
مستوطنون يقحمون أنفسهم في أعمال ترميم بالأقصى
لم يكتفِ المستوطنون المقتحمون للأقصى في الأول والثاني من يونيو/حزيران الجاري بتدنيس المسجد الأقصى بطقوسهم وصلواتهم التي أدوها بمناسبة "عيد الأسابيع" اليهودي، بل تعمدوا إثارة الجدل بتصويرهم مقطع فيديو تظهر خلاله أرضية تخضع لعملية ترميم أمام باب القطّانين.
وأرسل هؤلاء المقطع للصحفي الإسرائيلي أرنون سيغال الذي يعدُّ أحد أبرز نشطاء جماعات الهيكل ، والذي يقتحم الأقصى بشكل مستمر وينظم جولات إرشادية في ساحاته، ويتغنى بإنجازات المتطرفين فيها.
سيغال نشر صورة للموقع الذي يخضع للترميم، وكتب خبرا على موقع "المصدر الأول" الإخباري الإسرائيلي وجاء فيه أن "اليهود الذين صعدوا إلى جبل الهيكل (المسمى التوراتي للمسجد الأقصى) دُهشوا لرؤية جصّ جديد يغطي أرضيات قديمة في الجانب الغربي، وهي الأرضية التي ينسبها لين ريتماير إلى عهد هيرودوس".
تدخل سافر
وتابع سيغال أنه توجّه لسلطة الآثار الإسرائيلية وسألها عما إذا كان الترميم الذي يتم في هذا الموقع قانونيا، "لأن أعمال الترميم التي تُجرى في موقع أثري يستخدم لأغراض دينية يحتاج إلى موافقة لجنة وزارية، وإشراف دقيق من سلطة الآثار الإسرائيلية".
وجاء رد سلطة الآثار كالآتي "كان الجزء الذي تم ترميمه يُشكل خطرًا على السلامة، حيث نشأ انخفاض نتيجة لعدم وجود رصف حجري، وقد رُدم الانخفاض منذ زمن بعيد بالخرسانة الحديثة، مما تسبب في إتلاف الرصف الحجري القديم".
وتابعت هذه الهيئة الإسرائيلية أن أعمال الترميم أُجريت بتنسيق كامل معها ومع الشرطة الإسرائيلية، اللتين زارتا الموقع عدة مرات وفحصتا الوضع بدقة وشمولية، وقررت سلطة الآثار وضع مادة ردم معينة لمنع المزيد من الضرر الذي قد تُلحقه الخرسانة العادية بالأحجار المجاورة، وأضافت أنه "في الأيام المقبلة، سيتم صنفرة هذه المواد، ووضع ألواح حجرية فوقها، بحيث يمتزج الترميم بشكل مثالي مع الرصف الموجود في الموقع".
الجزيرة نت توجهت للباحث في تاريخ القدس إيهاب الجلاد وسألته في البداية عن أسباب هبوط الأرضية في هذا الموقع من الأقصى تحديدا، وقال إن هذه المنطقة قريبة جدا من الحائط الغربي للمسجد والتي يمر أسفلها النفق الغربي ، وبالتالي فإن الحفريات كانت وما زالت دائما موجودة، وبالإضافة إلى تلك الحفريات التقليدية في منطقة الحائط الغربي التي نفذت في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي توجد حفريات أخرى أسفلها.
وتتمثل هذه الحفريات وفقا للباحث المقدسي بالنفق السفلي، ويضاف إليها حفريات أسفل ساحة البراق ويريدون من خلالها رفع الساحة ليكون أسفلها قاعة، وهذا جلّه يؤثر بالتأكيد على الجهة الغربية بشكل عام.
الأرضية إسلامية بحتة
وبالنسبة للأرضية الحجرية الضخمة التي هبطت قرب باب القطّانين يؤكد الجلاد أنها من زمن الناصر محمد بن قلاوون في الفترة المملوكية وعمرها حوالي 700 عام، وبنيت عام 1321 للميلاد تقريبا.
ويقول الجلاد إن "الزلازل والحفريات والضغط المتمثل بسير الناس على هذه الأرضيات لقرون طويلة، والمباني المحيطة بها وعدم وجود ترميمات مستمرة، كل ذلك يؤدي إلى إضعاف هذه الحجارة وتخلخل الطبقات الأرضية أسفلها".
وأضاف أن عدم توقف الحفريات بالتزامن مع منع عمليات الترميم هما أهم العوامل التي أدت إلى هبوط هذه الأرضية.
وأشار إلى الخبر السابق ذكره من موقع "المصدر الأول" يقر فيه الكاتب بصب الإسمنت في السابق وأنه كان سيئاً، مما أحدث عدم توازن في البلاط الكبير، ودفع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى تزويد الأوقاف الإسلامية بمادة خاصة تم سكبها ليوضع البلاط فوقها.
وعند سؤاله عن المعلومة التي نسبها سيغال لعالم الآثار الإسرائيلي لين ريتماير ويدّعي فيها أن هذه الأرضية الحجرية هي من عهد هيرودوس، وأشار إليها الصحفي في عنوان الخبر بسؤال "كيف استُبدلت الحجارة التي وضعها عمال هيرودوس في جبل الهيكل قبل ألفي عام بصب الخرسانة؟"، أجاب الجلاد بوصف ريتماير بـ "مُدّعٍ وصولي" يسعى لكسب الأضواء والشهرة والقبول عند التيار المتنامي من الصهيونية الدينية، وبالتالي فإنه "يختلق ويُزوّر".
ليس أول تزوير
وهذه ليست المرّة الأولى التي يحاول فيها الباحث وعالم الآثار هذا نسب معالم داخل الأقصى لفترة الهيكل، فقال عن أقواس البوابات الصغيرة المغلقة منذ فترة طويلة في الجهة الشرقية الواقعة بين الدرج الشرقي والزاوية الجنوبية الشرقية، إنها بوابات كان يخرج منها أصحاب المعازف الذين كانوا ينفخون البوق في عصر الهيكل.
بينما ذكر هذه الأقواس -وفقا للجلاد- مجير الدين الحنبلي في أواخر القرن الـ15 الميلادي وقال إنها الزاوية "الصمادية" و" البسطامية"، وهي زوايا إسلامية شُيّدت أسفل الصخرة المشرفة.
واخترع عالم الآثار ذاته قصة أخرى مدّعيا أن الحائط الشمالي الشرقي لصحن قبة الصخرة يضم حجارة تعود لزمن "هيرودوس" وهذا كله لا أصل له، وإنما هي حجارة من الفترة الإسلامية المبكّرة (الأموية) عند بناء دكّة قبة الصخرة.
أما عن إقحام الشرطة وسلطة الآثار الإسرائيليتين نفسيهما بعمليات الترميم بالمسجد الأقصى، فأشار الجلاد إلى أنه لا يمكن للأوقاف أن تعمل حاليا على ترميم أي شيء في المسجد سوى بوجود هاتين الجهتين، وبالتالي إما أن تتعامل معهما أو لا يمكن للترميم أن يتم.
هذه السياسة اتُّبعت بعد ترميم المصلى المرواني وفتح بواباته العملاقة عام 1999، مما دفع اليهود الأرثوذكس المتشددين إلى سنّ قانون بالكنيست (البرلمان الإسرائيلي) آنذاك أطلق عليه "منع تدمير آثار الهيكل"، وادّعوا في طرحهم أن الأتربة التي أُخرجت من المصلى المرواني وألقيت في الخارج تم من خلالها تدمير الآثار القديمة.
هذا الادعاء تدحضه حقيقة أن التراب الذي أخرج من المصلى المرواني ليس ترابا أصليا وإنما أُحضر من الخارج قديما لتغطية وطمر هذا المصلى، وفق الجلاد.
"الأوقاف مطالبة بدورها"
وبالتالي بدأ التدخل الفعلي لسلطات الاحتلال في عمليات الترميم بالأقصى عام 2003 مع سيطرة إسرائيل على الدخول والخروج من المسجد، وتم التشديد الفعلي على عمليات الإعمار والترميم منذ عام 2015 مع حظر الرباط فيه، وفقا للجلاد.
وختم الباحث المقدسي حديثه للجزيرة نت بالتطرق إلى تداعيات إعاقة أعمال الترميم بوصفها بالخطيرة، لأن أي بناء تاريخي -خاصة الأقصى الذي يقع بين أودية ومنطقة غير مستقرة بسبب بنائه على تسويات من الطبيعي أن تتحرك مع حدوث الزلازل-لا بد من ترميمه بشكل مستمر.
وأضاف أنه يجب على دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس أن تطالب الجهات الدولية للضغط من أجل الترميم، وأن يكون لديها خطة لذلك بعد إجراء مسح شامل للمواقع وإصدار تقرير بجوانب الضعف والأماكن التي تحتاج إلى صيانة وترميم، حسب تدرج معين من الأخطر إلى الأقل خطورة حتى يعرف الناس وضع الأقصى الحقيقي ولا يتفاجؤوا عند وقوع أي شيء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
أردوغان يرحب بوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل
رحّب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالأنباء الواردة بشأن توصل إسرائيل وإيران لاتفاق يوقف إطلاق النار ودعا إلى الالتزام به، كما دعا لوقف العدوان الإسرائيلي في المنطقة. وشدد أردوغان على ضرورة أن تتخذ الدول الفاعلة إجراءات ملموسة لوضع حد لما وصفه بـ"جنون" الحرب بين إيران وإسرائيل محذرا من تبعاتها على المنطقة والعالم. وقال أردوغان إن "الخطوات المتهورة التي أقدمت عليها إسرائيل بدءا من فلسطين ولبنان وسوريا واليمن وصولاً إلى إيران لا يمكن قبولها." وأكد أن "تركيا تواصل بحزم موقفها المبدئي الملتزم بالقانون الدولي والذي يمنح الأولوية للدبلوماسية." كما أكد الرئيس التركي ضرورة التوصل لوقف دائم لإطلاق النار بقطاع غزة بأسرع وقت ممكن ووقف العدوان الإسرائيلي وتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع الفلسطيني من دون انقطاع. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن في وقت مبكر من صباح اليوم الثلاثاء التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، كما أعلن في وقت لاحق دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وطالب بعدم انتهاكه. وأعلن ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي صباح اليوم موافقة إسرائيل على مقترح ترامب، مؤكدا أن تل أبيب سترد بقوة على أي انتهاك للاتفاق، بينما لم تعلن إيران بشكل صريح الموافقة على الاتفاق رسميا.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
بين واشنطن والدوحة.. كيف تم التوصل لاتفاق إنهاء الحرب؟
في لحظة سياسية مشحونة، ومع اقتراب المواجهة بين إيران وإسرائيل من حدود الانفجار الإقليمي، نجحت وساطة دبلوماسية قادتها قطر بطلب أميركي مباشر في التوصل إلى اتفاق مفاجئ لوقف إطلاق النار، أنهى 12 يوما من التصعيد العسكري وأعاد الهدوء المؤقت إلى المنطقة. وقد جاء الاتفاق ثمرة لاتصال أجراه الرئيس الأميركي دونالد ترامب فجر اليوم الثلاثاء مع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد ، طالبا منه التدخل لإقناع إيران بالموافقة على المقترح الأميركي الذي كانت إسرائيل قد أبدت استعدادها لقبوله، كما صرّح بذلك رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. وأوضح مراسل الجزيرة في الدوحة صهيب العصا أن هذا الاتصال فتح الباب لتحركات دبلوماسية مكثفة أجرتها الدوحة مع الجانب الإيراني طوال ساعات الليل، وأسفرت هذه الاتصالات عن التوصل إلى تفاهم لوقف إطلاق النار بين الجانبين، ليُعلن بعد ذلك الرئيس ترامب دخول الاتفاق حيّز التنفيذ. وأكد المسؤول القطري أن الدور الذي لعبته الدوحة في هذا التفاهم كان محوريا، في ظل تمسكها بمبادئ سياستها الخارجية القائمة على الحوار وخفض التوتر، رغم تعرض قاعدة العديد الجوية في قطر لهجوم إيراني في وقت سابق، أعرب الرئيس الإيراني عن أسفه حياله في اتصال هاتفي مع أمير قطر. وكان الرئيس الأميركي قد أعلن صباح الثلاثاء سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و إيران ، ودعا الطرفين إلى الالتزام به، واصفا إياه باتفاق "غير محدود"، في وقت امتنعت فيه طهران عن تأكيد رسمي للاتفاق، بينما اعتبرته إسرائيل إنجازا يحقق أهدافها العسكرية. وفي السياق، نقل مراسل الجزيرة في واشنطن أنس الصبار عن مصادر أميركية أن التنسيق بين واشنطن والدوحة توسّع لاحقا ليشمل جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي ووزير الخارجية القطري، لاستكمال تفاصيل الاتفاق وضمان تنفيذه. ووصفت إدارة ترامب وقف إطلاق النار بأنه انتصار للضربات العسكرية المحدودة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية، مؤكدة أن هذه العملية جرت دون السعي لإسقاط النظام أو الانخراط في حرب طويلة، وهو ما رأت فيه واشنطن نموذجا للنجاح الدبلوماسي والعسكري المتوازن. إلى جانب العامل العسكري، كان للعامل السياسي الداخلي الأميركي دور في تسريع التوصل للاتفاق، إذ أشار الصبار إلى أن ترامب يواجه ضغوطا من معارضي الحرب داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الذين يرفضون انخراط واشنطن في نزاعات خارجية تستنزف مواردها وتهدد استقرارها. وفي هذا السياق، رأت إدارة ترامب أن استمرار الحرب لا يخدم المصالح الأميركية، خاصة مع تقارير أفادت بنفاد صواريخ "سهم 3" لدى إسرائيل وعدم وجود قدرة أميركية فورية لتعويضها، مما دفع واشنطن لتغليب خيار إنهاء المواجهة بدلا من تصعيدها. موافقة إسرائيل أما في إسرائيل، فقد أعلن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- أن تل أبيب وافقت على المقترح الأميركي بعد أن "حققت هدفها بالقضاء على التهديد النووي والصاروخي الإيراني"، مع التحذير من أنها سترد بقوة على أي انتهاك للاتفاق. ورغم ذلك، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن إيران أطلقت قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ صاروخا سقط على مبنى في بئر السبع، مما أسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 26 آخرين، في واحدة من أكثر الضربات دموية خلال أيام القتال. وفي إطار متصل، أشار رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري إلى أن التصعيد في المنطقة -سواء في إيران أو لبنان أو قطاع غزة- جاء نتيجة مباشرة للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة، مؤكدا أن محاولات وقف إطلاق النار كانت جارية بالفعل، لكن العدوان على إيران عطّل هذه المساعي. وأكد أن الوساطة القطرية المصرية المشتركة مع كل من إسرائيل والفصائل الفلسطينية لا تزال نشطة، وهناك جهود تُبذل حاليا لعقد جولة جديدة من المباحثات غير المباشرة بهدف وقف إطلاق النار في غزة ورفع الحصار، رغم التحديات التي فرضها التصعيد الإيراني الإسرائيلي.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
لماذا لم يتدخل حزب الله حتى الآن؟
خلال أعوام خلت، بنت الجمهورية الإسلامية في إيران -أو دعمت- دوائر نار أحاطت بإسرائيل من خاصرتها: من غزة والضفة إلى لبنان، واليمن، والعراق. وقد كانت لهذه الدوائر أهداف متعددة، أولها حماية إيران الثورة عند الحاجة، إضافة إلى الهجوم عند لحظة الصفر، وتأسيس نفوذ إقليمي ودولي على غرار ما تفعله الدول المتوسطة والكبيرة في هذا العالم. في لحظة الحقيقة، انتظر العالم أن تتحرك "دوائر النار" للدفاع عن القلب أو الرأس، إلا أنها بقيت هامدة! ما طرح السؤال: هل ستستمر؟ ولماذا هي كذلك؟ والسؤال، وإن بدا عامًّا، هو في عمقه سؤال خاص، يتعلق تحديدًا بحزب الله.. درّة تاج محور المقاومة، وقائدها خارج إيران لأعوام خلت، والملاصق لإسرائيل، والمستعد تاريخيًّا، عبر قوة الرضوان، لاقتحام الجليل في مشاريع سابقة. لكن، لفهم موقف حزب الله اليوم، علينا أولًا أن نفهم عمق تأثير الحرب مع إسرائيل عليه، وكيف يفكر اليوم. لا يخفى على أي متابع لحزب الله حجم الضربات التي تعرّض لها؛ فقد خسر بشكل شبه نهائي القيادة التي كانت تملك كلمة فصل في حسابات إيران الإقليمية، كما فقد جزءًا كبيرًا من ترسانته العسكرية المهدِّدة لإسرائيل "حزب الله الإقليمي" يمكن التفكير في حزب الله على أنه شقّان رئيسيان متشابكان: شقّ محلّي وشقّ إقليمي. هذا الشقّ الإقليمي، الذي لطالما شكّل تهديدًا لإسرائيل، تعرّض خلال الحرب لضربات وازنة، من الانكشاف الأمني واغتيال القيادات، إلى التنكيل بالعناصر والبيئة، ناهيك عن توقيع اتفاق كان الحزب يعتقد أنه سيمهّد لإعادة البناء بأريحية، لتأتي الضربة القاصمة بقطع خط الإمداد الرئيسي مع إيران، عبر سقوط النظام الحليف في سوريا، وكل ذلك بعد توقيع الاتفاق مع إسرائيل، أي بطريقة غير محسوبة. لا يخفى على أي متابع لحزب الله حجم الضربات التي تعرّض لها؛ فقد خسر بشكل شبه نهائي القيادة التي كانت تملك كلمة فصل في حسابات إيران الإقليمية، كما فقد جزءًا كبيرًا من ترسانته العسكرية المهدِّدة لإسرائيل، وفقد أيضًا القدرة على الترميم وإعادة التسلّح "السريع".. وإذاً، ماذا تبقّى من الحزب؟ رغم كل ما تعرّض له، ما تزال إسرائيل تلاحق حزب الله عن كثب، وتحديداً في ما تبقّى من بنيته الإقليمية المهدِّدة، أي بقايا ترسانته العسكرية المؤثِّرة، وبنيته التنظيمية التي تضم آلاف المقاتلين والقياديين، الذين لم يتخلّ الحزب عن دفع رواتبهم وتوفير المخصّصات المالية لهم للعمل، وما زالوا يمارسون مهامهم، ويفكّرون باستمرار في كيفية إعادة بناء ترسانة الحزب وتسليحه رغم شدة التضييق، مستشهدين بما تمكّنت منه حركة حماس في غزة على مدى السنوات الماضية رغم الحصار. هذه البنية تلاحَق بشكل حثيث من إسرائيل في مستويات وأبعاد مختلفة، كما تلاحِق بشكل يساويها في الدقة -بل يزيد- تمويل حزب الله، الذي يُعدّ عصب العمل العسكري النوعي، والذي يعتبر كذلك عصباً اجتماعياً مؤثراً. يمكن القول إن الحزب منكبٌّ على إعادة تعريف شرعيته الداخلية وتثبيتها، بعيدًا عن الصراع الإقليمي والعسكري، بالشراكة مع حركة أمل، وذلك بالتوازي مع محاولاته إعادة بناء هيكله وحضوره الداخلي والخارجي "حزب الله المحلي" لا تكتفي إسرائيل باستهداف بنية حزب الله العسكرية، فهي تدرك أن عمق حزب الله الداخلي والشعبي، إذا ما استمر، يمكن أن يُعيد بناء الحزب بأبعاده المختلفة على المدى الطويل. لذلك، تشنّ إسرائيل حرباً موازية على حزب الله ببعده اللبناني الداخلي، كما بعده العسكري الخارجي. في البعد السياسي- الاجتماعي اللبناني، لم يتأثّر حزب الله بالحرب كما تأثّر في الجانب العسكري الخارجي، بل يسعى اليوم إلى إعادة تعريف حضوره الداخلي، وفصله عن السلاح والدور الإقليمي، وهو ما ظهر بوضوح في الانتخابات البلدية التي جرت الشهر الماضي. يتمسك الحزب بتحالفه مع حركة أمل، ويتمسّك الطرفان معاً باحتكار التمثيل الشيعي، وإعادة تعريف "الشرعية" على أنها مستمدة من تمثيل طائفة رئيسية في البلاد. عملياً، يواصل حزب الله تمسّكه بتمثيل الشارع الشيعي عبر إستراتيجيات وخطط واضحة؛ فسردية المقاومة تعززت، مستندة إلى فشل الدولة اللبنانية -بدبلوماسيتها ومؤسساتها- في دفع إسرائيل إلى الخروج من لبنان أو ايقاف ضرباتها، رغم توقف أعمال المقاومة من لبنان. بل إن إسرائيل، إضافة إلى ذلك، تواصل منع إعادة الإعمار في الجنوب بوسائل متعددة: كقصف محاولات تركيب بيوت جاهزة في القرى الحدودية، أو منع تدفّق المال إلى هذا الملف، وكل ذلك تحت شعار: "لا عودة إلى الحياة الطبيعية قبل القضاء التام على حزب الله." إضافة إلى ما سبق، فقد أثبت حزب الله فعالية داخلية بارزة في الأشهر الماضية؛ إذ يواصل حتى اليوم دفع التعويضات للمتضرّرين، وقد تجاوزت المبالغ المدفوعة مليار دولار في غضون أشهر قليلة، وما تزال تتصاعد وفق آلية دقيقة تقوم على إحصاء الخسائر وتقدير المستحقات، بحسب ما يؤكده مسؤول في الحزب وعدد من المتضرّرين في الضاحية الجنوبية لبيروت. وإلى جانب ذلك، يستمر الحزب في تقديم خدماته لآلاف العائلات، بشكل كامل أو جزئي، في مختلف المجالات، كما اعتاد منذ عقود. كل ذلك يجري في ظل غياب أي بديل حقيقي داخل الساحة الشيعية، ما يجعل حزب الله، بالشراكة مع حركة أمل، الممثل الحصري للطائفة الشيعية في لبنان. لذلك، يمكن القول إن الحزب منكبٌّ على إعادة تعريف شرعيته الداخلية وتثبيتها، بعيدًا عن الصراع الإقليمي والعسكري، بالشراكة مع حركة أمل، وذلك بالتوازي مع محاولاته إعادة بناء هيكله وحضوره الداخلي والخارجي، عبر: تعزيز السردية، تثبيت الحاضنة الشعبية، ترميم الهيكلية الحزبية والعسكرية، ضمان تدفّق الأموال، ابتكار طرق لإعادة التسلّح. كل ذلك كان يتم الترتيب له على المدى الطويل، وبإشراف مباشر من إيران، التي عزّزت بدورها حضورها داخل الحزب، من خلال توسيع عدد مسؤولي الحرس الثوري الإيراني العاملين بشكل مباشر في حزب الله، والذين يتولّون الإشراف على هذا المسار، لا سيما في شقّه العسكري. على الجهة المقابلة، تُدرك إسرائيل بدقّة هذا المسار الذي يتّبعه الحزب، وتطوّر إستراتيجيات معقّدة لمنعه من التحقّق. الدور الحقيقي للأطراف (كحزب الله والميليشيات الحليفة) سيأتي عند لحظة الذروة، تلك التي ستُقدّرها إيران بنفسها، وتقتنع فيها بأنها باتت أمام تهديد وجودي مباشر، وهي اللحظة التي لم تصل إليها إيران بعد ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على إيران: متى يتدخل حزب الله؟ يُظهر هذا الطرح المفصّل للمسار الذي دخله حزب الله السبب وراء عدم دخوله المباشر في المواجهة حتى الآن؛ فالحزب اختار مسار إعادة البناء والرهان على المدى الطويل لاستعادة القدرة الفعلية على التأثير، انطلاقًا من إدراكه، ومن إدراك إيران من خلفه، أن حجم الأثر المرجو من الانخراط في الحرب لا يوازي حجم الرد الإسرائيلي المتوقع. لقد فتح الحزب ورشةً داخليةً للحفاظ على ما تبقّى، ومحاولة إعادة بناء ما تهدّم.. لكن، كما يدرك حزب الله وإيران هذا الواقع، تدركه إسرائيل أيضًا، وهي تعتبر أن هذه الإستراتيجية قد تنفع ما دامت المواجهة دون "قطع الرأس" (أي دون سقوط النظام الإيراني). أما في حال تحقق هذا السيناريو، فإن حزب الله سيجد نفسه عاجزًا حتى عن الوفاء بالتزاماته قصيرة الأمد، سواء من الناحية المالية أو العسكرية أو السياسية أو الاجتماعية. وعند تلك النقطة، لن يكون للحزب طريق للعودة، بل ستتحوّل المواجهة إلى معركة وجود، أعمق حتى من معركته مع إسرائيل؛ فبينما يمكن لإيران إعادة بناء حزب الله إذا ضُرب هو، فإن ضرب إيران نفسها سيكون أعمق أثرًا على إعادة بناء الحزب أو حتى على استمرار وجوده. وهذا جزء من الخطة الإسرائيلية، التي تراهن على أن ضرب الرأس سيكون أكثر تأثيرًا على الأطراف من الاستنزاف الموزّع على الجبهات، وهي الإستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل خلال الأشهر الماضية. بناءً عليه، فإن الدور الحقيقي للأطراف (كحزب الله والميليشيات الحليفة) سيأتي عند لحظة الذروة، تلك التي ستُقدّرها إيران بنفسها، وتقتنع فيها بأنها باتت أمام تهديد وجودي مباشر، وهي اللحظة التي لم تصل إليها إيران بعد، ولهذا لا تزال تعتمد التدرّج في الضربات، وتمتنع عن استهداف المضائق أو القواعد الأميركية، أو الزجّ بالأذرع العسكرية في عمق الحرب. لكن، يبقى السؤال الأهم: هل تصل إيران الثورة إلى لحظة الموت، من دون أن تُدرك أنها وصلت إليها، وبالتالي تفاجَأ بتجاوز مرحلة إطلاق صفّارات الإنذار والدخول في حرب صفرية؟