
الملك الحسن الثاني.. حتى لو رحل..
* ميمونة الحاج داهي
في ذكرى رحيله، لا يُستعاد الحسن الثاني كما يُستعاد ملوك التاريخ.
لا يعود إلينا على هيئة تمثال أو رواية أو احتفال رسمي باهت.
بل يعود كمشروع حكم، كمؤسسة قائمة في اللاوعي الجماعي، كظلٍّ طويل لا يزال يمشي بيننا… وإن غاب صاحبه.
لم يكن الحسن الثاني مجرد ملك.. كان فكرة.
فكرة السلطة المركّبة من الهيبة، والحساب، والشرعية، والدهاء.
كان الدولة حين لم تكن الدولة قد اكتملت، وكان التاريخ حين توقّف عن منح البلاد أنبياء أو طغاة أو حكماء.
كان ببساطة ما لا يتكرّر.
في شخصه، اجتمعت وجوه ثلاثة: الفقيه، الأمير، والسياسي.
وكان يعرف، تمام المعرفة، متى يرتدي أيّ وجه منها. تحدّث باسم العرش، وباسم التاريخ، وباسم الله أحياناً.
خاطب الشعب بالقرآن كما خاطبهم بالدستور، قرأ عليهم محاضر البرلمان كما قرأ عليهم خطب الجمعة.
اختلط فيه المخزن القديم بالحداثة الفرنسية، والإسلام الملكي بالعقلانية الباردة للدولة.
لم يصنع الزعامة فحسب، بل فرض على المغاربة أن يتعلّموها منه: أن يخافوها، أن يحبوها، أن يشكّكوا فيها، ثم يعودوا إليها كلما ضاقت بهم الدولة أو تخلّف عنهم الزمن.
وفي عصر الانقلابات، ظل واقفاً. لم ينحنِ لخصم، ولا خضع للرياح.
لم يكن ذلك لأنه بلا خصوم، بل لأنه حوّل خصومه إلى حكايات يرويها هو، لا هم.
دخل في معارك مع الداخل والخارج، وخرج منها دائماً مبللاً بالانتصار، أو على الأقل، متماسكاً.
كانت له قدرة نادرة على تحييد الهزيمة، وعلى جعل الاستمرارية شكلاً من أشكال النصر.
لم يكن ديمقراطياً بالمعنى الكلاسيكي، لكنه كان أذكى من أن يكون مستبداً غبياً.
صنع توازنات دقيقة بين التعددية والاحتواء، بين المعارضة والاندماج، بين القمع والانفتاح.
وعلى حين غفلة، بنى دولة تعرف إلى أين تتجه، حتى وإن لم يعرف شعبها دائماً الطريق.
ومع ذلك، لم تكن العلاقة بينه وبين الشعب علاقة تقليدية.
لم يكن الشعب قريباً منه، ولم يكن بعيداً عنه أيضاً.
كانت العلاقة تقوم على المعادلة المخزنية الأقدم: 'الهيبة قبل الحب، والخوف قبل القرب'.
لكنه، رغم المسافة، ظلّ عند الكثيرين صورة الأب، والحاكم، والملاذ من الفوضى.
لم يكن عند البعض، محبوباً كزعيم شعبي، بل كان عند الشعب كل الشعب، مصدر للأمان حين تعصف الريح.
وحين خاطبهم، فعل ذلك كما يخاطب الأب المتعِب أبناءه: بصرامة، ببلاغة، أحيانا بعتاب، وأحيانا بتوبيخ، لكنهم، في النهاية، أنصتوا. وصدّقوه.
كان صوته مرتفعاً، واضحاً، لا يُقاطع.
لغته مرصّعة بالفصحى والفرنسية والفقه السياسي.
لم يكن في حاجة إلى شعبية ليحكم، فقد كانت الدولة ذاتها هي منبعه، وهو غطاؤها.
من كان يسكن قصره في الرباط، كان يسكن أيضاً في الخيال السياسي للمغاربة، كما يسكن الراعي في خيمة القبيلة.
وحين رحل، لم يرحل فعلاً.
موته لم يكن نهاية، بل مفترقاً في الجغرافيا، لا في التاريخ.
مات الملك، لكن بقي ظلّه على المؤسسات، وعلى الخطاب، وعلى مفهوم 'المهابة' الذي لم تستطع أي مرحلة بعده أن تستنسخه.
ثم جاء محمد السادس، لا ليقطع مع إرث والده، بل ليمنحه نفساً جديداً. لم تكن البداية من الصفر، ولم تكن استنساخاً لما كان.
تولّى محمد السادس العرش على وعيٍ بثقل الأمانة، وبأن العصر تغيّر، وأن الدولة نفسها باتت تحتاج إلى خطاب آخر، ورؤية أخرى.
حمل عن والده عمق الدولة وجذورها، لكنه نظر بعين الجيل الجديد إلى المستقبل.
أعاد ترتيب العلاقة مع الشعب، لا بإلغاء الهيبة، بل بجعلها أكثر قرباً، أكثر إنصاتاً، وأكثر إنسانية.
لم تكن القطيعة نهجاً، بل كانت الاستمرارية بروح ملائمة لزمن جديد.
اختار أن يكون ملكاً مواطناً، مصلحاً، محدثاً، ومدافعاً عن الثوابت دون ضجيج.
ومع مرور الزمن، اتضح أن الملكية التي وضع الحسن الثاني أسسها الصلبة، باتت في عهد محمد السادس أكثر قدرة على التكيّف.
أكثر انخراطاً في التحول الاجتماعي والرقمي، وأكثر انفتاحاً على قضايا الشباب، والمرأة، والمناطق المهمّشة، والعدالة الاجتماعية.
فما تغيّر هو الأسلوب، أما العمق، فظل ممتداً.
وما اختلف هو الخطاب، أما جوهر الدولة، فظل وفيًّا لروح الاستمرارية.
وفي كل ذكرى، لا نستعيد فقط صورة ملك من طراز فريد.
بل نستشعر تلك الخيوط الخفية التي تمتد من الحسن الثاني إلى محمد السادس. خيوط تُبقي الدولة واقفة، والعرش صامداً، والزمن المغربي مسترسلاً… لا ينكسر.
*كاتبة رأي

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المغربية المستقلة
منذ 3 ساعات
- المغربية المستقلة
زيارة مستشار الرئيس الأمريكي للمغرب اعتراف واضح وموقف ثابث للولايات المتحدة الأميركية بانتصارات الدبلوماسية بالمملكة المغربية بقيادة جلالة الملك في قضية ملف الصحراء
المغربية المستقلة : صفعة قوية مره اخرى لاعداء الوحده الترابية وفي ظل التحولات والانتصارات الدبلوماسية التي حققتها المملكة المغربية بقيادة الملك محمد السادس حفظه الله، في تعاطيه مع ملف الصحراء المغربية بكل حزم وتريث وبعد نظر، انسجاما مع التطورات الجيو-سياسية المتسارعة التي تعيشها منطقة شمال افريقيا ومنطقة الساحل، وعلى هامش الزيارة المرتقبة للمغرب من قبل 'مسعد بولس'، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للدفع قدما نحو تعزيز وتطوير الشراكات وتكريس مبدأ تسوية النزاعات، وعلى رأسها النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، في ظل هذا الزخم السياسي، استبق الرئيس الأميركي 'دونالد ترامب'، زيارة مستشاره إلى المغرب هذه، ببرقية اعتراف جديدة، جدد من خلالها على مغربية الصحراء ودعم الولايات المتحدة الأمريكية للمقترح المغربي للحكم الذاتي 'باعتباره الأساس الوحيد من أجل تسوية عادلة ودائمة لهذا النزاع'. موقف الرئيس ترامب، ترجمته الرسالة التي وجهها إلى الملك محمد السادس حفظه الله بمناسبة عيد العرش، والتي تضمنت تصريحا واعترافا واضحا وموقفا ثابتا للولايات المتحدة الأميركية التي تولي أهمية كبيرة للشراكة 'القوية والدائمة' التي تربطها بالمغرب. موقف ترامب الثابت هذا والذي جاءت رسالته لتقطع حبل الشك باليقين وتضع حدا للتأويلات والمغالطات التي طالما 'لوكتها ألسنة البعض من خصوم وحدتنا الترابية'، (رسالة) يمكن أن نفكك أهم خطوطها العريضة التي جاءت بها من الناحية القانونية، ذلك ما ذهب إليه الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي 'عمر الشرقاوي' الذي تناول قراءة المواقف الواردة بالبرقية التي وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش المجيد من عدة زوايا. واعتبر الشرقاوي في تدوينة له على حسابه الشخصي، أن موقف ترامب هذا، له صبغة تأكيدية للولايات المتحدة الأمريكية المعترف بالسيادة المغربية على الصحراء؛ وكذا صبغة داعمة لمقترح الحكم الذاتي، الجاد وذو المصداقية والواقعي، باعتباره الأساس الوحيد للتوصل إلى حل عادل ودائم لهذا النزاع؛ كما أبرز الشرقاوي أهمية ووظيفة هذا الموقف الرافض لأي خيار سياسي خارج السيادة المغربية، بحكم طبيعة وظيفته الامتدادية، إذ أن هذا الموقف، هو ذلك الذي ستُعبر عنه الولايات المتحدة أثناء صياغتها لقرار مجلس الأمن شهر اكتوبر المقبل؛ كما أكد الشرقاوي أيضا على موقف ترامب له وظيفة تأثيرية على جولات مسعد بولس مستشار دونالد ترامب لشؤون شمال إفريقيا الذي زار الجزائر في انتظار حلوله بالمغرب.


هبة بريس
منذ 7 ساعات
- هبة بريس
هبة بريس تعزي الزميل المنفلوطي في وفاة والده
وجه المدير العام لمؤسسة هبة بريس، أصالةً عن نفسه ونيابةً عن طاقم التحرير والإدارة، أحر التعازي وأصدق عبارات المواساة للزميل الصحفي عبد الإله المنفلوطي، إثر وفاة والده المشمول بعفو الله. وأعربت إدارة الجريدة عن حزنها العميق لهذا المصاب الأليم، سائلةً الله عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يُلهم أسرته الكريمة جميل الصبر وحسن العزاء. وفي هذه اللحظات العصيبة، تتقدم أسرة هبة بريس لزميلها العزيز المنفلوطي وكافة أفراد أسرته بخالص التعزية القلبية، داعيةً المولى عز وجل أن يُثبته على القول الثابت وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم في حياته. إنا لله وإنا إليه راجعون.


زنقة 20
منذ 9 ساعات
- زنقة 20
بنكيران ونظرية المؤامرة وعقدة الانتقام…الحقيقة التي يحاول تزييفها هوساً بكرسي رئاسة الحكومة
زنقة 20. الرباط / هيئة التحرير رغم مرور نحو عقد من الزمن، مازالت نظرية المؤامرة التي تقف وراءها العفاريت والتماسيح، وعقدة الانتقام من مدبري 'بلوكاج' سنة 2016، تهيمنان على فؤاد الأمين العام 'الخالد' لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، الذي يفتأ يذكر روايته الأزلية لهذا الحدث حتى ملها الناس. بكيران السبعيني الذي لا يريد التقاعد من السياسة حتى يزوره عزرائيل، ينفخ في رماد البلوكاج عبثا لينبعث منه على غرار أسطورة طائر العنقاء، ولا يفلت مناسبة صغيرة ولا كبيرة ولا حتى قشة ليتمسك بها لعلها ترجع له 'مجده' الزائل' أيام كان يخاطب المغاربة وأنفه متجه صوب السماء وهو يقول 'أنا رئيس الحكومة وأنت مجرد صحافي، برلماني أو مواطن'، وكأن رئاسة الحكومة إرث تركه له أسلافه. ولأنّ الغريق يتعلق بقشة، فصاحبنا الذي حوّل حزب المصباح إلى زاوية يدني فيها أتباعه ويقصي مخالفه، يتعلق بالترّهات تلوَ الأخرى، وآخرها ما صرح به من أن رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، سلّط عليه 'المؤثرة' مايسة الناجي مقابل الملايين لتعزز البلوكاج الذي استمر شهورا بسبب تعنته وانتهى بإعفائه من تكوين الحكومة وتعيين الملك محمد السادس للرجل الثاني في الحزب، سعد الدين العثماني ليشكلها. غيرَ أن الحقيقة التي يعرفها الجميع، هي أن سبب البلوكاج الأول هو أنانية بنكيران تجاه شركائه في الحكومة، وتخليه عن برنامج الحكومة وشعاراتها، وضربه للمكتسبات الديمقراطية للبلاد من أجل البقاء في كرسي رئاسة الحكومة الوتير. أليس بنكيران وهو رئيس للحكومة خلال النصف الأول من عشر سنوات العجاف التي وصل فيها حزبه إلى السلطة التنفيذية هو من فكك صندوق المقاصة؟ أليس هو من مس تقاعد الموظفين وتجاهل خروج الآلاف إلى الشارع؟ أليس هو من فاقم الأوضاع الاجتماعية بشكل غير مسبوق على المستويات كافة؟ إن الحقيقة المرة التي يحاول بنكيران التستر عليها بل وتزييفها، هي أنه أهمل الاشتغال على المداخل الأساسية لإرساء أسس الدولة الاجتماعية، وفشل في صيانة الخيار الديمقراطية، وأهدر الزمنين التنفيذي والتشريعي، وأطلق العنان لأنانيته تجاه شركائه ورفض تقبل الآخرين أو الانفتاح عليهم، واستقوى على شركائه في الحكومة وعلى رأسهم حزب الاستقلال الذي رفض دمج برنامجه الانتخابي في البرنامج الحكومي مما فجر حكومته. بنكيران الذي شهد إخوانه في أنه متسلط حوّل الحزب إلى زاوية يلعب فيها دور الشيخ وأعضاؤه مريدون، يتقن تقمص دور المعارضة فقط في انتظار تحقيق حلمه في الانقضاض على السلطة لتنفيذ مشروع لا يمتلكه من الأصل، وشواهد نفاق الرجل كثيرة وموثقة بالصوت والصورة في زمن العولمة الذي لا ينسى شيئا. سبب البلوكاج الحقيقي، هو أن عبد الإله بنكيران لم يكن يفاوض الأحزاب في ظل الديمقراطية المغربية المتميزة بتعدديتها، بناءً على برنامج سياسي، بل على أساس مفهوم الهيمنة و'الوزيعة'، لهذا فتدبيره الذي لم يكن سليما للمرحلة هو سبب انتكاسته، وتعطيل المؤسسات الدستورية والمقاولات وحياة المواطنين. وبعد كل هذا يأتي زعيم إخوان المغرب بجبهته العريضة، ويقول للناس إن مؤثرة هي من عرقل تشكيل حكومته الثانية دون استحياء. بينما صوت العقل والحكمة يجيب عن هذه الصفاقة ببساطة ويقول للسيد عبد الإله بنكيران: إذا كانت مؤثرة استطاعت أن تحبط عملك فلا وفقك الله لتكون رئيسا للحكومة ولا حتى لمقاطعة أو جماعة ترابية في آخر بلاد الدنيا.