logo
الخارجية السودانية: نهب المتحف القومي "تدمير متعمد" للتاريخ

الخارجية السودانية: نهب المتحف القومي "تدمير متعمد" للتاريخ

Independent عربية٠١-٠٤-٢٠٢٥

"لم يبقَ سوى عدد قليل من التماثيل، مع فقدان آلاف القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن من ممالك النوبة والكوش"، عنوان عريض في "ذا غارديان" البريطانية والإشارة الواضحة هنا إلى المتحف الوطني السوداني الذي كشفت صور جديدة عن حجم النهب الذي تعرض له خلال عامين من الحرب المستمرة في البلاد، بحيث جُردت غرفه من كنوز لتاريخ عريق يمتد لآلاف السنين.
وكان مقطع فيديو نشرته صحيفة "سودان تريبيون" أظهر المتحف وقد جرّد بالكامل، فبقيت بضعة تماثيل ضخمة فقط، من بينها تمثال الملك تهارقا الذي يزن نحو سبعة أطنان، وربما كان ثقله سبباً في إنقاذه من السرقة، ليبقى الملك الذي حكم مصر وكوش (شمال السودان حالياً) من عام 690 إلى عام 664 قبل الميلاد، وفي مقاطع أخرى بدت غرف منهوبة وخزائن عرض محطمة.
وهذا المتحف يعتبر الحارس الرئيس في السودان للتراث التاريخي للبلاد وتأسس عام 1971 في بدايات عهد الرئيس السابق جعفر النميري، في إطار مشروع للتوثيق والحفظ للمواد الثقافية القديمة في السودان. أما بالنسبة إلى موقعه فهو في مكان استراتيجي في الخرطوم القديمة، حيث يطل على النيل الأزرق قبيل التقائه النيل الأبيض في مقرن النيلين.
ويتكون المتحف من قسمين رئيسين، الأول عبارة عن حديقة خارجية بها مساحات خضراء مورقة تضم قناة مائية ترمز إلى النيل، وفي هذا الموقع أعيد بناء وتجسيد آثار ومعابد من العصور النبتية (ما قبل المسيحية) والمسيحية، بعد إنقاذها من الفيضانات التي سببها بناء سد أسوان خلال الستينيات.
أما القسم الثاني من المتحف، فهو عبارة عن مبنى من طابقين يضم مجموعة ضخمة من القطع الأثرية النادرة تغطي جميع مراحل وعهود الحضارات السودانية، من أوائل العصر الحجري القديم حتى العصور النبتية والمروية والمسيحية إلى الإسلامية منذ عام 1505 بنشوء دولة الفونج أو سنار.
ويضم المتحف ما يقدر بـ100000 قطعة أثرية تعود لآلاف السنين من تاريخ البلاد، وتحظى مجموعة القطع الأثرية النادرة التي تنتمي إلى حضارة كرمة (2500-1800 قبل الميلاد) باهتمام خاص من جانب الزوار. كما أن المتحف يضم مومياوات يعود تاريخها لـ2500 قبل الميلاد، مما يجعلها من أقدم وأهم الآثار في العالم.
واتهمت وزارة الخارجية السودانية عبر تعميم صحافي اليوم الثلاثاء، قوات "الدعم السريع" بتنفيذ تدمير معتمد للمتحف القومي السوداني "ونهب مقتنياته التي تلخص حضارة سبعة آلاف عام، مع استهداف جميع المتاحف الموجودة في العاصمة الكبرى، وهي متحف بيت الخليفة ومتحف الإثنوغرافيا ومتحف القصر الجمهوري ومتحف القوات المسلحة ومتحف التاريخ الطبيعي في جامعة الخرطوم، إلي جانب متحف السلطان علي دينار بالفاشر".
وتابع البيان "في الوقت نفسه استهدفت الميليشيات دار الوثائق القومية وعددا كبيراً من المكتبات العامة والخاصة والجامعات والمعامل والمساجد والكنائس ذات القيمة التاريخية في العاصمة وود مدني، مما يوضح أن المخطط كان يستهدف محو الهوية الثقافية الوطنية"، بحسب البيان.
وكانت صحيفة "ذا غارديان" نقلت تصريحاً لأمين المتحف الإثنوغرافي في الخرطوم النذير تيراب أبكر هارون، بأن "فريقاً متخصصاً زار الموقع بعد طرد قوات 'الدعم السريع' لتقييم الأضرار التي ستُوثق ضمن تقرير"، موضحاً أن "المأساة كانت هائلة، إذ فقدت معظم القطع الأثرية النادرة في المتحف، إضافة إلى الذهب والأحجار الكريمة الثمينة".
وشملت السرقة العناصر المعروضة للعامة، فضلاً عن تلك المحفوظة داخل غرفة محصنة، بما في ذلك الذهب، ويخشى تهريبها إلى خارج السودان لبيعها في بلدان أخرى.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخارجية السودانية ذكّرت بأن ما جرى عبارة عن عمل ممنهج استهدف التاريخ والتراث القومي للبلاد، موضحة أن المحفوظات الأثرية في المتحف القومي تعرضت للنهب والتهريب عبر اثنين من دول الجوار، واعتبرت في بيانها أن تلك الاعتداءات تشكل جرائم حرب بموجب المادة 8 من "نظام روما" الأساس و"اتفاقية لاهاي" 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات، و"اتفاقية يونيسكو" لعام 1970 بخصوص حظر الاتجار بالممتلكات الثقافية، كما تماثل سلوك الجماعات الإرهابية في استهداف الآثار والتراث الثقافي للمجتمعات.
وأكدت أن "حكومة السودان ستواصل جهودها مع 'يونيسكو' والـ"إنتربول" وكل المنظمات المعنية بحماية المتاحف والآثار والممتلكات الثقافية، لاستعادة ما نُهب من محتويات المتحف القومي وبقية المتاحف ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. وتطالب المجتمع الدولي بإدانة ذلك السلوك الإرهابي من الميليشيات ومن يقفون وراءها". وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) دعت في وقت سابق تجار الفن إلى عدم الاتجار أو استيراد أو تصدير القطع الأثرية المهربة من السودان .
وتنقل "ذا غارديان" مشاعر لسودانيين عن حجم هذه المأساة الثقافية التي تضاف إلى الوضع الإنساني، وتقول إن السودانيين شعروا بعمق بحجم الضرر الذي لحق بالمتحف والتراث السودانيين. وتنقل عن هالة الكارب، وهي ناشطة بارزة في مجال حقوق المرأة السودانية أن "رؤية متحف السودان الوطني ينهب ويدمر على يد قوات 'الدعم السريع' كانت من أكثر الجرائم إيلاماً... لقد شعرت بالخجل والغضب"، فبالنسبة إليها وإلى أصدقائها يمثل المتحف ذكريات لا تنسى، إذ كنّ خلال أعوام الدراسة يتجولن في المبنى معجبات بالقطع الأثرية من الممالك القديمة، ويتظاهرن مازحات بأنهن الملكات اللواتي جرى تصويرهن.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

معيلات غزة ينتزعن قوت أطفالهن بإرادة منهكة
معيلات غزة ينتزعن قوت أطفالهن بإرادة منهكة

Independent عربية

timeمنذ 2 أيام

  • Independent عربية

معيلات غزة ينتزعن قوت أطفالهن بإرادة منهكة

تتلمَّس خولة رؤوس أطفالها بحنِّية ثم خرجت وإياهم من الخيمة التي يعيشون فيها إلى مكان الفرن، تخاطبهم قائلة "أحمد، عليك جمع الحطب، وأنت يا تامر أشعل النار لنبدأ في خبز الأرغفة وتوزيعها للناس، أما أمل فستتولى مهمة المحاسبة". بعدما فقدت خولة زوجها في الحرب الإسرائيلية على غزة وجدت أسرتها بلا معيل وتعقدت حياتها كثيراً، إذ باتت عاجزة عن تلبية حاجات صغارها، واضطرت إلى العمل لمواجهة ظروف الحرب القاسية أسوة بباقي نساء غزة. فرن من طين تقول خولة "أصبح صغاري بلا معيل يعينهم على توفير أدنى حاجاتهم اليومية، وحينها وجدت نفسي أمام تحديات صعبة، وقررت العمل في أي شيء، واليوم أدير مشروعاً صغيراً، إنه فرن من طين أخبز عليه أرغفة النازحين في مراكز الإيواء بمقابل مبلغ مادي". أصبحت خولة المعيل الوحيد لأسرتها، وتوقفها عن العمل لأي يوم يعني جوع صغارها. وتضيف "أوزع طاقتي بين حزن الفقدان والمسؤولية الثقيلة من أمور خيمة الإيواء والعمل لتوفير طعام لنا، ما أقوم به يعد محاولة للبقاء". تعمل خولة يومياً نحو 12 ساعة متواصلة، وتوضح أنها تواجه أزمات مركبة بعد موت زوجها، لا سيما بعدما اشتد الحصار وتوقفت المساعدات وارتفعت أسعار البضائع، وهذه أسباب جعلتها غير قادرة على إطعام أطفالها. تواجه النساء صراعاً نفسياً مرهقاً بسبب فقدانهن أزواجهن أو أبناءهن (أ ف ب) تعجن الطحين للنازحين أما نرمين فهي تبدأ يومها قبل شروق الشمس، فتذهب للوقوف في طوابير التكايا للحصول على وجبة طعام واحدة، ثم تتجه لعجن العجين لجاراتها مقابل أجر مادي بسيط، تقول "تعرضت لصدمة حقيقية غيرت مجرى حياتي حين بُترت قدم زوجي نتيجة قصف إسرائيلي، بعدها باتت أسرتي بلا معيل". وتضيف "هذا الأمر دفعني للعمل في عجن الطحين للنازحين مقابل أجر مادي، الأموال التي أحصل عليها أشتري ما يحتاج إليه صغاري من مستلزمات وأشتري الدواء لزوجي، وأعمل في ظروف صعبة للغاية". لم تعمل نرمين يوماً في حياتها، وكانت ربة منزل، لكن فجأة وجدت نفسها المسؤولة الوحيدة عن أربعة أطفال، وتوضح "في البداية، كنت أعيش على المساعدات، لكنها لم تكن كفيلة بتوفير حاجاتنا اليومية، الأمر ليس سهلاً، لذلك اضطررت إلى العمل". ضاعفت الحرب نسب الفقر لتصل إلى 98 في المئة في صفوف النساء (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة) خياطة اتجهت سمية للعمل في الخياطة لمساعدة زوجها على تلبية حاجات أسرتهما، وتقول "ارتفعت أسعار البضائع 4000 ضعف ثمنها الحقيقي، ولم نعد قادرين على شراء الطعام، فكرت في الأمر ووجدت نفسي مجبرة على خياطة الملابس وبيعها". تحقق سمية هامش ربح بسيطاً، وتضيف "بتنا نأكل من الأموال القليلة التي نجنيها، اليوم عمل النساء في غزة ليس لإثبات الذات، وإنما للمساهمة في إطعام الأطفال، في الحقيقة أعاني الإرهاق الشديد جراء صعوبة المواءمة بين أن أكون أماً وامرأة عاملة". تعتقد سمية أنها مجبرة على العمل لمواجهة التحديات، وتشرح "المؤسسات الإغاثية توقفت عن توزيع المساعدات الإنسانية نتيجة إغلاق المعابر ومنع إسرائيل من إدخال المساعدات لغزة، لم أجد حلولاً بهدف توفير قوت أطفالنا سوى العمل". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) شيف متعثرة قبل أيام باعت غدير آخر قطعة ذهب كانت معها، واشترت بثمنها مواد غذائية وأخذت تصنع وجبات منزلية تبيعها في الأسواق، تقول "أحاول التغلب على الغلاء الشديد الذي طاول كل شيء". لم يستمر مشروع غدير طويلاً وفشلت في مهمتها، مما دفعها للتقدم بطلب وظيفة شيف في مطبخ خيري، تضيف "أجيد الطبخ، وقد حصلت على عديد من الدورات في السابق، والحصول على راتب سيمكنني من تخفيف أزمات أسرتي". وإلى جانب التحديات الاقتصادية تواجه النساء صراعاً نفسياً مرهقاً بسبب فقدانهن أزواجهن أو أبناءهن المسؤولين بصورة مباشرة عن توفير متطلباتهن ومتطلبات عائلاتهن، وتركهن في مواجهة واقع لا يمنحهن الوقت الكافي للحزن. نساء غزة يعملن في ظروف صعبة للغاية (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة) أرامل وفقاً لبيانات المركز الفلسطينية للإحصاء (مؤسسة حكومية) فإن الحرب على غزة ضاعفت نسب الفقر لتصل إلى 98 في المئة في صفوف النساء، وتخطت نسب البطالة حاجز الـ80 في المئة، وهذه العوامل خلقت ضغطاً اقتصادياً هائلاً على الأسر، مما أجبر النسوة على العمل. يقول المتحدث باسم الصليب الأحمر في غزة هشام مهنا، "مئات آلاف الأسر في غزة باتت تحت خط الفقر، يفقد الناس حياتهم بسبب عدم توفر الغذاء، نريد أن نرى استجابة إنسانية مستقرة حتى يحدث التغيير المطلوب". وبحسب عمليات الرصد فإن 80 في المئة من النساء بدأن عملهن في الحرب بسب خسارتهن أزواجهن. تقول أماني "لا يتوقف الفقد عند خسارة الشريك فحسب، بل يبدأ بعده شكل آخر من الألم، كثير من النساء يجدن أنفسهن فجأة في مواجهة مسؤوليات لم يخطر لهن يوماً أن يحملنها وحدهن". أُجبرت أماني على العمل في تصليح الأحذية، وتضيف "تشكل مسؤولية البيت عبئاً تضاعف بعدما سقط زوجي ضحية الحرب، أجبرت كأرملة أن ألعب دور الأب والأم المربية والمعيل، فأصبحت المسؤولة الوحيدة عن تأمين الطعام والتعليم والدواء، فأطفالي في حاجة إليَّ". تفيد بيانات جهاز الإحصاء بأن 13 ألف سيدة في غزة فقدن أزواجهن في الحرب، وأصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن، مما زاد عليهن الأعباء الثقيلة التي يحملنها في ظل واقع اقتصادي خانق. كل يوم قتال إضافي يحمل تحدياً جديداً (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة) أسوأ أعباء تقول مديرة مركز شؤون المرأة آمال صيام "تحولت حياة النساء إلى جحيم، حياتهن عبارة عن مفاضلة بين الغذاء والدواء أو التعليم والجوع، كل يوم إضافي في القتال يحمل تحدياً جديداً، نحن نواجه تزايداً في أعداد النساء المحتاجات للدعم بعد الحرب، الأولوية الآن لتوفير برامج الاستجابة الطارئة". من جانبها تقول ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في الأراضي الفلسطينية ماريس غيمون، "الحرب لم تكن أبداً محايدة على صعيد النوع الاجتماعي، في غزة مليون امرأة وفتاة يتحملن أعباءً تفوق قدرتهن، إنهن جائعات ومنهكات ومريضات، وعلى رغم ذلك يعملن، وإنما بصعوبة بالغة". وتضيف "كل امرأة قابلتها كانت قصة فقدان، غزة هي أكثر من مليوني قصة عن الفقدان، ولكن على رغم ذلك لاحظت أن النساء يعملن في ظروف صعبة للغاية واقتصاد منهار، إنهن يواجهن تحديات كبيرة من ضغط نفسي وإرهاق جسدي وضعف اقتصادي".

كانت هناك حياة... ليالي الخرطوم فقدت أضواءها والضجيج
كانت هناك حياة... ليالي الخرطوم فقدت أضواءها والضجيج

Independent عربية

timeمنذ 5 أيام

  • Independent عربية

كانت هناك حياة... ليالي الخرطوم فقدت أضواءها والضجيج

قبل اندلاع الحرب كانت الخرطوم مدينة تضج بالحياة من الصباح الباكر حتى ساعات الليل المتأخرة، لم تكن تعرف السكون، وكانت المقاهي الشعبية تنتشر في الأرجاء يرتادها الشباب والطلاب، ورائحة القهوة تعبق في كل مكان، فالجامعات كانت ممتلئة بالحركة، والأسواق لا تهدأ وبخاصة السوق العربي بوسط الخرطوم الذي يعج بالبائعين والمتسوقين، حيث تتداخل أصوات الباعة مع صفارات السيارات وضجيج الحافلات الصغيرة. فالمواصلات، على رغم الازدحام، كانت شرياناً نابضاً يربط الأحياء بعضها بعضاً، وداخل الحافلات تتعالى الأغاني عبر هواتف السائقين أو مكبرات الصوت الصغيرة، وفي الخلفية يتردد صوت الآذان خمس مرات خلال اليوم. الطالبة الجامعية ميسم صالح قالت "كانت الأجواء في الخرطوم دافئة وتسير ببساطة، ولم نكن نعرف معنى الخوف والحرب وأصوات المدافع. ولدت وترعرعت ومررت بكل الظروف داخل هذه المدينة، ولم أر منها قسوة قط". بينما يقول صالح الفكي بائع في السوق العربي منذ أكثر من 20 عاماً "كان محلي يفتح يومياً السابعة صباحاً ويغلق المغرب، والحركة في السوق العربي أشبه بالمقطوعة الموسيقية تتخللها أصوات الباعة، والكل هنا ودود على رغم ارتفاع درجات الحرارة صيفاً وشتاءً، إذ تصل في الصيف أحياناً إلى 50 درجة مئوية، لكن لا نبالي". وفي عطلات نهاية الأسبوع كان كورنيش النيل يمتلئ بالعائلات والحدائق تعج بالضجيج ويعلو صوت الغناء الشعبي في المناسبات، وكانت الخرطوم مدينة لا تعرف النوم ولا تنطفئ أنوارها ولا تهدأ أصواتها. نفايات ورماد صباح الخرطوم فقد طراوته، فالشمس تشرق على مدينة تكاد تكون فاقدة لكل ما يميزها، كما أن الشوارع التي كانت مليئة بالحركة والنشاط أصبحت مجرد فراغات واسعة يخترقها هواء راكد، وغاب الزحام واختفى صوت البائعين الذين كانوا يعرضون بضائعهم في كل زاوية، وغابت أصوات المركبات التي كانت تعج بها الطرقات. في شارع الجمهورية الذي يعد أشهر شوارع وسط الخرطوم لا تسمع خطوات المارة ولا ضحكات طلاب الجامعات، فجميع المحال مغلقة والنوافذ غطتها طبقات من التراب، بينما بعض الواجهات تحطمت وبعض المحال نهبت وتركها أصحابها كما هي، فارغة تماماً. أما السوق العربية، فأصبحت مساحتها صامتة، حيث أبواب المحال مغلقة بإحكام، والأرض مغطاة بفتات الزجاج. والباعة الذين كانوا يعرضون بضائعهم هنا اختفوا، وأصبح المكان يبدو كما لو أنه نسي الحياة، حتى موقف جاكسون في قلب الخرطوم، والذي كان يعد من أكثر الأماكن ازدحاماً أصبح اليوم مهجوراً، وأية حركة فيه تتم بحذر من أولئك الذين يغامرون أو لا يملكون خياراً آخر. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) اختفت روائح قهوة ست الشاي (اسم يطلق على المرأة أو الفتاة التي تبيع الشاي والقهوة في السودان) والعطور الشعبية، وكذلك رائحة الخبز الطازج، لتترك مكانها لرائحة الرماد والنفايات المتناثرة والدخان المتصاعد من حرائق مستعرة داخل أماكن عدة. نقاط تواصل الباحث في التراث أبو بكر قاسم قال "في ظل ما تمر به الخرطوم اليوم من تحديات، يتضح تأثير الحرب في التراث الثقافي والهوية المجتمعية للمدينة. فالخرطوم كانت دائماً مدينة تفتخر بتاريخها الثقافي الغني والمتنوع، والأسواق القديمة، مثل السوق العربية، كانت تشكل ذاكرة حية للمجتمع، إذ كانت مكاناً للتبادل التجاري والاجتماعي، تعج بالأصوات والألوان والروائح. وهذه الأماكن لم تكن مجرد أسواق، بل كانت تمثل نقاط تواصل بين الأجيال والثقافات المختلفة. كما أن الخرطوم كانت موطناً لعدد من المعالم الثقافية، مثل شارع الجمهورية وموقف جاكسون، التي كان يعبر عنها بأنها شرايين المدينة. وفي تلك الأماكن، لم تكن الحياة تقتصر على البضائع والسلع بل كانت تمثل ثقافة معينة تعكس الحراك الاجتماعي، من خلال نشاطات مثل المقاهي الشعبية، التي كانت ملتقى للشعراء والفنانين والمثقفين، والموسيقى الحية التي كانت تملأ الأجواء في الأوقات المسائية". وعما آل إليه الوضع اليوم، أفاد قاسم "اليوم، ومع دمار هذه المعالم وتدهور وضع المدينة يبدو أن الخرطوم فقدت جزءاً كبيراً من هذا التراث الحي. ومع ذلك، فإن الممارسات الثقافية التي كانت تتم في الشوارع، مثل الاحتفالات والمهرجانات الشعبية لا تزال في ذاكرة أهل المدينة. والموسيقى السودانية، على سبيل المثال، لا تزال تجد طريقها إلى قلوب الناس على رغم كل التحديات، إضافة إلى ذلك يُمكن ملاحظة المحاولات المستمرة من بعض الفئات للحفاظ على هذا التراث عبر المبادرات الشعبية الصغيرة، مثل اللقاءات الأدبية والفنية التي تنظم في أماكن غير رسمية، حفاظاً على الهوية الثقافية". من بقي؟ ولماذا؟ وسط الخراب الذي يعم المدينة، لا تزال بعض الوجوه صامدة، تمسك بالحياة على رغم كل الصعاب. والسؤال الذي يطرحه كثر، لماذا يبقى بعض داخل الخرطوم في هذه الظروف؟ هل هو تعلق بالمكان؟ أم ضرورة ملحة؟ أم قناعة بأن الخرطوم لا يمكن أن تموت ببساطة؟ الحاجة نورة سعيد، وهي من سكان حي الرياض شرق الخرطوم، قالت "لم أكن أتصور أنني سأظل هنا في ظل كل هذا الخراب. لكن كل مكان هنا يحمل ذكرى، وكل زاوية تذكرني بحكاية من الماضي. حتى في أصعب اللحظات، الخرطوم بالنسبة إلي هي بيت لا يمكن استبداله". فاطمة عبدالله ربة منزل تسكن حي الصحافة جنوب الخرطوم، مثل عدد من الآخرين، تجد نفسها متجذرة في المكان علىرغم الخوف والدمار. ولا يتعلق الأمر فقط بالوطن، بل بالذاكرة الجماعية التي لا يمكن أن تذبل. أما عبداللطيف عثمان الموظف الحكومي الذي يسكن حي الشجرة غرب الخرطوم، فأوضح "كل الناس كانوا يحثونني على الخروج، لكن لا يوجد مكان في الكوكب يشبه الخرطوم، لذلك عزمت على البقاء لأنه بمثابة مقاومة. وبعد الحرب بقائي هنا ليس فقط للمضي في العمل بل للحفاظ على هوية المدينة ومقاومتها للتدمير الذي نحاول اقتلاع جذوره". تحت القصف الحياة في الخرطوم أصبحت مليئة بالتحديات اليومية التي لم يكن من الممكن تصورها قبل أعوام قليلة. ومع تصاعد الأعمال العسكرية وتدهور الوضع الأمني، صار المواطنون يواجهون الحياة من زاوية مختلفة، زاوية مليئة بالأخطار والمجهول. ومع ذلك، يسعى كثر للعيش بأقل قدر ممكن من الألم، متأقلمين مع الظروف الجديدة ومتحدين الخوف. ومع استمرار النزاع والدمار الذي لحق بالبنية التحتية، أصبح الحصول على الماء والكهرباء أمراً بالغ الصعوبة. في عدد من الأحياء، قُطع الإمدادات بصورة كاملة، مما دفع الأسر إلى البحث عن مصادر بديلة، سواء كانت من الخزانات الصغيرة أو من المحطات الميدانية التي تقدم المياه بأسعار مرتفعة. ويقول صلاح محمد أحد سكان حي الصالحة بأم درمان "في بعض الأيام نعيش بلا ماء لأيام عدة، ونضطر لجلبها من مناطق بعيدة. والكهرباء اختفت وأحياناً نحتاج للضوء فقط ليلاً لنشعر بأننا ما زلنا على قيد الحياة، وتحولت الحياة اليومية إلى معركة من أجل الحصول على الماء والكهرباء، وهو ما يؤثر بصورة كبيرة على العائلات التي تحاول الحفاظ على حياتها الطبيعية وسط هذا الخراب". غياب الأمن أما غياب الأمن، فيجعل الحياة أكثر هشاشة. بينما تتنقل الأسر بين الأحياء والطرق شبه المهجورة، يواجهون خطر التهديدات الأمنية المتزايدة من الجماعات المسلحة. يقول أحمد إدريس "الناس أصبحوا يتجنبون الخروج من منازلهم بعد غروب الشمس. الشوارع فارغة، وكلما مررت من مكان مظلم شعرت وكأنك تحت رحمة المجهول، وفي ظل غياب الشرطة أو أي نوع من الحماية النظامية، أصبح الجيران يعتمدون على أنفسهم في حماية أحيائهم، وتنظيم دوريات حراسة ليلية". ويعد الجانب الأهم الآخر في حياة الناس تحت هذا الوضع الصعب هو الوصول إلى الطعام والدواء. ومع قصف بعض المناطق وتدمير محال البقالة أصبح من الصعب الحصول على المواد الغذائية الأساس، كما أن نقص الأدوية وارتفاع أسعارها جعلا كثيراً من المرضى يواجهون معركة البقاء على قيد الحياة. وهنا تروي منى بشير أم لثلاثة أطفال في مدينة بحري "أحياناً نضطر للعيش على الأطعمة الجافة فقط لأن الأسعار ارتفعت بصورة غير معقولة، والدواء غال جداً، وحينما يمرض أحد الأطفال نشعر بالعجز التام". على رغم هذا الصراع اليومي، يظهر في عدد من الأحياء مشهد من التضامن الشعبي بين الجيران، فكلما ازداد الوضع صعوبة زادت وتيرة التعاون بين أفراد المجتمع. وتظهر المبادرات الشعبية على صورة تبادل الطعام، ومشاركة المساعدات وتنظيم الحملات الجماعية لإعانة العائلات الأكثر ضعفاً. وتقول فاطمة عيسى من حي الخرطوم شرق "منذ بداية الحرب، أصبحنا نتعاون مع الجيران أكثر من أي وقت مضى، ونقدم الطعام لمن ليس لديهم شيء، ونتبادل الماء عندما تُقطع الإمدادات. نحن هنا من أجل بعضنا بعضاً". مرحلة فراق لكن في ظل هذا الواقع كيف ستكون الخرطوم؟ الباحث في الشؤون الاجتماعية عبدالمنعم الصادق يجيب "الخرطوم كما نعرفها انتهت. لا أقول إنها ماتت، لكن الخطر الذي يحدق بها يجعلها تتغير بصورة جذرية. نعيش في مرحلة فراق مع تاريخ طويل من العراقة والحداثة، لكن أعتقد أن الناس هنا قادرون على خلق شيء جديد، على رغم التحديات". ويتابع "الخرطوم اليوم في مرحلة دقيقة من تاريخها، إذ يختلط الحزن بالرجاء والأمل بالدمار. ومستقبلها قد يكون مجهولاً، لكنه بالتأكيد لن يكون كما كان في الماضي".

شواهد القبور التونسية... فن زخرفي يروي قصصا منسية
شواهد القبور التونسية... فن زخرفي يروي قصصا منسية

Independent عربية

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

شواهد القبور التونسية... فن زخرفي يروي قصصا منسية

أولت كل المجتمعات أهمية خاصة للموت وتوارثت طقوساً وممارسات خاصة به تختلف بحسب المرجعية الدينية والثقافية لكل مجتمع. وتعد شواهد القبور من أبرز فروع الفن الإسلامي لما تشتمل عليه من نقوش كتابية وعناصر زخرفة تختلف في صور حفرها وتنوع الخطوط المستعملة، وتراوح مضامين النقوش على الشواهد بين الآيات القرآنية والأدعية المأثورة وعبارات التعزية والألقاب وأبيات الشعر الرثائية، إضافة إلى هوية المتوفى. نقوش وعمائم ورخام تعاقب على تونس عديد من الحضارات، وإذا كان الموت واحداً فإن طقوسه اختلفت من حقبة إلى أخرى، كما اختلفت شواهد القبور من شمال تونس إلى جنوبها. ففي عهد الدولة الحفصية، "تمثلت الشواهد في أنصاف دوائر أعلى من مستوى الأرض، وكانت مكتوبة على الحجر أو الرخام حاملة اسم المتوفى وتاريخ وفاته وملخصاً قصيراً من سطرين لحياته، تليها القصائد الشعرية في مدح صاحب القبر، والآيات القرآنية، ويوجد بعض هذه الشواهد إلى اليوم في مقام سيدي قاسم الجليزي بساحة معقل الزعيم بالعاصمة"، وفق الباحث في التراث أنيس الورغي الذي أضاف "لم يكتفِ العثمانيون بفن النحت والزخرفة على الرخام في تزيين المساجد والقصور، بل لزخرفة شواهد القبور التي باتت تعبيراً رمزياً ثقافياً وتاريخياً يعكس عمق فن الزخرفة في تلك الحقبة". ويتابع الورغي لـ"اندبندنت عربية" أن "فترة الدولة العثمانية في القرن الـ16 تميزت فيها الشواهد بالزخرفة والنقوش، حيث يتم وضع عمود رخامي على رأس المتوفى، وتوضع العمامة الدائرية على صورة العمائم التركية حينها، وتوجد في مقام سيدي أحمد بن عروس شواهد مختلفة بينها الشاهد القبري لعثمان داي، وهو أول حاكم عسكري أمسك بزمام الأمور في تونس بعدما هزم الأتراك القوات الإسبانية عام 1574، وهو عبارة على قبر رخامي، لكن زينته ونقوشه بسيطة مع العمامة المدورة العريضة وفوقها قبة صغيرة توضع من جهة رأس الميت". كما توجد شواهد قبرية جميلة ومتنوعة في "تربة البايات الحسينيين" بالعاصمة، وتعكس هذه الشواهد المكانة الاجتماعية للمتوفى، كما تلخص سيرته الذاتية ومساره الوظيفي في الدولة. ويشير الباحث في التراث إلى أنه "بقدر ما يكون القبر كبيراً يكون المنصب الاجتماعي والقيمة الروحية للمتوفى كبيرة، حيث يأتي الرخام من إيطاليا، وتزخرف الأعمدة بأجمل النقوش، بينما تكون النقوش بسيطة بالنسبة إلى المتوفين من طبقة اجتماعية متواضعة". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في الوطن القبلي الواقع شمال شرقي تونس، وتحديداً في محافظة نابل، تميزت القبور عن سائر المقابر في جميع البلاد التونسية بفضل حرفة النقش على الحجارة التي امتهنها ساكنو المحافظة منذ أواخر القرن الـ19 إلى اليوم. تسمى الحجارة المخصصة للقبور بـ"القبرية"، وتنقش خصيصاً لتغليف قبر الميت، ولكل منها سمة تميزها عن الأخرى، كما تحمل دلالات رمزية وعقائدية تعكس الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها صاحب القبر. أحياناً يطلب أهل الميت من "النقاش" نماذج معينة من "القبريات" لتجسد عمق حزنهم وألمهم على الفقيد ورفعة شأنه من خلال زخرفة متميزة، ويتميز قبر المتوفيات من الإناث برخامة ثانية ينقش عليها "خلخال" أو "خمسة" (حلي تونسي) للدلالة على أن الميت امرأة، بينما تنقش "عمامة" أو "بلغة" (نعل تقليدي) للدلالة على أن الميت رجل. كما تشمل "نقيشة القبرية" عديد النماذج كأوراق الشجر والزهور والأغصان، وتصنف ضمن النقوش النباتية، كما نجد صوراً أخرى كالنجمة والهلال. يحفر قبره بيديه وتعكس هذه الزخارف التأثير العثماني على التونسيين، علاوة على التأثير الأندلسي في مدن تونسية على غرار تستور التابعة لمحافظة باجة (شمال غربي تونس)، وهي من أقدم المدن الأندلسية عندما وصل إليها المورسكيون قادمين من الأندلس قبل أكثر من أربعة قرون، ولا تزال آثارهم شاهدة على تلك الحقبة الزمنية، سواء في خصوصية معمارها أو في عادات سكانها، وتعد المقبرة الإسلامية بتستور تحفة فنية ومعمارية، إذ تتخذ صور القبور خصوصية مستمدة من تاريخها الأندلسي. ويؤكد رئيس جمعية صيانة مدينة تستور رشيد السوسي أن "الشواهد القبرية العادية ينقش عليها الاسم وتاريخ الولادة وتاريخ الوفاة، أما بالنسبة إلى الذين لهم مكانة علمية أو دينية فيتم وضع صورة العمامة فوق عمود يعلو الشاهد القبري، وتكون عند رأس المتوفى متجهة إلى القبلة عندما يكون المتوفى رجلاً، أما بالنسبة إلى المرأة فيوضع شاهدان، واحد من الأمام والآخر من الأسفل، أما بالنسبة إلى رجال الدين والعلماء والقضاة فيوضع شاهد متوسط الحجم بنقوش واضحة في صورة هرمية ليميز المتوفى عن غيره لمكانته الاجتماعية، ويتم غالباً استخدام خط النسخ". ويشار إلى أن وصول الأندلسيين من إسبانيا إلى تونس في القرن الـ17 تزامن مع وجود الأتراك، لذلك كانت شواهد أصحاب العلم مصحوبة بالعمامة، علاوة على أن حافظي القرآن الكريم لهم مكانة خاصة في قلوب أهالي تستور، لذا تختلف قبورهم عن باقي القبور ببناء قبة صغيرة تنتهي بفتحة من أعلى شبيهة بزوايا الأولياء والصالحين تكريماً لهم. ويلفت السوسي إلى خصوصية تتميز بها تستور إلى اليوم، وهي "المنزول"، حيث "يحفر الشخص قبره قبل الوفاة، وذلك لاتقاء المفاجآت في حال الوفاة أيام الحر أو البرد فيجد المتوفى قبره جاهزاً. استمرت ظاهرة نقش شواهد القبور من الرخام إلى اليوم في تونس، بينما تخلى التونسيون عن العمائم والزخرفة الفنية ليكتفوا بلوحات رخامية تحمل اسم المتوفى وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته، إضافة إلى آيات قرآنية وعبارات تحث الزائرين على الدعاء للميت.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store