
جولة حول فن الإبادة العربية المعاصرة
هل سبق أن وقفتم امام لوحة كوارث الحروب 'Los Desastres de la Guerra' لفرانسيسكو غويا؟ هي سلسلة من اثنين وثمانين نقش فني لا مكان فيها للرحمة، تروي ويلات الحروب والمجاعة والموت. تخط العنف والتعذيب، وتقطيع الأشلاء والقتل. هنا جثث بلا هوية بلا رؤوس او أطراف. تعذيب بلا مبرر، ودماء سائلة كأمطار غزيرة. في كل زاوية تمزيق لأجساد واشلاء تتناثر، الكثير من الاشلاء. في تلك التحفة الفنية، لا يوجد اي أمل، فقط رعب، وحشية وتجرد من الإنسانية.
ماذا لو أخبرتكم أن هذا العمل الفني هو أكثر هدوء من الواقع الذي نعيشه اليوم؟ هذه الرسومات هي اقل اضطراب مقارنة بما يحدث الآن في واقعنا العربي…
لا، ليس هذا مقال عن الحرب، ولا هو استعراض للفن.
انا فقط أفتح لكم نافذة ضيقة، بالكاد تتسع لعين واحدة على عالمنا الحقيقي: عالم الإبادة: تفضلوا معي !
نُباد ونحن نواصل حياتنا الروتينية المملة، ونعد حلويات الأفراح، وكعك العيد و 'دبي شوكولات'، ونرسل دعوات إلكترونية لمناسبات تافهة. نسخر من بعضنا البعض، نحن الضحايا الذين أصبحوا كوميديين بالفطرة …قد نضحك كي لا ننهار، نكسر الحصار بالنكتة ونتابع أحدث صيحات الموضة ومسلسلات نتفليكس ايضا.
في ذات الوقت يموت طفل في غزة كل سبع دقائق…
انا لا اقدم لك مقالا حزينا، هو شيء اثقل من الحزن…. أحاول تذكيرك أن نهاية العالم تحدث الآن، على مرأى منك. بإمكانك أن تصرخ، مثل تلك الصرخة المشتعة في لوحة مونك 'The Scream ' أو ببساطة، أن تراقب بصمت، كما تفعل دائما.
'الإسرائيليون لا يريدون أن يروا قتلانا' (أي قتلى العرب). هكذا افتتحت جريدة هآريتس مقالها اليومي. نعم الإسرائيليون لا يريدون ان يروا معاناة شعبنا… لا يريدون رؤية الدم حتى لا ترتبك روايتهم، وتخدش الأسطورة التي صنعوها منذ 1948، عندما قرروا ان يحتكروا دور الضحية ' لأنهم ضحايا أبديون حسب الرواية الصهيونية، ولا مكان في الخيال الجماعي الإسرائيلي لضحايا غيرهم. هكذا اذن!
في 5 أيار (حسب التقويم العبري)، يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه 'عيد الاستقلال' استقلالهم السابع والسبعين… نفس التاريخ الذي نحصي فيه، نحن، نكبتنا السابعة والسبعين ايضا.
هم لا يريدون أن يروا طفل فلسطيني واحد في هذا اليوم، لا حيا ولا ميتا…
لكنهم قد يصادفون أشلاء اطفال قد تناثرت على حافة شاشة هاتف، أو عبرت فجأة أمام 'آيباد' طفل إسرائيلي يتعلم عن نشأة الدولة وبطولات الجيش الأخلاقي… مجرد رؤية هذا المشهد قد توقظ شيء لا مكان له في منظومة أمنهم القومي: عقدة الذنب.
الذنب يلوث الصفاء الأخلاقي للدبابة، وقد يزعج طيار الـF-16 في لحظة ضغط الزر، ويربك الذكاء الاصطناعي.
الذنب شعور رجعي، غير مبرمج في بروتوكولات الحروب الحديثة، ويشوش العدسة الحرارية عندما ترصد قدمان صغيرتان وجسد وتي-شيرت مقاس عشرة سنوات… الذنب قد يهدد اتخاذ القرار.
كتب رشيد الخالدي: ' يعيش الإسرائيليون في فقاعة من الوعي الزائف، وهم لا يفهمون الصراع'. عبارة الفقاعة هي استعارة فلسفية صاغها الالماني بيتر سلوترديك، الذي صور الحرب على أنها قوة مدمرة للفقاعات الحميمة. الحرب تخلق فقاعات خاصة بها من العنف والعداوة، والعنف يطرد الإنسان من مجاله الحيوي ويجعله 'رغوة' مفككة بين حطام العوالم.
في هذا المعنى، قتل الطفل هو فعل إبادة كونية مصغرة. هو انفجار لفقاعة لا يسمعها أحد. الطفل يعيش في عالم صغير، منفصل، دافئ، تتداخل فيه أنفاس الأم، أصابع اليد، الحليب، رائحة الوسادة، صوت الأبوين، نبض الدفء. إنها فقاعة حميمة من التبادل الحيوي والعاطفي. مغلقة، لا تطلب شيء من الخارج، فالطفل لا يفهم الحرب. هو لم يشكل بعد جهاز نفسي قادر على فهم معنى عدو، ودولة، وهوية، واحتلال. إنه يعيش في فقاعة ما قبل السياسة، ما قبل الأيديولوجيا.
لذلك حين يتم قتل الطفل، فإن ما يُقتل ليس 'طرف في النزاع'… حين تمر الحرب فوق هذا الكوكب الصغير تدمر كل المستقبل، وتقتل أرض لم تُكتشف بعد.
إن قتل طفل اذا هو إبادة وطعن في القلب النابض للإنسانية، لا لأن الطفل بريء، لكن لأنه لم يدخل بعد في لعبة الذنب. هو خارج المعادلة اصلا… الحرب تجره إليها كما يجر الإعصار الفراشة، بالقوة بلا اذن وبلا أثر.
سلوترديك يذكرنا ان الطفل هو التجسيد النقي لهذا العالم وحين يُقتل، تنكسر الحلقة الأولى من الانسانية. تنفجر الفقاعة قبل أن تنضج. وتولد فينا فقاعة أخرى: فقاعة ذنب كوني، لا تنفجر أبدا. الطفل الفلسطيني حين يستهدف يخرب وهم الطهارة ويصبح كل صاروخ بعدها ذنب ومسؤولية…عن هذا الذنب احدثك… وهذا الذنب يخاف منه الإسرائيليون والعالم… لأنه ذنب لا يُمحى.
لكن كما تعلمون فإسرائيل بارعة في الترميم. ترمم أساطيرها بنفس الدقة التي تعيد فيها صيانة دباباتها وطائراتها بعد كل حرب. تعالج المجازر وتطمس الدماء بتصريحات عن 'الحق في الدفاع عن النفس'.
هكذا يصنع الاحتلال الأمن القومي الحديث في فقاعة من التزييف… الطفل يجب أن يتم محوه. لأن صورته لا تتفق مع رواية المنتصر. ومع يوم الاستقلال.
مرة أخرى، امتلأت الشبكات الاجتماعية بالصور والفيديوهات: بقايا جثث أطفال، وآباء يحملون أبناءهم المصابين، وآخرون يودعون أطفالهم الموتى. نفس الصور الذي يدير الاسرائيليون وجوههم عنها لانهم لا يريدون ان يروا ماذا فعلوا.
يستمرون في تبرير حرب أصبحت منذ فترة طويلة نوبة جنون وانتقام، ويؤكدون انهم على حق لأن من يَقتل هو دائما المنتصر ومن يُقتل هو دائما الضحية. كلام منطقي، لما لا؟
الإعلام يواصل تقديم نفس السردية، تقارير خالية من أي دم، ويطمئن القتلة: لا شيء سيُعرض على الشاشة يدينكم. لن يصل إلى الجمهور سوى مشهد قوالب الكاتو بالفريز.
يمكن للإعلام الإسرائيلي أن يستمر في الكذب، ان لا يرفع صوته حتى امام انفجار أحشاء طفل في المواصي او رفح او دير البلح… يمكنه أن يطمئن جمهوره: لا داعي للقلق، لا شيء يحدث هناك سوى بعض 'العمليات' و'بعض الردود'… ولا بأس اذا تجاوز عدد القتلى 52 ألف، ولا بأس اذا كان من بينهم 15 ألف طفل… لكن لا يجب ان يفتح الإسرائيليون أعينهم على ما يتم عمله باسمهم، او بأيدي أبنائهم وبناتهم… يمكنهم أيضا، تفعيل كل آليات الدفاع النفسي، لكنهم يعرفون، في قرارة أكاذيبهم، شيء لا يمكن تغييره: إسرائيل هي التي قتلتهم.
هكذا، دون عناء، حصلنا على الإجابة كيف يمكن ذبح 52 ألف مدني في غزة … دعونا لا نسميه بالجحيم، لنلتزم بعبارة 'تصنيع التدمير الدقيق' المصطلح العطر الذي اخترعه 'أفيف كوخافي'، الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي.
وفعلا في غزة يتم قتل المدنيين بشكل جماعي تحت ذرائع 'التدمير الدقيق'، وبكلمات اخرى هو 'تجميل' القتل الجماعي من خلال لغة تكنولوجيا متقدمة.
لا شيء سيتغير، سيقال ان كل شيء كان 'دقيق'، وان الجيش 'أنذرهم'، وإن المبنى 'كان يحتوي على عناصر إرهابية'. سيجري تقديم المجزرة بوجه ناعم، كوجه أبو مازن، رئيس السلطة الفلسطينية، عندما يصافح مسؤول اسرائيلي في المؤتمر. وجهه الهادئ الذي لا يظهر عليه أدنى تعبير عن الجرح الفلسطيني، وجهه الناعم الذي يحاول إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه: العار والموافقة الضمنية على استمرار القتل والاحتلال.
لوحة تلو الأخرى، تجسد واقعنا البائس. هل يعقل ان حياتنا هي متحف للخراب والجحيم؟ لا حاجة لأسماء اللوحات، فكل ما حولنا هو لوحة. كل شارع منكوب، كل بناء مدمر، كل طفل جائع ومئات من بقع الدم المتخثر. هذا هو معرضنا الوطني الكبير: اهلا وسهلا بكم في 'فن الإبادة العربية المعاصرة'.
هل تأتي معي وتشاهد لوحة 'Man in Ruins' لكارل هوفر؟ هل توافق أنها تصوير حي لما يحدث الآن؟ هل تعرفت على الرجل وسط الأنقاض؟ هو أب او أخ او ربما جار او لا احد…هو لا احد. رجل قلق وضائع فقط، هو وحيد يقف مثلك في عالم ينهار من حوله… لكن مهلا، هذا الخراب لم يعد يثير دهشة أحد.
حياتنا، بكل بساطة، لا تساوي شئ! باهتة ومعقدة، ولا تترك أي اثر. خط صغير قد يختصر كل شيء، ويُمحى بممحاة رخيصة في لحظة! هل تستحق كل هذه الحروب، هذا الخراب، هذا العذاب… مجرد خط؟ من أجل ماذا؟ من أجل تجربة؟ من أجل أمل؟ وإذا كان الأمل في متناول اليد، فلماذا لا نمنحه للآخرين؟!
سي تومبلاي، فنان مفضل لدي، يظن أنه يمكنه رسم النهاية في لوحته 'Blooming' السعادة كما يرى، هي ألوان من الحرير، هي لا تعبر عن الدم. الأحمر في اللوحة هو الحب، هو الفرح المتناثر بين الجنون والحروب. وهكذا نعود إلى السؤال: هل يمكن للون واحد أن يغير هذا الواقع؟ ربما، لكنه بالتأكيد لا يستطيع أن يخلصنا من الخراب الذي ابتلعنا.
الالوان لا تكذب، والأحمر يصر على البقاء في أوطاننا، يطل من كل صورة، من صور الدم وصور الفرح، يصرخ في وجوهنا، يلطخ الشاشة ويسيل من قلوبنا…
لا توجد لوحة في أي متحف على وجه الارض قادرة على مضاهاة الفظاعة التي نعيشها… فظاعة ما نراه هنا!
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
نقلا عن رأي اليوم
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الصحراء
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- الصحراء
جولة حول فن الإبادة العربية المعاصرة
هل سبق أن وقفتم امام لوحة كوارث الحروب 'Los Desastres de la Guerra' لفرانسيسكو غويا؟ هي سلسلة من اثنين وثمانين نقش فني لا مكان فيها للرحمة، تروي ويلات الحروب والمجاعة والموت. تخط العنف والتعذيب، وتقطيع الأشلاء والقتل. هنا جثث بلا هوية بلا رؤوس او أطراف. تعذيب بلا مبرر، ودماء سائلة كأمطار غزيرة. في كل زاوية تمزيق لأجساد واشلاء تتناثر، الكثير من الاشلاء. في تلك التحفة الفنية، لا يوجد اي أمل، فقط رعب، وحشية وتجرد من الإنسانية. ماذا لو أخبرتكم أن هذا العمل الفني هو أكثر هدوء من الواقع الذي نعيشه اليوم؟ هذه الرسومات هي اقل اضطراب مقارنة بما يحدث الآن في واقعنا العربي… لا، ليس هذا مقال عن الحرب، ولا هو استعراض للفن. انا فقط أفتح لكم نافذة ضيقة، بالكاد تتسع لعين واحدة على عالمنا الحقيقي: عالم الإبادة: تفضلوا معي ! نُباد ونحن نواصل حياتنا الروتينية المملة، ونعد حلويات الأفراح، وكعك العيد و 'دبي شوكولات'، ونرسل دعوات إلكترونية لمناسبات تافهة. نسخر من بعضنا البعض، نحن الضحايا الذين أصبحوا كوميديين بالفطرة …قد نضحك كي لا ننهار، نكسر الحصار بالنكتة ونتابع أحدث صيحات الموضة ومسلسلات نتفليكس ايضا. في ذات الوقت يموت طفل في غزة كل سبع دقائق… انا لا اقدم لك مقالا حزينا، هو شيء اثقل من الحزن…. أحاول تذكيرك أن نهاية العالم تحدث الآن، على مرأى منك. بإمكانك أن تصرخ، مثل تلك الصرخة المشتعة في لوحة مونك 'The Scream ' أو ببساطة، أن تراقب بصمت، كما تفعل دائما. 'الإسرائيليون لا يريدون أن يروا قتلانا' (أي قتلى العرب). هكذا افتتحت جريدة هآريتس مقالها اليومي. نعم الإسرائيليون لا يريدون ان يروا معاناة شعبنا… لا يريدون رؤية الدم حتى لا ترتبك روايتهم، وتخدش الأسطورة التي صنعوها منذ 1948، عندما قرروا ان يحتكروا دور الضحية ' لأنهم ضحايا أبديون حسب الرواية الصهيونية، ولا مكان في الخيال الجماعي الإسرائيلي لضحايا غيرهم. هكذا اذن! في 5 أيار (حسب التقويم العبري)، يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه 'عيد الاستقلال' استقلالهم السابع والسبعين… نفس التاريخ الذي نحصي فيه، نحن، نكبتنا السابعة والسبعين ايضا. هم لا يريدون أن يروا طفل فلسطيني واحد في هذا اليوم، لا حيا ولا ميتا… لكنهم قد يصادفون أشلاء اطفال قد تناثرت على حافة شاشة هاتف، أو عبرت فجأة أمام 'آيباد' طفل إسرائيلي يتعلم عن نشأة الدولة وبطولات الجيش الأخلاقي… مجرد رؤية هذا المشهد قد توقظ شيء لا مكان له في منظومة أمنهم القومي: عقدة الذنب. الذنب يلوث الصفاء الأخلاقي للدبابة، وقد يزعج طيار الـF-16 في لحظة ضغط الزر، ويربك الذكاء الاصطناعي. الذنب شعور رجعي، غير مبرمج في بروتوكولات الحروب الحديثة، ويشوش العدسة الحرارية عندما ترصد قدمان صغيرتان وجسد وتي-شيرت مقاس عشرة سنوات… الذنب قد يهدد اتخاذ القرار. كتب رشيد الخالدي: ' يعيش الإسرائيليون في فقاعة من الوعي الزائف، وهم لا يفهمون الصراع'. عبارة الفقاعة هي استعارة فلسفية صاغها الالماني بيتر سلوترديك، الذي صور الحرب على أنها قوة مدمرة للفقاعات الحميمة. الحرب تخلق فقاعات خاصة بها من العنف والعداوة، والعنف يطرد الإنسان من مجاله الحيوي ويجعله 'رغوة' مفككة بين حطام العوالم. في هذا المعنى، قتل الطفل هو فعل إبادة كونية مصغرة. هو انفجار لفقاعة لا يسمعها أحد. الطفل يعيش في عالم صغير، منفصل، دافئ، تتداخل فيه أنفاس الأم، أصابع اليد، الحليب، رائحة الوسادة، صوت الأبوين، نبض الدفء. إنها فقاعة حميمة من التبادل الحيوي والعاطفي. مغلقة، لا تطلب شيء من الخارج، فالطفل لا يفهم الحرب. هو لم يشكل بعد جهاز نفسي قادر على فهم معنى عدو، ودولة، وهوية، واحتلال. إنه يعيش في فقاعة ما قبل السياسة، ما قبل الأيديولوجيا. لذلك حين يتم قتل الطفل، فإن ما يُقتل ليس 'طرف في النزاع'… حين تمر الحرب فوق هذا الكوكب الصغير تدمر كل المستقبل، وتقتل أرض لم تُكتشف بعد. إن قتل طفل اذا هو إبادة وطعن في القلب النابض للإنسانية، لا لأن الطفل بريء، لكن لأنه لم يدخل بعد في لعبة الذنب. هو خارج المعادلة اصلا… الحرب تجره إليها كما يجر الإعصار الفراشة، بالقوة بلا اذن وبلا أثر. سلوترديك يذكرنا ان الطفل هو التجسيد النقي لهذا العالم وحين يُقتل، تنكسر الحلقة الأولى من الانسانية. تنفجر الفقاعة قبل أن تنضج. وتولد فينا فقاعة أخرى: فقاعة ذنب كوني، لا تنفجر أبدا. الطفل الفلسطيني حين يستهدف يخرب وهم الطهارة ويصبح كل صاروخ بعدها ذنب ومسؤولية…عن هذا الذنب احدثك… وهذا الذنب يخاف منه الإسرائيليون والعالم… لأنه ذنب لا يُمحى. لكن كما تعلمون فإسرائيل بارعة في الترميم. ترمم أساطيرها بنفس الدقة التي تعيد فيها صيانة دباباتها وطائراتها بعد كل حرب. تعالج المجازر وتطمس الدماء بتصريحات عن 'الحق في الدفاع عن النفس'. هكذا يصنع الاحتلال الأمن القومي الحديث في فقاعة من التزييف… الطفل يجب أن يتم محوه. لأن صورته لا تتفق مع رواية المنتصر. ومع يوم الاستقلال. مرة أخرى، امتلأت الشبكات الاجتماعية بالصور والفيديوهات: بقايا جثث أطفال، وآباء يحملون أبناءهم المصابين، وآخرون يودعون أطفالهم الموتى. نفس الصور الذي يدير الاسرائيليون وجوههم عنها لانهم لا يريدون ان يروا ماذا فعلوا. يستمرون في تبرير حرب أصبحت منذ فترة طويلة نوبة جنون وانتقام، ويؤكدون انهم على حق لأن من يَقتل هو دائما المنتصر ومن يُقتل هو دائما الضحية. كلام منطقي، لما لا؟ الإعلام يواصل تقديم نفس السردية، تقارير خالية من أي دم، ويطمئن القتلة: لا شيء سيُعرض على الشاشة يدينكم. لن يصل إلى الجمهور سوى مشهد قوالب الكاتو بالفريز. يمكن للإعلام الإسرائيلي أن يستمر في الكذب، ان لا يرفع صوته حتى امام انفجار أحشاء طفل في المواصي او رفح او دير البلح… يمكنه أن يطمئن جمهوره: لا داعي للقلق، لا شيء يحدث هناك سوى بعض 'العمليات' و'بعض الردود'… ولا بأس اذا تجاوز عدد القتلى 52 ألف، ولا بأس اذا كان من بينهم 15 ألف طفل… لكن لا يجب ان يفتح الإسرائيليون أعينهم على ما يتم عمله باسمهم، او بأيدي أبنائهم وبناتهم… يمكنهم أيضا، تفعيل كل آليات الدفاع النفسي، لكنهم يعرفون، في قرارة أكاذيبهم، شيء لا يمكن تغييره: إسرائيل هي التي قتلتهم. هكذا، دون عناء، حصلنا على الإجابة كيف يمكن ذبح 52 ألف مدني في غزة … دعونا لا نسميه بالجحيم، لنلتزم بعبارة 'تصنيع التدمير الدقيق' المصطلح العطر الذي اخترعه 'أفيف كوخافي'، الرئيس الأسبق لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي. وفعلا في غزة يتم قتل المدنيين بشكل جماعي تحت ذرائع 'التدمير الدقيق'، وبكلمات اخرى هو 'تجميل' القتل الجماعي من خلال لغة تكنولوجيا متقدمة. لا شيء سيتغير، سيقال ان كل شيء كان 'دقيق'، وان الجيش 'أنذرهم'، وإن المبنى 'كان يحتوي على عناصر إرهابية'. سيجري تقديم المجزرة بوجه ناعم، كوجه أبو مازن، رئيس السلطة الفلسطينية، عندما يصافح مسؤول اسرائيلي في المؤتمر. وجهه الهادئ الذي لا يظهر عليه أدنى تعبير عن الجرح الفلسطيني، وجهه الناعم الذي يحاول إخفاء ما لا يمكن إخفاؤه: العار والموافقة الضمنية على استمرار القتل والاحتلال. لوحة تلو الأخرى، تجسد واقعنا البائس. هل يعقل ان حياتنا هي متحف للخراب والجحيم؟ لا حاجة لأسماء اللوحات، فكل ما حولنا هو لوحة. كل شارع منكوب، كل بناء مدمر، كل طفل جائع ومئات من بقع الدم المتخثر. هذا هو معرضنا الوطني الكبير: اهلا وسهلا بكم في 'فن الإبادة العربية المعاصرة'. هل تأتي معي وتشاهد لوحة 'Man in Ruins' لكارل هوفر؟ هل توافق أنها تصوير حي لما يحدث الآن؟ هل تعرفت على الرجل وسط الأنقاض؟ هو أب او أخ او ربما جار او لا احد…هو لا احد. رجل قلق وضائع فقط، هو وحيد يقف مثلك في عالم ينهار من حوله… لكن مهلا، هذا الخراب لم يعد يثير دهشة أحد. حياتنا، بكل بساطة، لا تساوي شئ! باهتة ومعقدة، ولا تترك أي اثر. خط صغير قد يختصر كل شيء، ويُمحى بممحاة رخيصة في لحظة! هل تستحق كل هذه الحروب، هذا الخراب، هذا العذاب… مجرد خط؟ من أجل ماذا؟ من أجل تجربة؟ من أجل أمل؟ وإذا كان الأمل في متناول اليد، فلماذا لا نمنحه للآخرين؟! سي تومبلاي، فنان مفضل لدي، يظن أنه يمكنه رسم النهاية في لوحته 'Blooming' السعادة كما يرى، هي ألوان من الحرير، هي لا تعبر عن الدم. الأحمر في اللوحة هو الحب، هو الفرح المتناثر بين الجنون والحروب. وهكذا نعود إلى السؤال: هل يمكن للون واحد أن يغير هذا الواقع؟ ربما، لكنه بالتأكيد لا يستطيع أن يخلصنا من الخراب الذي ابتلعنا. الالوان لا تكذب، والأحمر يصر على البقاء في أوطاننا، يطل من كل صورة، من صور الدم وصور الفرح، يصرخ في وجوهنا، يلطخ الشاشة ويسيل من قلوبنا… لا توجد لوحة في أي متحف على وجه الارض قادرة على مضاهاة الفظاعة التي نعيشها… فظاعة ما نراه هنا! أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس نقلا عن رأي اليوم


تونسكوب
٠٧-٠٤-٢٠٢٥
- تونسكوب
من التنمر إلى الجريمة: مسلسل Adolescence يفضح تأثير الثقافة الرقمية على المراهقين
أثار مسلسل "Adolescence" جدلاً واسعاً في الأوساط الاجتماعية الغربية، حيث سلط الضوء على تأثير الثقافة الرقمية المتزايد في تشكيل وعي المراهقين وسلوكياتهم، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم الرجولة المشوهة والأثر السلبي لبعض المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي. وقد قررت بعض المدارس في بريطانيا إدراجه ضمن برامجها التعليمية للتوعية بأهمية هذه القضايا، من أجل تحفيز النقاش بين الطلاب وتنمية فهمهم للتحديات التي يواجهها جيلهم في العصر الرقمي، فما هي قصة هذا المسلسل؟ تبدأ أحداث "Adolescence" عندما يُتهم صبي يبلغ من العمر 13 عامًا بقتل زميلته في المدرسة، كاتي ليونارد. تطرح العائلة ومعالج الطفل والمحقق المسؤول العديد من الأسئلة حول ما الذي حدث حقًا. بدأ المسلسل، الذي يعرض على منصة نتفليكس، في 13 مارس الماضي، وحقق شهرة واسعة تجاوزت المملكة المتحدة إلى جمهور عالمي. أثار المسلسل نقاشات حول كيفية حماية الأطفال من الكراهية والعنف ضد النساء والمحتويات الضارة على وسائل التواصل الاجتماعي. رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أكد أنه يرغب في عرض هذا المسلسل في المدارس الثانوية ووصفه كأداة تعليمية تحذيرية ضد "الذكورية السامة". كما أيد مبادرة من نتفليكس لبث المسلسل مجانًا في المدارس الثانوية في جميع أنحاء المملكة المتحدة. يتكون المسلسل من أربع حلقات، لا تتجاوز مدة الواحدة منها 65 دقيقة، ورغم قصره نجح في تقديم قصة معقدة تجمع بين البراءة والذنب، حيث تلتقي مشاعر الضحية مع دوافع الجاني. العمل من تأليف مشترك بين جاك ثورن وستيفن غراهام. تبدأ القصة باقتحام الشرطة لمنزل الفتى جيمي، الذي يُتهم بقتل زميلته كاتي. في البداية، لا تصدق عائلته هذا الاتهام، لكن بعد أن يشاهد الأب مقطع فيديو للجريمة، تتغير نظرتهم له بشكل جذري، وتبدأ العائلة في إعادة تقييم كل ما كانوا يظنونه عن ابنهم. تكشف التحقيقات في المدرسة والمقابلات مع الطبيب النفسي أن جيمي تعرض للتنمر المستمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك من كاتي نفسها على منصة إنستاجرام. المسلسل، الذي حصد أكثر من 66 مليون مشاهدة، لا يقتصر على سرد جريمة القتل فقط، بل يعمق النقاش حول مسؤولية الطفولة وتأثير الأسرة والمجتمع. يستعرض كيف يمكن أن تكون العوامل الاجتماعية والتكنولوجية هي المحفزات وراء جريمة ارتكبها مراهق في مرحلة مبكرة من حياته. في المسلسل، تبدأ العائلة في البحث عن إجابات عن كيفية انحراف طفل نشأ في أسرة مستقرة ومحبة إلى ارتكاب جريمة قتل، ويطرح التساؤلات العميقة عن الأسباب التي دفعت جيمي لهذا الفعل الوحشي. "Adolescence" يعرض بأسلوب مؤثر كيف يمكن أن يؤدي التهميش الاجتماعي والتنمر الإلكتروني إلى تحويل مشاعر العزلة إلى عنف قاتل. كما يتناول المسلسل مشكلة غياب التواصل الفعلي بين الأهل والأبناء في عصر الإنترنت، وكيف يمكن أن تسهم هذه الفجوة في تعميق مشاكل المراهقين وتفاقم الأزمات النفسية لديهم.


العرائش أنفو
٣٠-٠٣-٢٠٢٥
- العرائش أنفو
مراهقون خارج السيطرة
مراهقون خارج السيطرة برعلا زكريا تلميذ يضرب أستاذته بما يشبه شاقور بمدينة أرفود ويرسلها للمستعجلات في حالة حرجة، واقعة مؤسفة تنضاف لأخرى لا تفصل بينهما سوى ثلاثة أيام راح ضحيتها تلميذ تلقى طعنة قاتلة على يد زميل له بإقليم شفشاون. هكذا تحولت حوادث العنف في صفوف المراهقين من وقائع متفرقة إلى ظاهرة مجتمعية مقلقة تستدعي وقفة تأملية عميقة. وفي خضم هذه التحولات الاجتماعية المتسارعة، يبرز سؤال جوهري يؤرق الآباء والمدرسين والمهتمين بالشأن التربوي: كيف انزلق جيل بأكمله نحو دوامة العنف المستعصية؟ لعل السلسلة البريطانية 'Adolescence' التي تجتاح شاشات نتفليكس مؤخرا تمثل المرآة الأكثر قسوة وصدقا لهذه الظاهرة المرعبة، حيث تكشف بجرأة استثنائية عن الأسرار المظلمة للمراهقة المعاصرة في عالم فوضوي. تروي السلسلة – عبر شخصية جيمي ميلر البالغ من العمر 13 عاما – مأساة مراهق يرتكب جريمة قتل في مدرسته، لتفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات وجودية عميقة تخترق الوعي المجتمعي: هل المراهق مجرم بطبعه، أم ضحية منظومة اجتماعية مفككة تلفظ أبناءها إلى هاوية العنف؟ تتعدد مصادر هذا الانحدار المأساوي وتتشابك خيوطه بصورة معقدة، لكن السلسلة البريطانية تضع إصبعها بدقة على الجرح النازف: التأثيرات السلبية للإنترنت وثقافة التواصل الاجتماعي التي تجتاح عقول المراهقين دون رقيب. فمنصات التواصل تحولت إلى مختبر خطير للعنف الرمزي والجسدي، حيث يتشكل وعي المراهق من خلال سموم الذكورية المتطرفة وخطابات الكراهية التي تغذي النزعات العدوانية الكامنة. الشاهد الأبرز في العالم الغربي يتمثل في تأثير شخصيات مثل 'أندرو تيت'، الذي أصبح أيقونة للمراهقين رغم ترويجه لثقافة ذكورية متطرفة تمجد العنف وتحط من قيمة المرأة وتكرس النظرة الاستعلائية. وفي المشهد المغربي، تتعدد النماذج المشابهة التي تستقطب اهتمام المراهقين وتسهم في تحطيم المنظومة التربوية والقيمية التقليدية. هذه المنظومة الفكرية السامة تجد طريقها بسهولة مخيفة إلى عقول المراهقين الباحثين عن الهوية والتأكيد في عالم لا يمنحهم مساحات كافية للتعبير والإبداع. بيد أن المسألة لا تتوقف عند حدود التأثيرات الرقمية وحدها. فالتفكك الأسري المتزايد، وتراجع دور المؤسسات التربوية، والضغوط الاقتصادية المرهقة، وانتشار المؤثرات العقلية بين المراهقين بصورة غير مسبوقة، كلها عوامل متضافرة تساهم في تشكيل بيئة محفوفة بالمخاطر النفسية والاجتماعية تغذي السلوكيات العدوانية. الأخطر من ذلك كله أن الظاهرة تجاوزت فضاء المدرسة والشارع لتقتحم الفضاء العائلي نفسه. فقد سجلت حالات متعددة تورط فيها مراهقون في إيذاء وقتل والديهم أو إخوتهم بعد خلافات عائلية، الأمر الذي يعمق من أبعاد الأزمة ويؤشر على تصدع القيم الأساسية التي تحكم المجتمع. فالعنف لم يعد مقتصرا على الشارع أو المدرسة، بل اقتحم أقدس المساحات: البيت والعلاقات العائلية التي كانت تمثل الملاذ الآمن الأخير. في مواجهة هذه الظاهرة المقلقة، ثبت عجز المقاربات الأمنية التقليدية عن احتواء المشكلة. فالحلول القمعية لا تعالج جذور الأزمة، بل قد تزيد من تفاقمها من خلال تعميق شعور المراهقين بالاغتراب والعزلة. ما نحتاجه حقا هو منهجية شاملة متعددة الأبعاد تتجاوز المسكنات المؤقتة لتعالج الأسباب العميقة للظاهرة. يتطلب الأمر إعادة نظر جذرية في المنظومة التربوية بأكملها، بحيث تركز على بناء شخصية متوازنة للمراهق وليس مجرد تلقينه المعارف النظرية. كما يستدعي تفعيل برامج متخصصة للدعم النفسي داخل المؤسسات التعليمية، وتأهيل الأسر للتعامل مع تحديات المراهقة في العصر الرقمي، وتنظيم صارم للمحتوى الإلكتروني الذي يستهدف الفئات العمرية الهشة. سلسلة 'Adolescence' ليست مجرد عمل فني يسعى للإثارة، بل هي صرخة إنذار مدوية تدعونا للوقوف طويلا أمام المرآة والاعتراف بعمق الجرح النازف في جسد المجتمع. إنها دعوة صريحة لمراجعة الذات المجتمعية والفردية، وإعادة النظر في المنظومة القيمية التي نورثها للأجيال القادمة. في النهاية، يجب أن ندرك أن المراهق ليس وحشا يجب إقصاؤه أو معاقبته، بل إنسان في طور التكوين يحتاج للفهم والاحتواء والتوجيه السليم. والمعركة الحقيقية ليست ضد المراهق نفسه، بل ضد المنظومات الاجتماعية والتربوية والإعلامية التي تدفعه – عن قصد أو غير قصد – نحو هاوية العنف والتطرف.