
مشكلات المجتمع السياسي في العراق
يرى أنطونيو غرامشي أن "المجتمع السياسي" هو ذلك الفضاء الذي تمارس فيه الدولة وأجهزتها القسرية (الجيش والشرطة والقضاء) سلطتها على المجتمع العام، بينما "المجتمع المدني" هو فضاء الفعّاليات الاجتماعية المنظّمة من نقابات وجمعيات وصحف ومدارس ودور عبادة. والتي تتلقّى الفعل السياسي من الدولة، أو تتفاعل معه. بينما يرى المفكّر الأميركي المعاصر بارينغتون مور، أنه لا يوجد فاصل فعلي بين المجموعتَين، وأن تعريف المجتمع السياسي يشمل كلّ القوى التي تتنافس على السلطة والنفوذ والثروة داخل المجتمع، بما يشمل الأحزاب والجماعات المسلّحة، ونضيف إليها في العراق والمنطقة العربية: العشائر والتحالفات القبلية والطوائف الدينية الصغيرة.
عملياً، حتى العام 2003، كان المجتمع السياسي في العراق، بمفهوم غرامشي أو مور، أحادياً شمولياً، لا يتيح مجال التعبير إلا لقوّة واحدة مهيمنة تفرضها نسخة صدّام حسين من حزب البعث العربي الاشتراكي، وعائلته. وتتجلّى هذه القوّة في السلطة الحاكمة والجيش والقضاء، وفي النقابات والمنظّمات، وكلّ التنظيمات الاجتماعية المختلفة، الأمر الذي تغيّر تماماً بعد 2003، فظهرت سرديات تنظيم اجتماعي مختلفة عن السابق، أساسها تعريف المجتمع العام بعدّه مجموعات طائفية وعرقية مغلقة، ولكلّ مجموعة تيّارات سياسية مُمثِّلة لها.
لم ينهض المجتمع السياسي الجديد بالضدّ من الأحادية السياسية والثقافية السابقة، وإنما ارتدّ الى أشكال ما قبل الدولة من التنظيمات الاجتماعية، وصارت أشكال التعبير المتوقّعة من "المجتمع المدني" خاضعةً للتعريفات الجديدة القديمة، بناءً على إطار عامّ طائفي أو عرقي، لا يكترث كثيراً بالمحدّدات الوطنية، فبديلاً من ديكتاتورية الحزب والجماعة السياسية الاجتماعية الواحدة، قُسّم المجتمع بين حواضن مغلقة تفرض أشكالاً من الترويض والقسر على أفرادها بما يذكّر بالممارسات الاستبدادية السابقة. ولكن هذه الحواضن الاستبدادية تمارس داخل الفضاء الوطني واحداً من أشكال الديمقراطية فيما بينها.
فشلت النقابات والمنظّمات وتشكيلات المجتمع المدني العراقي، والتيّارات السياسية الوطنية (لا ترفع الانتماء الطائفي والعرقي عنواناً لها)، في تفتيت هذا التنظيم السياسي الاجتماعي الجديد، أو التخفيف من تأثيره العام. بل ارتفعت الأسوار أكثر فأكثر، بسبب النزاع القومي (المناطق المتنازع عليها بين الكرد والعرب) والطائفي (حرب المفخّخات والجماعات المسلّحة في المناطق المختلطة طائفياً). وأيضاً، لأن قبضة النظام السياسي الجديد على الريع من واردات النفط أعطته مصادر قوّة وتأثير بسبب قوّة الإنفاق على الاتباع، وعلى وسائل التأثير الاجتماعي من وسائل إعلام وفعّاليات اجتماعية ودينية.
لا يعيش العراق اليوم صراعاً طائفياً صريحاً، ولا حتّى قومياً، على الرغم من النزاع في ملفّات عديدة بين حكومتي المركز وإقليم كردستان. ومن سنوات، يشهد العراق هدوءاً وسلاماً اجتماعياً نسبياً يحفّز على التنمية والتطوّر الاقتصادي. وعلى الرغم من تراجع أسباب التحشيد الطائفي والعرقي، ترفض الجماعات السياسية، التي اعتاشت من هذا التحشيد طوال العقدَين الماضيَين، أن تفسح المجال لأشكال جديدة من فعّاليات المجتمع السياسي، تربط الأفراد بوشائج المصالح ذات الطابع الوطني، وتتجاوز أسوار القبائل السياسية الكُبرى التي فرضها نظام ما بعد 2003.
المسرح السياسي الحالي، قبيل انتخابات تشرين الثاني 2025 المُقبلة، رُسم بتراث العشرين سنة الماضية الطائفي والعرقي، ولا يمكن للتيّارات السياسية الوطنية الجديدة القفز عنه بسهولة. إنها مجبرة على التعامل البراغماتي معه، ريثما تتمكّن مستقبلاً من فرض نفسها لاعباً سياسياً أساسياً، يساهم في تعديل قواعد العمل السياسي في البلد. كما أن الكيانات السياسية الكُبرى (الطائفية والعرقية)، على الرغم من إدارتها لصراع سياسي مع خصومها وفق قواعد الديمقراطية، إلا أنها ظلّت حريصةً على تكييف مخاطر الديمقراطية الشاملة، وتفتيت محتواها العميق، وجعلها مجرّد عملية اقتراع دوريّة. وهي بذلك لم تصنع مجتمعاً سياسياً فعّالاً. وبسبب غياب هذا المجتمع تراجعت في السنوات الماضية حماسة فئات كثيرة تجاه العمل السياسي، إن كان ترشيحاً أو تصويتاً. ولكن هذا الواقع، بحدّ ذاته، ليس مبرّراً لغسل اليد من العمل السياسي من التيّارات الوطنية الجديدة، إنما هو تحدّ يجب أن تعيه، وتحاول التعامل معه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 14 دقائق
- القدس العربي
ترامب يأمر بفتح تحقيق بشبهة 'التآمر' للتستّر على 'الحالة العقلية لبايدن'
واشنطن: أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء بفتح تحقيق للاشتباه بأنّ محيطين بسلفه جو بايدن 'تآمروا' للتستّر على 'حالته العقلية' والاستيلاء على صلاحياته، بحسب ما أعلن البيت الأبيض. وقالت الرئاسة الأمريكية في بيان إنّ ترامب كلّف محامي البيت الأبيض 'بالتحقيق، ضمن حدود القانون، بشأن ما إذا كان بعض الأفراد قد تآمروا للكذب على الرأي العام بشأن الحالة العقلية لبايدن، وممارسة صلاحيات الرئيس ومسؤولياته خلافا للدستور'. (أ ف ب)


القدس العربي
منذ 14 دقائق
- القدس العربي
ترامب يوقّع أمرا تنفيذيا يمنع سفر رعايا 12 دولة إلى الولايات المتحدة
واشنطن: وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء أمرا تنفيذيا منع بموجبه رعايا 12 دولة من السفر إلى الولايات المتّحدة، في خطوة برّرها برغبته في 'حماية الأمريكيين من أطراف أجنبية خطرة'، وفقا للبيت الأبيض. وقالت الرئاسة الأمريكية في بيان إنّ الحظر يشمل مواطني كلّ من: أفغانستان، وبورما، وتشاد، وجمهورية الكونغو، وغينيا الاستوائية، وإريتريا، وهايتي، وإيران، وليبيا، والصومال، والسودان، واليمن، إضافة إلى سبع دول أخرى فرض ترامب قيودا على سفر رعاياها إلى الولايات المتحدة. ويأتي هذا القرار في سياق سلسلة من السياسات المتشددة التي تبنّتها إدارة الرئيس دونالد ترامب منذ توليه السلطة في يناير/ كانون الثاني 2017، ولا سيما فيما يتعلق بالهجرة والأمن القومي. وكان ترامب قد أصدر في وقت مبكر من ولايته ما عرف إعلاميًا بـ'حظر السفر'، والذي استهدف في نسخته الأولى مواطني دول ذات غالبية مسلمة، ما أثار جدلًا واسعًا واتهامات بالتمييز الديني والعرقي. ورغم الطعون القانونية المتعددة، أقرّت المحكمة العليا في يونيو/ حزيران 2018 النسخة الثالثة من الحظر، معتبرة أنها تقع ضمن صلاحيات الرئيس في حماية الأمن القومي. ومنذ ذلك الحين، واصلت الإدارة توسيع قائمة الدول المستهدفة بناءً على ما تقول إنه 'تقييم أمني' لقدرة هذه الدول على مشاركة المعلومات مع السلطات الأمريكية والتحقق من هويات المسافرين. وقد واجهت هذه القرارات انتقادات حادة من جماعات حقوقية وأعضاء في الكونغرس، حيث اعتبروها تمييزية ومخالفة للقيم الأمريكية، في حين تصرّ الإدارة على أنها ضرورية لحماية البلاد من تهديدات محتملة. (وكالات)


BBC عربية
منذ ساعة واحدة
- BBC عربية
ترامب يوقع أمراً تنفيذياً جديداً يحظر دخول مواطني 12 دولة إلى الولايات المتحدة من بينها دول عربية
وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أمراً تنفيذياً جديداً يفرض قيوداً صارمة على دخول مواطني 12 دولة إلى الولايات المتحدة، من بينها عدد من الدول العربية والإسلامية، في خطوة أعادت إلى الأذهان الحظر الذي فرضه خلال ولايته الأولى وأثار حينها موجات من الجدل القانوني والسياسي داخل البلاد وخارجها. ووفقاً للبيان الصادر عن البيت الأبيض، فإن القرار الجديد سيبدأ تطبيقه رسمياً اعتباراً من يوم الأحد 9 يونيو/حزيران، ويشمل حظر الدخول الكامل على مواطني كل من: أفغانستان، بورما (ميانمار)، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، إريتريا، هايتي، إيران، ليبيا، الصومال، السودان، واليمن. كما فرضت إدارة ترامب قيوداً جزئية على دخول مواطني سبع دول أخرى هي: بوروندي، كوبا، لاوس، سيراليون، توغو، تركمانستان، وفنزويلا، حيث يُتوقع أن يخضع المسافرون منها لفحص أمني مشدد أو يُمنع دخولهم باستثناءات محدودة. ويأتي القرار في أعقاب هجوم استهدف تجمعاً مؤيداً لإسرائيل في مدينة بولدر بولاية كولورادو، يوم الأحد الماضي، حيث اتهمت السلطات الأمريكية رجلاً يُدعى محمد صبري سليمان بالهجوم على المشاركين باستخدام قنابل حارقة ومواد مشتعلة. وبحسب وزارة الأمن الداخلي، فإن سليمان دخل الولايات المتحدة بتأشيرة سياحية في عام 2022، وتقدّم لاحقاً بطلب لجوء، إلا أنه بقي داخل البلاد رغم انتهاء صلاحية تأشيرته. واستخدم ترامب الحادث كدليل على "خطورة القصور في أنظمة التدقيق على الأجانب"، كما قال في رسالة مصوّرة من المكتب البيضاوي نُشرت على منصة إكس. وقال ترامب في رسالته المصورة إن "الهجوم الإرهابي الأخير في كولورادو يسلّط الضوء على الخطر الكبير الذي يمثله دخول الأجانب إلى بلدنا دون تدقيق كافٍ. لا نريدهم هنا". وأضاف: "لن نسمح لما حدث في أوروبا أن يتكرر في أمريكا. لا يمكننا قبول الهجرة المفتوحة من دول لا نستطيع التحقق من هوية مواطنيها بشكل آمن وموثوق". وذكّر ترامب في كلمته بقرار حظر السفر الذي أصدره في عام 2017، والذي شمل حينها عدداً من الدول ذات الأغلبية المسلمة، قائلاً إنه ساهم في "حفظ أمن الولايات المتحدة ووقايتها من موجة الهجمات الإرهابية التي ضربت دولاً أوروبية". وقالت نائبة المتحدث باسم البيت الأبيض، أبيغيل جاكسون، إن القرار يستند إلى اعتبارات أمنية محددة تتعلق بمدى التزام الدول المعنية بالتعاون في تبادل المعلومات الاستخباراتية مع السلطات الأمريكية، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات تجاوز مدة الإقامة القانونية من قِبل مواطني هذه الدول داخل الأراضي الأمريكية، فضلًا عن ضعف الأنظمة المحلية لديها في ما يتعلق بإجراءات الفحص والتدقيق الأمني على المسافرين. وأشارت جاكسون في منشور لها على منصة "إكس" إلى أن هذه القيود ليست عشوائية، بل "مدروسة وتستند إلى بيانات دقيقة، وتهدف إلى حماية المواطنين الأمريكيين من مخاطر محتملة مرتبطة بدول تفتقر إلى آليات موثوقة للتحقق من الهويات وتتسم بمستويات تهديد مرتفعة". ومن المتوقع أن يواجه القرار الجديد موجة من الطعون القضائية، لا سيما من منظمات حقوق الإنسان والجمعيات المعنية بشؤون الهجرة واللاجئين، التي ترى في هذه السياسات شكلاً من أشكال التمييز القائم على الدين أو الجنسية، خصوصاً أن عدداً من الدول المشمولة ذات أغلبية مسلمة أو تمر بأوضاع إنسانية معقدة. وقال المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) قال في بيان، إن "هذا الحظر الجديد هو امتداد لسياسة التمييز التي بدأت منذ اليوم الأول لإدارة ترامب الأولى"، مشيراً إلى أنه "ليس قراراً أمنياً بقدر ما هو استغلال سياسي للخوف والتفرقة". وفي المقابل، رحب أعضاء بارزون من الحزب الجمهوري بالقرار، معتبرين أنه "خطوة ضرورية لإعادة فرض النظام والسيادة على الحدود الأمريكية". وأشاد السيناتور توم كوتون بالمرسوم قائلًا إن "الرئيس ترامب يعيد تفعيل أدوات الحماية التي عطّلها الديمقراطيون على حساب أمن المواطنين الأمريكيين". وأثار القرار أيضاً انتقادات دبلوماسية من بعض الدول المشمولة بالحظر، حيث أصدرت الخارجية الإيرانية بياناً أدانت فيه ما وصفته بـ"السياسات العنصرية"، معتبرة أن القرار "يؤكد مجدداً أن الإدارة الأمريكية لا تزال أسيرة لعقلية العزل والتخويف". كما أعربت منظمات دولية تُعنى بشؤون اللاجئين عن قلقها من أن يؤدي القرار إلى مزيد من تقييد سبل الهروب أمام سكان دول تعاني من صراعات ونزاعات طويلة، مثل اليمن والصومال والسودان. ويأتي الأمر التنفيذي الجديد في سياق سعي إدارة ترامب إلى إعادة تفعيل سياسات الهجرة الصارمة التي شكّلت محوراً رئيسياً في ولايته الأولى، والتي ألغاها الرئيس جو بايدن فور توليه السلطة عام 2021. إلا أن ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025 بعد فوزه بولاية ثانية، أكد مراراً أن أمن الحدود سيكون أحد أولوياته القصوى.