
تقرير سجى.. طفولة مسروقة وأمومة مبكرة تحت النار
غزة / علي البطة:
في خيمة صغيرة نصبت في أحد شوارع غزة المدمّرة، تقف سجى "أ" 17 عامًا، وهي تجهّز وجبة الغداء على نار قطع خشبية وقطع بلاستيكية.
رغم أن ملامحها لا تزال تحمل آثار الطفولة، إلا أن عينيها تعكسان وجعًا أكبر من سنوات عمرها. سجى، الحامل في شهرها السابع، لم تكن تتخيل أن طفولتها ستنتهي بهذه السرعة، وأن أحلامها الدراسية ستتبدد تحت وقع القصف والنزوح والفقد.
في صباح السابع من أكتوبر 2023، كانت سجى تستعد لتقديم امتحانها المدرسي كأي فتاة في عمرها. لم تكن تعلم أن هذا اليوم سيشكّل نقطة تحوّل في حياتها. خلال أيام قليلة، اضطرت للنزوح من منزل عائلتها في حي الأمل ببيت لاهيا بعد تصاعد غارات الاحتلال الإسرائيلي، واستقرت مع أسرتها مؤقتا في مدرسة الفاخورة بمخيم جباليا.
لكن حتى المدرسة التي لجؤوا إليها لم تكن آمنة. فبعد يومين فقط من مغادرتهم المنزل، تعرّض منزلهم للقصف "لو بقينا هناك، لما كنا أحياء الآن"، تقول سجى وهي تسترجع تفاصيل تلك اللحظات.
نزحوا دون متاع، بلا ثياب ولا طعام كافٍ، معتمدين على مساعدات محدودة.
لاحقًا، وبعد إنذارات إسرائيلية جديدة طالبت السكان بإخلاء الشمال، بدأت رحلة نزوح جديدة. سجى وشقيقها محمد (22 عامًا) توجها مشيا إلى دير البلح، وسط قطاع غزة، بينما بقي بقية أفراد الأسرة في جباليا بسبب عجزهم عن الحركة. أقاما في مدرسة إعدادية وسط ظروف صعبة، لكن ضيق الحال وشعور محمد بالمسؤولية دفعاه للعودة إلى الشمال رغم توسلات الأسرة.
ذهب ولم يعد
مرت أيام طويلة من الانتظار المؤلم، والبحث المحموم. عائلة سجى لجأت إلى المستشفيات، وإلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وسألت كل من قد يعرف شيئا.. لكن دون جدوى.
بعد أسبوعين من الغياب، أكّد الصليب الأحمر استشهاد محمد، الشاب الذي كان يعيل الأسرة، بعد أن غاب أثره طويلا "غيابه خلّف فراغا لا يُحتمل. لم نعد كما كنا"، تقول سجى والدمعة تسبق كلماتها.
في يونيو 2024، وبعد أشهر من الحزن، تقدم ابن عمها لخطبتها، لتتزوج في أجواء خالية من الفرح: لا زغاريد، لا حلوى، ولا فستان أبيض "كنت أبكي يوم زفافي. لم يكن هذا هو الحلم الذي رسمته لنفسي"، تقول سجى. جهزت نفسها بطقمين للصلاة، وعباءة بسيطة، ودبلة من مهر متواضع لم يتجاوز 500 دينار.
لم تجد مكانًا لتقيم فيه مع زوجها، فتبرع أحد الجيران بمخزن صغير أُعدّ سكنًا مؤقتا. ومع بداية الحياة الجديدة، تنقلت سجى من "عروس صغيرة" إلى "ربة منزل مسؤولة" في خيمة بلا خصوصية. الحرب حرمتها من كل خصوصية، وجعلتها تعيش حياة بدائية، مليئة بالقهر والصمت والحرمان.
مع بداية أكتوبر، اكتشفت سجى أنها حامل. كانت الفرحة ممزوجة بدموع لم تجف منذ زواجها، لا سيما بعد أشهر من الضغوط النفسية. اليوم، ينتظر الجنين أن يرى النور في خيمة تحت القصف، بينما سجى تترقب موعد الولادة برهبة كبيرة، تخشى الألم، والمصير المجهول.
رغم أنها لا تزال في مقتبل العمر، إلا أن سجى اضطرت لترك أحلامها الأكاديمية.. كانت تطمح لأن تصبح قابلة تساعد النساء، وأن تكمل دراستها الجامعية، لكن الحرب أطفأت هذا النور "لم أعد أفكر كطالبة، بل كأم تخشى على طفلها من الجوع والبرد"، تضيف.
عادت سجى وزوجها إلى بيت لاهيا ضمن قوافل العائدين سيرا على الأقدام. الطريق كان مرهقا، مشبعا برائحة الموت، وأجساد تتحلل في العراء. وصلت إلى منزل زوجها في العطاطرة، حيث وجدت نفسها تعيش داخل بناء غير مكتمل، تنام على فراش بسيط خلف ستارة من قماش، وتحلم فقط بشقة "مبلطة ومدهونة".
ومع عودة الحرب مجددا، اضطر الزوجان للنزوح مرة أخرى، هذه المرة إلى خيمة في منطقة أبو خضرة، وسط شارع عام. حياة بلا خصوصية، بلا مرافق، بلا أمل. ومع ذلك، لا تزال سجى تقاوم، تتمسك بشيء من الحياة لطفلها القادم، وتحلم ببيت صغير يمنحها بعض الأمان، ومكانا تستطيع فيه أن تستعيد شيئا من نفسها التي سرقتها الحرب.
تختصر حكاية سجى معاناة آلاف النساء والفتيات في غزة، حيث يتحول الزواج إلى ملاذ من الفقر لا من الحب، وتُسرق الطفولة تحت وطأة النزوح والحصار. إنها قصة واحدة من بين آلاف القصص التي تروي وجع الحياة تحت الحرب، ونداء عاجل من أجل إنقاذ ما تبقى من أحلام جيل ينمو في خيام الموت واليأس.
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 2 أيام
- فلسطين أون لاين
تقرير سجى.. طفولة مسروقة وأمومة مبكرة تحت النار
غزة / علي البطة: في خيمة صغيرة نصبت في أحد شوارع غزة المدمّرة، تقف سجى "أ" 17 عامًا، وهي تجهّز وجبة الغداء على نار قطع خشبية وقطع بلاستيكية. رغم أن ملامحها لا تزال تحمل آثار الطفولة، إلا أن عينيها تعكسان وجعًا أكبر من سنوات عمرها. سجى، الحامل في شهرها السابع، لم تكن تتخيل أن طفولتها ستنتهي بهذه السرعة، وأن أحلامها الدراسية ستتبدد تحت وقع القصف والنزوح والفقد. في صباح السابع من أكتوبر 2023، كانت سجى تستعد لتقديم امتحانها المدرسي كأي فتاة في عمرها. لم تكن تعلم أن هذا اليوم سيشكّل نقطة تحوّل في حياتها. خلال أيام قليلة، اضطرت للنزوح من منزل عائلتها في حي الأمل ببيت لاهيا بعد تصاعد غارات الاحتلال الإسرائيلي، واستقرت مع أسرتها مؤقتا في مدرسة الفاخورة بمخيم جباليا. لكن حتى المدرسة التي لجؤوا إليها لم تكن آمنة. فبعد يومين فقط من مغادرتهم المنزل، تعرّض منزلهم للقصف "لو بقينا هناك، لما كنا أحياء الآن"، تقول سجى وهي تسترجع تفاصيل تلك اللحظات. نزحوا دون متاع، بلا ثياب ولا طعام كافٍ، معتمدين على مساعدات محدودة. لاحقًا، وبعد إنذارات إسرائيلية جديدة طالبت السكان بإخلاء الشمال، بدأت رحلة نزوح جديدة. سجى وشقيقها محمد (22 عامًا) توجها مشيا إلى دير البلح، وسط قطاع غزة، بينما بقي بقية أفراد الأسرة في جباليا بسبب عجزهم عن الحركة. أقاما في مدرسة إعدادية وسط ظروف صعبة، لكن ضيق الحال وشعور محمد بالمسؤولية دفعاه للعودة إلى الشمال رغم توسلات الأسرة. ذهب ولم يعد مرت أيام طويلة من الانتظار المؤلم، والبحث المحموم. عائلة سجى لجأت إلى المستشفيات، وإلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وسألت كل من قد يعرف شيئا.. لكن دون جدوى. بعد أسبوعين من الغياب، أكّد الصليب الأحمر استشهاد محمد، الشاب الذي كان يعيل الأسرة، بعد أن غاب أثره طويلا "غيابه خلّف فراغا لا يُحتمل. لم نعد كما كنا"، تقول سجى والدمعة تسبق كلماتها. في يونيو 2024، وبعد أشهر من الحزن، تقدم ابن عمها لخطبتها، لتتزوج في أجواء خالية من الفرح: لا زغاريد، لا حلوى، ولا فستان أبيض "كنت أبكي يوم زفافي. لم يكن هذا هو الحلم الذي رسمته لنفسي"، تقول سجى. جهزت نفسها بطقمين للصلاة، وعباءة بسيطة، ودبلة من مهر متواضع لم يتجاوز 500 دينار. لم تجد مكانًا لتقيم فيه مع زوجها، فتبرع أحد الجيران بمخزن صغير أُعدّ سكنًا مؤقتا. ومع بداية الحياة الجديدة، تنقلت سجى من "عروس صغيرة" إلى "ربة منزل مسؤولة" في خيمة بلا خصوصية. الحرب حرمتها من كل خصوصية، وجعلتها تعيش حياة بدائية، مليئة بالقهر والصمت والحرمان. مع بداية أكتوبر، اكتشفت سجى أنها حامل. كانت الفرحة ممزوجة بدموع لم تجف منذ زواجها، لا سيما بعد أشهر من الضغوط النفسية. اليوم، ينتظر الجنين أن يرى النور في خيمة تحت القصف، بينما سجى تترقب موعد الولادة برهبة كبيرة، تخشى الألم، والمصير المجهول. رغم أنها لا تزال في مقتبل العمر، إلا أن سجى اضطرت لترك أحلامها الأكاديمية.. كانت تطمح لأن تصبح قابلة تساعد النساء، وأن تكمل دراستها الجامعية، لكن الحرب أطفأت هذا النور "لم أعد أفكر كطالبة، بل كأم تخشى على طفلها من الجوع والبرد"، تضيف. عادت سجى وزوجها إلى بيت لاهيا ضمن قوافل العائدين سيرا على الأقدام. الطريق كان مرهقا، مشبعا برائحة الموت، وأجساد تتحلل في العراء. وصلت إلى منزل زوجها في العطاطرة، حيث وجدت نفسها تعيش داخل بناء غير مكتمل، تنام على فراش بسيط خلف ستارة من قماش، وتحلم فقط بشقة "مبلطة ومدهونة". ومع عودة الحرب مجددا، اضطر الزوجان للنزوح مرة أخرى، هذه المرة إلى خيمة في منطقة أبو خضرة، وسط شارع عام. حياة بلا خصوصية، بلا مرافق، بلا أمل. ومع ذلك، لا تزال سجى تقاوم، تتمسك بشيء من الحياة لطفلها القادم، وتحلم ببيت صغير يمنحها بعض الأمان، ومكانا تستطيع فيه أن تستعيد شيئا من نفسها التي سرقتها الحرب. تختصر حكاية سجى معاناة آلاف النساء والفتيات في غزة، حيث يتحول الزواج إلى ملاذ من الفقر لا من الحب، وتُسرق الطفولة تحت وطأة النزوح والحصار. إنها قصة واحدة من بين آلاف القصص التي تروي وجع الحياة تحت الحرب، ونداء عاجل من أجل إنقاذ ما تبقى من أحلام جيل ينمو في خيام الموت واليأس. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين أون لاين
منذ 3 أيام
- فلسطين أون لاين
تقرير "رجعت بالكفن"... شهادة طفل فقد أمَّه في مذبحة المساعدات المشبوهة برفح
غزة/ نبيل سنونو: في عتمة الليل، كانت تمشي بثقل الجوع، تقود اثنين من أبنائها نحو منطقة العلم غرب رفح، وكل ما تفكر به: "والله يما لاجبلكوا كيلو طحين". أمسكت الأم بيدي ابنيها وهمست: "طملوا روسكم"، بينما كان جنود الاحتلال يمارسون هوايتهم في إطلاق النار المباشر عشوائيا تجاه الجوعى. فجأة، صرخت ابنتها: "يما". سقط جسد الأم، رصاصة استقرت في جبينها. هذا المشهد، لن ينساه الطفل أحمد زيدان الذي كان مع أخته وأمه يحاولون يوم الثلاثاء تحت وطأة المجاعة وحرب الإبادة الجماعية في غزة، الحصول على طرد غذائي مما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" التي أنشأتها سلطات الاحتلال بدعم أمريكي لأغراض عسكرية وأمنية تحت ستار إنساني، كما تؤكد المنظمات الدولية المعنية. في ذلك اليوم، ارتكبت قوات الاحتلال، مجزرة جديدة قرب مركز "المساعدات الأمريكي – الإسرائيلي" في محافظة رفح، أسفرت عن استشهاد 27 مدنيا مُجوّعا، وإصابة أكثر من 90 آخرين بجراح متفاوتة، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي. وارتفعت حصيلة الضحايا المُجوَّعين إلى 102 شهيدا و490 مصابا خلال ثمانية أيام فقط. وبذلك، يحول الاحتلال مراكز توزيع "المساعدات الأمريكية - الإسرائيلية" إلى مصائد موت جماعي وأفخاخ دموية. ووجد الطفل أحمد نفسه ضحية للجوع وتهديد الحياة، على مدار حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومنذ الثاني من مارس/آذار الماضي، تمنع قوات الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية لغزة. "بقول للشباب ميروحوش" "أنا وأختي ضلينا فوقها.. لو قمنا بنموت.. بيطخوا علينا مباشر.. ضلينا هيك لحد ما طلع النهار"، بدموع وقلب مكسور، يصف أحمد، المكلوم باستشهاد أمه، هذه الفاجعة، بينما لا تزال مصائب حرب الإبادة، تعصف به وبإخوته. على مدار ستة أيام، كان أحمد يخرج مع والدته وأخته كل مساء من السابعة حتى الفجر، إلى منطقة العلم، على أمل الحصول على ما تُسمى "كوبونة" مساعدات. "كل يوم بنمشي ٢ كيلو.. وبنضل نركض وهم بيطخطخوا علينا مباشر.. مش في السما.. مباشر"، يتابع شهادته في في مقاطع فيديو انتشرت كالنار في الهشيم بمواقع التواصل. يصف مشهدا يوميا يتكرر: "بيوقفونا (الاحتلال) على جنب الحيط.. بـ(السلاح) الجوي والكواد كابتر والزنانات والقناصات.. الإصابات والشهداء بالمئات.. مدنيين، مش عساكر". "الاحتلال والأمريكان بيكذبوا.. بيقولوا عليكم الأمان تاخدوا الكوبونة.. بس ما بناخدها.. بيذلوا فينا وبيقتلونا.. من المغرب للفجر وهم بيرموا علينا قنابل صوت وغاز وبيطخوا علينا كل دقيقة". قبل استشهادها، كانت الأم تهمس بحبها المعتاد: "والله يما لاجبلكوا كيلو طحين".. لكنها لم تصل. "الرصاصة إجت في جبينها.. أختي صرخت.. وضلينا فوقها.. لو تحركنا كنا استشهدنا، وأخيرا شردنا بالذل والمعاناة"، يواصل حديثه. بقي الطفل وأخته بجوار جثمان والدتهما لفترة، عجزت خلالها حتى اللجنة الدولية للصليب الأحمر من انتشال جثمانها تحت النار الكثيف. "إحنا مدنيين، مش عساكر.. حاملين شنط شخصية مش سلاح"، يدحض بذلك مزاعم جيش الاحتلال. ويؤكد أنه لو حصل على حقه في الغذاء، لما أجبره الجوع على سلك هذه الطريقة الخطرة للحصول على طرد غذائي مغمس بالدم. أحمد فقد أخاه أيضا في هذه الحرب: "أنا عندي ٨ إخوة.. واحد فيهم استشهد". أما إخوته الأصغر، فما زالوا يرفضون تصديق استشهاد والدتهم: "بنقولهم هيها.. بيقولوا لا مش ماما.. ماما رايحة تجيب طحين". يلخص أحمد سنة ونصف من الحرب والجوع بكلمات موجعة: "٣ شهور المعبر مسكر.. ما دقنا حبة خبز أو طحين.. ولما أمي قالت بدي أجبلكم كيس طحين.. رجعت بالكفن الأبيض". ويتابع: "غزة ماتت من الجوع.. نفسي يوم آكل لقمة منيحة.. لقمتنا مغمسة بدم أمي". ويختم بنداء: "بقول للشباب ميروحوش.. ملعونة هاي الكوبونة.. يا بتيجي باحترام يا بلاش... أمي راحت.. وقبلها أخويا.. ومش ضامنين أرواحنا"، مردفا بأسى: "بدنا نعيش بكرامة.. بدون إهانة.. لأننا بنشوف الذل والموت مية مرة كل يوم". بجوار جثمانه أمه، صرخ أحمد كثيرا، لكن الأمل في داخله انطفأ. ومع استمرار "مسرحية المساعدات" الإسرائيلية - الأمريكية بعيدا عن مؤسسات الأمم المتحدة، يبقى المجوعون، عرضة للقتل بالنيران والجوع في آن واحد. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين أون لاين
منذ 5 أيام
- فلسطين أون لاين
تقرير غزة تحوّل قنابل الموت إلى أدوات للغذاء
غزة/ جمال غيث: في منزلٍ تعرض للقصف وسط مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يكرّس الشقيقان محمد وأنس أبو شنب جهدهما لتحويل أدوات الموت إلى وسيلة للحياة. فمن بقايا القنابل الدخانية والنارية، يصنعان مواقد بدائية تساعد سكان القطاع المحاصر على طهو الطعام، مع انعدام الغاز والوقود. في زاوية مهدّمة من المنزل، يعمل محمد بمطرقة حديدية على تعديل أسطوانة معدنية انتشلها من بين أنقاض المخيم. هذه الأسطوانة، التي كانت في الأصل قنبلة دخانية أو إنارة ألقاها جيش الاحتلال خلال عدوانه المتواصل على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، أصبحت اليوم حجر الأساس في موقد نار محلي الصنع. قنابل دخانية يقول محمد، وهو خريج تخصص الهندسة الطبية: "القنابل التي أُلقيت على المخيم كانت تُستخدم لإجبار السكان على النزوح. بعضها انفجر، وأخرى تحولت إلى كتل من الحديد، لكننا رأينا فيها فرصة للبقاء." ومع اشتداد الحصار ومنع إدخال الوقود والغاز منذ بداية الحرب، قرر الشقيقان اللجوء إلى هذا الخيار البديل، مدفوعين بالضرورة وروح الابتكار. ويشرح محمد آلية صناعة الموقد، قائلًا: "نجمع قطع الحديد من الزوايا المهدمة أو نشتريها من سوق الخردة بأسعار معقولة، ثم نفرّغ القنابل الدخانية من الداخل، ونثقبها، ونثبت داخلها شبكة حديدية لتكون غرفة احتراق." يتم تجميع هذه القطع في شكل هندسي مربع بطول نحو 30 سم، وتُثبَّت بواسطة البراغي. يُركّب أنبوب حديدي صغير يُوصل بالموقد، ويُضخ فيه الهواء عبر مروحة صغيرة أو منفاخ يُغذى ببطارية أو مصدر كهربائي محدود. ويضيف أبو شنب: "الموقد يستخدم المخلفات البلاستيكية مثل خراطيم المياه المدمّرة وخزانات المياه المحترقة كوقود بديل، في ظل شحّ الحطب وارتفاع أسعاره بشكل كبير. وكلما أضفنا مزيدًا من البلاستيك، زاد اللهب. إنه بسيط لكنه فعّال." مشروع صغير بعد توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة "حماس" والاحتلال الإسرائيلي في 19 يناير الماضي، بوساطة مصرية وقطرية وبدعم أمريكي، عاد الشقيقان إلى منزلهما المدمر، واشتريا موقدًا بدائيًا. لكن الاتفاق لم يصمد، إذ انقلبت (إسرائيل) عليه في 18 مارس، فعادت المعاناة من جديد. غير أن التجربة الأولية كانت كافية لزرع بذور مشروع صغير. ويقول أنس: "بعدما نجح أول موقد صنعناه، بدأ الجيران يطلبون منا مواقد مماثلة، فالناس بحاجة ماسة للطهي، ولا يوجد غاز، والحطب نادر وباهظ الثمن." أصبح الاخوان يصنعان المواقد للآخرين بأسعار رمزية مقارنة بما يفرضه السوق من أسعار باهظة. ويتابع أنس: "نحاول أن نبقي السعر في متناول الجميع. لا نهدف إلى الربح، بل إلى تقديم حل في وقت يعاني فيه الجميع." صديق للبيئة ورغم أن البلاستيك مصدر معروف للتلوث، يؤكد الشقيقان أن المواقد مصممة بعناية لتقليل الدخان إلى أدنى حد. ويقول محمد: "الدخان الناتج محدود جدًا، واحتراق البلاستيك يتم بشكل سريع ومباشر مع تدفّق الهواء." ويُبيّن أن صناعة الموقد الواحد تستغرق ما بين 7 ساعات إلى يوم كامل، حسب توفر المواد الخام. الأمر مرهق لكنه يستحق. وقطاع غزة، المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا، اعتاد أهله على إيجاد حلول إبداعية للنجاة. ففي ظل انقطاع الوقود، لجأ السكان لاستخدام بدائل كالحطب، والفحم، وحتى الكرتون. أما الآن، فالقنابل التي كانت تهدف إلى إخافتهم، أصبحت وسيلة لصناعة الدفء. ويختم محمد حديثه قائلًا: "ما نفعله ليس فقط محاولة للبقاء، بل هو رسالة: لن نُهزم رغم الحصار، وسنحوّل أدوات الدمار إلى حياة بأيدينا." المصدر / فلسطين أون لاين