
"مفكرة عابر حدود".. حكايات مأساوية وسخرية سوداء من واقع الهجرة
المعرفة اعتقاد، وليس كل من قال "أعلم" قد علم حقيقة؛ فالإنسان مجبول على الادعاء، بينما هو عاجز عن معرفة ذاته حتى. يكتب ميلان كونديرا: "نحن نموت من دون أن نعرف أنفسنا". لذلك، ومن كثرة تداول الحديث عن بعض البشر، نعتقد أننا نعرفهم جيدا، بينما نحن لا نعرف عنهم شيئا، وكل ما في الأمر أننا نحمل صورة مسطحة توارثناها وتداولناها لا غير.
ومن هؤلاء الذين نعرفهم ولا نعرفهم "المهاجر غير الشرعي"، فلا أحد مثله موضوعا للإعلام كل يوم؛ يتحدث الجميع عنه، لكننا لم نسمع صوته. ظللنا نقطع لسانه ونتحدث عوضه، عبر الخصوم أو المؤيدين. أطلت علينا سنة 2008 رواية "تيتانيكات أفريقية" للكاتب الإريتري أبو بكر حامد كهال، تلك الرواية التي يسرد فيها قصة هجرة مواطن إريتري من بلاده إلى أوروبا عبر تونس بطريقة سرية. يبدأها بقوله:
"كنت مرهقا من التجوال والمشاوير الكثيرة لمقابلة سماسرة التهريب هنا وهناك، بين الخرطوم وأم درمان والعكس. كنت أعبر أحيانا من أم درمان إلى الخرطوم عبر جسر مستر "كوبر" الحديدي العتيق من أيام الإنكليز، لأعود من خلال كوبري شمبات الواسع.
وكان العبور فوق كوبري مستر كوبر مقرونا لديّ بمخاوف من أن تسقط بنا السيارة فوق فرع نهر النيل ، وأعتقد بأن هذا كان حال جلّ الركاب، وإن تظاهروا بالعكس. كانت ملابسي تبتل وتجف من العرق عشرات المرات في اليوم الواحد نتيجة هذا التجوال؛ أما ألم باطن قدمي، فكان لا يُطاق.
لقد أهملت معالجته حتى صار "عين السمكة" (المسمار اللحمي) بحجم العين الحقيقية. وكلما خطوتُ أو دستُ شيئا قاسيا كانت تؤلمني بشدة. لهذا أطلق عليّ أصدقائي لقب "الأعرج". ولم يكن لهؤلاء الأصدقاء من شغل سوى التباري والتسلي بإلصاق الألقاب بي في انتظار الرحلة".
قدم لنا "كهال" عالم المهاجرين السريين، ولكن الصورة ظلّت متهمة بالتخييل، رغم أن الكاتب نفسه مر برحلة شبيهة. وهي صورة أيضا تناقلناها وتكررت عبر مخيلتنا، ولا يمكن أن نثق فيها كل الثقة ما دمنا لم نسمع المهاجر السري يتكلم.
في كتاب "مفكرة عابر حدود" الصادر عن دار أثر، يتحدث الألباني غاز ميند كابلاني، بترجمة أحمد الويزي، عن العبور والهجرة والآخر، بصفته مهاجرا سريا.
من المذكرات إلى أدب الحواجز
لا يمكن أن نتعامل مع هذا الكتاب باعتباره مجرد شهادة حية عن الهجرة السرية ومعاناة مهاجر ألباني يحاول أن يتسلل خارج الحدود ويعيش حياته في الضفة الأخرى، فالكتاب قطعة أدبية وفكرية عالية الجودة، ترتفع بالتجربة إلى مستوى الأدب الرفيع.
وكلمة "مفكرة" تجعل الكتاب متحررا من التدوين اليومي الذي تمثله دفاتر اليوميات، ليكون أقرب إلى عالم المذكرات؛ تلك الأعمال التي تأتي بعد التجربة. ومن هنا جاء هذا البعد التأملي العميق والمفكر في تجربة الهجرة وعبور الحدود.
ونتيجة لكل هذا، يمكننا أن ندرج هذا الكتاب بلا تردد ضمن ما سُمي نقديا بـ"أدب الحواجز". ولعل هذا ما يفسر وصف الإندبندنت: "إن السجل الصغير لوقائع العبور يمزج بين عبث جورج مايكس في كتابه "كيف أكون إنجليزيا"، وقوة التأمل الفلسفي في كتابات ميلان كونديرا".
ومن هنا يحقق الكتاب، المنتمي إلى الكتابة عن الذات، شرط المتعة إلى جانب نقله لأوجاع التجربة الإنسانية. كما استطاع الكاتب، عبر دقة ترتيب الفصول والتوازن بينها، خلق ذلك التوتر السردي الذي ننتظره عادة من الرواية والقصة.
هدف الكتابة
انطلق المؤلف في فصل "لماذا تروي كل هذا؟" محاولا تفكيك ذرائع التدوين، ويلخصها في غياب صوت المهاجر، فـ"المهاجر، خاصة ذلك الذي كان ينتمي إلى الجيل الأول، لم يكن أمامه في البداية إلا خيار واحد: أن يلوذ بالصمت".
ولكن كابلاني يتفهم صمت المهاجر، فصوته غير مرحب به، وهو مطالب بشيء آخر أهم من الكلام لكي يستمر في الحياة.
فهو "مقتنع تدريجيا بأن شهادته لا تعني أحدا؛ إذ ليس قدري في المحصلة النهائية، مثلما قد يردد في نفسه، أن أحكي القصص، وإنما أن أكافح مثل كلب ترك لمصيره، حتى أبقى على قيد الحياة". فالآخرون، مثلما يظن، لا يستطيعون أن يفهموا فحسب، وإنما لا يرغبون في ذلك أيضا.
ويرى كابلاني أن إقدام المهاجر السري على الكلام "رهان محكوم بالمخاطرة"، ولكن نجاعة هذا الرهان مرهونة بالإصغاء إلى شهادته، وهو أمر غير مضمون.
يعود بنا كابلاني إلى واقع ألبانيا تحت الدكتاتورية، حيث تتعمد السلطة عزل الشعب عن العالم، ومنع تسرب أي صورة إلى الداخل عن الخارج، حتى توهم الناس بأن العالم ينتهي عند حدود ألبانيا. ولترسيخ هذا الوضع، استخدمت السلطة أشكالا مختلفة، منها مراقبة بث التلفزيونات وتحديدها في القنوات الرسمية، ومراقبة اتجاه اللاقطات الهوائية واتجاهاتها، وزرع المخبرين في كل مكان، حتى يتحول الشعب برمته إلى حشود من المخبرين.
إن النظام الشمولي، كما يرسم ملامحه كابلاني، يتشكل مثل لعبة البازل، بحيث لا يمكن أن يسقط منه جزء إلا وتشوهت الصورة، ولذلك تحرص السلطة على كمالها وصيانتها اليومية.
ومع ذلك، فإن المتمردين على الحدود يظهرون عبر التحايل على القوانين؛ فيزرع الأب لاقطا ظاهريا للرقابة فوق السطح متجها إلى القنوات الرسمية، وآخر سريا في الداخل محاولا التقاط قنوات خارجية. كما يسعى المتمرد لخلق شيفرة عائلية سرية، كأن يسمي تلك القنوات الأجنبية بأسماء مستعارة حتى لا يذكرها الأطفال في المدارس فيكتشف الأمر. ومع ذلك، تبقى الرقابة مرتابة من تلك الأسماء وتحاول كشفها.
كل ذلك يرويه الكاتب عبر طريقتين: القص والتأمل، مما يجعل من مؤلفه عملا عابرا لحدود التلقي، يصل إلى القارئ البسيط، والقارئ المفكر، والمختص.
المهاجر ورهانات ما بعد العبور
يكشف كابلاني أن العذابات الحقيقية للمهاجر تبدأ بعد نجاحه في عبور الحدود ووصوله إلى الضفة الغربية ، وأولى تلك العذابات هي ضرورة القطيعة بينه وبين الوطن، أي أن يقتنع بأنه عليه ألا يعود إلى وطنه، وأن يعمل من أجل ذلك، فهو قد خسر وطنه إلى الأبد. فـ"المغادرة اختيار المغترب لقطع دابر الصلة بينه وبين بلده الأصلي"، وهذا سينجر عنه إحساس بالذنب الأبدي، ولن يستعيد بعض تلك العلاقة إلا عندما ينجح.
ومن هذا الواقع تتفجر الواجبات، والتي سردها الكاتب في فصل "المهاجر والأمر المفروض تحت شعار: يجب"، فعليه أن يجد عملا، أي عمل، ويجب عليه أن يجد سكنا، وأن يتعلم اللغة الأجنبية، ويجب عليه أن يغير نبرته في الكلام، وأن يتعلم الحديث بهدوء. ويجب عليه تجنب سيارات الشرطة ودورياتها، ويجب عليه "أن يعيد تعلم كيفية المشي على قارعة الطريق"، كما يجب أن يرسل أموالا لأهله، ويجب أن يقوم بالمستحيل لكي ينجو من خطر الترحيل.
فـ"تخيل الفشل المحدق به في كل لحظة وحين، يجعله يرتعش مثل الصبي الذي تاه عن الطريق في الظلام". لذلك، فالمهاجر السري، والمغترب عامة عن وطنه، هو مريض نفسي يعيش طوال الوقت ذلك الكابوس المستعاد؛ مشهده في آخر الطائرة، مكبلا أو محقونا بحقنة تشل الحركة، وطائرة بعلم بلاده تعود به إلى داخل الحدود التي فر منها يوما.
اللغة الأجنبية ومأساة الإحساس بالعجز
يمثل مأزق اللغة الأجنبية أحد أكبر المآزق التي يتعرض لها المهاجر، خاصة غير القانونيين منهم. فلئن كان اللاجئ النظامي يعاني من مسألة تعلمه لغة أجنبية كشرط للعيش في الدول الأوروبية مثلا -وهذا ما تناولته الفرنسية إيميلي توركهايم في كتابها "الأمير صاحب الكأس الصغيرة"- فإن الوضع يزداد تعقيدا مع المهاجرين السريين أو المتسللين إلى الدول الغربية.
ولمأزق اللغة وجهان؛ الأول نفسي، ويتمثل في العجز عن التعبير أو حتى الدفاع عن النفس؛ فهو متهم لمجرد أنه لا يتحدث اللغة جيدا أو بلكنة أبناء البلد، لأن في ذلك إشارة إلى أصله ووطنه الأم. وحتى إذا تجاوز أضرارها النفسية، فإنه ساقط في مأزقها الوجوبي، باعتبارها الشرط الأول لكي يعثر على عمل، حتى لو كان ذلك العمل لا يتطلب منه التحدث أصلا. يقول الكاتب:
"لكنه لا يتكلم تلك اللغة، ويعيش مروع الدواخل؛ لأن الناس من حوله يتكلمون بسرعة فائقة، تجعل المرء يعتقد بأنه يسمع طقطقة آلة خياطة قديمة. لا، من غير الوارد تعلم هذه اللغة العصية على الفهم والنطق، وليذهب أهلها إلى الجحيم، هم ولغتهم. لكن، إن لم يتعلمها فلن يعثر على عمل، ولن يستطيع بالتالي البقاء على قيد الحياة".
"المهاجر لا يتكلم تلك اللغة، ويعيش مروع الدواخل؛ لأن الناس من حوله يتكلمون بسرعة فائقة، تجعل المرء يعتقد بأنه يسمع طقطقة آلة خياطة قديمة. لا، من غير الوارد تعلم هذه اللغة العصية على الفهم والنطق، وليذهب أهلها إلى الجحيم، هم ولغتهم. لكن، إن لم يتعلمها فلن يعثر على عمل، ولن يستطيع بالتالي البقاء على قيد الحياة".
ورغم معاناة المهاجر لتعلم اللغة وتوقفه عن كونه مجرد "كينونة بكماء"، فإنه سيكتشف بعد ذلك أنه، مهما بلغت درجة إتقانه لتلك اللغة، سيظل غريبا بسبب ارتكابه الأخطاء النحوية أو الصرفية، فيتحول من إحدى الكتل البكماء إلى أحد المزعجين.
إعلان
ويميز الكاتب بين السائح الذي لا يتقن اللغة وكيف يرحب به، والمهاجر الذي يخطئ في اللغة ويعامل كمذنب.
"لكن تدرك مع مضي الأيام والأسابيع والشهور والأعوام، بأن التحدث باللغة وحده لا يكفي، إذ ما من أحد يفوت على نفسه الفرصة ليذكرك بأنك غريب..".
ويصبح حتى اسم المهاجر مشكلة، فيضطر إلى استبداله بآخر يسهل على الآخر حفظه. وهكذا، يقع محو هويته تدريجيا: بتعطيل لسانه، واستبداله بلسان آخر، واستبدال اسمه وسلوكه بآخر.
السعادة الوجوبية
تعد كل الأنظمة الشمولية، عند تسلمها الحكم عبر الانقلابات أو التوريث أو التزوير الانتخابي، مواطنيها بالسعادة، وسرعان ما تنقلب تلك الوعود إلى واجب، لا واجب على السلطة، بل واجب المواطن الاعتراف بها.
فعليه طوال الوقت أن يقول إنه سعيد، وإنه يعيش في رغد العيش، لأن قول العكس يعد تمردا على السلطة. فـ"السعادة، كما يقول الكاتب، في النظام الشمولي المتسلط، ليست مسألة حظ أو اختيار فردي، وإنما واجب وطني. وإذا حدث أن كان هناك من يتجرأ على إظهار تعاسته وشقائه الخالصين علانية، فسيلتحق بسرعة بصف المشتبه في سرائرهم ونواياهم".
اجتياز الحدود أو سيزيف الألباني
يتوغل الكاتب في كشف العالم السري للتهريب واجتياز الحدود، وكيف تعقد الصفقات، وما هو العدد الطبيعي لمجموعة المهربين، ودور الوسطاء أثناء عملية التهريب وبعدها، وإمكانيات الفشل، واستيلاء الوسطاء على أموال المهاجرين.
ولكن أهم ما يؤكد عليه الكاتب هو أن عملية عبور الحدود لا تنتهي مع فشل المحاولة الأولى، حتى لو فقد فيها المهاجر كل المبالغ التي جمعها ليتم تهريبه؛ بل سيعيد الكرة مثل سيزيف في الأسطورة الإغريقية حتى ينجح في العبور، بل حتى لو قبض عليه وأعيد إلى وطنه، سيظل يحاول العودة إلى أوروبا، لأن ألبانيا هي السجن الأبدي الذي عليه أن يغادره.
وهذا ما يحدث مع المهاجرين من جنوب المتوسط أو الأفارقة جنوب الصحراء أو المكسيكيين على الحدود الأميركية أو شباب الشرق الأوسط. فالكاتب هنا لا يفكك، عبر تسجيل تجربته، تجربة شخصية فقط، بل يقدم لنا عالما مشتركا في كل أنحاء المعمورة، لأن تعامل الأنظمة الشمولية هو نفسه، مع فارق في حدة القمع، كما أن تعامل دول الغرب، أوروبا وأميركا، متشابه في ما بينها مع عابري الحدود خلسة، سواء عبر جدار، أو عبر البحر، أو عبر الصحراء.
يروي لنا الكاتب أحداث سنوات قضاها قريبا من الحدود، يتحين فيها الفرصة للعبور، ومعاناة المهاجرين من الجوع والمرض والخوف في "ثلج يصل حد الحزام". ويخصص فصلا لشاب تمكنت منه الحمى وأسلم الروح من دون أن يجدوا طريقة لإنقاذه. ويسرد، في نفس درامي، لحظاته الأخيرة قائلا:
"وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أذرعهم، التمس منهم إيدي أن يخبروا خطيبته بما وقع له، ويلتمسوا منها أن تصفح عنه؛ لأنه لم ينجح في ما سعى إليه. فقد عقد خطبته عليها قبل ذلك اليوم بأسبوعين فحسب، ووعدها بأن يرسل إليها كي تأتي إلى اليونان في أعقابه، ما إن يعثر له على عمل وشقة. لكنه استسلم في منتصف الطريق لقدره، بعد 8 أيام من السير على الأقدام، وهو بين كوريتسا وكالاباكا".
اكتشف الكاتب، وهو يعبر الحدود نحو اليونان سنة 1991، أن هناك قوافل من البشر قررت، مثله، أن تقذف بأنفسها خارج الحدود، لـ"إضرام النار الحارقة في الطابو الوحيد، الذي ظلت الحدود تمثله؛ أي الإقدام على الهروب بوصفه، في حد ذاته، الهروب باعتباره أحد الأعراض المرضية".
إن أسوأ ما يتعرض له المهاجر السري هو الوصم الدائم باعتباره شخصا غير مرغوب فيه، وأنه طفيلي وزائد عن الحاجة؛ فلا أحد طلب منه المجيء، كما يقول الكاتب، وعليه أن يرضى بالحد الأدنى، فلا حقوق له، وليس له الحق في الاحتجاج. وحتى العمل على تغيير وضعيته من وضعية هشة إلى وضعية قانونية لن ينجيه من قدر التمييز.
عندما يصدح بصوته: "أنا أشتغل مثل الآخرين، وأؤدي الضرائب مثل الجميع، زد على ذلك أن رب العمل -أو بالأحرى أرباب العمل الذين أشتغل عندهم- يحتاجون إلي. نعم، أنا أعرف أنكم أنتم الذين تسمحون لي بكسب قطعة الخبز التي أقتات عليها، إلا أنكم أنتم، في المقابل -واسمحوا لي بأن أذكركم بهذا- لا تتناولون الخبز، وإنما الفطائر! أنا متوقف عليكم كي أظل على قيد الحياة، بينما أنتم متوقفون علي أكثر للاستزادة في الاغتناء. إنها سنة الحياة: أخذ وعطاء. أنا شرعت في بناء حياتي هنا، شرعت في التعود على هذه المدينة… فلماذا يتعين علي البقاء في السرية؟ لماذا ينبغي أن تظل حياتي أقسى بكثير من حياة أي كلب ضال؟".
يقول الكاتب: "لكن المدينة غير قادرة على سماع مرافعتك. إنها صماء. والصحافي الذي يضع نفسه في موقع الناطق الرسمي باسم الرأي العام في النشرات الإخبارية، ليس في نيته أن يخلصك من اسمك، ووسمك، ولقبك. فأنت مهاجر غير شرعي، وغير قانوني، ومخالف للأعراف والقوانين الدولية، وحسب!".
ورغم التراجيديات التي يرويها الكاتب عن عالم الهجرة السرية، فإن الكتاب كتب أيضا بأسلوب السخرية السوداء، ونفس غوغولي غير خفي، حيث تضعنا القصص في مفارقات وطرائف وأجواء تبعث على الابتسامة، كقصة ذلك المخبر في العمارة الذي يحمل دفترا عجيبا يدون فيه خروقات القانون، والذي شكل رعبا للأهالي حتى بعد موته، أو ما رواه الكاتب عن انتشار النكتة بين المهاجرين السريين وغرقهم في الضحك الأسود، وكأنه ضحك هستيري يقاومون به بؤس اللحظة، أو محاولات المهاجر معالجة وحدته في ظلمة القاعة السينمائية.
كثيرا ما يتنقل كابلاني برشاقة من القص والمحكي إلى التأمل الفلسفي والفكري العميق، كاشفا عن موهبة أدبية كبيرة، وكاتبا ينحت نصه من تجربته، كما التماثيل اليونانية التي استقبلته في أول عبور للحدود الألبانية.
فيقدم الكاتب مؤلفا مهما للإنسانية في هذه اللحظة الحالكة التي ازداد فيها قمع المهاجرين، ويهدينا المترجم أحمد الويزي وثيقة عما يحدث للمهاجرين، لنفهم ما يحدث لمهاجرينا، الذين يعادون اليوم إلى أوطانهم مكللين بالأغلال مثل المجرمين في آخر مقاعد الطائرات، بسبب اتفاقيات مريبة أبرمتها دول جنوب المتوسط، لم تراع فيها حقوق الإنسان ولا حقوق مواطنيها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
"مفكرة عابر حدود".. حكايات مأساوية وسخرية سوداء من واقع الهجرة
المعرفة اعتقاد، وليس كل من قال "أعلم" قد علم حقيقة؛ فالإنسان مجبول على الادعاء، بينما هو عاجز عن معرفة ذاته حتى. يكتب ميلان كونديرا: "نحن نموت من دون أن نعرف أنفسنا". لذلك، ومن كثرة تداول الحديث عن بعض البشر، نعتقد أننا نعرفهم جيدا، بينما نحن لا نعرف عنهم شيئا، وكل ما في الأمر أننا نحمل صورة مسطحة توارثناها وتداولناها لا غير. ومن هؤلاء الذين نعرفهم ولا نعرفهم "المهاجر غير الشرعي"، فلا أحد مثله موضوعا للإعلام كل يوم؛ يتحدث الجميع عنه، لكننا لم نسمع صوته. ظللنا نقطع لسانه ونتحدث عوضه، عبر الخصوم أو المؤيدين. أطلت علينا سنة 2008 رواية "تيتانيكات أفريقية" للكاتب الإريتري أبو بكر حامد كهال، تلك الرواية التي يسرد فيها قصة هجرة مواطن إريتري من بلاده إلى أوروبا عبر تونس بطريقة سرية. يبدأها بقوله: "كنت مرهقا من التجوال والمشاوير الكثيرة لمقابلة سماسرة التهريب هنا وهناك، بين الخرطوم وأم درمان والعكس. كنت أعبر أحيانا من أم درمان إلى الخرطوم عبر جسر مستر "كوبر" الحديدي العتيق من أيام الإنكليز، لأعود من خلال كوبري شمبات الواسع. وكان العبور فوق كوبري مستر كوبر مقرونا لديّ بمخاوف من أن تسقط بنا السيارة فوق فرع نهر النيل ، وأعتقد بأن هذا كان حال جلّ الركاب، وإن تظاهروا بالعكس. كانت ملابسي تبتل وتجف من العرق عشرات المرات في اليوم الواحد نتيجة هذا التجوال؛ أما ألم باطن قدمي، فكان لا يُطاق. لقد أهملت معالجته حتى صار "عين السمكة" (المسمار اللحمي) بحجم العين الحقيقية. وكلما خطوتُ أو دستُ شيئا قاسيا كانت تؤلمني بشدة. لهذا أطلق عليّ أصدقائي لقب "الأعرج". ولم يكن لهؤلاء الأصدقاء من شغل سوى التباري والتسلي بإلصاق الألقاب بي في انتظار الرحلة". قدم لنا "كهال" عالم المهاجرين السريين، ولكن الصورة ظلّت متهمة بالتخييل، رغم أن الكاتب نفسه مر برحلة شبيهة. وهي صورة أيضا تناقلناها وتكررت عبر مخيلتنا، ولا يمكن أن نثق فيها كل الثقة ما دمنا لم نسمع المهاجر السري يتكلم. في كتاب "مفكرة عابر حدود" الصادر عن دار أثر، يتحدث الألباني غاز ميند كابلاني، بترجمة أحمد الويزي، عن العبور والهجرة والآخر، بصفته مهاجرا سريا. من المذكرات إلى أدب الحواجز لا يمكن أن نتعامل مع هذا الكتاب باعتباره مجرد شهادة حية عن الهجرة السرية ومعاناة مهاجر ألباني يحاول أن يتسلل خارج الحدود ويعيش حياته في الضفة الأخرى، فالكتاب قطعة أدبية وفكرية عالية الجودة، ترتفع بالتجربة إلى مستوى الأدب الرفيع. وكلمة "مفكرة" تجعل الكتاب متحررا من التدوين اليومي الذي تمثله دفاتر اليوميات، ليكون أقرب إلى عالم المذكرات؛ تلك الأعمال التي تأتي بعد التجربة. ومن هنا جاء هذا البعد التأملي العميق والمفكر في تجربة الهجرة وعبور الحدود. ونتيجة لكل هذا، يمكننا أن ندرج هذا الكتاب بلا تردد ضمن ما سُمي نقديا بـ"أدب الحواجز". ولعل هذا ما يفسر وصف الإندبندنت: "إن السجل الصغير لوقائع العبور يمزج بين عبث جورج مايكس في كتابه "كيف أكون إنجليزيا"، وقوة التأمل الفلسفي في كتابات ميلان كونديرا". ومن هنا يحقق الكتاب، المنتمي إلى الكتابة عن الذات، شرط المتعة إلى جانب نقله لأوجاع التجربة الإنسانية. كما استطاع الكاتب، عبر دقة ترتيب الفصول والتوازن بينها، خلق ذلك التوتر السردي الذي ننتظره عادة من الرواية والقصة. هدف الكتابة انطلق المؤلف في فصل "لماذا تروي كل هذا؟" محاولا تفكيك ذرائع التدوين، ويلخصها في غياب صوت المهاجر، فـ"المهاجر، خاصة ذلك الذي كان ينتمي إلى الجيل الأول، لم يكن أمامه في البداية إلا خيار واحد: أن يلوذ بالصمت". ولكن كابلاني يتفهم صمت المهاجر، فصوته غير مرحب به، وهو مطالب بشيء آخر أهم من الكلام لكي يستمر في الحياة. فهو "مقتنع تدريجيا بأن شهادته لا تعني أحدا؛ إذ ليس قدري في المحصلة النهائية، مثلما قد يردد في نفسه، أن أحكي القصص، وإنما أن أكافح مثل كلب ترك لمصيره، حتى أبقى على قيد الحياة". فالآخرون، مثلما يظن، لا يستطيعون أن يفهموا فحسب، وإنما لا يرغبون في ذلك أيضا. ويرى كابلاني أن إقدام المهاجر السري على الكلام "رهان محكوم بالمخاطرة"، ولكن نجاعة هذا الرهان مرهونة بالإصغاء إلى شهادته، وهو أمر غير مضمون. يعود بنا كابلاني إلى واقع ألبانيا تحت الدكتاتورية، حيث تتعمد السلطة عزل الشعب عن العالم، ومنع تسرب أي صورة إلى الداخل عن الخارج، حتى توهم الناس بأن العالم ينتهي عند حدود ألبانيا. ولترسيخ هذا الوضع، استخدمت السلطة أشكالا مختلفة، منها مراقبة بث التلفزيونات وتحديدها في القنوات الرسمية، ومراقبة اتجاه اللاقطات الهوائية واتجاهاتها، وزرع المخبرين في كل مكان، حتى يتحول الشعب برمته إلى حشود من المخبرين. إن النظام الشمولي، كما يرسم ملامحه كابلاني، يتشكل مثل لعبة البازل، بحيث لا يمكن أن يسقط منه جزء إلا وتشوهت الصورة، ولذلك تحرص السلطة على كمالها وصيانتها اليومية. ومع ذلك، فإن المتمردين على الحدود يظهرون عبر التحايل على القوانين؛ فيزرع الأب لاقطا ظاهريا للرقابة فوق السطح متجها إلى القنوات الرسمية، وآخر سريا في الداخل محاولا التقاط قنوات خارجية. كما يسعى المتمرد لخلق شيفرة عائلية سرية، كأن يسمي تلك القنوات الأجنبية بأسماء مستعارة حتى لا يذكرها الأطفال في المدارس فيكتشف الأمر. ومع ذلك، تبقى الرقابة مرتابة من تلك الأسماء وتحاول كشفها. كل ذلك يرويه الكاتب عبر طريقتين: القص والتأمل، مما يجعل من مؤلفه عملا عابرا لحدود التلقي، يصل إلى القارئ البسيط، والقارئ المفكر، والمختص. المهاجر ورهانات ما بعد العبور يكشف كابلاني أن العذابات الحقيقية للمهاجر تبدأ بعد نجاحه في عبور الحدود ووصوله إلى الضفة الغربية ، وأولى تلك العذابات هي ضرورة القطيعة بينه وبين الوطن، أي أن يقتنع بأنه عليه ألا يعود إلى وطنه، وأن يعمل من أجل ذلك، فهو قد خسر وطنه إلى الأبد. فـ"المغادرة اختيار المغترب لقطع دابر الصلة بينه وبين بلده الأصلي"، وهذا سينجر عنه إحساس بالذنب الأبدي، ولن يستعيد بعض تلك العلاقة إلا عندما ينجح. ومن هذا الواقع تتفجر الواجبات، والتي سردها الكاتب في فصل "المهاجر والأمر المفروض تحت شعار: يجب"، فعليه أن يجد عملا، أي عمل، ويجب عليه أن يجد سكنا، وأن يتعلم اللغة الأجنبية، ويجب عليه أن يغير نبرته في الكلام، وأن يتعلم الحديث بهدوء. ويجب عليه تجنب سيارات الشرطة ودورياتها، ويجب عليه "أن يعيد تعلم كيفية المشي على قارعة الطريق"، كما يجب أن يرسل أموالا لأهله، ويجب أن يقوم بالمستحيل لكي ينجو من خطر الترحيل. فـ"تخيل الفشل المحدق به في كل لحظة وحين، يجعله يرتعش مثل الصبي الذي تاه عن الطريق في الظلام". لذلك، فالمهاجر السري، والمغترب عامة عن وطنه، هو مريض نفسي يعيش طوال الوقت ذلك الكابوس المستعاد؛ مشهده في آخر الطائرة، مكبلا أو محقونا بحقنة تشل الحركة، وطائرة بعلم بلاده تعود به إلى داخل الحدود التي فر منها يوما. اللغة الأجنبية ومأساة الإحساس بالعجز يمثل مأزق اللغة الأجنبية أحد أكبر المآزق التي يتعرض لها المهاجر، خاصة غير القانونيين منهم. فلئن كان اللاجئ النظامي يعاني من مسألة تعلمه لغة أجنبية كشرط للعيش في الدول الأوروبية مثلا -وهذا ما تناولته الفرنسية إيميلي توركهايم في كتابها "الأمير صاحب الكأس الصغيرة"- فإن الوضع يزداد تعقيدا مع المهاجرين السريين أو المتسللين إلى الدول الغربية. ولمأزق اللغة وجهان؛ الأول نفسي، ويتمثل في العجز عن التعبير أو حتى الدفاع عن النفس؛ فهو متهم لمجرد أنه لا يتحدث اللغة جيدا أو بلكنة أبناء البلد، لأن في ذلك إشارة إلى أصله ووطنه الأم. وحتى إذا تجاوز أضرارها النفسية، فإنه ساقط في مأزقها الوجوبي، باعتبارها الشرط الأول لكي يعثر على عمل، حتى لو كان ذلك العمل لا يتطلب منه التحدث أصلا. يقول الكاتب: "لكنه لا يتكلم تلك اللغة، ويعيش مروع الدواخل؛ لأن الناس من حوله يتكلمون بسرعة فائقة، تجعل المرء يعتقد بأنه يسمع طقطقة آلة خياطة قديمة. لا، من غير الوارد تعلم هذه اللغة العصية على الفهم والنطق، وليذهب أهلها إلى الجحيم، هم ولغتهم. لكن، إن لم يتعلمها فلن يعثر على عمل، ولن يستطيع بالتالي البقاء على قيد الحياة". "المهاجر لا يتكلم تلك اللغة، ويعيش مروع الدواخل؛ لأن الناس من حوله يتكلمون بسرعة فائقة، تجعل المرء يعتقد بأنه يسمع طقطقة آلة خياطة قديمة. لا، من غير الوارد تعلم هذه اللغة العصية على الفهم والنطق، وليذهب أهلها إلى الجحيم، هم ولغتهم. لكن، إن لم يتعلمها فلن يعثر على عمل، ولن يستطيع بالتالي البقاء على قيد الحياة". ورغم معاناة المهاجر لتعلم اللغة وتوقفه عن كونه مجرد "كينونة بكماء"، فإنه سيكتشف بعد ذلك أنه، مهما بلغت درجة إتقانه لتلك اللغة، سيظل غريبا بسبب ارتكابه الأخطاء النحوية أو الصرفية، فيتحول من إحدى الكتل البكماء إلى أحد المزعجين. إعلان ويميز الكاتب بين السائح الذي لا يتقن اللغة وكيف يرحب به، والمهاجر الذي يخطئ في اللغة ويعامل كمذنب. "لكن تدرك مع مضي الأيام والأسابيع والشهور والأعوام، بأن التحدث باللغة وحده لا يكفي، إذ ما من أحد يفوت على نفسه الفرصة ليذكرك بأنك غريب..". ويصبح حتى اسم المهاجر مشكلة، فيضطر إلى استبداله بآخر يسهل على الآخر حفظه. وهكذا، يقع محو هويته تدريجيا: بتعطيل لسانه، واستبداله بلسان آخر، واستبدال اسمه وسلوكه بآخر. السعادة الوجوبية تعد كل الأنظمة الشمولية، عند تسلمها الحكم عبر الانقلابات أو التوريث أو التزوير الانتخابي، مواطنيها بالسعادة، وسرعان ما تنقلب تلك الوعود إلى واجب، لا واجب على السلطة، بل واجب المواطن الاعتراف بها. فعليه طوال الوقت أن يقول إنه سعيد، وإنه يعيش في رغد العيش، لأن قول العكس يعد تمردا على السلطة. فـ"السعادة، كما يقول الكاتب، في النظام الشمولي المتسلط، ليست مسألة حظ أو اختيار فردي، وإنما واجب وطني. وإذا حدث أن كان هناك من يتجرأ على إظهار تعاسته وشقائه الخالصين علانية، فسيلتحق بسرعة بصف المشتبه في سرائرهم ونواياهم". اجتياز الحدود أو سيزيف الألباني يتوغل الكاتب في كشف العالم السري للتهريب واجتياز الحدود، وكيف تعقد الصفقات، وما هو العدد الطبيعي لمجموعة المهربين، ودور الوسطاء أثناء عملية التهريب وبعدها، وإمكانيات الفشل، واستيلاء الوسطاء على أموال المهاجرين. ولكن أهم ما يؤكد عليه الكاتب هو أن عملية عبور الحدود لا تنتهي مع فشل المحاولة الأولى، حتى لو فقد فيها المهاجر كل المبالغ التي جمعها ليتم تهريبه؛ بل سيعيد الكرة مثل سيزيف في الأسطورة الإغريقية حتى ينجح في العبور، بل حتى لو قبض عليه وأعيد إلى وطنه، سيظل يحاول العودة إلى أوروبا، لأن ألبانيا هي السجن الأبدي الذي عليه أن يغادره. وهذا ما يحدث مع المهاجرين من جنوب المتوسط أو الأفارقة جنوب الصحراء أو المكسيكيين على الحدود الأميركية أو شباب الشرق الأوسط. فالكاتب هنا لا يفكك، عبر تسجيل تجربته، تجربة شخصية فقط، بل يقدم لنا عالما مشتركا في كل أنحاء المعمورة، لأن تعامل الأنظمة الشمولية هو نفسه، مع فارق في حدة القمع، كما أن تعامل دول الغرب، أوروبا وأميركا، متشابه في ما بينها مع عابري الحدود خلسة، سواء عبر جدار، أو عبر البحر، أو عبر الصحراء. يروي لنا الكاتب أحداث سنوات قضاها قريبا من الحدود، يتحين فيها الفرصة للعبور، ومعاناة المهاجرين من الجوع والمرض والخوف في "ثلج يصل حد الحزام". ويخصص فصلا لشاب تمكنت منه الحمى وأسلم الروح من دون أن يجدوا طريقة لإنقاذه. ويسرد، في نفس درامي، لحظاته الأخيرة قائلا: "وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أذرعهم، التمس منهم إيدي أن يخبروا خطيبته بما وقع له، ويلتمسوا منها أن تصفح عنه؛ لأنه لم ينجح في ما سعى إليه. فقد عقد خطبته عليها قبل ذلك اليوم بأسبوعين فحسب، ووعدها بأن يرسل إليها كي تأتي إلى اليونان في أعقابه، ما إن يعثر له على عمل وشقة. لكنه استسلم في منتصف الطريق لقدره، بعد 8 أيام من السير على الأقدام، وهو بين كوريتسا وكالاباكا". اكتشف الكاتب، وهو يعبر الحدود نحو اليونان سنة 1991، أن هناك قوافل من البشر قررت، مثله، أن تقذف بأنفسها خارج الحدود، لـ"إضرام النار الحارقة في الطابو الوحيد، الذي ظلت الحدود تمثله؛ أي الإقدام على الهروب بوصفه، في حد ذاته، الهروب باعتباره أحد الأعراض المرضية". إن أسوأ ما يتعرض له المهاجر السري هو الوصم الدائم باعتباره شخصا غير مرغوب فيه، وأنه طفيلي وزائد عن الحاجة؛ فلا أحد طلب منه المجيء، كما يقول الكاتب، وعليه أن يرضى بالحد الأدنى، فلا حقوق له، وليس له الحق في الاحتجاج. وحتى العمل على تغيير وضعيته من وضعية هشة إلى وضعية قانونية لن ينجيه من قدر التمييز. عندما يصدح بصوته: "أنا أشتغل مثل الآخرين، وأؤدي الضرائب مثل الجميع، زد على ذلك أن رب العمل -أو بالأحرى أرباب العمل الذين أشتغل عندهم- يحتاجون إلي. نعم، أنا أعرف أنكم أنتم الذين تسمحون لي بكسب قطعة الخبز التي أقتات عليها، إلا أنكم أنتم، في المقابل -واسمحوا لي بأن أذكركم بهذا- لا تتناولون الخبز، وإنما الفطائر! أنا متوقف عليكم كي أظل على قيد الحياة، بينما أنتم متوقفون علي أكثر للاستزادة في الاغتناء. إنها سنة الحياة: أخذ وعطاء. أنا شرعت في بناء حياتي هنا، شرعت في التعود على هذه المدينة… فلماذا يتعين علي البقاء في السرية؟ لماذا ينبغي أن تظل حياتي أقسى بكثير من حياة أي كلب ضال؟". يقول الكاتب: "لكن المدينة غير قادرة على سماع مرافعتك. إنها صماء. والصحافي الذي يضع نفسه في موقع الناطق الرسمي باسم الرأي العام في النشرات الإخبارية، ليس في نيته أن يخلصك من اسمك، ووسمك، ولقبك. فأنت مهاجر غير شرعي، وغير قانوني، ومخالف للأعراف والقوانين الدولية، وحسب!". ورغم التراجيديات التي يرويها الكاتب عن عالم الهجرة السرية، فإن الكتاب كتب أيضا بأسلوب السخرية السوداء، ونفس غوغولي غير خفي، حيث تضعنا القصص في مفارقات وطرائف وأجواء تبعث على الابتسامة، كقصة ذلك المخبر في العمارة الذي يحمل دفترا عجيبا يدون فيه خروقات القانون، والذي شكل رعبا للأهالي حتى بعد موته، أو ما رواه الكاتب عن انتشار النكتة بين المهاجرين السريين وغرقهم في الضحك الأسود، وكأنه ضحك هستيري يقاومون به بؤس اللحظة، أو محاولات المهاجر معالجة وحدته في ظلمة القاعة السينمائية. كثيرا ما يتنقل كابلاني برشاقة من القص والمحكي إلى التأمل الفلسفي والفكري العميق، كاشفا عن موهبة أدبية كبيرة، وكاتبا ينحت نصه من تجربته، كما التماثيل اليونانية التي استقبلته في أول عبور للحدود الألبانية. فيقدم الكاتب مؤلفا مهما للإنسانية في هذه اللحظة الحالكة التي ازداد فيها قمع المهاجرين، ويهدينا المترجم أحمد الويزي وثيقة عما يحدث للمهاجرين، لنفهم ما يحدث لمهاجرينا، الذين يعادون اليوم إلى أوطانهم مكللين بالأغلال مثل المجرمين في آخر مقاعد الطائرات، بسبب اتفاقيات مريبة أبرمتها دول جنوب المتوسط، لم تراع فيها حقوق الإنسان ولا حقوق مواطنيها.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
وفاة محمد لخضر حمينة.. مخرج صَنع مجده بين ظلال الثورة الجزائرية وأضواء "كان"
توفي المخرج والمنتج الجزائري محمد لخضر حمينة، يوم الجمعة، عن عمر يناهز 95 عاما، وفق ما أعلنته عائلته. ويعد حمينة العربي والأفريقي الوحيد الذي نال جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. وجاء في بيان صادر عن أبنائه أن الراحل "توفي في منزله بالعاصمة الجزائر، بعد أن ترك إرثا سينمائيا لا يقدر بثمن"، مشيدين بـ"رؤيته الفريدة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ السينما". كما أكدت العائلة أن محمد لخضر حمينة نجح في بناء "جسر ثقافي حقيقي بين الجنوب والغرب، ليصبح صوتا للعالم الثالث وبلاده طوال ما يقارب أربعة عقود". بصمة خالدة ومحمد لخضر حمينة هو أحد المخرجين الأفارقة والعرب القلائل الذين نافسوا 4 مرات في مسابقة مهرجان كان السينمائي، وفاز بجائزتين رئيستين، هما جائزة أفضل فيلم أول عن "ريح الأوراس" (Le Vent des Aures) وجائزة السعفة الذهبية العريقة عن فيلم "وقائع سنوات الجمر" (Chronique des annees de braise) عام 1975. وفي رسالة تعزية، أبدى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون "بالغ الحزن والأسى" بوفاة مَن وصفه بـ"عملاق السينما العالمية" الذي ترك "بصمة خالدة في تاريخ السينما". وشهد مهرجان كان هذه السنة، لفتة تكريمية لحمينة من خلال عرض نسخة "4 كاي" من فيلم "وقائع سنوات الجمر" ضمن برنامج فئة "كان كلاسيكس". وبفضل فيلم "وقائع سنوات الجمر"، حقق المخرج الجزائري شهرة على المستوى العالمي. وأشار تبون إلى أنّ رائعة" لخضر حمينة هذه فتحت عيون العالم على "قطعة من معاناة الشعب الجزائري خلال فترة الاستعمار". وأكدت عائلة المخرج في بيانها أنّ المخرج كان "أحد آخر عظماء السينما الملحمية والشاعرية، وترك بصمة لا تمحى على مهرجان كان السينمائي الدولي وعلى السينما عموما". تناول فيلم "وقائع سنوات الجمر" نضال الشعب الجزائري من أجل الاستقلال، حيث يوثق الفترة الممتدة من عام 1939 حتى 1954، مسلطًا الضوء على ولادة أمة ومسيرة كفاح شعبها حتى اندلاع الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، والتي تواصلت حتى نيل الاستقلال في 1962. وفي تأبينه، قال الرئيس عبد المجيد تبون "قبل أن يكون مخرجا عالميا مبدعا خلد اسمه في سجل السينما العالمية، كان محمد لخضر حمينة مجاهدا شجاعا، ساهم في تحرير وطنه من خلال ما قدمه من أعمال جسدت بطولات الثورة التحريرية، وعرّفت العالم بعدالة قضيتنا وكفاح شعبنا". ونعى حمينة عدد من الفنانين والنقاد، فكتب الناقد الفني طارق الشناوي عبر حسابه على فيسبوك "يرحل يوم عرسه ودعنا اليوم محمد الاخضر حامينا المخرج الجزائري الكبير . بينما كانت ادارة مهرجان ( كان) تحتفل باليوبيل الذهبي 50 عاما على حصوله على السعفة الذهبية عن فيلمه ( وقائع سنوات الجمر)…". وكتب المخرج أمير رمسيس "الأخضر حامينا صاحب سعفة وقائع سنوات الجمر يرحل في أسبوع العرض الاستعاديّ لفيلمه صاحب السعفة في مهرجان كان". النشأة والبدايات وُلد محمد لخضر حمينة في 26 فبراير/شباط 1934 بمدينة المسيلة بمنطقة الأوراس (شمال شرق الجزائر)، في أسرة ريفية بسيطة. تلقى تعليمه في كلية زراعية، ثم واصل دراسته في مدينة أنتيب الفرنسية، حيث التقى بزوجته التي أصبحت لاحقا والدة أبنائه الأربعة. إعلان أثناء حرب التحرير الجزائرية، اختطف الجيش الفرنسي والده، وعذبه حتى الموت. وفي عام 1958، انضم حمينة بنفسه إلى صفوف المقاومة الجزائرية من تونس. تعلم حمينة فن السينما بالممارسة، من خلال فترة تدريب في إحدى القنوات التونسية، قبل أن يبدأ في إخراج أفلام قصيرة. انطلقت مسيرته الإخراجية عام 1964 بفيلم وثائقي بعنوان "لكن في أحد أيام نوفمبر" (Mais un jour de novembre). وعلى مدار 50 عامًا (1964-2014)، أنجز 9 أفلام، بينها وثائقي واحد و7 أفلام روائية، من أبرزها: رياح الأوراس (1966)، حسان طيرو (Hassan Terro – 1968)، ديسمبر (Décembre – 1973)، وقائع سنوات الجمر (1975)، رياح رملية (Vent de sable – 1982)، الصورة الأخيرة (La Dernière Image – 1986)، وشفق الظلال (Crépuscule des ombres – 2014.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الكاف يكشف عن النسخة الجديدة لكأس دوري أبطال أفريقيا
كشف الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف)، اليوم الخميس، عن نسخة جديدة لكأس دوري أبطال أفريقيا ليسطر بذلك فصلا جديدا وجريئا في تاريخ البطولة الأفريقية الأبرز للأندية. وذكر كاف عبر موقعه الإلكتروني الرسمي، اليوم الخميس، أن الحفل أقيم في مقر الشركة الراعية بمدينة جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، وحضره نخبة من أساطير كرة القدم الأفريقية، منهم لوكاس راديبي، وتيكو موديسي، وسيفيوي تشابالالا، بالإضافة إلى عدد من أساطير الساحرة المستديرة في القارة السمراء. وأضاف كاف أن أحد فريقي ماميلودي صن داونز الجنوب أفريقي وبيراميدز المصري سيرفع النسخة الجديدة للكأس. وأوضح: يمثل الكشف الرسمي من كاف عن تصميم الكأس الجديدة اللافتة أكثر من مجرد استبدال، بل "يمثل تطورا قويا في التزامه بالتحديث والابتكار". وقال فيرون موسينغو-أومبا، الأمين العام لكاف "تماشيا مع رؤية باتريس موتسيبي رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم، نعمل حاليا على إعادة صياغة هوية كرة القدم الأفريقية ووضعها في سياقها الصحيح، مع التركيز بشكل خاص على مسابقات الأندية". وأضاف "يعكس الكشف عن كأس دوري أبطال أفريقيا أهدافنا وخطواتنا الجريئة نحو بيئة كروية أفريقية مثيرة. ونهدف من خلال ذلك إلى الارتقاء بمكانة مسابقات الأندية الأفريقية إلى مستوى عالمي، وتعزيز جاذبيتنا التجارية، وإلهام جيل جديد من المواهب الكروية".