسة، كما أنّهما التزمتا سياساتٍ واضحةً حيال الصور الصادمة؛ تُجرَّد من أيّ مظاهر تسيء للضحايا ويحظَر بثّها بلا تنويهٍ مسبق، بذلك تَصدَّت القناتان لظاهرة «استغلال الدم» التي غزت شبكاتٍ عربيةً كثيرةً تستدرُّ عواطف الجمهور بلقطاتٍ داميةٍ دون حدٍّ أخلاقيّ.
هذا الخيار المهنيّ كلّف «العربية» و«الحدث» مواجهة حملات تشهيرٍ شرسة من أطرافٍ اعتادت الإعلام التجييشيّ، وتستثمر في ثنائيات «معي أو ضدي»، ومع ذلك، تمسّكت الشاشتان بخطّهما التحريريّ، مؤمنتين بأنّ الصحافة لا تُقاس بارتفاع نبرة الصوت، بل بعمق المعلومة واتّساع آفاق النقاش، وتجلّى هذا الصمود إبّان الهجمات السيبرانيّة التي حاولت تعطيل البثّ إبّان معركة سيف القدس 2023؛ إذ حافظت الشاشتان على الاستمراريّة بفضل بنيةٍ تقنيّةٍ احترافيّةٍ نجت من الانهيار، وواصلت تغذية الجمهور العربيّ ببياناتٍ آنيةٍ دقيقة.
إنّ تجربة «العربية» و«الحدث» تختصر ما قد يُسمّى (الإعلام المُنتِج للسلام): إعلامٌ لا يتوارى خلف حيادٍ متجمّدٍ يساوي بين الضحيّة والجلّاد، ولا ينجرُّ وراء الانفعال الخطابيّ الذي يَصبُّ الزيتَ على النار، بل يرسم جسراً معرفيّاً وإنسانيّاً يربط الشعوب، فيتصدّى للتضليل بالتحقّق، ويواجه خطاب الكراهية بإنسانيّةٍ متعاطفة، هذا النموذج، رغم ما يواجهه من ضغوطٍ تجاريةٍ واصطفافاتٍ سياسيّة، يثبت أنّ بإمكان الإعلام العربيّ أن يرقى من مستوى نقل الصدمة إلى صناعة الوعي، ومن اجترار الانقسام إلى إنتاج مساحاتٍ آمنةٍ للحوار.
على ضوء ما سبق، تغدو التجربة درساً ينبغي أن تتأمّله المؤسّسات الإعلاميّة عربيّاً: كيف يمكن تحويل شاشةٍ صغيرةٍ إلى منصّةٍ كبيرةٍ للإصغاء إلى الآخر، وكيف يمكن للعاملين خلف الكاميرات أن يصبحوا بناة سلامٍ لا فحسب ناقلي خبر، ولعلّ أكثر ما يعضّد هذه الخلاصة أنّ القناتين لم تكتفيا بالتقارير، بل استثمرتا في تدريب كوادر شابّةٍ على صحافة البيانات والسلامة المهنيّة وتعدّدية المصادر، في محاولةٍ لخلق جيلٍ يؤمن بأنّ قوّة الإعلام تكمن في قدرته على تقليص مساحة الجهل لا توسيعها.
بانتهاء هذا العرض، يتّضح أنّ «العربية» و«الحدث» نجحتا في ترسيخ منظورٍ إعلاميٍّ يُدير الجرح لا لينكأه؛ يضيء خطورةَ النار كي لا تتّسع، ويستبقي مساحةً للرجاء في منطقةٍ أنهكها ضجيج البنادق، وهما بذلك تقدّمان نموذجاً صالحاً للاستنساخ، شريطة أن يُدرك مالكو المنصّات أنّ صيانة المهنية ليست عبئاً على الشعبية؛ بل بوّابةٌ لمصداقيةٍ تَسمُر في العقل أطولَ ممّا يمكث صخبُ اللحظة في الأذن.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 3 دقائق
- صحيفة سبق
مأساة إنسانية قبالة سواحل اليمن: مصرع 68 مهاجرًا أفريقيًا وفقدان العشرات إثر غرق قارب تهريب
لقي 68 مهاجرًا من الجنسية الإثيوبية مصرعهم وفُقد 74 آخرون، إثر غرق قارب يقلهم قبالة سواحل محافظة أبين جنوبي اليمن، وفق ما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة. وصرّح عبدالستار إيسويف، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في اليمن، لوكالة "أسوشيتد برس"، أن القارب المنكوب كان على متنه 154 مهاجرًا إثيوبيًا، حين انقلب في المياه الإقليمية قبالة سواحل أبين. وأوضح إيسويف أن 12 مهاجرًا نجوا من الحادث، مشيرًا إلى أن الأمواج جرفت جثث 54 من الضحايا إلى شاطئ مديرية خنفر، فيما عُثر على 14 جثة أخرى في موقع مختلف وتم نقلها إلى مشرحة أحد المستشفيات. من جهته، أفاد مصدر في شرطة أبين لوكالة "فرانس برس" بأن القارب كان متجهًا نحو سواحل المحافظة، لافتًا إلى أن قوارب التهريب تصل باستمرار إلى المنطقة، ما يسبب تحديات أمنية وإنسانية متكررة. وفي بلاغ رسمي، أكدت إدارة أمن محافظة أبين أن الأجهزة الأمنية، ممثلة بقوات الأمن العام والحزام الأمني، تواصل تنفيذ عملية إنسانية واسعة النطاق لانتشال جثث عدد كبير من المهاجرين غير النظاميين من الجنسية الإثيوبية (الأورومو)، والذين لقوا حتفهم غرقًا أثناء محاولتهم التسلل إلى الأراضي اليمنية عبر قوارب تهريب قادمة من منطقة القرن الأفريقي. وأشار البلاغ إلى أن العديد من الجثث تم العثور عليها على شواطئ متفرقة، ما يرجح وجود أعداد أخرى لا تزال مفقودة في عرض البحر. ورغم الصراع المستمر في اليمن منذ عام 2014، لا تزال البلاد وجهة لهجرة غير نظامية، خاصة من إثيوبيا، حيث يسلك المهاجرون طريقًا بحريًا محفوفًا بالمخاطر عبر مضيق باب المندب الذي يفصل جيبوتي عن اليمن، وهو معبر رئيسي للتجارة الدولية وأيضًا للهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر. وذكرت المنظمة الدولية للهجرة أن آلاف المهاجرين يجدون أنفسهم عالقين في اليمن، حيث يتعرضون لأشكال متعددة من الاستغلال والتجاوزات خلال رحلتهم. وبحسب تقديرات المنظمة، وصل نحو 60,900 مهاجر إلى اليمن خلال عام 2024.


الشرق الأوسط
منذ 3 دقائق
- الشرق الأوسط
تحقيقات مرفأ بيروت تبلغ خواتيمها
أكد رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، أن «العدالة لا بد أن تتحقق ولو تأخرت»، مجدداً التأكيد على التزامه في البيان الوزاري، لجهة «بناء دولة قوية عادلة، لن توفر جهداً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ولبسط سلطتها على كامل أراضيها بقواها الذاتية حصراً. دولة يكون قرار الحرب والسلم في يدها وحدها». ويأتي كلام سلام في وقت يقترب فيه المحقق العدلي القاضي طارق البيطار من إعلان ختم التحقيق في ملف انفجار المرفأ. وكشف مصدر قضائي مواكب لإجراءات المحقق العدلي لـ«الشرق الأوسط»، أن البيطار «ينتظر ورود أجوبة على (استنابات) وجهها الشهر الماضي إلى ست دول عربية وأوروبية، طلب فيها معلومات حول وقائع محددة، ليس من ضمنها صور الأقمار الاصطناعية».


الشرق الأوسط
منذ 33 دقائق
- الشرق الأوسط
مقتل 68 مهاجراً وفقدان العشرات إثر غرق قارب قبالة سواحل اليمن
أعلنت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة مقتل 68 مهاجراً أفريقيا وفقدان 74 آخرين، بعد انقلاب قاربهم، اليوم (الأحد)، في المياه قبالة سواحل اليمن. وقال عبدالستار إيسويف، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في اليمن، بحسب وكالة «أسوشيتد برس» إن القارب الذي كان على متنه 154 مهاجراً إثيوبيا، انقلب قبالة سواحل محافظة أبين باليمن. وقال إيسويف إن 12 مهاجراً نجوا من حادث غرق القارب، مضيفا أن الأمواج جرفت جثث 54 مهاجراً إلى شاطئ مديرية خنفر اليمنية، فيما تم العثور على 14 آخرين متوفين في موقع مختلف وتم نقل جثثهم إلى مشرحة أحد المستشفيات. وفي بيان لها، وصفت إدارة أمن محافظة أبين العملية بأنها عملية بحث وإنقاذ ضخمة نظراً للعدد الكبير من الضحايا والمفقودين، مشيرة إلى أن العديد من الجثث تم العثور عليها متناثرة على امتداد واسع من الشاطئ. ورغم الحرب الأهلية المستمرة منذ أكثر من عقد، يظل اليمن طريقاً رئيسياً للمهاجرين القادمين من شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، والذين يسعون للوصول إلى دول الخليج العربي بحثاً عن فرص عمل. ويقوم المهربون بنقل المهاجرين في قوارب مزدحمة وخطرة عبر البحر الأحمر أو خليج عدن. ولقي مئات المهاجرين حتفهم أو فقدوا في حوادث غرق قبالة سواحل اليمن في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك في مارس (آذار) الماضي، حين لقي مهاجران حتفهما وفقد 186 آخرون بعد انقلاب أربعة قوارب قبالة سواحل اليمن وجيبوتي، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة . وبحسب تقرير صادر عن المنظمة في مارس، وصل أكثر من 60 ألف مهاجر إلى اليمن في عام 2024، بانخفاض عن 97 ألفا و200 في عام 2023، ويرجح أن يكون ذلك نتيجة زيادة الدوريات البحرية في تلك المياه.