logo
تراجع مرتقب في أسعار السيارات المستعملة المستوردة

تراجع مرتقب في أسعار السيارات المستعملة المستوردة

الشروق١٦-٠٧-٢٠٢٥
تشهد سوق السيارات الجديدة والمستعملة المستوردة من الخارج حالة من الترقب الشديد، في انتظار تطبيق الآلية الجديدة لحساب رسوم الجمركة من طرف مصالح الجمارك الجزائرية، والتي ترتكز على اعتماد فواتير الشراء من بلد الاستيراد بدل الأسعار المرجعية الأوروبية، وهو الإجراء الذي من شأنه أن يحدث 'هزة ارتدادية' في الأسعار، وفق ما أكده متابعون وخبراء في المجال.
وكما هو معلوم، فقد اعتمدت المديرية العامة للجمارك قائمة مرجعية بأسعار السيارات الأوروبية وتلك القادمة من خارج القارة العجوز على غرار الصين، لتكون هي الأساس في احتساب الرسوم الجمركية المطبقة على المركبات المستوردة الجديدة أو المستعملة على حد سواء، بالنظر لوجود نفس الطرازات لنفس العلامات الأوروبية مصنعة في الصين وبطبيعة الحال أسعارها تتضمن فوارق كبيرة جدا.
ويؤكد المتابعون أن الإجراء الجديد من شأنه أن يخفض تلقائيّا بشكل معتبر الرسوم الجمركية المفروضة على السيارات المستوردة، لاسيما تلك القادمة من الصين، والتي تعرف أسعارها انخفاضا محسوسا مقارنة بنظيرتها الأوروبية، وهو ما سيفتح الباب أمام تراجع محسوس في أسعار هذه المركبات داخل السوق الجزائرية، ويمنح فرصة أكبر للمواطنين لاقتناء سيارات بأسعار معقولة.
في هذا السياق، يرى الصحفي المختص في شؤون السيارات، نبيل مغيرف، بأنه في انتظار تأكيد الإجراءات الجديدة وتطبيقها فعليا، فإن هذه التدابير تعتبر بشرى خير بالنسبة للمواطن الجزائري الذي ينوي اقتناء سيارة جديدة أو مستعملة.
وأوضح المتحدث في تصريح لـ'الشروق' أنّ الإجراء الجديد يسمح بمراجعة آثار الرسوم الجمركية على السيارات المستوردة من كافة دول العالم، غير أن الامتيازات الحقيقية تعود بشكل واضح على السيارات القادمة من الصين، كون أسعارها منخفضة جدا مقارنة بنظيرتها الأوروبية، رغم أنها تحمل نفس العلامات العالمية.
وأكد مغيرف أن أغلب الشركات العالمية لها مصانع في الصين تنتج نفس الطرازات الموجهة للسوق الأوروبية، لكن بأسعار أقل بكثير، وهو ما سينعكس بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطن الجزائري.
وكشف المتحدث أن الإجراء تم اعتماده من قبل هيئات مختصة على مستوى الدولة الجزائرية، وهو يندرج في إطار مقاربة اقتصادية مدروسة هدفها 'تخفيف الضغط عن المواطن من دون المساس بالخزينة العمومية'، مع التأكيد على أن الاستيراد، سواء كان مباشرًا أو فرديا، يعد حلا مؤقتا إلى حين دخول مشاريع التصنيع حيز التنفيذ.
وأردف مغيرف قائلا: 'حسب دراسة قمنا بها، فإن سعر السيارة عند استيرادها من الصين، وبعد احتساب جميع التكاليف من نقل ورسوم، يصل إلى ميناء الجزائر بسعر مماثل تقريبا لذلك المعروض عند الوكلاء، وربما أقل. وهذا يعد مؤشرا إيجابيا على نجاعة الآلية الجديدة'.
وتطرق مغيرف لمثال حي يتعلق بسيارة 'سكودا كاروك'، التي كانت تخضع سابقا لرسوم جمركية تصل إلى 180 مليون سنتيم باعتبارها مركبة جديدة، لتتراجع الآن إلى حدود 108 ملايين سنتيم فقط بموجب الآلية الجديدة، ما يمثل تخفيضا بنحو 80 مليون سنتيم.
أما إذا كانت السيارة مستعملة أقل من ثلاث سنوات، فإن التخفيض في الرسوم الجمركية يقدر بـ40 مليون سنتيم مقارنة بالقيمة السابقة، وهي أرقام تؤكد حجم الانفراج المنتظر في سوق السيارات.
كما شدد مغيرف على أن أسعار السيارات في الصين معقولة جدًا، لافتا إلى أن سيارة 'كاروك' على سبيل المثال تباع بـ22 ألف يورو في أوروبا، بينما لا يتجاوز سعر نفس الطراز المصنع في الصين 14 ألف دولار، وهو ما يعد فرقا كبيرًا في صالح المستهلك الجزائري.
وخلص المتحدث إلى التأكيد على أن هذا الإجراء سيفتح بابًا للفرز بين المتعاملين الجادين وغير الجادين، مشددا على أن 'العملية ستغربل السوق، وتمنح الأفضلية للمتعاملين الذين يتمتعون بالمصداقية، خاصة أولئك الذين يتوجهون إلى استيراد سيارات ذات جودة عالمية من الصين، سواء كانت علامات محلية أو دولية تصنع هناك'.
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي والمالي نبيل جمعة في تصريح لـ'الشروق' أن مراجعة آلية احتساب الرسوم الجمركية وفق فواتير بلد الاستيراد بدل الأسعار المرجعية الأوروبية تعد خطوة إيجابية تصب في اتجاه مرونة أكبر في التعاملات الجمركية، وتساهم في تخفيف الأعباء المالية عن المواطن، خصوصا الراغبين في استيراد سيارات بأسعار معقولة.
وأوضح جمعة أن هذا القرار ينسجم مع تصريحات سابقة لرئيس الجمهورية الذي شدّد على أن 'المواطن خط أحمر'، مما يجعل من هذه الإجراءات امتدادا عمليا لرؤية الدولة في دعم القدرة الشرائية، مضيفا أن التخفيضات المنتظرة في الرسوم الجمركية ستمكن فئة واسعة من المواطنين من اقتناء سيارات مستعملة بأقل التكاليف، خاصة القادمة من دول ذات أسعار منخفضة كالصين والشرق الأوسط وأمريكا.
ورغم ترحيبه بالإجراء، شدد الخبير الاقتصادي على ضرورة التحلي باليقظة من قبل مصالح الجمارك لتفادي أي تلاعب محتمل بالفواتير أو تضخيم في نسب التخفيضات، مؤكدا أن نجاح هذه الخطوة مرهون برقابة صارمة ومتابعة دقيقة للفواتير المصرح بها عند الاستيراد.
وأشار جمعة إلى أن اعتماد الفواتير الأصلية من بلد الاستيراد سيعزز تنوع العرض ويكسر الأسعار المبالغ فيها في السوق المحلية، لكنه في الوقت ذاته نبّه إلى أن أسعار السيارات ستبقى مرتبطة بعوامل أخرى مثل تكاليف الشحن، وسعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية، خاصة الـ'يوان' الصيني، إلى جانب قانون العرض والطلب.
وختم جمعة تصريحه بالقول إن الإجراء الجديد يعيد الثقة تدريجيا لمسار استيراد السيارات المستعملة، ويمثل تيسيرا حقيقيا لشرائح واسعة من المواطنين، شرط أن يطبق بحزم وشفافية لضمان مصداقيته واستمراريته.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تقرير أمريكي: الجزائر استوردت نحو 12,4 مليار دولار من المنتجات الغذائية في 2024
تقرير أمريكي: الجزائر استوردت نحو 12,4 مليار دولار من المنتجات الغذائية في 2024

الشروق

timeمنذ 10 ساعات

  • الشروق

تقرير أمريكي: الجزائر استوردت نحو 12,4 مليار دولار من المنتجات الغذائية في 2024

كشف أحدث تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية، تسجيل ارتفاع في واردات الجزائر من المواد الغذائية خلال سنة 2024 مقارنة بالسنوات الخمس الماضية. ووفقا لذات التقرير الصادر بتاريخ 06 جوان 2025، فقد بلغت واردات الغذاء في الجزائر خلال السنة الماضية، نحو 12,4 مليار دولار أمريكي، بارتفاع قدره 0,93 مليار دولار مقارنة بالسنة الماضية 2024، و بـ 3,419 مليار دولار مقارنة بسنة 2019. وتصدّرت المنتجات الغذائية المباشرة على غرار (الحبوب والسكر والقهوة..) وكذا الحيوانات الحية، قائمة المواد المستوردة بـ 10,907 مليار دولار، متبوعة بالزيوت الحيوانية والنباتية، والدهون والشموع بـ 1,104 مليار دولار ثم المشروبات والتبغ بـ 0,374 مليار دولار. وكشف ذات المصدر، بلوغ واردات الجزائر من بودرة الحليب ومنتجات الأجبان مستوى 1,7 مليار دولار، وهو ما يعادل 15 % من واردات المنتجات الغذائية لسنة 2024. وأكد المصدر ذاته، تسجيل ارتفاع في إجمالي واردات الجزائر من المنتجات الموجهة للمستهلكين، حيث بلغت نحو 3,5 مليار دولار سنة 2024، بزيادة قدرها نحو 01 مليار دولار مقارنة بسنة 2021. وتظل دول الاتحاد الأوروبي المورد الرئيسي للمنتجات الغذائية الجاهزة للجزائر، ومع ذلك، فقد انخفضت حصتها من 48٪ في 2023 إلى 43٪ في 2024، تليها دول (ميركوسور) والتي تضم كل من البرازيل والأرجنتين والأوروغواي وباراغواي بنسبة 16٪ ثم نيوزيلندا بنسبة 14٪.

المفوضية الأوروبية: اعتماد مساعدات مالية كلية للأردن تصل لنصف مليار يورو
المفوضية الأوروبية: اعتماد مساعدات مالية كلية للأردن تصل لنصف مليار يورو

خبر للأنباء

timeمنذ يوم واحد

  • خبر للأنباء

المفوضية الأوروبية: اعتماد مساعدات مالية كلية للأردن تصل لنصف مليار يورو

وأشارت إلى أن هذا المقترح يمثل "إنجازا هاما في علاقتنا الراسخة مع الأردن، إذ يُلبي الالتزامات المنصوص عليها في الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي أُقرت في وقت سابق من هذا العام". وأعلن الجهاز التنفيذي الأوروبي أن المساعدة ستقدم على شكل قروض طويلة الأجل بشروط ميسرة. وتتضمن عملية المساعدة المالية المتعددة الأطراف الجديدة ثلاث دفعات، كل منها مرتبط بتنفيذ الالتزامات السياسية المتفق عليها. ووفق المذكرة الصادرة بهذا الصدد، سيدعم هذا التمويل احتياجات الأردن من التمويل الخارجي، مما يُسهم في استمرار ضبط أوضاع المالية العامة، ويدعم تنفيذ الإصلاحات الهيكلية. وأشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي يسعى عبر المساعدة الكلية الجديدة إلى حث الأردن على المضي قدما في أجندته الإصلاحية، وتعزيز فرص العمل والنمو الاقتصادي والاستثمار. ويكمل مقترح اليوم برنامج المساعدة الخارجية الرابع للأردن، الذي وافق عليه البرلمان الأوروبي والمجلس في أبريل 2025، والذي تبلغ قيمته 500 مليون يورو سيتم صرفها خلال الفترة 2025-2027.

تايوان.. من جزيرة محدودة الموارد إلى قلب العالم التكنولوجي
تايوان.. من جزيرة محدودة الموارد إلى قلب العالم التكنولوجي

الشروق

timeمنذ يوم واحد

  • الشروق

تايوان.. من جزيرة محدودة الموارد إلى قلب العالم التكنولوجي

هل كنت تعلم أن جزيرة تايوان، التي لا تتجاوز مساحتها 36 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها نحو 23.5 مليون نسمة، ولا تملك لا نفطا ولا غازا ولا موارد معدنية تُذكر، أصبحت اليوم أحد أعمدة الاقتصاد الآسيوي ومحورا استراتيجيا لا غنى عنه في سلاسل التوريد العالمية؟ ففي عام 2024 وحده، تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي 805 مليار دولار، فيما بلغت صادراتها حوالي 476 مليار دولار، تتصدرها الرقائق الإلكترونية التي تصنّعها بكفاءة عالمية شركات رائدة، أبرزها شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية 'TSMC'، التي تُسهم وحدها بأكثر من 164.9 مليار دولار من قيمة صادرات الجزيرة التي جعلت تايوان قلب التكنولوجيا العالمية، حيث تنتج أزيد من 50 بالمائة من الرقائق عالية الدقة عالميا. كما سجلت تايوان نموا اقتصاديا قدره 3.94 بالمائة، مع نصيب فردي يبلغ نحو 35 ألف دولار، واحتياطات أجنبية تفوق 568 مليار دولار، ومعدل بطالة لم يتجاوز 3.3 بالمائة. من الهامش إلى التميز عرفت تايوان، أو 'فورموزا – الجزيرة الجميلة' كما أطلق عليها البرتغاليون في القرن السادس عشر، أولى أشكال السيادة الصينية في عهد أسرتي مينغ ثم تشينغ، قبل أن تخضع للاحتلال الياباني بموجب معاهدة 'شيمونوسيكي' عام 1895، بعد هزيمة الصين في حربها مع اليابان، واستمر الحكم الياباني للجزيرة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين عادت رسميا إلى السيادة الصينية وفقا لإعلان القاهرة (1943) ومقررات ما بعد الحرب. لكنّ الحرب الأهلية الصينية (1945–1949) غيّرت مجرى التاريخ مجددا، إذ فر حزب الكيومنتانغ القومي إلى تايوان بعد انتصار الشيوعيين في البر الرئيسي، وأنشأ هناك حكومة تعتبر نفسها حتى اليوم الوريث الشرعي للصين، فيما أعلنت بكين قيام جمهورية الصين الشعبية على البر الرئيسي، وتتمتع تايبيه مع بكين حاليا بعلاقات اقتصادية هائلة وصل فيها التبادل التجاري إلى حوالي 300 مليار دولار، بالرغم من التوتر السياسي والعسكري المستمر. كيف بدأت تايوان نهضتها؟ بدأت نهضة تايوان من أزمة وجودية، فعقب انسحاب حكومة الكيومنتانغ إلى الجزيرة عام 1949، وجدت نفسها محاصرة سياسيا، ومعزولة دبلوماسيا، وفقيرة من الموارد، ومكتظة بموجة نزوح بشري هائلة من البر الرئيسي، فقد كانت آنذاك تعتمد بشكل شبه كامل على المعونات الأميركية لتأمين الغذاء والطاقة والاستقرار. لكن هذا الواقع سرعان ما تحول إلى إرادة إصلاح جذري، ففي بداية الخمسينيات، أطلقت الحكومة إصلاحا زراعيا شاملا وزع الأراضي على الفلاحين (24 بالمائة فقط صالحة للزراعة من 36 ألف كلم مربع)، ما أدى إلى تحرير الطاقات الإنتاجية وتحقيق اكتفاء غذائي ذاتي، حيث وفر هذا الإصلاح قاعدة اجتماعية مستقرة، وموارد أولية لبناء اقتصاد صناعي. الرهان على التعليم كقاعدة نهضوية منذ خمسينيات القرن الماضي، لم تتعامل تايوان مع التعليم كمجرد قطاع خدماتي أو التزام اجتماعي، بل اعتبرته ركيزة استراتيجية للأمن القومي وبناء الاقتصاد الصناعي التايواني، ففي جزيرة محدودة الموارد الطبيعية، أدرك صانعو القرار أن لا نهضة بلا بنية معرفية صلبة، وأن مفتاح التصنيع والتصدير والتكنولوجيا ليس في المصانع أولا، بل في المدارس والجامعات. لكن ما ميز التجربة التايوانية هو أن التعليم لم يُصمّم كمنظومة نظرية منفصلة، بل كأداة موجهة بدقة نحو دعم الاقتصاد والإنتاج والابتكار، فكل مسار تعليمي، وكل تعديل في المنهج، وكل بعثة دراسية، كان يخضع لسؤال بسيط 'كيف يخدم هذا التنمية؟' البداية العملية … التعليم من أجل التوظيف تبنّت تايوان مبكرا مبدأ 'التعليم من أجل التوظيف – Education for Employment'، لا 'التعليم من أجل التعليم'، ففي مرحلة ما بعد الإصلاح الزراعي، شجعت الدولة التعليم الثانوي المهني والتقني لتكوين قوة عاملة ماهرة ومنضبطة، قادرة على تشغيل المصانع والانخراط في برامج التصنيع الناشئة. بحلول أوائل الستينيات، كان حوالي 70 بالمائة من طلاب الطور الثانوي مسجلين في مسارات تقنية أو مهنية، كما أنشأت الحكومة كليات تكنولوجية متوسطة، وربطتها مباشرة بالمصانع عبر اتفاقيات تدريب ميداني، ما وفر تعليما تطبيقيا متزامنا مع حاجات السوق. الجامعات في خدمة الصناعة في السبعينيات، تطورت السياسة التعليمية نحو دمج الجامعات في صلب السياسات الصناعية حيث أُنشئت مراكز بحثية داخل الجامعات بتمويل حكومي مشروط بالشراكة مع القطاع الصناعي، كما تأسست جامعة تايوان الوطنية للعلوم والتكنولوجيا لتوفير الكفاءات اللازمة لمجمع هسينتشو الصناعي، الذي أصبح لاحقا مركز صناعة أشباه الموصلات (الرقائق –Chips ). وبحلول الثمانينيات، كانت كل جامعة تقنية مرتبطة إما بمنطقة صناعية أو مشروع إنتاجي، ما جعل مخرجات التعليم قابلة للتوظيف الفوري، ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي التصنيع الموجه للتصدير، ابتداء من ستينيات القرن الماضي، حيث شرعت تايوان في تبنّي النموذج التنموي المعتمد على التصنيع منخفض الكلفة والتصدير الكثيف، مدعوما ببنية تحتية متينة، وانضباط مالي صارم، وبيئة قانونية مشجعة على الاستثمار. الاستثمار في البشر… وبعثات علمية كإستراتيجية دولة أدركت تايوان أن العقول الوطنية يمكن أن تكون رأسمالا بحدّ ذاتها، لذلك، موّلت منذ الخمسينيات آلاف البعثات العلمية إلى الولايات المتحدة واليابان، في تخصصات نادرة ومباشرة الصلة بالتنمية الصناعية، حيث لم تكتف تايبيه بالإرسال فقط، بل خططت مسبقا لاسترجاع هؤلاء المبتعثين وتوظيفهم فور عودتهم في المعهد الصناعي للبحوث التقنية 'Industrial Technology Research Institute – ITRI' هو أحد الأعمدة الأساسية التي ارتكزت عليها تايوان لتحويل بنيتها الاقتصادية من اقتصاد زراعي متواضع إلى قوة تكنولوجية عالمية، وتأسيس الشركات الناشئة المدعومة من الدولة. بالمقابل، قامت بتصميم السياسات التقنية داخل الوزارات، كجزء من هندستها النهضوية، مع تضمين المراجع التطبيقية والتاريخية، حيث لم تترك تايوان مسألة التنمية التكنولوجية لـ'السوق' وحده، بل جعلت القطاع العام نفسه مهندسا للتغيير ومصمما للمستقبل، فبدل أن تكون الوزارات مجرد إدارات تقليدية، تحولت إلى منصات للتخطيط الاستراتيجي، تضم خبراء عائدين من الخارج، وتقنيين متمرسين، وأكاديميين متعاونين مع القطاع الخاص، ووفق بيانات مجلس التنمية التايواني، عاد نحو 90 بالمائة من المبتعثين الأوائل إلى البلاد، وشاركوا في إرساء البنية التقنية لصناعات المستقبل، وكان أبرزهم موريس تشانغ مؤسس شركة 'TSMC'، الأهم على الاطلاق في صناعة الرقائق في العالم. اصلاح المنظومة التعليمية.. من التلقين الى الابداع كما قامت تايوان بإصلاح المحتوى مُتجهة من الحشو والتلقين إلى الإنتاج والابداع، حيث لم تكتف الدولة ببناء مؤسسات تعليمية، بل خضعت المناهج نفسها لمراجعات متكررة، فأُلغيت المواد النظرية الزائدة، التي لا تخدم الاقتصاد، كما أُدخلت تخصصات STEM (العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، الرياضيات) بشكل مكثّف ومدمج في كل المستويات، كما فُرضت شراكات إلزامية بين المدارس ذات التخصصات الصناعية والمصانع المحلية، ليكتسب التلميذ خبرة عملية حقيقية، بحيث كان التوجه أن لا يكون الطالب مجرد متلق لمعارف جامدة، بل عنصرا داخل حلقة إنتاج تدريجية، تبدأ من الفصل وتنتهي في المصنع. ومنذ الثمانينيات، بدأت تايوان تُركز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، وعلى رأسها أشباه الموصلات، بدعم من الدولة وتوجيه دقيق للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مما مهد لولادة شركات عملاقة مثل 'TSMC'، حيث يصدق فيها القول المأثور 'في باطن الأرض لا يوجد الكثير لكن الوضع على السطح ليس كذلك'. القيادة الموجهة.. للسياسات الصناعية الذكية لقد تميزت النهضة التايوانية بوجود تفكير استراتيجي متناسق، وليست قوى متدخلة أو متداخلة بشكل بيروقراطي، أو منسحبة بالكامل كما في نماذج السوق الحر، بل كان هناك رأس يقود ويوجه، يراقب ويدعم، ويضع أهدافا واضحة للقطاع الخاص دون أن تبتلعه أو تعرقله، حيث صممت تايوان مؤسسات اقتصادية وسياسات عامة شكلت قلب نموذجها الصناعي الحديث. إنشاء البنية المؤسسية للتنمية الصناعية منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت تايوان في تشكيل بنية مؤسسية واضحة لتوجيه مسارها الصناعي، كان من أبرز ملامحها إنشاء مجلس التخطيط والتنمية الاقتصادية 'Council for Economic Planning and Development'، الذي تطور لاحقا ليصبح جزءا من المجلس التايواني للتنمية، حيث تولّى هذا الجهاز التخطيطي مسؤولية صياغة السياسات الصناعية بعيدة المدى، وضبط أولويات الاستثمار، وتنسيق الجهود بين مختلف القطاعات، وقد مثل هذا المجلس محورا أساسيا في ضبط الإيقاع الاقتصادي وتوجيه الموارد نحو الصناعات ذات الأهمية الإستراتيجية، بما يضمن تحقيق أقصى درجات التكامل بين التصنيع، والتعليم، والبحث، والأسواق. دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لا العملاقة فقط بخلاف نماذج صناعية أخرى في آسيا، مثل كوريا الجنوبية التي اعتمدت على مجموعات اقتصادية كبرى (chaebols)، اتجهت تايوان نحو بناء قاعدة إنتاجية عريضة من الشركات الصغيرة والمتوسطة، وقد اعتمدت في ذلك على سياسة شاملة للدعم، شملت توفير قروض ميسرة بضمانات عامة، ومنح إعفاءات ضريبية مرحلية لتشجيع التوسع والنمو، فضلا عن تمكين هذه الشركات من المشاركة في المعارض الدولية وتسهيل ولوجها إلى الأسواق الخارجية، كما حرصت السياسات الصناعية على ربط هذه المؤسسات مباشرة بهياكل البحث والتطوير، مثل المعهد الصناعي للبحوث التقنية (ITRI) والجامعات، مما ساعدها على تبني تقنيات حديثة وتحسين قدرتها التنافسية تدريجيا. التخطيط الصناعي عبر خرائط استراتيجية دقيقة اعتمدت تايوان مسارا واضحا في التخطيط الصناعي الاستراتيجي، قوامه تحديد 'الصناعات ذات الأولوية أي الصناعات الاستراتيجية' وفق رؤية متدرجة تُراجع دوريا، وتُسند بموارد مالية وتعليمية وبحثية مُركزة، وقد وثق المجلس التايواني للتنمية 'National Development Council' هذه المراحل في تقاريره السنوية، مبينا كيف ركزت البلاد في السبعينيات على قطاعات تقليدية مثل المنسوجات والبتروكيماويات والإلكترونيات الاستهلاكية البسيطة، بهدف تأسيس قاعدة تصديرية عريضة، ثم تطورت الأولويات خلال الثمانينيات نحو الصناعات الدقيقة، لا سيما المعلوماتية وتجميع الحواسيب الشخصية، وهو ما وثقته كذلك تقارير وزارة الشؤون الاقتصادية التايوانية (MOEA – Division of Industrial Development)، التي أشارت إلى بداية التحول نحو صناعات التكنولوجيا العالية. وفي التسعينيات، توسعت هذه الأولويات لتشمل أشباه الموصلات وتصنيع الرقائق الإلكترونية والاتصالات اللاسلكية، وذلك بالتوازي مع إنشاء مناطق علمية متخصصة في هسينتشو، وفق ما ذكرته وزارة الشؤون الاقتصادية ضمن خططها القطاعية، أما منذ بداية الألفية الثالثة، فقد انتقلت البلاد إلى الجيل الثالث من التصنيع، مع التركيز على الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقات المتجددة، مدعومة بخطط استراتيجية توجه رأس المال البشري نحو هذه المجالات ذات القيمة المضافة العالية. المناطق الاقتصادية الخاصة كمختبرات للتجريب كان إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة من أبرز أدوات تايوان لإحداث نقلة نوعية في مسارها الصناعي، إذ شُيدت هذه المناطق بوصفها مختبرات إنتاج وتجريب مفتوحة تجمع بين التصنيع عالي التقنية والبحث العلمي التطبيقي، وقد مثل تأسيس منتزه هسينتشو العلمي 'Hsinchu Science Park' سنة 1980 نقطة تحول مفصلية، إذ خُصص ليكون مركزا لأبحاث أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، ولعب دورا جوهريا في انطلاق شركات كبرى مثل ' TSMC' والشركة المتحدة للإلكترونيات الدقيقة 'UMC'. لاحقا، توسع النموذج ليشمل مناطق أخرى مثل المنتزه العلمي لجنوب تايوان والمنتزه العلمي للوسط، واللذين صُمما على المنوال ذاته، مع بنية تحتية متطورة، وتسهيلات عقارية وقانونية، وامتيازات ضريبية لاحتضان شركات ناشئة وأخرى تقنية في مختلف أطوار تطورها. وقد وثقت وزارة العلوم والتكنولوجيا التايوانية 'Taiwan MOST' هذه التجربة ضمن تقاريرها السنوية، باعتبارها إطارا فعالا لربط الجامعات بالقطاع الخاص وتحويل الأبحاث إلى نماذج قابلة للتصنيع، كما تناولت الباحثة ميغان غرين في كتابها 'أصول الدولة التنموية في تايوان – السياسة العلمية والسعي نحو التحديث'، تجربة تايوان بوصفها مثالا على 'الحاضنة الموجِهة'، حيث لا تعتمد القيادة على فرض التوجهات من أعلى، بل تفسح المجال أمام التجريب والمبادرة ضمن إطار قانوني وتنظيمي محسوب، يوفر الحماية ويعزز الابتكار في سياق تنمية موجهة ولكن غير فوقية، وقد شكلت هذه المناطق بيئة وسيطة بين البحث والسوق، وساهمت في رفع جاهزية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتبني التكنولوجيا، وسرعت من وتيرة تحول تايوان إلى مركز صناعي تقني عالمي في ظرف زمني محدود. تايوان بوصفها 'صاحب المشروع الأول' في سياق بناء صناعات استراتيجية عالية التقنية، مثل أشباه الموصلات، لم تكتف تايوان بتوفير بيئة مواتية، بل تصرفت بوصفها 'صاحب المشروع الأول'، فقد موّلت الحكومة التايوانية التأسيس الأولي لشركات محورية مثل 'TSMC'، ليس فقط من خلال ضخ الأموال، بل أيضا عبر ضمان الطلب المبدئي بفضل سياسات 'اشتر المنتوج المحلي'، وتهيئة بيئة قانونية محفزة عبر حماية متقدمة لبراءات الاختراع، وتسهيلات إدارية مدروسة تقلل من البيروقراطية دون الإخلال بالرقابة. إلى جانب ذلك، شكل الاستثمار في رأس المال البشري كعمود فقري في هذه المعادلة؛ حيث اعتمدت تايوان برامج مكثفة للابتعاث نحو جامعات مرموقة في الولايات المتحدة واليابان، مع تشجيع العودة لخدمة المشاريع التايوانية، وتوسيع التعليم التقني العالي ليتكامل مع احتياجات الصناعات الوليدة. هذا النمط من التدخل لا يندرج ضمن المفهوم الكلاسيكي للسلطة الحامية أو المنظمة، بل أقرب إلى ما تصفه الباحثة مارينا مازوكاتو في كتابها 'الدولة الريادية' بـ 'الدولة المبادرة'، التي لا تكتفي بتصحيح إخفاقات السوق، بل تستثمر في المجهول وتخلق أسواقا جديدة، وتشير مازوكاتو إلى أن النموذج التايواني في دعم الصناعات التقنية، ولا سيما أشباه الموصلات، يعدّ حالة نموذجية تشبه التدخل الأميركي في تطوير الإنترنت، والتقنيات الدوائية، والطاقة النظيفة، حيث تغامر الدولة بالأموال العامة في مشاريع مستقبلية لا تجرؤ الشركات الخاصة على المبادرة فيها بمفردها. حين يصنع التخطيط منجزات كبرى إن ما حققته تايوان يطول شرحه ووصفه، بكل أبعاده وتفاصيله، حيث يُعد تجربة ملهمة تستحق التأمل، فقد كانت السياسات الواعية التي انتهجتها قيادتها هي المنصة الأولى لإطلاق المبادرة، وتحفيز الإبداع، وبناء اقتصاد يقوم على المعرفة، لا الموارد، وعلى التخطيط، لا المصادفة. وبينما لا تمتلك تايوان موارد طبيعية تُذكر، فإنها تمتلك اليوم قاعدة صناعية متينة، وبنية تحتية متقدمة، ومدنا ذات معايير عالمية، ومشاريع هندسية مذهلة مثل 'تايبيه 101' التي وُصفت بأنها من عجائب العصر. وقطعا لم تكن تلك النهضة صدفة، بل ثمرة تخطيط دقيق، وإرادة جماعية صلبة، وعمل مؤسسي استراتيجي، جعل تايوان تتجاوز قيود الجغرافيا، ومحدودية الإمكانيات، وضغوط السيادة والسياسة، لتصنع لنفسها مكانا في الصفوف الأولى بين الأمم الصناعية والمتقدمة، فكانت جزيرة ريادية تستثمر في المجهول، وتخوض المخاطرة من أجل أفق بعيد. المصادر: كتب، مواقع، احصائيات وبيانات وأوراق بحثية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store