logo
يوسف جوهر: "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول"

يوسف جوهر: "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول"

العربي الجديدمنذ 21 ساعات

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
لم يكن أستاذي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة برغم أنه كان أستاذ مادة السيناريو، برغم أن مادة السيناريو كانت مادة رئيسية لنا نحن طلبة قسم الإخراج. الذي حدث أن يوسف جوهر تفرّغ للتدريس لطلبة قسم السيناريو، أما نحن فتوالى على تدريس المادة لنا: حلمي حليم والأميركي جيمس هاتش وعلي الزرقاني. لم يكن يوسف جوهر معلمي المباشر لكنه كان بمثابة الأستاذ الذي استفدت منه الكثير.
بدأت علاقتي به من كافتيريا المعهد. كان أحيانا يصل قبل موعد محاضرته، فيتوجّه إلى الكافتيريا، يطالع الجريدة ويحتسي الشاي. وكنت فضوليا أحبّ التقرّب من المشاهير والتحدث معهم. كنت أعرف جيدا من هو، وما هي أشهر الأفلام التي اعتمدت على سيناريو من كتابته. كان أبرزها، وظل ذا مكانة خاصة عندي، فيلم "دعاء الكروان".
وكان الكلام عن هذا الفيلم مدخلي لتدشين عادة الحوارات مع يوسف جوهر. قلت له يومها إنني لاحظت نهاية مختلفة عن تلك الواردة في رواية طه حسين. علّق قائلا "أحسنت". خلال كتابة السيناريو اقترح مخرج الفيلم
هنري بركات
أن نغيّر القفلة. هي نهاية مفتوحة عند طه حسين، وهي نهاية متناسقة مع بناء الرواية. لكن جمهور السينما يختلف عن قرّاء الرواية. صحيح أن المهندس (أدّى الدور
أحمد مظهر
) تطوّر وتحوّل من شخصية سلبية إلى إيجابية، وقد طهّره الحب الحقيقي الذي اجتاح قلبه تجاه الخادمة آمنة (في الفيلم: فاتن حمامة). أما هي فالتحقت بالخدمة لديه وفي نيتها الانتقام منه لكونه اغتصب أختها هنادي وتسبب بذلك في أن خالها قتلها. كانت في نهاية الرواية، والفيلم، قد أحبت المهندس! ورأى بركات أن جمهور السينما لا يستسيغ أن يُكافأ مرتكب الذنب في النهاية، حتى لو تغيّر سلوكه قبلها. واقترح أن نهيئ خاتمتين: الأولى مطابقة للرواية، وفي الثانية يقوم الخال بقتل المهندس. وبالفعل صاغ يوسف جوهر المشهدين وتمّت دعوة طه حسين ليطّلع عليهما. شرح له ولده مؤنس ما يحدث في المشهد واستمع هو إلى الحوار. وبعد فترة تأمل اقتنع بالنهاية الثانية. والطريف أن عميد الأدب العربي سجّل بصوته العبارة الأخيرة التي نسمعها في الفيلم بعد اغتيال المهندس وهو في حضن آمنة: "دعاء الكروان! أترينه كان يرجِّع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض"؟
أصبحت لقاءاتي مع يوسف جوهر عادة كلما سنحت الفرصة، على امتداد سنوات الدراسة الأربع، وتواصلَتْ بعد تخرّجي، فأكرمني إذ جعلني صديقا. في الجلسات المتكررة تعلمت منه خبرات نقلها إليّ عند مناقشة موضوع معين، وعرفت منه تفاصيل شيقة من حياته الخاصة، وهي لم ترد في سيناريوهات الأفلام.
يوسف جوهر من مواليد بلدة قوص في صعيد مصر سنة 1912. في طفولته انتقل مع أبيه وأسرته إلى طنطا، وهي التي نشأ فيها وتلقّى المعارف في مدارسها. في المدرسة الثانوية اشترك مع فريق التمثيل في أداء مسرحية "نهاية العام الدراسي". لم يعجبه صغر دور الشرطي الذي أُسنِد إليه، فردّ الملابس إلى المخرج الذي كان مدرّس اللغة العربية، فقال له "لا تغضب، أنت لن تصير ممثلا، لكنك ستصبح أديبا ناجحا". وصدق توقّع المدرّس، وأصبح يوسف جوهر الأديب المعروف. درس الحقوق في جامعة القاهرة وتخرّج سنة 1935. مارس مهنة المحاماة إلا أنه آثر أن يجعل هوايته للأدب احترافا. ملفات الدعاوى القضائية أتاحت له فرصة اكتشاف شرائح متنوعة في المجتمع المصري ومشاكلها المختلفة وقد سبر أغوارها حتى أدقّ التفاصيل، الأمر الذي هيّأ له مادة غنية للقصص والروايات وسيناريوهات الأفلام التي كتبها.
كانت أول قصة قصيرة كتبها طالب كلية الحقوق بعنوان "الطامع"، وقد نشرتها مجلة "الرسالة" سنة 1933. بعدها نشر قصصه القصيرة في مجلات مختلفة، منها "الثقافة" و"الهلال". كثيرة هي القصص القصيرة التي كتبها وقد بلغت نحو 250 قصة، وصدرت مجاميع منها في كتب أبرزها: "سميرة هانم" و"دموع في عيون ضاحكة" و"أمهات لم يلدن أبداً" و"ابتسامات وحيّة رقطاء" و"نار ورماد" و"شخلول وشركاه". كما ألّف يوسف جوهر الروايات، وأشهرها "أمهات في المنفى" و"الصعود إلى قمة التل" و"دوامات في نهر الحب". وعن رواية "عودة القافلة" نال الكاتب الشاب يوسف جوهر سنة 1942 جائزة "مجمع فؤاد الأول للغة العربية" في القاهرة، مشاركة مع أديبين شابين، أصبحا في ما بعد من الأعلام، هما:
نجيب محفوظ
وعلي أحمد باكثير. وقد حول يوسف جوهر روايته هذه إلى سيناريو فيلم سينمائي أخرجه
أحمد بدرخان
سنة 1946، وكان من بطولة سميرة خلوصي وحسين صدقي.
أما أول قصة جعلته محترفا فعنوانها "لقد وجد صديقا". أرسلها في مطلع الأربعينيات إلى مصطفى أمين، وكان آنذاك رئيسا لتحرير مجلة "آخر ساعة" الأسبوعية. أعجبته ولم يتأخر في نشرها، بل تعاقد معه على نشر قصصه في المجلة الواسعة الانتشار. ومن باب القصص التي كان ينشرها في "آخر ساعة" دخل إلى عالم السينما. كانت المنتجة السينمائية آسيا داغر تقرأ قصصه بإعجاب، فطلبت منه أن يكتب حوار فيلم تستعد لإنتاجه وتمثيل دور البطولة فيه. أخبرته بأنه اقتباس قام به فتوح نشاطي من المسرحية الفرنسية "مدام إكس" لألكسندر بيسون، وأن المخرج هنري بركات كتب السيناريو، وقد تمّ ترشيحه لكتابة الحوار. كان الفيلم الذي أنتج سنة 1942 وعُرض بعنوان "المتهمة" بداية مشوار يوسف جوهر في الكتابة للسينما الذي انتهى سنة 1995 بفيلم "الرجل الثالث"، بطولة أحمد زكي وليلى علوي وإخراج علي بدرخان ، بعدما بلغ رصيده نحو 70 فيلما.
لمع اسمه بسرعة في الوسط السينمائي، وتهافت المنتجون على شراء النصوص السينمائية التي يكتبها. في السنة الرابعة من مسيرته، 1946، شهدت دور العرض ثمانية أفلام من كتابته، وهذا رقم قياسي. كانت مساهماته في الكتابة متنوعة: في بعض الأفلام هو مؤلف القصة فقط، في بعض آخر هو مؤلف القصة والسيناريو، وفي بعض ثالث هو كاتب الحوار، في أكثر الأفلام هو مؤلف القصة والسيناريو والحوار. وفي بعض الأفلام كتب يوسف جوهر السيناريو انطلاقا من روايات أدباء كبار، منها "دعاء الكروان" و"الحب الضائع" لطه حسين، و"الرباط المقدس" و"الأيدي الناعمة" لتوفيق الحكيم، و"بين القصرين" لنجيب محفوظ و"معبودة الجماهير" لمصطفى أمين. وهو كان في جميع أفلامه يحرص على السلاسة ورشاقة التسلسل بين المشاهد والتشويق الدائم والشخصيات المرسومة تفاصيلها بعناية، ويولي المشهد الافتتاحي اهتماما كبيرا. وما زلت أذكر نصيحة أبداها لي في سنوات الدراسة "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول".
وفي بعض الأفلام التي كان يوسف جوهر كاتب السيناريو فيها، كانت القصة مقتبسة من فيلم أجنبي. منها فيلم "يوم من عمري" الذي أخرجه عاطف سالم، وكان من بطولة عبد الحليم حافظ وزبيدة ثروت. الفيلم المصري مقتبس في معظم أحداثه من الفيلم الأميركي "حدث ذات ليلة"، الذي أخرجه فرانك كابرا ومثّل دوري البطولة فيه كلارك غيبل وكلوديت كولبير، مع اقتباس بعض مشاهد فيلم "عطلة في روما"، الذي أخرجه بيلي وايلدر ونالت أودري هيبورن عن أداء دور البطولة فيه جائزة الأوسكار. في عناوين "يوم من عمري" أن السيناريو والحوار من وضع يوسف جوهر وسيف الدين شوكت. الذي يقارن بين الفيلم المصري والفيلمين الأميركيين سيلمس الاقتباس، لكنه في الوقت نفسه سيدرك أن تمصير الشخصيات وحواراتها متقن. وهذه براعة يوسف جوهر، هو الأديب الذي يضفي إبداعه الشخصي وخبرته الروائية على السيناريوهات التي يكتبها.
ثمة فيلم آخر شهير اقتبسه يوسف جوهر من فيلم أجنبي، هو فيلم "نغم في حياتي" الذي أخرجه بركات، وتولّى أدوار البطولة فيه فريد الأطرش وميرفت أمين وحسين فهمي. هو اقتباس من الفيلم الأميركي - الفرنسي "فاني" الذي اعتمد على مسرحية بالعنوان نفسه للكاتب الفرنسي مارسيل بانيول. وجه التشابه بين الفيلمين يتمثّل في عقدة الحدث الرئيسي فقط: الرجل الذي يعشق فتاة تصغره بسنوات كثيرة، وهي تهيم حبا بشاب من عمرها وفي غفلة تحمل منه، لكنه يسافر من دون أن يدري العاقبة، وتنقطع أخباره، فتقبل عرض الزواج من الرجل المُسِنّ درءا للفضيحة، وهو يدري السرّ لكن حبه الكبير لها جعله يتغاضى. لكن تفاصيل السيناريو في الفيلم المصري مختلفة، كذلك الأدوار الاجتماعية للشخصيات، وحواراتها وعلاقاتها.
واتفق أنني كنت قد اقتبست المسرحية ذاتها "فاني" في مسلسل تلفزيوني عنوانه "المشوار الطويل"، وكان من بطولة الكوميدي اللبناني شوشو ومحمود المليجي ومارسيل مارينا. وكان فريد الأطرش قد أعجبه المسلسل، فاستدعاني لمرافقته إلى القاهرة لحضور جلسة قراءة السيناريو وإبداء الرأي. كان يرغب في رفد دوره بلمسات كوميدية. سألته من كاتب السيناريو؟ قال: يوسف جوهر. قلت له "صعبة. هو أستاذي ومن غير اللائق أن أبدي رأيا في نص هو كاتبه". ثم كان الاقتراح أن أُسرّ برأيي إلى فريد الأطرش فيصدر عنه. كان لقاء ودودا في القاهرة، وفي اليوم التالي قلت للمطرب الكبير "الدور كما هو مكتوب مناسب للغاية لك. والشخصية لا تحتمل فكاهة إلا في المشاهد الأولى. وقد أحسن يوسف جوهر صنعا بتغيير القفلة فجعلك تضحّي بحبك إكراما للحبيبة وتخرج من حياتها، وهذا موقف نبيل سيلقى إعجاب الجمهور". أمضيت اليوم التالي بصحبة يوسف جوهر وكانت جلسة استرجاع ذكريات، وأبرزها أنه عرّفني في بيروت سنة 1967 إلى المحامي والسياسي اللبناني محسن سليم وزوجته الباحثة الشامية سلمى مرشاق التي كانت أسرتها على صداقة طيبة مع عائلة يوسف جوهر.
نجوم وفن
التحديثات الحية
دفاتر فارس يواكيم: رشدي أباظة... الفتى الأول ونسيج مصري إيطالي
وحدث أنني انتقلت للإقامة في ألمانيا. وبدأت أعدّ بعض البرامج لإذاعة "دويتشه فيله". وذات يوم، سنة 1991، ذكر أمامي زميل أنه سيلتقي يوسف جوهر عند ابنته، د. ماجدة، كاتبة برامج للإذاعة ذاتها، ولم يخطر في بالي أنها ابنته. طلبت منه أن ينقل إليه تحياتي. وفوجئت في المساء باتصال تلفوني وسمعت يوسف جوهر يقول لي "اركب تاكسي وتعال فورا" وأعطاني عنوان مسكن ابنته. علمت وقتها أن د. ماجدة هي زوجة يورغن كروبورغ، الدبلوماسي الألماني، السفير السابق ووزير الدولة في وزارة الخارجية، وكان مستشار الوزير الشهير هانز ديتر غينشر. تقابلت مرارا مع يوسف جوهر، وسلّمني ملخص قصة سينمائية كتبها عن "مريم المجدلية" وفوّضني ببيعها لشركة إنتاج ألمانية، لكنني فشلت في مهمّتي لضعف صلاتي آنذاك بالمنتجين.
توفي يوسف جوهر يوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول سنة 2001، يوم الاعتداء الشهير على "برجي التجارة الكبيرين" في نيويورك. ضاع خبر وفاته في زحام الأنباء المتلاحقة من الولايات المتحدة التي أثارت اهتمام العالم بأسره. وبعدما خفتت أصداؤها عرف الناس نبأ وفاة يوسف جوهر، وعمّ رثاؤه في وسائل الإعلام. وانتشرت المقالات والدراسات عن مسيرته الأدبية والسينمائية، وأبرزها الكتاب الذي ألّفه الناقد الشهير أحمد الحضري ووضع له عنوانا ملائما "يوسف جوهر أديب السينما المصرية".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

يوسف جوهر: "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول"
يوسف جوهر: "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول"

العربي الجديد

timeمنذ 21 ساعات

  • العربي الجديد

يوسف جوهر: "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول"

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم لم يكن أستاذي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة برغم أنه كان أستاذ مادة السيناريو، برغم أن مادة السيناريو كانت مادة رئيسية لنا نحن طلبة قسم الإخراج. الذي حدث أن يوسف جوهر تفرّغ للتدريس لطلبة قسم السيناريو، أما نحن فتوالى على تدريس المادة لنا: حلمي حليم والأميركي جيمس هاتش وعلي الزرقاني. لم يكن يوسف جوهر معلمي المباشر لكنه كان بمثابة الأستاذ الذي استفدت منه الكثير. بدأت علاقتي به من كافتيريا المعهد. كان أحيانا يصل قبل موعد محاضرته، فيتوجّه إلى الكافتيريا، يطالع الجريدة ويحتسي الشاي. وكنت فضوليا أحبّ التقرّب من المشاهير والتحدث معهم. كنت أعرف جيدا من هو، وما هي أشهر الأفلام التي اعتمدت على سيناريو من كتابته. كان أبرزها، وظل ذا مكانة خاصة عندي، فيلم "دعاء الكروان". وكان الكلام عن هذا الفيلم مدخلي لتدشين عادة الحوارات مع يوسف جوهر. قلت له يومها إنني لاحظت نهاية مختلفة عن تلك الواردة في رواية طه حسين. علّق قائلا "أحسنت". خلال كتابة السيناريو اقترح مخرج الفيلم هنري بركات أن نغيّر القفلة. هي نهاية مفتوحة عند طه حسين، وهي نهاية متناسقة مع بناء الرواية. لكن جمهور السينما يختلف عن قرّاء الرواية. صحيح أن المهندس (أدّى الدور أحمد مظهر ) تطوّر وتحوّل من شخصية سلبية إلى إيجابية، وقد طهّره الحب الحقيقي الذي اجتاح قلبه تجاه الخادمة آمنة (في الفيلم: فاتن حمامة). أما هي فالتحقت بالخدمة لديه وفي نيتها الانتقام منه لكونه اغتصب أختها هنادي وتسبب بذلك في أن خالها قتلها. كانت في نهاية الرواية، والفيلم، قد أحبت المهندس! ورأى بركات أن جمهور السينما لا يستسيغ أن يُكافأ مرتكب الذنب في النهاية، حتى لو تغيّر سلوكه قبلها. واقترح أن نهيئ خاتمتين: الأولى مطابقة للرواية، وفي الثانية يقوم الخال بقتل المهندس. وبالفعل صاغ يوسف جوهر المشهدين وتمّت دعوة طه حسين ليطّلع عليهما. شرح له ولده مؤنس ما يحدث في المشهد واستمع هو إلى الحوار. وبعد فترة تأمل اقتنع بالنهاية الثانية. والطريف أن عميد الأدب العربي سجّل بصوته العبارة الأخيرة التي نسمعها في الفيلم بعد اغتيال المهندس وهو في حضن آمنة: "دعاء الكروان! أترينه كان يرجِّع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض"؟ أصبحت لقاءاتي مع يوسف جوهر عادة كلما سنحت الفرصة، على امتداد سنوات الدراسة الأربع، وتواصلَتْ بعد تخرّجي، فأكرمني إذ جعلني صديقا. في الجلسات المتكررة تعلمت منه خبرات نقلها إليّ عند مناقشة موضوع معين، وعرفت منه تفاصيل شيقة من حياته الخاصة، وهي لم ترد في سيناريوهات الأفلام. يوسف جوهر من مواليد بلدة قوص في صعيد مصر سنة 1912. في طفولته انتقل مع أبيه وأسرته إلى طنطا، وهي التي نشأ فيها وتلقّى المعارف في مدارسها. في المدرسة الثانوية اشترك مع فريق التمثيل في أداء مسرحية "نهاية العام الدراسي". لم يعجبه صغر دور الشرطي الذي أُسنِد إليه، فردّ الملابس إلى المخرج الذي كان مدرّس اللغة العربية، فقال له "لا تغضب، أنت لن تصير ممثلا، لكنك ستصبح أديبا ناجحا". وصدق توقّع المدرّس، وأصبح يوسف جوهر الأديب المعروف. درس الحقوق في جامعة القاهرة وتخرّج سنة 1935. مارس مهنة المحاماة إلا أنه آثر أن يجعل هوايته للأدب احترافا. ملفات الدعاوى القضائية أتاحت له فرصة اكتشاف شرائح متنوعة في المجتمع المصري ومشاكلها المختلفة وقد سبر أغوارها حتى أدقّ التفاصيل، الأمر الذي هيّأ له مادة غنية للقصص والروايات وسيناريوهات الأفلام التي كتبها. كانت أول قصة قصيرة كتبها طالب كلية الحقوق بعنوان "الطامع"، وقد نشرتها مجلة "الرسالة" سنة 1933. بعدها نشر قصصه القصيرة في مجلات مختلفة، منها "الثقافة" و"الهلال". كثيرة هي القصص القصيرة التي كتبها وقد بلغت نحو 250 قصة، وصدرت مجاميع منها في كتب أبرزها: "سميرة هانم" و"دموع في عيون ضاحكة" و"أمهات لم يلدن أبداً" و"ابتسامات وحيّة رقطاء" و"نار ورماد" و"شخلول وشركاه". كما ألّف يوسف جوهر الروايات، وأشهرها "أمهات في المنفى" و"الصعود إلى قمة التل" و"دوامات في نهر الحب". وعن رواية "عودة القافلة" نال الكاتب الشاب يوسف جوهر سنة 1942 جائزة "مجمع فؤاد الأول للغة العربية" في القاهرة، مشاركة مع أديبين شابين، أصبحا في ما بعد من الأعلام، هما: نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير. وقد حول يوسف جوهر روايته هذه إلى سيناريو فيلم سينمائي أخرجه أحمد بدرخان سنة 1946، وكان من بطولة سميرة خلوصي وحسين صدقي. أما أول قصة جعلته محترفا فعنوانها "لقد وجد صديقا". أرسلها في مطلع الأربعينيات إلى مصطفى أمين، وكان آنذاك رئيسا لتحرير مجلة "آخر ساعة" الأسبوعية. أعجبته ولم يتأخر في نشرها، بل تعاقد معه على نشر قصصه في المجلة الواسعة الانتشار. ومن باب القصص التي كان ينشرها في "آخر ساعة" دخل إلى عالم السينما. كانت المنتجة السينمائية آسيا داغر تقرأ قصصه بإعجاب، فطلبت منه أن يكتب حوار فيلم تستعد لإنتاجه وتمثيل دور البطولة فيه. أخبرته بأنه اقتباس قام به فتوح نشاطي من المسرحية الفرنسية "مدام إكس" لألكسندر بيسون، وأن المخرج هنري بركات كتب السيناريو، وقد تمّ ترشيحه لكتابة الحوار. كان الفيلم الذي أنتج سنة 1942 وعُرض بعنوان "المتهمة" بداية مشوار يوسف جوهر في الكتابة للسينما الذي انتهى سنة 1995 بفيلم "الرجل الثالث"، بطولة أحمد زكي وليلى علوي وإخراج علي بدرخان ، بعدما بلغ رصيده نحو 70 فيلما. لمع اسمه بسرعة في الوسط السينمائي، وتهافت المنتجون على شراء النصوص السينمائية التي يكتبها. في السنة الرابعة من مسيرته، 1946، شهدت دور العرض ثمانية أفلام من كتابته، وهذا رقم قياسي. كانت مساهماته في الكتابة متنوعة: في بعض الأفلام هو مؤلف القصة فقط، في بعض آخر هو مؤلف القصة والسيناريو، وفي بعض ثالث هو كاتب الحوار، في أكثر الأفلام هو مؤلف القصة والسيناريو والحوار. وفي بعض الأفلام كتب يوسف جوهر السيناريو انطلاقا من روايات أدباء كبار، منها "دعاء الكروان" و"الحب الضائع" لطه حسين، و"الرباط المقدس" و"الأيدي الناعمة" لتوفيق الحكيم، و"بين القصرين" لنجيب محفوظ و"معبودة الجماهير" لمصطفى أمين. وهو كان في جميع أفلامه يحرص على السلاسة ورشاقة التسلسل بين المشاهد والتشويق الدائم والشخصيات المرسومة تفاصيلها بعناية، ويولي المشهد الافتتاحي اهتماما كبيرا. وما زلت أذكر نصيحة أبداها لي في سنوات الدراسة "أعصر دماغك كويس في المشهد الأول". وفي بعض الأفلام التي كان يوسف جوهر كاتب السيناريو فيها، كانت القصة مقتبسة من فيلم أجنبي. منها فيلم "يوم من عمري" الذي أخرجه عاطف سالم، وكان من بطولة عبد الحليم حافظ وزبيدة ثروت. الفيلم المصري مقتبس في معظم أحداثه من الفيلم الأميركي "حدث ذات ليلة"، الذي أخرجه فرانك كابرا ومثّل دوري البطولة فيه كلارك غيبل وكلوديت كولبير، مع اقتباس بعض مشاهد فيلم "عطلة في روما"، الذي أخرجه بيلي وايلدر ونالت أودري هيبورن عن أداء دور البطولة فيه جائزة الأوسكار. في عناوين "يوم من عمري" أن السيناريو والحوار من وضع يوسف جوهر وسيف الدين شوكت. الذي يقارن بين الفيلم المصري والفيلمين الأميركيين سيلمس الاقتباس، لكنه في الوقت نفسه سيدرك أن تمصير الشخصيات وحواراتها متقن. وهذه براعة يوسف جوهر، هو الأديب الذي يضفي إبداعه الشخصي وخبرته الروائية على السيناريوهات التي يكتبها. ثمة فيلم آخر شهير اقتبسه يوسف جوهر من فيلم أجنبي، هو فيلم "نغم في حياتي" الذي أخرجه بركات، وتولّى أدوار البطولة فيه فريد الأطرش وميرفت أمين وحسين فهمي. هو اقتباس من الفيلم الأميركي - الفرنسي "فاني" الذي اعتمد على مسرحية بالعنوان نفسه للكاتب الفرنسي مارسيل بانيول. وجه التشابه بين الفيلمين يتمثّل في عقدة الحدث الرئيسي فقط: الرجل الذي يعشق فتاة تصغره بسنوات كثيرة، وهي تهيم حبا بشاب من عمرها وفي غفلة تحمل منه، لكنه يسافر من دون أن يدري العاقبة، وتنقطع أخباره، فتقبل عرض الزواج من الرجل المُسِنّ درءا للفضيحة، وهو يدري السرّ لكن حبه الكبير لها جعله يتغاضى. لكن تفاصيل السيناريو في الفيلم المصري مختلفة، كذلك الأدوار الاجتماعية للشخصيات، وحواراتها وعلاقاتها. واتفق أنني كنت قد اقتبست المسرحية ذاتها "فاني" في مسلسل تلفزيوني عنوانه "المشوار الطويل"، وكان من بطولة الكوميدي اللبناني شوشو ومحمود المليجي ومارسيل مارينا. وكان فريد الأطرش قد أعجبه المسلسل، فاستدعاني لمرافقته إلى القاهرة لحضور جلسة قراءة السيناريو وإبداء الرأي. كان يرغب في رفد دوره بلمسات كوميدية. سألته من كاتب السيناريو؟ قال: يوسف جوهر. قلت له "صعبة. هو أستاذي ومن غير اللائق أن أبدي رأيا في نص هو كاتبه". ثم كان الاقتراح أن أُسرّ برأيي إلى فريد الأطرش فيصدر عنه. كان لقاء ودودا في القاهرة، وفي اليوم التالي قلت للمطرب الكبير "الدور كما هو مكتوب مناسب للغاية لك. والشخصية لا تحتمل فكاهة إلا في المشاهد الأولى. وقد أحسن يوسف جوهر صنعا بتغيير القفلة فجعلك تضحّي بحبك إكراما للحبيبة وتخرج من حياتها، وهذا موقف نبيل سيلقى إعجاب الجمهور". أمضيت اليوم التالي بصحبة يوسف جوهر وكانت جلسة استرجاع ذكريات، وأبرزها أنه عرّفني في بيروت سنة 1967 إلى المحامي والسياسي اللبناني محسن سليم وزوجته الباحثة الشامية سلمى مرشاق التي كانت أسرتها على صداقة طيبة مع عائلة يوسف جوهر. نجوم وفن التحديثات الحية دفاتر فارس يواكيم: رشدي أباظة... الفتى الأول ونسيج مصري إيطالي وحدث أنني انتقلت للإقامة في ألمانيا. وبدأت أعدّ بعض البرامج لإذاعة "دويتشه فيله". وذات يوم، سنة 1991، ذكر أمامي زميل أنه سيلتقي يوسف جوهر عند ابنته، د. ماجدة، كاتبة برامج للإذاعة ذاتها، ولم يخطر في بالي أنها ابنته. طلبت منه أن ينقل إليه تحياتي. وفوجئت في المساء باتصال تلفوني وسمعت يوسف جوهر يقول لي "اركب تاكسي وتعال فورا" وأعطاني عنوان مسكن ابنته. علمت وقتها أن د. ماجدة هي زوجة يورغن كروبورغ، الدبلوماسي الألماني، السفير السابق ووزير الدولة في وزارة الخارجية، وكان مستشار الوزير الشهير هانز ديتر غينشر. تقابلت مرارا مع يوسف جوهر، وسلّمني ملخص قصة سينمائية كتبها عن "مريم المجدلية" وفوّضني ببيعها لشركة إنتاج ألمانية، لكنني فشلت في مهمّتي لضعف صلاتي آنذاك بالمنتجين. توفي يوسف جوهر يوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول سنة 2001، يوم الاعتداء الشهير على "برجي التجارة الكبيرين" في نيويورك. ضاع خبر وفاته في زحام الأنباء المتلاحقة من الولايات المتحدة التي أثارت اهتمام العالم بأسره. وبعدما خفتت أصداؤها عرف الناس نبأ وفاة يوسف جوهر، وعمّ رثاؤه في وسائل الإعلام. وانتشرت المقالات والدراسات عن مسيرته الأدبية والسينمائية، وأبرزها الكتاب الذي ألّفه الناقد الشهير أحمد الحضري ووضع له عنوانا ملائما "يوسف جوهر أديب السينما المصرية".

محمود أبو زيد:  العار والكيف وجري الوحوش
محمود أبو زيد:  العار والكيف وجري الوحوش

العربي الجديد

time١٠-٠٦-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

محمود أبو زيد: العار والكيف وجري الوحوش

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم كنا ثلاثة ندرس الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وبعد تخرجنا في سنة 1966 لم يعمل أحدنا بالإخراج، بل بالتأليف. محمود أبو زيد ومحسن زايد أصبحا من أشهر كتاب السيناريو في السينما المصرية، وأنا انطلقت في بيروت مؤلفاً مسرحياً وتلفزيونياً وإعلامياً. وكنا ثلاثة من طلبة قسم الإخراج ربطت ما بيننا صداقة نشأت بسرعة ودامت على مهل، وامتدت إلى ما بعد التخرج: أنا ومحمود أبو زيد وعلي عبد الخالق، ثم انضم إلينا زميل يدرس التصوير، هو شوقي علي، الذي سيصبح بعد سنوات من التخرج عميداً لمعهد السينما. وكنا نجتمع مراراً وتمتد بنا سهرات الأحاديث إلى قرب الفجر. وفي بعض الليالي كنت أبيت في منزل محمود أبو زيد أو في بيت علي عبد الخالق. ثمة موضوع واحد كان يفصل بيننا، هو متابعة مباريات كرة القدم. لم يكن محمود أبو زيد مهتماً بشؤون الكرة ومثله شوقي علي. أما أنا وعلي عبد الخالق فلا تفوتنا مباراة. لكن بينما كنت مشجعاً متحمساً للنادي الأهلي كان علي من الأنصار الملتزمين بتأييد فريق الزمالك اللدود. وكدنا، أنا ومحمود أبو زيد، أن نُطرَد من المعهد قبل أن تنتهي السنة الدراسية. بسبب السهر كنا في بعض الأيام نصل متأخرين إلى المعهد، في تمام التاسعة يتمّ سحب كشوف التوقيع التي تثبت الحضور. ولو حضر الطالب في التاسعة ودقيقة يعتبر غائباً ذلك اليوم. وحدث أن استدعانا حسين عسر (الممثل وشقيق الشهير عبد الوارث عسر) وكان يشغل وظيفة إدارية في المعهد، ونبّهنا قائلاً: "عليكما بالحذر. في رصيد كل منكما حتى الآن 14 غياباً، ولو بلغتما اليوم الخامس عشر فلن يتورع العميد الصارم محمد كريم عن توقيع قرار الطرد. لا تستهترا بمستقبلكما". كنا على مسافة شهر من نهاية العام الدراسي، فاتبعنا نظاماً صارماً مع لجوء إلى دعم الأهل للإيقاظ في الصباح الباكر، فمضى الشهر من دون وقوع الكارثة. كان محمود أبو زيد الطالب الوحيد في دفعتنا، المُسَجَّل في معهد السينما، وفي كلية الآداب في الوقت نفسه. هنا يدرس السينما وهناك الفلسفة وعلم النفس. كان قد أمضى سنة في كلية الآداب قبل الالتحاق بالمعهد. ثم أعطى الأفضلية لدراسة السينما وتخرجنا سنة 1966، وأكمل دراسة الفلسفة ونال الليسانس. وكان اثنان من أساتذتنا يعرفانه، كونهما أساساً من أساتذة كلية الآداب، وهما د. يحيى الخشاب (علم الاجتماع) ود. مصطفى سويف (علم النفس). بعد التخرج عمل محمود أبو زيد في وزارة الثقافة، في لجنة الرقابة على الأفلام. ثم تفرغ للتأليف، خصوصاً للسينما، كاتباً القصة والسيناريو والحوار في اثنين وعشرين فيلماً. أولها فيلم "القتلة" (1971) من إخراج أشرف فهمي (خريج معهد السينما، في دفعته الأولى). وهو فيلم بوليسي-اجتماعي قام ببطولته صلاح ذو الفقار وناهد شريف. أعقبه في السنة التالية فيلمان من إخراج حسام الدين مصطفى "الخطافين" و"ملوك الشر" وكلاهما من بطولة فريد شوقي، بمشاركة نبيلة عبيد في الأول ونيللي في الثاني. وبعد تأليف أربعة أفلام أخرى، بدأ التعاون بين الصديقين محمود أبو زيد كاتباً، وعلي عبد الخالق مخرجاً، في خمسة أفلام غاصت موضوعاتها في حضيض المجتمع، ونالت لدى عروضها إقبالاً شعبياً كبيراً. أولها فيلم "العار" (1982). وبطله حاج متديّن لكنه تاجر مخدرات، معتبراً إياها من العطارة التي يملك متجراً لبيعها. أحد أبنائه يعلم السر، ويستنكر الاثنان الآخران ذلك، لكنهما وقد ورثا الثروة يسوّغان التجارة الحرام. غير أن البضاعة المخبأة في بحيرة مالحة تفسد، وتفسد حياتهم. والمخدرات هي موضوع فيلم "الكيف" وبطله طالب فاشل يتحول إلى مطرب فرق شعبية منحطة ويدمن المخدرات ويرفض نصيحة أخيه الكيميائي، بل يخدعه ويغريه بتجربة تقود إلى الإدمان بشراسة فيخسر عمله وحياته. أما في "جري الوحوش" فالآفة هي تجارة الأعضاء البشرية، وطبيب يجري التجارب على بشر يقبلون بسبب الحاجة على المال، أو الجشع في ربحه ولو بطرق غير مشروعة. وأما فيلم "البيضة والحجر" فيعالج هوس سكان حي شعبي بالشعوذة، ويؤمنون بقدرات دجال محترف. يخلفه في مسكنه أستاذ فلسفة ضاقت به سبل العيش. يحاول أن يقنع الأهالي بأن ألاعيب السحر خرافات لا طائل تحتها، لكنهم يلحّون عليه أن يعالج مشكلاتهم على غرار سلفه، ولا يلبث أن ينساق ويجني من الدجل أرباحاً لم ينل مثلها من تدريس الفلسفة. وبطلة فيلم "عتبة الستات" طبيبة تظن أنها عاقر لأنها لم تنجب برغم مرور سنوات على زواجها، في حين يكتشف الأطباء أن الزوج هو العقيم، لكنه يخفي الحقيقة، وتلجأ الطبيبة إلى مختلف السبل لكي تحمل، ومنها الدجل الشعبي. يحدث أنها تتعرض لحمل كاذب، فيتهمها زوجها بالزنا. وكان قد جَمعُ الثروة من الربا موضوعَ "ديك البرابر" (إخراج حسين كمال) وفيه الأب المنحرف يرغب في توريث ابنه الذكر الوحيد وحرمان بناته الأربع، برغم تخلّف الولد العقلي. وفي "الأجندة الحمراء" (إخراج علي رجب) طبيب يكتشف أن صديقه مصاب بداء الزهري، ولحماية المجتمع يبحث عن النسوة المصابات، فيتضح أن الصديق هو ناقل المرض الذي أصابه من داعرة. من سِيَر تجار المخدرات والمدمنين، إلى المشعوذين، فتجار أعضاء الجسم الإنساني، إلى جماعة الربا والزنا والأمراض السارية والدعارة والاستيلاء على أرزاق الغير، والرغبة في الثروة ولو من طريق الحرام، كانت معظم موضوعات الأفلام تدور في فلك ذلك الجانب المظلم من المجتمع. وفي جلسة جمعتني به قال لي محمود أبو زيد "أنت يا صديقي أخبر الناس. حكايات القوم الأسوياء لا تنتج مادة لفيلم سينمائي. لكن سير شذّاذ الآفاق بها ما يجعل المؤلف يكشف ويناقش ويدين. معالجة الانحراف مادة مغرية للمؤلف الدرامي". وفي أفلامه التي تضمنت أغنيات، كان محمود أبو زيد كاتب الكلمات، وكان حسن أبو السعود ملحن معظم هذه الأغاني. منها ما أنشده أحمد زكي في فيلم "البيضة والحجر" ومطلع الأغنية الواردة في مستهل الفيلم يقول "جاب الخبر من ع الشجر/ الدنيا دي فيها العِبَر/ في ناس بتنحت في الصخَر/ وناس بتلعب بالبيضة والحجر". ومنها ما أنشده محمود عبد العزيز في فيلم "الكيف" مثل: "الكي كيمي كا" أو "يا حلو بانِتْ لبِّتك/ أول ما دابت قشرتك/ تحرم عليَّ محبّتك/ ورح أتوب عن سِكّتك/ القلب منك مليان جفا/ والصبر من قلبي اختفى/ وضاع معاه كل الصفا/ ضيّعتُه بِعِنْدَك يا قفا/ آه يا قفا" أو "تعالى تاني/ للدور التحتاني/ ناكل لحمة ضاني/ ونحلّي بسوداني/ دي القعدة هنيّه/ واللقمة شهيّه/ وح نشبع أغاني". في أغنية "البيضة والحجر" ذكر أنها من تأليفه، أما في عناوين فيلم "الكيف" فذكر أن الأغاني من "تخريف" محمود أبو زيد. إذ هي في الفيلم أغاني تحشيش ينشدها مغنٍّ سوقي وينظمها شويعر بذيء. وهي نقد للأغاني الهابطة الرائجة آنذاك. وهي نظمٌ على منوالها للسخرية منها. في الفيلم يقول المغني للشويعر المدعو سَتاموني "احنا عايزين كلمات هايفة". وعندما يسمعه الهذر ويشرح مزهوًا قيمة استخدام تعبير "القفا" بقوله "كلهم بيغنوا للعيون والرموش والخدود والشعر. إنت أول واحد ح يغني للقفا"، يثني عليه المغني "بحبك يا سَتاموني مهما الناس لاموني". وحدث أن شركة إنتاج أغان رغبت في شراء حقوق هذه الأغاني لطبع أسطوانات وأشرطة تجارية، فرفض محمود أبو زيد، مبرراً أن هذه الأغاني مطابقة للشخصية التي تؤديها في الفيلم، فإذا أخرجت من هذا السياق، يمكن اعتبارها ذات كلمات مبتذلة. لكن محمود عبد العزيز أقنعه بالموافقة، مع ذكر أنها من الفيلم، ولكون مؤدّيها ممثلاً وليس مطرباً، فستبقى هذه الأغاني مرتبطة بمنبتها الدرامي. وكما كلمات الأغاني كذلك بعض عبارات الحوار التي شاعت على الألسنة، وهي من نوع الهذر الصادر عن ألسنة متعاطي المخدرات، مثل "نفيّش الهوامش" و"أنا اللي سَتِّفْت الأونطه جوّه الشنطه" و"أنا بحبك يا فنانِسْ". وعلى غرار كلمات الأغاني وعبارات الحوار تجد أسماء الشخصيات في بعض الأفلام مثل تايكون الدخاخني وعِشَرِيه (ديك البرابر) سباخ التيبي ونظنظ هانم (البيضة والحجر) عاصم الخرابشة والشيخة هناجه (عتبة الستات) جمال مزاجنجي وسليم البهظ وعبده الكرف (الكيف). أما في الأفلام التي لا تجري أحداثها في أوساط الرذائل، فالأسماء من المألوفة المتداولة. في كل أفلامه قاد محمود أبو زيد الشخصيات سيئة السلوك إلى بئس المصير. لحقت بها الهزائم في نهايات أفلامه. وفي ذلك عبرة أخلاقية إيجابية واضحة. وبرغم ذلك، حرص المؤلف في بعض أفلامه على دعم العبرة بآية من القرآن الكريم، أو ببيت شعر عربي، أو بحكمة محمودة. في ختام فيلم "الكيف" تسمع الراوي يردد بيتَ شِعر شهيراً لأحمد شوقي: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا". وينتهي فيلم "بون سواريه" بحكمة "ومن كان رزقه على الله فلا يحزن". أما فيلم "كيدهن عظيم" فيقول البطل في ختامه مردداً الآية الكريمة ﴿من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم بحسنات﴾. رأى البعض في ذلك ضرباً من تأكيد المؤكد، تجعل الدراما تُختتم بعظة، ورأى البعض الآخر أنها من ضرورات التأثير في المتلقّي من مدخل الثوابت الإيمانية وهى أرفع ما يتمسك به الفرد في مجتمعه العربي. فضلاً عن تأليف الأفلام السينمائية، كتب محمود أبو زيد مسرحيتين من لون الكوميديا: "جوز ولوز" من بطولة أحمد بدير وسعاد نصر، و"حمري جمري" من بطولة صابرين وعلاء ولي الدين. كما كتب المسلسل التلفزيوني "العمة نور" وكان من بطولة نبيلة عبيد، بطلة مسلسله الإذاعي "سجن الزوجية" مع محمود عبد العزيز. وكان فيلم "بون سواريه" آخر ما كتب محمود أبو زيد (سنة 2010). وبعد عام أخذ يراقب متغيرات الأحوال السياسية التي طرأت في مصر، لعله يستخلص من أحداث الربيع العربي المتلاحقة مادة لفيلم جديد. لكن المرض العضال أقعده عن العمل، وكانت وفاته أواخر 2016 عن 75 عاماً. نجوم وفن التحديثات الحية دفاتر فارس يواكيم: رشدي أباظة... الفتى الأول ونسيج مصري إيطالي كان قد أنجب ثلاثة أبناء، عملوا في الوسط الفني. ابنه البكر أحمد أبو زيد درس الإخراج والسيناريو بمعهد السينما، والتحق بعد التخرّج بالقناة الفضائية المصرية وأخرج عدداً من البرامج التلفزيونية والأفلام التسجيلية، وبرز اسمه بمسلسلات تمثيلية من تأليفه، وبعضها استناداً على قصص أفلام والده مثل "العار" و"الكيف" وفي هذا المسلسل شارك الأخوة الثلاثة: الأخ الأوسط أشرف مؤلف الموسيقى التصويرية، والأخ الأصغر كريم، قام بالتمثيل (وهو كان أدّى دور "الطفل كوكي" في فيلم "الكيف"). كريم درس السيناريو، واحترف الغناء وسجّل ألبومات، منها "لون شعرك" و"تفاحة آدم" من ألحان أخيه أشرف، لكنه فضّل التمثيل، وأدّى أدواراً مختلفة في مسلسلات وأفلام، ويعكف حالياً على تأليف القصص القصيرة. أما أشرف، فقد توفي سنة 2023 عن عمر ناهز السابعة والأربعين

جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة
جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة

BBC عربية

time٢٣-١٠-٢٠٢٤

  • BBC عربية

جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة

"جرافة، وقبة مهدمة، وركام بين المقابر" هذا ما تضمنته الصور التي أثارت سخطاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، إثر هدم السلطات مدفناً تاريخياً يعود لمستولدة محمد علي باشا، في إحدى المقابر التاريخية وسط القاهرة القديمة. بات هذا المشهد متكرراً من آن لآخر في مصر خلال الأعوام الأخيرة، حيث توسع مصر شبكة الطرق التي تصل بين وسط القاهرة ومصر القديمة، والأحياء الجديدة في شرق القاهرة. في إطار هذه الخطة، أعلنت محافظة القاهرة قبل ثلاثة أعوام نيتها إزالة نحو 2700 مقبرة بالمنطقة، وبدأت بإزالة بعضها، وهو ما أفزع أهالي الموتى المدفونين هناك، وأثار اعتراضات مهتمين بالتراث. منذ ذلك الحين، هُدمت عشرات المقابر، واضطرت مئات الأسر لنقل رفات ذويهم لمدافن جديدة في مناطق صحراوية على أطراف القاهرة. التاريخ يهدم يعود المدفن والقبة المهدومين لمستولدة محمد علي باشا، أي التي أنجبت منه ولداً، وهو محمد حليم باشا، الابن الثاني لمحمد علي، ووريث عرشه قبل أن يتغير نظام الميراث. "اليوم كان من أصعب الأيام في حياتي وأنا أصور القبة لمدة 5 ساعات أثناء هدمها". هكذا كتب محمد عبدالملك، المصور الذي التقط صورة هدم القبة. يقول عبر حسابه على فيس بوك إنه كان يفكر ما هي القباب التي ستهدم لاحقاً. وتضم المنطقة رفات المئات من رموز مصر خلال القرنين الأخيرين، مثل أسرة محمد علي باشا، والذي يُعرف بكونه مؤسس مصر الحديثة. حصدت صور هدم القبة تفاعل المئات على موقعي فيس بوك وإكس (تويتر سابقا). ووفقاً لعبد الملك، الذي ينشر بشكل منتظم عن أخبار مدافن منطقة الإمام الشافعي، لم تكن هذه هي القبة الوحيدة التي أزيلت الشهر الحالي. الفنان المصري خالد النبوي كان من بين المغردين الذين انتقدوا الخطوة، قائلاً إن تاريخ مصر يعود لمئات السنين " لماذا تريدون أن تجعلوا عمرها صفرًا؟" أما الإعلامية لميس الحديدي فانتقدت هدم المقابر، مستعيرة أحد أبيات قصيدة "مصر تتحدث عن نفسها"، للشاعر حافظ إبراهيم والتي غنتها الفنانة أم كلثوم. وقالت الحديدي: "وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي. ووقفوا بعد دهر ينظرون كيف يهدم أبنائي تاريخي وذاكرة السنين. هكذا تتحدث مصر عن نفسها". طرق جديدة خلال الأشهر الأخيرة، حلت طرق جديدة مكان بعض المقابر التي أزيلت في المنطقة. أحدها يمر فوق قبر الكاتب الكبير طه حسين، بعد أن تراجعت الحكومة عن هدمه بعد تهديد أسرته بنقل رفاته إلى فرنسا. منذ الإعلان عن خطة بناء الطرق الجديدة في المنطقة، يلف الغموض مسار الطريق الجديد، والمقابر التي ربما تهدم لبنائه، وهو ما ينتقده كثر من المهتمين بتراث المنطقة. كما يتخوفون من أن تكون الإجراءات مقدمة لنقل كل المدافن من قلب القاهرة إلى مناطق صحراوية. وتعارض منظمة اليونيسكو وبعض المهتمين بالتراث هذا المشروع، ولطالما طالبت المنظمة السلطات المصرية بتوضيح خططها بشأن المنطقة. قبل نحو 40 عاماً، سجلت اليونسكو القاهرة التاريخية، وفي قلبها منطقة المدافن، المعروفة باسم "مدينة الموتى"، على قائمة التراث العالمي. وفي السنوات الأخيرة، كررت اليونيسكو شكواها من الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، وهددت بشطبها من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر. من جانبها تقول السلطات إن بناء الطرق أمر لا مفر منه لتنمية العاصمة، التي تختنق بسبب الكثافة السكانية. "القباب غير مسجلة في قوائم الآثار" في كل مرة يهدم فيها أحد قبور المنطقة، يكرر مسؤولون حكوميون أن المقابر ليس مسجلة على قوائم الآثار. آخر هذه التعليقات جاء الأربعاء على لسان الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، في تصريحات لصحف مصرية، الذي قال إن المباني التاريخية التي مر على بنائها أكثر من مئة عام، تسجل كمبانٍ أثرية وفقاً قانون رقم 117 لعام 1983. لكن هذه القبة ليست مسجلة على القوائم وفقاً لشاكر. يعود تاريخ القبة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي نحو 150 عاماً، وهو ما جدد النقاش حول سبب عدم تسجيل هذه القباب على قوائم الآثار حتى الآن. بشكل عام، بدأ بناء هذه المنطقة منذ مئات السنين، عقب الفتح الإسلامي لمصر. وتضم القرافة مقابر الإمام الشافعي صاحب المذهب الفقهي الإسلامي المعروف، وغيره من فقهاء الدين الإسلامي وصحابة النبي محمد. ويمكن للسائر في مدينة الموتى أن يلاحظ القباب التي تعلو كثيراً من المقابر، والزخارف الإسلامية التي نُقشت على أسوارها، والعبارات التي كتبها خطاطو العصور السابقة على أبوابها. طلب إحاطة في البرلمان بعد الانتقادات الواسعة التي أثيرت على مواقع التواصل، قال النائب البرلماني عبد المنعم إمام إنه تقدم بطلب إحاطة عبر مجلس النواب لوزيري السياحة والآثار، والتنمية المحلية بشأن هدم القبة. واعتبر إمام "هذا التصرف يمثل تهديدًا للمواقع الأثرية والتراثية" التي تشكل جزءًا مهمًا من الهوية المصرية. وتسائل إمام في طلبه الذي وجهه لرئيس مجلس النواب عن المسؤول عن قرار الهدم وما تم من إجراءات لمحاسبته وفقاً للقانون، وحول مدى التنسيق بين الجهات المعنية بحماية التراث قبل هدم هذه المقابر. ولم يكن هذا طلب الإحاطة الأول الذي تم تقديمه للبرلمان حول الأمر، لكن أيا منها لم يطرح للنقاش داخل أروقة البرلمان.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store