logo
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

الجزيرةمنذ 5 ساعات

تظل التعبيرية في الأدب على اختلاف المكان والزمان تشكل نزعة شمولية صارخة تطمح إلى الكشف بطريقة درامية ومؤثرة عن معاناة الإنسان المعاصر، وتنعكس آثارها على النتاج الأدبي بشتى أنواعه، وتمتد لتشمل الفنون الأخرى كالرقص والرسم والموسيقى.
والتعبيرية بمعناها اللغوي تعني تصوير ما يعتمل في النفس الإنسانية من مشاعر محيطة، وإحساسات مقهورة واعية وغير واعية، يتضح من خلالها جوهر الإنسان وحقيقة ذاته الحية بأنماطها الغريزية والخلقية، ولا يعني ميلنا إلى التفسير اللغوي المبسط للتعبيرية أنها نزعة انطوائية مرتدة إلى الداخل، وإنما هي من أرحب الحركات الفنية استيعاباً لأعباء الأنا الجماعية، واستقطاباً لما يحيط بها من إرهاصات وتحديات يجتمع على تجسيد انعكاساتها أكثر من كاتب وفنان.
نشأة التعبيرية ومصادرها الفكرية
ولتوضيح هذه الظاهرة المرحلية الغامضة في الأدب العالمي، لا نجد أنسب من هذه الفقرة التي يسوقها الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان الناقد "هرمان بار" الذي كان من أبرز المعاصرين للحركة التعبيرية ومن أكثر الداعين لها حماساً، بقول بار "الإنسان في هذه الفترة يصرخ بحثاً عن نفسه، والعصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة، والفن كذلك يصرخ معه ويطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث يستنجد بالروح" وهذه هي التعبيرية.
لقد اختلف النقاد ومؤرخو الأدب في تحديد مكان نشأة التعبيرية وزمانها كحركة فنية قائمة بذاتها، إلا أن معظمهم يقر بأن ألمانيا هي المنبع الأول لهذا النهج الفكري الوجداني الصارخ، والذي يرفض جميع المعالجات السطحية لخلفية القضايا الإنسانية ومكوناتها الداخلية.
فبعد أن ظهرت نظريات فرويد ونضجت تجاربه في ميدان التحليل النفسي، أخذ نفر من الكتاب الساخطين يلتقطون باهتمام لاهف هذه الاستكشافات الباطنية ليوظفوها في كتاباتهم، كما أخذوا يغوصون في أعماق النفس البشرية، ويحيلون انطباعاتهم المضطربة والمتوترة إلى صرخات واحتجاجات معبرة تتصدى بعنف لانجراف الحضارة التكنولوجية المادية، هذه الحضارة التي أحالت القيم والمثل الأخلاقية إلى أرقام ومعادلات مدرجة في جداول الربح والخسارة من وجهة نظر الأفكار النفعية.
وبهذا فقد ظهرت التعبيرية أواخر القرن الـ19 دعوة إلى الاهتمام باختزانات النفس الاجتماعية والسياسية، ثم تحددت هذه الحركة بشكل أقوى وأعم في الربع الأول من القرن العشرين، حيث اندفع المزيد من الشباب الألمان ما بين 1915 و1925 ليرفعوا أصواتهم عالياً، وليحشدوا صيحاتهم التعبيرية في جو دخاني فاسد زاخر بالصراعات القومية الطاحنة، والتيارات المادية الضاغطة، والويلات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى.
التعبيرية في الشعر والرواية والقصة القصيرة
ففي مجال الشعر ظهرت في ألمانيا 3 أصوات شابة جعلت من القصيدة لوحة صارخة الألوان، متسمة بالإيحاء، مليئة بالاحتجاج على زخمة الواقع، غنية بالشوق إلى عالم يوتوبي جديد يتسم بالمثالية والنقاء المنشود.
وتتمثل هذه الأصوات البارزة في أشعار كل من "جورج هايم" و"جورج تراكل" و"جو تغريدبن" ونكتفي في هذه العجالة أن نورد مقطعاً من قصيدة "هايم" قام بترجمتها ملكاوي في كتابه "التعبيرية" وذلك للتدليل على طبيعة الشعر التعبيري في مقطع يصف فيه الشاعر آلهة الحرب في الطغيان والجبروت، فيقول:
"نهض من رقاده
من طال نومه
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة
يقف في الشفق ضخماً ومجهولاً
يسحق القمر في اليد السوداء"
أما في مجال الرواية والقصة القصيرة، فمع أن الإبداع التعبيري كان أقل أثراً من غيره وأبطأ نظراً لما تحتاجه طبيعة العمل القصصي من أناة وتدبر، ومع ذلك فقد برز في هذا الميدان عدد لا بأس به من كتاب القصة بتقدمهم كل من "ألفريد دوبلين" و"كاريل آينشتاين" و"فرانز كافكا" الذي كان على اتصال وثيق بالروائيين التعبيريين، بالإضافة إلى "روبروت موزيل" و"توماس مان".
المسرح التعبيري
أما على صعيد المسرح، فقد كانت الحركة التعبيرية أكثر بروزاً وتبلوراً، حيث أعلن رواد المسرح التعبيري ثورتهم على الدراما الكلاسيكية المقتدية بكل من "ليسنج" و"غوته" و"شيلر" كما رفضوا المذهب الطبيعي المتمثل في المنهج الواقعي عند "إبسن".
وإن كان للتعبيريين دور ظاهر في حقل الشعر والقصة، فإن دورهم على خشبة المسرح كان أعظم أثراً في بث روح الحيوية والإثارة في طبيعة الأداء المسرحي الذي طالما سيطرت عليه الرتابة المملة، والقيود التقليدية المتحكمة في التأليف والإخراج، فجاء حصاد الكتاب التعبيريين في حقل الدراما فائضاً بكل دفعات الاحتجاج المنتصرة لإرادة النفس الإنسانية، ولمعاناته العاطفية والذهنية.
ولم يبدأ هؤلاء المسرحيون المجددون من الفراغ، فقد وجدوا في أعمال الكاتب المسرحي "جورج بوشنر" ما يغذي طموحهم كما وجدوا في إنتاج "سترند برغ" و"فرانك ديكند" الكثير من الصراعات الداخلية والاتجاهات التحليلية الزاخرة بالرموز التعبيرية والمونولجات المتعددة الطويلة.
وقد جاءت المسرحية التعبيرية مستمدة من دوي الحرب وصخب التقدم التكنولوجي وحمى التعصبات القومية المتصاعدة، ومن الطبيعي أن يتميز هذا اللون من المسرحيات بالرفض الصارخ والتمرد على الواقع المعاش، والحنين الجارف إلى عالم هادئ جديد يستعيد فيه الإنسان جوهره المفقود.
إن قراءة أولية لبعض المسرحيات التعبيرية تجعلنا نتوصل إلى أن المسرحية التعبيرية قد تشكلت على خشبة المسرح بسمات فنية جديدة تقوم على التجريب، وبوسعنا أن نلمس هذا التجديد والتجريب في بعض المسرحيات التي تركها "بروتولد برخت" لعشاق المسرح التعبيري رغم انشغاله بالشعر الملحمي والمسرح الذهني، وهي "طبول الليل" و"أحراش المدن" و"القروش الثلاثة".
كما يشير الدكتور مكاوي -في دراسته للمسرح التعبيري في ألمانيا- إلى أن المسرحية الثلاثية "غاز" للكاتب "جورج كايزر" تعتبر نموذجاً فريداً للمسرحية التعبيرية الغنية بالمواقف المتصارعة والإيحاءات العميقة الموحية.
وفي كتابه "أشهر المذاهب المسرحية" يتعرض الناقد دريني خشبة لأبرز السمات الفنية التي تمتاز بها المسرحية التعبيرية عن غيرها، ويهمنا أن نزاوج بهذا الصدد بين ما أورده خشبة وبين ما تكوَّن لدينا من انطباعات واستنتاجات قرائية لنماذج من المسرح التعبيري على صعيد العمل الدرامي الذي أصبح في مقدمة الفنون الأدبية.
السمات الفنية للمسرحية التعبيرية
تدور أحداث المسرحية التعبيرية عادة حول شخصية محورية تحمل في ذاتها مشكلة تنعكس آثارها السيكولوجية على حركات البطل ومنطوقاته. أما بقية الشخصيات فهي بعيدة عن الضوء متحركة في الظل، وإذا ظهرت فهي تظهر ظهوراً جانبياً، يأتي مساعداً لدور الشخصية المحورية وخادماً للفكرة العامة.
وفي المسرحية التعبيرية يستريح البطل لالتقاط الأنفاس، ومن ثم يواصل الحركة في الطريق المرسومة والمؤدية إلى الخلاص من الأزمة الحادة والتي يكون البطل المحوري قد طرح أبعادها على الجمهور منذ البداية، وبشكل عاطفي مثير يهدف إلى إيجاد الاندماج بين المسرح والجمهور.
ولا يعني هذا أن المسرحية التعبيرية -لدى محاولاتها لامتلاك وجدان الجمهور- تعتمد على بهرجة شكلية أو تصنُّع ميلو درامي في الأداء، وإنما تأتي بطبيعتها مشحونة بالصرخات العميقة المتزنة والإيماءات الصادقة المصحوبة بإيقاع معبر إلى جانب الحيل المسرحية والأقنعة والتحولات الضوئية من جانب إلى آخر، حيث يشكل عنصر الإضاءة ركيزة أساسية في إخراج المسرحية التعبيرية، فيتعاون كل من المؤلف والمخرج ومهندس الإضاءة على تسليط الأضواء على البطل المحوري، وذلك بما يتناسب مع الحالة النفسية التي يمر بها، فنرى المشاهد حافلة بالإنارة والتعتيم، ورسم الخيالات والظلال والأشباح، حيث يساعد ذلك كله في الإيحاء بأسرار النفس وخلجاتها المكبوتة.
وفي معرض التمرد الحر على الكلاسيكية الرتيبة، ونتيجة للاحتجاج الشامل على المدرستين الطبيعية والرمزية الغامضة، لم يكن كتاب المسرح التعبيري في حاجة إلى شخصيات فردية خاصة وتقديمها بأسمائها المحددة وبصورتها الطبيعية، ولذلك نراهم قد مالوا إلى رسم الصورة النموذج للشخصية، واكتفوا بإسداء الألقاب عليها كالأب والابن والرجل والشبح والرئيس وهكذا.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

تظل التعبيرية في الأدب على اختلاف المكان والزمان تشكل نزعة شمولية صارخة تطمح إلى الكشف بطريقة درامية ومؤثرة عن معاناة الإنسان المعاصر، وتنعكس آثارها على النتاج الأدبي بشتى أنواعه، وتمتد لتشمل الفنون الأخرى كالرقص والرسم والموسيقى. والتعبيرية بمعناها اللغوي تعني تصوير ما يعتمل في النفس الإنسانية من مشاعر محيطة، وإحساسات مقهورة واعية وغير واعية، يتضح من خلالها جوهر الإنسان وحقيقة ذاته الحية بأنماطها الغريزية والخلقية، ولا يعني ميلنا إلى التفسير اللغوي المبسط للتعبيرية أنها نزعة انطوائية مرتدة إلى الداخل، وإنما هي من أرحب الحركات الفنية استيعاباً لأعباء الأنا الجماعية، واستقطاباً لما يحيط بها من إرهاصات وتحديات يجتمع على تجسيد انعكاساتها أكثر من كاتب وفنان. نشأة التعبيرية ومصادرها الفكرية ولتوضيح هذه الظاهرة المرحلية الغامضة في الأدب العالمي، لا نجد أنسب من هذه الفقرة التي يسوقها الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان الناقد "هرمان بار" الذي كان من أبرز المعاصرين للحركة التعبيرية ومن أكثر الداعين لها حماساً، بقول بار "الإنسان في هذه الفترة يصرخ بحثاً عن نفسه، والعصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة، والفن كذلك يصرخ معه ويطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث يستنجد بالروح" وهذه هي التعبيرية. لقد اختلف النقاد ومؤرخو الأدب في تحديد مكان نشأة التعبيرية وزمانها كحركة فنية قائمة بذاتها، إلا أن معظمهم يقر بأن ألمانيا هي المنبع الأول لهذا النهج الفكري الوجداني الصارخ، والذي يرفض جميع المعالجات السطحية لخلفية القضايا الإنسانية ومكوناتها الداخلية. فبعد أن ظهرت نظريات فرويد ونضجت تجاربه في ميدان التحليل النفسي، أخذ نفر من الكتاب الساخطين يلتقطون باهتمام لاهف هذه الاستكشافات الباطنية ليوظفوها في كتاباتهم، كما أخذوا يغوصون في أعماق النفس البشرية، ويحيلون انطباعاتهم المضطربة والمتوترة إلى صرخات واحتجاجات معبرة تتصدى بعنف لانجراف الحضارة التكنولوجية المادية، هذه الحضارة التي أحالت القيم والمثل الأخلاقية إلى أرقام ومعادلات مدرجة في جداول الربح والخسارة من وجهة نظر الأفكار النفعية. وبهذا فقد ظهرت التعبيرية أواخر القرن الـ19 دعوة إلى الاهتمام باختزانات النفس الاجتماعية والسياسية، ثم تحددت هذه الحركة بشكل أقوى وأعم في الربع الأول من القرن العشرين، حيث اندفع المزيد من الشباب الألمان ما بين 1915 و1925 ليرفعوا أصواتهم عالياً، وليحشدوا صيحاتهم التعبيرية في جو دخاني فاسد زاخر بالصراعات القومية الطاحنة، والتيارات المادية الضاغطة، والويلات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى. التعبيرية في الشعر والرواية والقصة القصيرة ففي مجال الشعر ظهرت في ألمانيا 3 أصوات شابة جعلت من القصيدة لوحة صارخة الألوان، متسمة بالإيحاء، مليئة بالاحتجاج على زخمة الواقع، غنية بالشوق إلى عالم يوتوبي جديد يتسم بالمثالية والنقاء المنشود. وتتمثل هذه الأصوات البارزة في أشعار كل من "جورج هايم" و"جورج تراكل" و"جو تغريدبن" ونكتفي في هذه العجالة أن نورد مقطعاً من قصيدة "هايم" قام بترجمتها ملكاوي في كتابه "التعبيرية" وذلك للتدليل على طبيعة الشعر التعبيري في مقطع يصف فيه الشاعر آلهة الحرب في الطغيان والجبروت، فيقول: "نهض من رقاده من طال نومه نهض من الأقباء المنخفضة العميقة يقف في الشفق ضخماً ومجهولاً يسحق القمر في اليد السوداء" أما في مجال الرواية والقصة القصيرة، فمع أن الإبداع التعبيري كان أقل أثراً من غيره وأبطأ نظراً لما تحتاجه طبيعة العمل القصصي من أناة وتدبر، ومع ذلك فقد برز في هذا الميدان عدد لا بأس به من كتاب القصة بتقدمهم كل من "ألفريد دوبلين" و"كاريل آينشتاين" و"فرانز كافكا" الذي كان على اتصال وثيق بالروائيين التعبيريين، بالإضافة إلى "روبروت موزيل" و"توماس مان". المسرح التعبيري أما على صعيد المسرح، فقد كانت الحركة التعبيرية أكثر بروزاً وتبلوراً، حيث أعلن رواد المسرح التعبيري ثورتهم على الدراما الكلاسيكية المقتدية بكل من "ليسنج" و"غوته" و"شيلر" كما رفضوا المذهب الطبيعي المتمثل في المنهج الواقعي عند "إبسن". وإن كان للتعبيريين دور ظاهر في حقل الشعر والقصة، فإن دورهم على خشبة المسرح كان أعظم أثراً في بث روح الحيوية والإثارة في طبيعة الأداء المسرحي الذي طالما سيطرت عليه الرتابة المملة، والقيود التقليدية المتحكمة في التأليف والإخراج، فجاء حصاد الكتاب التعبيريين في حقل الدراما فائضاً بكل دفعات الاحتجاج المنتصرة لإرادة النفس الإنسانية، ولمعاناته العاطفية والذهنية. ولم يبدأ هؤلاء المسرحيون المجددون من الفراغ، فقد وجدوا في أعمال الكاتب المسرحي "جورج بوشنر" ما يغذي طموحهم كما وجدوا في إنتاج "سترند برغ" و"فرانك ديكند" الكثير من الصراعات الداخلية والاتجاهات التحليلية الزاخرة بالرموز التعبيرية والمونولجات المتعددة الطويلة. وقد جاءت المسرحية التعبيرية مستمدة من دوي الحرب وصخب التقدم التكنولوجي وحمى التعصبات القومية المتصاعدة، ومن الطبيعي أن يتميز هذا اللون من المسرحيات بالرفض الصارخ والتمرد على الواقع المعاش، والحنين الجارف إلى عالم هادئ جديد يستعيد فيه الإنسان جوهره المفقود. إن قراءة أولية لبعض المسرحيات التعبيرية تجعلنا نتوصل إلى أن المسرحية التعبيرية قد تشكلت على خشبة المسرح بسمات فنية جديدة تقوم على التجريب، وبوسعنا أن نلمس هذا التجديد والتجريب في بعض المسرحيات التي تركها "بروتولد برخت" لعشاق المسرح التعبيري رغم انشغاله بالشعر الملحمي والمسرح الذهني، وهي "طبول الليل" و"أحراش المدن" و"القروش الثلاثة". كما يشير الدكتور مكاوي -في دراسته للمسرح التعبيري في ألمانيا- إلى أن المسرحية الثلاثية "غاز" للكاتب "جورج كايزر" تعتبر نموذجاً فريداً للمسرحية التعبيرية الغنية بالمواقف المتصارعة والإيحاءات العميقة الموحية. وفي كتابه "أشهر المذاهب المسرحية" يتعرض الناقد دريني خشبة لأبرز السمات الفنية التي تمتاز بها المسرحية التعبيرية عن غيرها، ويهمنا أن نزاوج بهذا الصدد بين ما أورده خشبة وبين ما تكوَّن لدينا من انطباعات واستنتاجات قرائية لنماذج من المسرح التعبيري على صعيد العمل الدرامي الذي أصبح في مقدمة الفنون الأدبية. السمات الفنية للمسرحية التعبيرية تدور أحداث المسرحية التعبيرية عادة حول شخصية محورية تحمل في ذاتها مشكلة تنعكس آثارها السيكولوجية على حركات البطل ومنطوقاته. أما بقية الشخصيات فهي بعيدة عن الضوء متحركة في الظل، وإذا ظهرت فهي تظهر ظهوراً جانبياً، يأتي مساعداً لدور الشخصية المحورية وخادماً للفكرة العامة. وفي المسرحية التعبيرية يستريح البطل لالتقاط الأنفاس، ومن ثم يواصل الحركة في الطريق المرسومة والمؤدية إلى الخلاص من الأزمة الحادة والتي يكون البطل المحوري قد طرح أبعادها على الجمهور منذ البداية، وبشكل عاطفي مثير يهدف إلى إيجاد الاندماج بين المسرح والجمهور. ولا يعني هذا أن المسرحية التعبيرية -لدى محاولاتها لامتلاك وجدان الجمهور- تعتمد على بهرجة شكلية أو تصنُّع ميلو درامي في الأداء، وإنما تأتي بطبيعتها مشحونة بالصرخات العميقة المتزنة والإيماءات الصادقة المصحوبة بإيقاع معبر إلى جانب الحيل المسرحية والأقنعة والتحولات الضوئية من جانب إلى آخر، حيث يشكل عنصر الإضاءة ركيزة أساسية في إخراج المسرحية التعبيرية، فيتعاون كل من المؤلف والمخرج ومهندس الإضاءة على تسليط الأضواء على البطل المحوري، وذلك بما يتناسب مع الحالة النفسية التي يمر بها، فنرى المشاهد حافلة بالإنارة والتعتيم، ورسم الخيالات والظلال والأشباح، حيث يساعد ذلك كله في الإيحاء بأسرار النفس وخلجاتها المكبوتة. وفي معرض التمرد الحر على الكلاسيكية الرتيبة، ونتيجة للاحتجاج الشامل على المدرستين الطبيعية والرمزية الغامضة، لم يكن كتاب المسرح التعبيري في حاجة إلى شخصيات فردية خاصة وتقديمها بأسمائها المحددة وبصورتها الطبيعية، ولذلك نراهم قد مالوا إلى رسم الصورة النموذج للشخصية، واكتفوا بإسداء الألقاب عليها كالأب والابن والرجل والشبح والرئيس وهكذا.

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا
التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 17 ساعات

  • الجزيرة

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

ولد الروائي التشادي روزي جدي، كما يقول، في نفس العام الذي صدرت فيه رواية "الكتاب الأسود" للتركي أورهان باموق، الذي يعتبر أصغر روائي في العالم يحصل على جائزة نوبل في الأدب. وروزي، الذي توج عام 2024 بجائزة التميز في الأدب، وهي أعلى جائزة في تشاد تمنحها وزارة الثقافة، تزامن ميلاده مع كتابة نجيب محفوظ رواية "صدى النسيان". وكانت ذات السنة أيضا التي نشر فيها الكاتب اللبناني ربيع جابر روايته الأولى. يستطرد روزي، بينما يستذكر كل هذه الأعمال يردف: "لأنني أحببتها". الكاتب والروائي الفتى يذكر بشجاعة واستبسال "المحاربين القدامى"، والمواطن الذي استعمرت فرنسا بلاده أكثر من نصف قرن. ولكي تسيطر عليها بأسرع ما أمكنها، كما يقول جدي، فقد قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، في مجزرة مروعة عرفت بمجزرة "الكبكب"، راح ضحيتها 400 عالم ودارس في الدين واللغة العربية، ومن تبقى منهم لجأوا إلى الجوار السوداني. ليكتب الروائي التشادي، في سياق من هذه السردية الأفريقية، روايته المعروفة بـ "ارتدادات الذاكرة"، مستلهما قصة وتاريخا ظل متواريا عن كثيرين، إذ يروي فيه تفاصيل حادثة كهذه، مدركا ما تفعله الرواية، إذ تتناول قصص الناس وترصد حياتهم، كما تسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. قابلت "الجزيرة نت" الروائي روزي جدي في حوار خاص، ناقش فيه العديد من المواضيع التي تمس الأدب، والذاكرة التاريخية، ودور الرواية في كشف المظلومات الاجتماعية والسياسية. كما تناول الحوار تجربته الشخصية، ورؤيته للكتابة، إضافة إلى التحديات التي تواجه الأدب الأفريقي في الوقت الراهن. فإلى الحوار: حين يتعلق الأمر بالرواية الراهنة في بلدك تشاد، فأنت تصنف من أبرز الأصوات الروائية الحديثة، ومن المؤسسين للرواية المكتوبة بالعربية. هل تجد أن النقد الأدبي أنصف تجربتك على هذا النحو؟ أعتقد أنني راض عن الاهتمام الذي أبداه العديد من القراء تجاه أعمالي. لم أتوقع هذا الصدى في هذا الوقت، رغم أنني كأي كاتب طموح، حين جلست للكتابة أردت أن أكتب ما لم يكتب من قبل. الآن أفكر في هذا السؤال وأجدني ممتنا؛ لأن نقادا وكتابا لا أعرفهم كتبوا عن رواياتي في جرائد القدس العربي والقبس ومجلة المجلة وجسكا والعربي الجديد والعديد من الجرائد والمجلات، وهذا الحوار للجزيرة. صحيح أننا في هامش الهامش كأفارقة نكتب باللغة العربية، وبعيدون جدا عن القاهرة والدوحة والشارقة ودور النشر الكبيرة، لكني راض بما وصلت إليه، وأتطلع للمزيد؛ لأن هذا غير كاف. النقد يأتي متأخرا نوعا ما، إلا أنني سعيد بكل كلمة قيلت في أعمالي؛ لأنه من المدهش أن يقرر قارئ عربي القراءة لكاتب يعيش في بلاد تدعى تشاد، ربما لم يسمع عنها بينما لديه عشرات الأعمال الأخرى. اعتقدت دائما، أن علينا بذل المزيد من الجهد، وكتابة نصوص جيدة جدا، ونترك الباقي للزمن، الذي أؤمن بأنه ينصف النصوص الجيدة عاجلا أم آجلا. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي لا يحيل تاريخ ميلادك إلى مرحلة مبكرة، كتلك التي تحيل إلى رصيد "النضال وثورات الاستقلال والتحرر الوطني الأولى في المنطقة العربية وأفريقيا منذ الخمسينيات وما تلاها". أليس كذلك؟ ولدت في سنة ليست هادئة؛ في عام 1992. سأعرف لاحقا أنني ولدت في نفس الفترة التي تتفكك فيها يوغوسلافيا، وتصدر فيها رواية "الكتاب الأسود" لأورهان باموق، ويكتب نجيب محفوظ روايته "صدى النسيان"، وهي نفس السنة التي نشر فيها ربيع جابر روايته الأولى. أتذكر هذه الأعمال لأني أحببتها. بيد أن الكاتب يتأثر بما عاشه وبتاريخ بلاده أكثر من أي شيء آخر. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. تجربتك الروائية فتية، وهي من بين تجارب قليلة امتازت برؤية نقدية وطليعية للأمور منذ روايتك الأولى. ما تعليقك على ذلك؟ لم أعتبر الكتابة ترفا أو هواية، وإنما اعتبرتها دوما طريقتي للاحتجاج ولقول ما لا يمكن قوله باللسان. لذا كانت كتاباتي كلها عصارة تجربة أو مشاهدة ومعايشة. من الواضح أن رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. وهي القصة التي تناولتها في روايتي "ارتدادات الذاكرة"، حيث سردت الرواية كيف أن تشاد، التي كانت فيها ممالك إسلامية تعتمد اللغة العربية لغةً للديوان والمراسلات، أصبحت دولة تتحدث بالفرنسية خلال عقود، لدرجة أن متعلميها بلغة المستعمر يعتقدون أن الدارس بالعربية أقل منهم معرفة وذكاء. تسمح الدولة للفرنسية بالسيطرة على الإدارة حتى يصبح الدارس بالعربية لا يفهم القرارات التي تصدرها الدولة، ولا ما يقال في الجريدة الرسمية! كل هذه أحداث ومآس عشناها أو نعيش آثارها؛ لذا أتت أعمالي بهذه الحمولة النقدية، على أمل أن يأتي التغيير بالإصلاحات. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. ما يقرأه المرء كقصة ورواية لا ينساه ويتأثر به، عكس ما يمر به في برديات التاريخ؛ لذا أكرر بأننا نحن الروائيين نكتب التاريخ في هذا العصر. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. السرد الروائي في تشاد اليوم، كيف تراه من زاويتك بالنظر إلى مرآة النقد وأجناس الأدب الأخرى وثنائية اللغة والهوية في اقترانهما بالأدب؟ أعتقد أن الرواية تعيش إحدى مراحل ازدهارها في تشاد. قبل سنوات، حين كنت أقول إنني سأصبح روائيا، كان بعضهم يعجز عن فهم ما أقصده؛ لأن الشعر كان على العرش، ولا وجود لروائيين معروفين. أول رواية تشادية صدرت بالعربية كانت في سنة 2004، أي أن عمر الرواية العربية في تشاد 21 سنة. لكن الجيل الثاني للرواية العربية، والذي أعتبر نفسي منهم، أصدر في بضع سنوات ما يقارب العشرين رواية، ساهمت بأربع روايات منها. اليوم، يقرأ الناس أعمالنا وينتقدوننا، نمدح ونعتبر من أفضل ممثلي البلاد، ونشتم ونتعرض لحملات تشويه، وهذه دلائل على وصول أعمالنا وعلى نبشها للجرح السياسي وعرضها مشاكل اجتماعية تعيشها مجتمعاتنا. وحين نتحدث عن مرآة النقد، فإنها عرضت أعمالنا وناقشتها وتحدثت عن غرائبيتها وجمالها. ورغم أن الحلم لم يتحقق بعد، إلا أننا نشعر بالإنجاز لمجرد أننا كتبنا أعمالا مدهشة ولافتة بشهادات النقاد، وتشارك في معارض كتب دولية، وتقرأ من آلاف الناس الذين لا نعرفهم. أما الأجناس الأخرى، فالقصة القصيرة هي التي تتقدم جيدا بعد أن "هربنا" منها نحن الروائيين. نحن بدأنا الكتابة بالقصة القصيرة، وثلاثة روائيين أصدروا أكثر من عشر روايات، ظهرت موهبتهم في مسابقات القصة القصيرة التي تنظمها جامعة الملك فيصل. اليوم هناك كتاب قصة قصيرة جيدون في تشاد وهم من جيل آخر، وأعتقد أنهم سيعلنون عن فتوحات في هذا الجنس الأدبي. يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو" أما عن ثنائية اللغة والهوية، فهي قضية شائكة بالنسبة لنا. أذكر أنني قلت مرة لصديق بأنني "أفروعربي". يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو". هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. لدينا أزمة هوية. المشكلة التي لا يعرفها الآخر، هي أن أفريقيا وحدها يعيش فيها 70% من الأعراق، وأنه في بلاد واحدة، ربما يعيش عدد من الأعراق لا تجمعهم ثقافة ولا دين ولا يتشابهون، لكن الاستعمار لا يرى سوى اللون، ولم يراع هذه الأمور. أعتقد أن علينا في أفريقيا أن نناضل من أجل تنوعنا كما نناضل من أجل توحيد كل هؤلاء الأعراق في لون، إذ لا يمكن أن تشكل هوية باللون وحده. إعلان وأنا أجيب عن هذا السؤال، أترحم على روح نغوغي واثيونغو الذي ناضل من أجل الكتابة بلغته، لكني في الوقت نفسه أدرك أننا في أفريقيا نتحدث العديد من اللغات الأوروبية والشرقية، وهي معضلة لا أعرف كيف نجد لها حلا. هل ألقى تخصصك ودراستك القانون بظلاله على التجربة، فدمغها بميسم نضال مدني ناشط ترافق مبكرا مع طموح كبير استنهضه فعل الكتابة ذاتها لديك، على الأرجح؟ أعتقد أن دراسة القانون شيء يحفز الذاكرة والخيال ويدفع الإنسان إلى التفكير كشخص آخر؛ أعني يجعلك تضع نفسك في مكان الآخر ويقربك من الناس؛ لأنك تدرس سلوكياتهم وتشاهدهم في أضعف لحظاتهم، وهو شيء يساعد الكاتب في الغوص في الذات وفي فهم البشر. عدا ذلك، لم أستخدم معارفي القانونية في عمل حتى الآن. ربما سيحدث ذلك حين أصبح قاضيا. "زمن الملل" صدرت عام (2021)، وكتب عنها بعض النقاد كرواية "تتناول القلق الوجودي والتشظي النفسي". هل باتت الرواية تلعب دور الأنثروبولوجي في استقصائها المجتمع والبيئة التي يعيش فيها الإنسان؟ طبعا، ما الذي تفعله الرواية غير ذلك؟ إنها تتناول قصص الناس وترصد حياتهم وتسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. زمن الملل، هي رواية تتحدث عني وعن أقراني وعن جيلي الذي عاش سنوات صعبة في البطالة بسبب أزمة اقتصادية ضربت البلاد، حيث طبقت الدولة إجراءات تقشفية، وغادرت الشركات، ولم يكن هناك من عمل يمكننا ممارسته، وكنا خريجين للتو. هنا تبدأ المشاكل؛ أعني وجود آلاف الشباب الذين لا يجدون ما يفعلونه. كنا نحمل شهادات وآمالا كبيرة، لكن الواقع كان قاسيا معنا. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته تقارب روايتك ارتدادات الذاكرة، الصادرة في (2023)، "حقبة الاستعمار الفرنسي لتشاد". ألا تتطلب كتابة الرواية الحذر كلما تعلق الأمر بالتاريخ؟ التاريخ اليوم نكتبه نحن الروائيين. صحيح أن ما نكتبه لا يعد تاريخا بالمعنى الأكاديمي، وينبغي الحذر لأننا لا نكتب ما حدث فقط ونسرد وقائع معينة ورزنامة من التواريخ، وإنما نعيد كتابة التاريخ ونرمم الفراغات التي لم يتمكن المؤرخ من سدها. هناك اتفاق ضمني بين القارئ والروائي بأن ما منحه ليس تاريخا، وإنما يمكن أن يكون أو يفترض أنه وقع. لكن الروائي ليس ملزما بأن يكون دقيقا في الترتيب الكرونولوجي أو يجعل السلطان بطلا للقصة؛ فالرواية تذهب أبعد من ذلك، وتركز على الناس العاديين، وتناقش هموم البسطاء، مع تقديم حياة كاملة ليعرف القارئ ما كان يأكله الناس وقتها، وماذا يرتدون، وكيف يتزاوجون، اتكاء على شذرات تركها مؤرخ أو اعتمادا على الخيال. صحيح أن كتابة رواية تاريخية يحتاج إلى الحذر الشديد، خاصة حين تكتب عن حادثة تاريخية يعرفها آلاف الناس ويمكنهم مجادلتك في سير الأحداث وتواريخ الوقائع ومآلات الشخصيات؛ والأسوأ ألا يقتنعوا! لكننا نكتب تاريخا جديدا حين نكتب رواية تاريخية، نضيف سردية إلى السرديات القديمة، والهدف هو بناء جسر بين الأجيال القادمة وتاريخها ورموزها الوطنية. لا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى ورواية ارتدادات الذاكرة، هي إضافة للسرد التشادي، وإضافة للهوية التشادية، كذاكرة، وكشيء يجمع التشاديين ويوحدهم حول سردية تاريخية، فلا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى. الرواية ذاتها تميل إلى استخدام تقنية "البوليفونية" (الرواية متعددة الأصوات)، وهو ما غدا يستخدمه كثيرون. فهل ترى أن تعدد الأصوات يتيح للكاتب فرصة للتعمق عبر شخصياته والكشف عن مكنوناتها النفسية أكثر؟ إعلان نعم، ولهذا السبب اخترت تقنية البوليفونية. الشخصيات التي تناولتها في الرواية هي شخصيات حقيقية وتاريخية يعرفها أغلب المتعلمين في تشاد. ليس كل الشخصيات، وإنما أهمهم؛ فهناك شخصيات اخترعتها من أجل تقوية القصة وتحريك الأحداث. لم أرد استخدام الروائي العليم لأتحدث عن شخصيات تاريخية حتى لا يظن القارئ أنني أفرض وجهة نظري في القصة أو أركز على سردية محددة من السرديات المكتوبة والمنتشرة بخصوص المذبحة. تركت الشخصيات تتحدث وتقول رأيها عن بعضها بعضا، كما يفعل الناس عادة، كي أظهر سلبياتهم وأغوص في نفسياتهم وأبرز ضعفهم، ليدرك القارئ أنهم أشخاص مثلنا: يأكلون، ويخونون، ويتزاوجون، ويكذبون، ويصدقون، قبل أن يكونوا أبطالا في حادثة. استخدمت تقنية البوليفونية من أجل إظهار وجهات النظر المختلفة إبان فترة مهمة جدا، وتركت الجميع يتحدث كي يحكي ما كان يفكر فيه. كما أن التقنية سمحت لي بإيراد وجهة نظر المستعمر على لسان "جيراد" الذي كان يرى أنه جاء للتنوير ولتعليم الناس وإيصالهم إلى الحضارة. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. برأيك، ما كان دافع الاحتلال الفرنسي في جريمته اغتيال علماء يمثلون الثقافة العربية والإسلامية؟ برأيي أن الدافع كان القضاء على أهم قوة سياسية تقف ضد أهداف المستعمر الذي جاء لاستعمار الأرض ولتنصير الناس. فالعلماء كانوا متعلمين، وهم من يقفون بين المستعمر والناس ويكافحون رغبات المستعمر من تنصير وبناء للمدارس الفرنسية وإغلاق للخلاوي وحلقات العلم. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. تنطوي العديد من أعمالك على سمات مضمرة من نقد اجتماعي وسياسي. كيف تتأسس علاقتك بالنقد كموقف يتطلب شجاعة وجرأة في الكتابة؟ الكتابة تحتاج إلى الشجاعة قبل كل شيء. لا بد من الشجاعة لقول رأيك بصوت عال عن السلطة والسياسة والواقع والمجتمع في بلادك. ولفعل ذلك تحتاج إلى الصبر والتحمل والجرأة؛ لأنك توجه رصاصتك تجاه جماعات تمتلك القدرة على تصفيتك ماديا ومعنويا. ككاتب روائي، أدري أنني أمارس الفن الأكثر قدرة على رصد التأثيرات التي تحدثها القرارات السياسية والسلطة. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. في النهاية، أنا روائي متمرد على التقاليد الفنية وعلى السلطة والمجتمع، ولتأكيد ذلك ينبغي أن تكون شجاعا وجريئا؛ لأن قول الحقيقة يحتاج إلى هاتين. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. هل تتعمد توظيف الخيال كأداة مثلى في الكتابة، بينما تقارب المدينة روائيا؟ نعم، لا بد من الخيال لكتابة رواية. هو زادنا. لكن الخيال لا بد أن يصبح واقعيا حين تقارب مدينة. وهنا يأتي دور الذاكرة؛ تتذكر مدينتك وطفولتك، ما رأيته وجربته وسمعته، وترمم فجوات الذاكرة بالخيال لتكتب عن فضاء روائي. لكن الواقع يبدو مختلفا في خيال الرواية التي تكتبها. هل تكون الغاية هنا ما ترومه من خلال تعبيرات الفن ذاته كهدف تتغياه في كتابة السرد؟ كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. لكن ذلك لا يمنع من وجود فصول أو قصص وشخصيات كتبتها لغاية المتعة ولأسباب فنية بحتة. فأحيانا نكتب لأننا نستمتع. لذا كتبت قصصا لأنني فقط كنت أستمتع بممارسة الكتابة، وبعد أن انتهيت تخلصت منها. كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. تتعاطى مع الكتابة كنوع من "احتجاج". هل قصدت بها وسيلة إدانة لما يرتكبه العدوان الصهيوني على غزة مثلا؟ نعم، أعتبر الكتابة نضالا ومقاومة؛ لأنها سبيل إلى التوثيق والرفض والبقاء والمقاومة. لا تقدم الكتابة الكثير من النتائج الآنية لأن "السيف أصدق إنباء من الكتب"، لكن على المدى الطويل فهي أيضا سلاح فتاك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. ما الذي يمثله لك التجريب؟ هل يحفز الكتاب الشبان؟ وهل يشترط التجريب الحرية؟ ويدعو إلى أدب جديد يتجاوز القوالب التقليدية؟ يمثل لي التجريب الحرية. أعتقد أن أهم صفة يجب أن يمتلكها الكاتب هي الحرية. لا بد أن نجرب أساليب جديدة وفضاءات بعيدة لنبدع. لا بد من التمرد وتجريب الجديد لكي نبدع. أغلب مدعي التجريب يكتبون أشياء غير مفهومة لعدم امتلاكهم قصة قوية تجبرهم على الكتابة؛ ولذا لم تعجبني أغلب الأعمال التي روج لها على أنها تجريبية. برأيي، التجريب موجود في أغلب الروايات. فكسر التسلسل الزمني وتعدد الأصوات هي أفكار لها أكثر من نصف قرن ومقبولة. لكني لا أحب الكتابات التي تدور بلا هدف، والتي تشعر أن كاتبها لا يدري كيف ينهيها ولم بدأها. تتطلع بإلحاح إلى وصول الأدب الإفريقي عبر الترجمة إلى جمهور محلي وعالمي أوسع. وغير مرة أكدت على: "أن الترجمة تعتبر الجائزة الكبرى للكاتب". كل كاتب يتمنى أن تقرأ أعماله من أكبر عدد ممكن من الناس. الجائزة الكبرى للكاتب هي أن تقرأ أعماله في أنحاء العالم وبمختلف اللغات. لكني أتمنى أن تحصل التفاتة إلى الأدب الإفريقي؛ لاعتقادي بأن ما نكتبه يستحق ذلك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. إلى أي مدى تدرك تجربتك الروائية أهمية الكتابة كأداة لفهم الذات والمجتمع والأفراد؟ الكتابة تعرية أيضا. هناك أفكار لا تأتيك إلا حين تجلس للكتابة. وحين نكتب فإننا نفكر بطريقة مختلفة تجعلنا شفافين وصادقين مع ذواتنا، وواضحين في سرد تجاربنا أو معارفنا أو ما نفكر فيه، وكأن الكتابة تزيل المكابح التي وضعت بين عملية التفكير وقرار القول أو الفعل. الكتابة ممارسة صعبة، ولهذا سوف تعلمك أشياء كثيرة، من بينها الصبر والجدية والتحمل. لكن الأكيد أن من يكتب يقرأ، وإذا جمعت بين هذين فأنت ستزداد ذكاء وفهما لنفسك وللمجتمع وللأفراد الذين تفكر فيهم كثيرا وتراقبهم لتخلق منهم شخصيات. تلقي رواياتك عند فحصها الضوء على قضايا العنف السياسي والهوية الثقافية في تشاد، وهو ما أضاف بعدا جديدا إلى الأدب العربي في أفريقيا؟ أعتقد ذلك، فالمستعمر هو الذي خطط لهذا كي نكتوي بآثار أفعاله. تأثرت بهذه الأحداث التي انعكست على حياتنا اجتماعيا وسياسيا، فكتبت عنها. حتى يومنا هذا ينقسم التشاديون إلى جنوبيين مسيحيين وشماليين مسلمين، وينقسم الفريقان إلى عشائر وقبائل، ولم نتجاوز الانتماء القبلي حتى اليوم.

"الزمن المفقود".. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني
"الزمن المفقود".. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

"الزمن المفقود".. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني

الأدب مرآة مجتمعه، فلا يوجد أدب قوي في دولة ضعيفة، والعكس صحيح. لقد كان انعكاسا حقيقيا لنهضة السوفيات ومعبرا عن نهضة الروس، ليصبحوا واحدة من أكبر القوى العالمية في القرن العشرين. ثم جاء الأدب الأميركي ليكون ترجمة طبيعية لقوة الدولة وصورة حقيقية عن تفوقها، وما زال الأدب الأوروبي معبرا عن تفوق الغرب وتقدمه. وكان أدب أميركا اللاتينية الحديث مقدمة لتحرير دول هذه المنطقة من عقال الهيمنة والفساد إلى الديمقراطية وإصلاح الدولة. والآن يشهد العالم نهوضا صينيا عظيما، ويواكب هذه النهضة الاقتصادية ارتقاء أدبي رفيع. ولأن دول العالم الثالث ما زالت تدور في فلك الغرب المعادي لكل ما هو شرق، مقتفية آثار غبار "الميديا" الغربية لطمس العيون فلا ترى حقيقة تقدم الأدب الصيني واعتلائه ربى سامقة في الآداب الإنسانية. وحديثا جاء الاعتراف بالأدب الصيني من الغرب نفسه، اعترافا بجدارته وحيويته وعمق محتواه، وهناك سباق شرس لترجمة الأدب الصيني إلى كل لغات العالم. ورغم الصلات والعلاقات العربية الصينية القديمة على طول التاريخ، التي أدت إلى احتضان الصين الدين الإسلامي في مناطق كثيرة من ربوعها، فإن ترجمة الآداب الصينية لم تكن على نفس مستوى العلاقات البينية. ومع النهضة الحديثة له، تولدت حركة ترجمة كبيرة للأدب الصيني في البلاد العربية. ولن يتسع المجال هنا لرصد كل الترجمات العربية للأدب الصيني، ولكن في العام الماضي كانت رواية "الزمن المفقود" للصيني وانغ شياو بو الأكثر قراءة في العالم العربي على تطبيق "أبجد". وهي من الروايات القليلة التي كسرت حاجز الرهبة بين القارئ العربي والثقافة الصينية. وتحقق في تلك الرواية مجموعة من السمات رفعت من إقبال المتلقي العربي عليها، أبرزها: أن الحدوتة فيها قوية، وفكرة الجنون أو فلسفة الصعاليك موجودة، وأبطالها من أبناء الشعب العاديين، ومن الممكن للمتلقي العربي أن يتخيل أنه أحدهم. وكل هذه العوامل أو السمات ساعدت المتلقي العربي على أن يعيش داخل أجواء الرواية. ضد الثورة الثقافية رواية "الزمن المفقود" موضوعها سنوات الثورة الثقافية في الصين -منتصف الستينيات وحتى منتصف السبعينيات- أو ما يطلق عليها "سنوات الصين السوداء" في العصر الحديث. وهي تحكي عن الزمن المفقود للرجل الذي يحاول أن يكون بطلا لكنه يسقط في النهاية بلا بطولة أو إنسانية. وتجري الأحداث لما بعد الثورة الثقافية حيث تمزج الرواية بين البطولة الفردية والقومية. ويعد الروائي الصيني وانغ شياو بو أشهر من كتب عن الحب والسياسة في الأدب الصيني، وبحسب الأرقام فهو من أكثر كتاب العالم تأثيرا. وهو أيضا الملهم والملك المتوج بالصين على قلوب الشباب ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد توقف قلبه فجأة وهو بالأربعينيات من عمره سنة 1997، وبرغم رحيله المبكر فهو ينافس الأحياء من الأدباء على لافتات الأكثر مبيعا في الصين. ويعد الصينيون وانغ أعظم من كتب سردا ونثرا وشعرا بالصينية في العصر الحديث، وهو من اقتحم الدروب السرية للنفس البشرية ففضحها بلطف ثم عالجها بعنف. ويكتب عن الحب فيجبرك على التفكير في السياسة، ويكتب عن العلاقات الإنسانية فتفكر في مغزى الحياة وتناقضاتها. وأنت تقرأ الرواية تشعر أنها ليست بعيدة عنك، مثلها مثل رواية 100 عام من العزلة، تستطيع أن تتخيل نفسك واحدا من شخصيات ماكوندو، وتعيش نفس أجوائها. وقد منعت الرواية في البداية ثم نشرت في هونغ كونغ، ثم نشرت بعد وفاة المؤلف بالصين، وحتى الآن لا تنقطع إعادة طباعتها عدة مرات في العام الواحد. ورواية الزمن المفقود نزلت إلى الشارع الصيني المزدحم تعبر عن أبناء الشعب في أدق تفاصيلهم الحياتية، محتفظة في ذات الوقت بالعمق السردي، بعد أن تخلصت من إيثار الحكمة والغموض الفلسفي الذي تتميز به الرواية الصينية. وعلى العكس، عندما تقرأ رواية "الذرة الرفيعة الحمراء" للكاتب مو يان، الحائز جائزة نوبل عام 2012، التي يسرد فيها لمحات من تاريخ الريف الصيني في ظل الغزو الياباني للصين من عام 1937-1945، تشعر وأنت تقرأها كأنك خارج أجواء الرواية، وهذه صفة يتسم بها الأدب الصيني بشكل عام. ومع أن رواية "الزمن المفقود" منعت بعض الوقت في الصين، فإنها كانت تباع في تايوان، ومؤلفات وانغ شياو بو هي الأكثر تأثيرا على مواليد الثمانينيات والتسعينيات في الصين. وبرغم رحيله المبكر عام 1997 وهو دون الـ45 من عمره، فأعماله تطبع كل عام وتباع بأرقام خرافية، ومقالاته مؤثرة جدا، منها كتاب "الأغلبية الصامتة" الذي يعتبر "إنجيل الصينيين". الذائقة التابعة ورواية "الزمن المفقود" من ترجمة الدكتور أحمد السعيد الخبير بالشأن الصيني، والأستاذ الزائر بجامعة الاتصالات الصينية، والرئيس التنفيذي لمجموعة بيت الحكمة للثقافة الذي التقيناه لنحلق معه في الوضع الثقافي الصيني ونعرف من خلاله أين العرب من الثقافة الصينية، وكيف عبرت الثقافة عن طموحات ومستقبل الشعب الصيني. – ما يحدد معايير انتشار الأدب المترجم في المنطقة العربية هو الذائقة الغربية، وليست الذائقة العربية. ولما يكون الكاتب مشهورا في اللغة الإنجليزية، تكون فرصته أكبر في الانتشار بالعربية أو اللغات الأخرى، التي هي لغات المفعول به، وليست لغات الفاعل. وأضرب لك مثالا بالكاتب الياباني هاروكي موراكامي، فلأنه يكتب بالإنجليزية أصبح مشهورا في بريطانيا، ونحن في مصر وفي المنطقة بالكامل لم نعرفه على أنه ياباني، بل عرفناه لأنه مشهور في الغرب. والأمر الآخر لعدم انتشار الأدب الصيني كما ينبغي هو القطيعة الثقافية التي حدثت بين الصين والعالم بعد الثورة الصناعية أواخر السبعينيات، ثم بدأت الصين تركز على البناء الاقتصادي للدولة، فلم تهتم بإحياء حركة جيدة للأدب الصيني، فضلا عن أن الأدب الصيني شديد العمق لأنه أدب فلسفي، والقارئ العادي المعتاد على قراءة "سوشيال ميديا" ستكون درجة تلقيه للأدب الصيني غير مريحة. وأيضا هو أدب مثقل بكثير من الأحداث التاريخية والسياسية والثقافية بالنسبة للصين، فتشعر أنه محتاج إلى كتالوج لكي تفهمه. فمثلا، الكاتب الصيني مويان الفائز بجائزة نوبل عام 2012، قليلون هم من قرؤوا أدبه وفهموه. ولأن الأدب الصيني ثقيل، فهو يحتاج قبل ترجمته إلى عين كاشفة لانتخاب ما هو مناسب للترجمة إلى اللغات الأخرى، أو أن ينشأ في كل عمل مترجم كتالوج يشرح من خلاله المقصود ومرامي الأدب الصيني. ومن ناحية أخرى، تجد أن الأدب الصيني المترجم إلى العربية بدأ مع انتشار الآداب الروسية التي غزت العالم، ثم انتقلت الذائقة الأدبية العالمية إلى الأدباء الأميركان، ثم انتقلت الموجة إلى أدب أميركا اللاتينية بالطفرة التي طفت على سطح العالم مع الواقعية السحرية، وكل هذه المراحل استغرقت سنوات من البناء. ولهذا تأتي اختيارات دور النشر بناء على شهرة الكاتب أو العمل في أوروبا أو أميركا. فعندما تقول "واشنطن بوست" هذه قائمة أشهر 100 رواية في العالم، تتسابق كل دور النشر لشراء حقوقها وترجمتها، وأكيد لن تختار عملا صينيا، لأن القوى الناعمة الغربية دائما تظهر نفسها على أنها الأفضل، وتنتقي لنفسها ما يخدم أهدافها. فمثلما ترى أن الأعمال العربية المترجمة في الغالب ما يخدم الرؤية الغربية عن العرب. والأدب الصيني صعب على الذائقة العربية، لأننا في الأصل ثقافة "حواديت": ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة. أما الصين، فهي ثقافة فلسفة، ولهذا الحبكة السردية ليست أصل الرواية، والأصل هو قراءة واعية لما بين السطور. والكاتب يبعث برسالة، وعلى القارئ أن يكون واعيا لما يقول الكاتب لأن هذه هي الطريقة الصينية في التعبير: الاقتضاب والاستعارات الكثيرة. والموجة الإنسانية في أدب "التنين الأصفر" هي المقابل الحقيقي لإرهاب راعي البقر. أدب إنساني – وهناك روايات مثل "العصر الذهبي" لـ"وانغ" وكذلك "الربع الأخير من القمر" للكاتبة تشيه زيه جيان، قال عنها النقاد إنها "100 عام من العزلة الصينية" فعالمها مليء بالسحر، لكن البطلة ترويه لنا وكأنه شيء عادي. وهي أعمال مؤثرة في الصين جدا، إنما ثقافة المتلقي مغايرة لثقافة الأصل، والأدب لا يمكن نشره بالدولار والدينار، لأنه من قوى التأثير الناعمة التي من ميزاتها أنها تقنع المتلقي بأنها اختياره وليس بالضغط والجبر من قوى أجنبية. من هم الأدباء الصينيون الأكثر شهرة على الساحة العربية وعالميا بعصرنا الحالي؟ – الكاتب ليو جين يون هو الأكثر ترجمة ومبيعا على الساحة العربية، ومن أعماله المعروفة: "طلاق على الطريقة الصينية"، "تاريخ آخر للضحك" و"1941″، و"جهة العمل"، "رب جملة بعشرة آلاف جملة". ويأتي الكاتب الثاني في المبيعات ليو خوان، وهو الأشهر داخل الصين، وكل أعماله لا تتجاوز 7 روايات، وجميعها مترجمة إلى العربية. ورواية "نهر الزمن" طبعت 4 مرات، والإقبال عليها في تزايد. كما يأتي مو يان الفائز بجائزة نوبل عام 2012، وأعماله كلها ترجمت إلى العربية، ومبيعاتها جيدة رغم صعوبة فهمها إلى حد ما. ومن أشهر الكتاب في الصين أيضا الروائي شيو تسي تشين، الذي فاز بجائزة ماو دون الأدبية المحلية، وهي تعادل نوبل في قيمتها المعنوية والمادية داخل البلاد. ونحن نترجم لحوالي 30 أديبا صينيا هم الأكثر تأثيرا وانتشارا ومبيعا داخل الصين، وشيو تسي تشين كاتب شاب، وكتاباته كلها عن الشباب، ولهذا التلقي عنه سهل. وتتحدث روايته الأكثر شهرة المترجمة إلى العربية "رحلة إلى الشمال" عن مجموعة من العائلات التي تواجه تحديات مختلفة في بكين، إلى جانب رواية "بكين" التي تتناول حياة المهاجرين من المناطق الريفية إلى العاصمة، وروايتي "لقاء في بكين" و"حكايات ضاحية بكين الغربية". ويضاف إليهم الروائي الذي رحل شابا، وانغ شياو بو. وهؤلاء الخمسة هم الكتاب الأكثر تعبيرا عن الأدب الصيني، وهم الأكثر انتشارا، والجمهور في المنطقة العربية مهتم كثيرا بأعمالهم. أما الكاتب يان لي، فهو كل عام موجود على ترشيحات جائزة نوبل، وله أعمال لم يسمح بنشرها في الصين، مع أنه يعيش هناك مرفها ويشغل منصبا حزبيا كبيرا. وأعماله تباع بسلاسة كبيرة، لأن الصين لا يوجد لديها سياسة المنع. كيف تتعامل الدولة في الصين مع السياسة الثقافية؟ وهل لديها خطة لنشر ثقافتها بالخارج؟ – تلتزم الدولة الصينية بالدعم الكامل لترجمة ونشر الأدب الصيني بالخارج، وبدون توجيه سياسي مباشر. والناشر الأجنبي هو من يختار الرواية أو الكتاب المراد ترجمته، ويتقدم به للمشروع الموجه بالدعم من وزارة الثقافة أو وزارة الإعلام أو اتحاد الكتاب أو من دار النشر نفسها، ويحصل على الدعم اللازم للترجمة طالما انطبقت عليه الشروط. ما أثر النهضة الثقافية على الإنسان الصيني في الوقت الحالي؟ – النهضة الثقافية أدت إلى أن أكثر 10 أدباء دخلا في الصين في السنوات العشر الأخيرة ولا يوجد لديهم كتاب واحد مطبوع، فكلهم يكتبون أدبا رقميا على المنصات. ومعنى ذلك أنهم شباب، وأن الأجيال الشابة والصغيرة هناك تقرأ بشغف. والأهم من ذلك أن هؤلاء الكتاب يكتبون عن أحداث اجتماعية تهم الناس، فهم عيونهم ومشاعرهم على نبض المجتمع وأين تكمن مشكلاته. لا رقابة على الأفكار كيف تتم الرقابة على الأفكار داخل الصين؟ وهل تختلف فكرة الرقابة عما هي عليه بالغرب أو الدول العربية؟ – فكرة الرقابة المتخيلة لدينا غير موجودة لدى الصينيين. وأضرب مثالا على ذلك: كنت مرافقا للكاتب مو يان، الحائز على جائزة نوبل عام 2012، في معرض الكتاب بالجزائر 2019، وكانت الصين ضيف الشرف. وفي الندوة سأله أحد الحضور: هل تعتقد أن في الصين حرية للإبداع الأدبي؟ ورد الكاتب بسؤال: ماذا تقصد بالحرية؟ وما تعريفك للحرية؟ فأجاب السائل: الحرية المطلقة. فقال مو يان: يعني لو كتبت رواية عن البوذية في الجزائر، التي دينها الإسلام، هل الحكومة الجزائرية ستتركني أفعل ما أشاء؟ هل أستطيع أن أهاجم الإسلام أو أهاجم العادات والتقاليد الجزائرية داخل الجزائر؟ فما أقوله هنا إنه لا توجد حرية مطلقة. أنا لا أستطيع أن أذهب إلى ألمانيا وأكتب رواية في مدح النازية وأدعي أن هذه حرية. وبنفس الإطار، في الصين، المجتمع هناك هو من يقرر حدود الحرية التي يتحرك فيها الأفراد، وفي الإطار المسموح به أنا حر جدا. ويود بالصين نقد مجتمعي واضح. فمثلا، رواية "طلاق على الطريقة الصينية" للروائي ليو جين يون هي نقد مباشر للمسؤولين حتى نائب رئيس الدولة. ولنفس المؤلف رواية "سرير الغرباء" التي تحكي قصة فساد حاكم مقاطعة على درجة وزير. والروائي مو يان يكتب رواية "الضفادع" التي تمثل نقدا شديدا جدا لسياسة الدولة في سياسة الطفل الواحد. كذلك وانغ شياو بو يكتب وينتقد "الإيمان الأعمى" بالحزب الشيوعي، وينتقد الأغلبية الصامتة التي لا تفكر. ويكاد لا يوجد عمل أدبي صيني لا يوجه انتقادات للمجتمع، ولكن على الطريقة الصينية. ولن تجد كاتبا صينيا يكتب عن الجنس أو السياسة بشكل مباشر، فالكتابة دائما غير مباشرة، والقراءة عملية وعي وإدراك لما يرمي إليه الكاتب. في ظل النهضة الاقتصادية الحديثة بالصين، هل تواكب الثقافة هذا النهوض؟ وهل للثقافة والأدب أثر في هذه النهضة؟ – ما يحكم الصين ليس السياسة، بل الثقافة، لأنها بالنسبة للإنسان الصيني هي الدين. ومنظومة الدين عند الشرق أو الغرب بديلها في الصين الثقافة. ووضع الثقافة في هذا البلد يشبه أو يوازي وضع الدين في المنطقة العربية. والثقافة عند الصينيين موضوعها وإطارها أشمل من فهمنا نحن، فالثقافة ليست أدبا وفنونا فقط بل أسلوب الحياة وطريقة العيش، وسلوك الفرد في المجتمع، وهي تعليم أسس الكونفوشيوسية والطاوية، وتعليم الماركسية على الطريقة الصينية. ولهذا (فالرئيس الصيني) شي جين بينغ في كل أحاديثه لا بد أن يرفق بها اقتباسات من أمهات الكتب الصينية التي تدرس للطلبة في كل مراحل التعليم، مثل: كتاب "الأغاني"، "حوليات الربيع والخريف"، "السندات التاريخية"، "حلم المقصورة الحمراء"، "حوارات كونفوشيوس"، كتاب "الطاو". ولديهم ما يسمى "الأربعة كتب المقدسة"، و"الخمسة كتب الكلاسيكية"، مثل كتاب "التعليم الكبير" وكتاب "التغيرات". وكلها مؤثرة في الثقافة وتترك أثرها في كل شخص في الصين. ولكي تفهم الصين لا بد من فهم ثقافتها، حتى تدرك كيف ستكون تحركاتها. وهناك حملات في الصين حاليا تدعو لإحياء الكونفوشيوسية لأنها تدعو للبر والتراحم واحترام الكبير للصغير، وطاعة أولي الأمر واحترام الآخر. وكذلك هناك دعوات لإحياء الطاوية التي تدعو إلى التجانس بين الإنسان والطبيعة وتجنب الصراعات. وماو تسي تونغ (مؤسس الصين الحديثة) أديب وناقد وله مؤلفات في النقد الأدبي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store