
من الوصاية إلى الشراكة.. عن النساء في سوريا الجديدة
منذ الساعات الأولى لولادة الدولة السورية الجديدة، وفي خضم التحديات الهائلة التي تواجهها، كان ملفّ المرأة وقضاياها حاضرًا وبقوة.
وكان التساؤل الأبرز الذي يردده الكثيرون يدور حول كيفية تعامل الحكومة الجديدة مع قضايا النساء؛ ابتداءً من ملفّ المعتقلات، ووصولًا إلى الأدوار السياسية التي ستمارسها.
ولم يكن هذا الاهتمام بالمرأة محليًا فحسب، بل لا يزال المجتمع الدولي والإقليمي بكافة مجالات عمله السياسية والإنسانية يطرح في كل لقاء سؤاله حول واقع المرأة السورية، ومجالات الحريات والحقوق الممنوحة لها كدلالة على التوجّهات المستقبلية للدولة.
الحضور المشروط، والغياب المبرّر
من اللافت في الأشهر الخمسة الماضية حضور النساء في الفضاء العام على المستويين: الاجتماعي والإنساني بشكل قوي وواضح، وحضورهنّ المتواضع على المستوى الرسمي والسياسي، فقد ظهرت مشاركة النساء في الفرق التطوعية وفي التظاهرات والاحتفالات والاعتصامات والزيارات والمحاضرات والندوات، بكافة أطيافهنّ تقريبًا وبمبادرة ذاتية.
لقد تسبّب هذا الحضور بحالة من الإرباك، فالمشهد اليوم يستوعب الجميع، ويفسح المجال للتدافع والتنافس والتعاون، ومع ذلك لا تزال هناك شريحة من السوريين عالقة في تصوراتها المنغلقة، ولم تنفتح على فكرة سوريا الكاملة المتنوعة، فثمة من لم يتقبل وجود نساء منقبات في المشهد، كذلك من لم يتقبل ظهور نساء بلباس مختلف أو توجهات ليبرالية، وبدأ تسليط الضوء على كافة الشخصيات النسائية، وترقب أخطائها بالكثير من التركيز.
لقد أبرز المشهد السوري بعد التحرير وجود محاولات إقصائية مارستها بعض النساء تجاه أخريات، ومارسها بعض الرجال تجاه النساء، وانطلق الطرفان من اعتبار أحقية وجود تيار واحد فقط في الصورة والصدارة، وعدم الاعتراف بالأخريات المختلفات، لا سيما حال التقدم لمراكز صناعة القرار.
كما كانت ردّات الفعل عنيفة وقاسية تحمل خلفيات نفسية وأيديولوجية، ابتداء من ردة الفعل العنيفة التي قوبل بها لقاء عائشة الدبس مديرة مكتب المرأة، وصولًا إلى انتقاد وجود شاعرة منتقبة في لقاء مع الرئيس، وحتى اختيار وزيرة مسيحية في الحكومة الجديدة.
لقد كان حضور المرأة في الفضاء العام مشروطًا بقوالب معينة يضعها الجميع تجاه الجميع، وكانت هناك اشتراطات إضافية يفرضها البعض لقبول وجود المرأة في المشهد، لا سيما في الصفوف الأولى، مع وجود حالة تململ من هذا الملف واعتباره ثانويًا في هذه المرحلة، أو قبوله بالإكراه لاعتبارات تتعلق بالتعاطي مع الضغوط الدولية والصورة العصرية التي يراد تسويقها عن سوريا الجديدة، دون قناعة جادة بأحقية هذا الوجود ولا بتلك الأدوار.
الانتقائية في قضايا النساء
وإلى جانب حضور المرأة في المشهد العام، برزت العديد من القضايا كملفات إشكالية في الأشهر الماضية، وقد كان للتيار النسوي الأسبقية في إثارتها ودفعها للواجهة نظرًا لحالة المأسسة والتنظيم والدعم والعلاقات الواسعة التي نجح التيار النسوي ببنائها.
وبالنظر إلى القضايا التي جذبت الاهتمام نجد أن قضايا الحريات الشخصية كالحجاب وشكل اللباس وقضية الفصل بين الجنسين في المرافق العامة، أخذت حيزًا من الاهتمام، بيدَ أن التركيز الأبرز انصب على الانتهاكات التي تعرّضت لها النساء خاصة عقب أحداث الساحل.
فقد حظيت الادعاءات بوجود حالات خطف ممنهجة للنساء على الهُوية ولأقلية محددة، بالكثير من التضامن والتبني رغم عدم التحقّق الدقيق من ملابساتها، إذ إن قضية خطف النساء ليست جديدة على الساحة السورية ولم تختص بالنساء ولا بالأقليات في الساحل فقط، بل كانت ظاهرة ملاحظة شهدتها غالبية المناطق السورية منذ سنوات؛ لأسباب سياسية أو اقتصادية أو انتقامية، وهي ظاهرة حساسة ستستدعي تكاتف الجهود والعمل المشترك على إنهائها بحرص وذكاء لا بتهويل وتجييش؛ حرصًا على الضحايا بشكل رئيسي.
وفي ذات الوقت لم تثر الأخبار المتكرّرة منذ سنوات حول ظاهرة خطف النساء الكرديات؛ بهدف التجنيد الإجباري والعديد منهنّ قاصرات لم يبلغن السن القانونية، نفْسَ الحيز من الاهتمام رغم أنه موثق بتقارير حقوقية من هيومن رايتس وتش، وما زال مستمرًا حتى الآن.
كما لم تلقَ الأخبار المتناقلة في مواقع التواصل الاجتماعيّ حول انتهاكات طالت النساء اللاجئات إلى قاعدة حميميم، نفس التفاعل أو الجهد في التحقق، أو حتى التعاطف والتوثيق الذي يجري في السر والعلن.
ومع هذا التضامن النسوي تجاه قضايا النساء، لم يكن هذا التضامن ذا معايير عادلة، فقد كان يتعلق بنوع الضحية ونوع الجاني، كما كانت حملات المناصرة تقدم التبريرات وتتجاوز عن الأخطاء في بعض الأحيان، بل وتتضامن مع المخطئ إذا كان من نفس التيار والتوجه، في حين يتحول هذا التضامن النسوي إلى هجوم لاذع وإسقاط ممنهج تجاه شخصيات نسائية أخرى جاءت مخالفة للمعايير، فلم يكن مسموحًا لها الخطأ ولم تُلتمس لها الأعذار.
لا يظهر المشهد النسوي السوري خاصة نضجًا حقيقيًا للتعاطي مع حقوق المرأة، إذ إن هذا التضامن يتميز بالانتقائية وتحركه بوصلة الاهتمام الدولي، وهو يتحرك بقصد لفت الانتباه وتحويل قضايا المرأة إلى ملف للتدخل الخارجي ووسيلة للضغط أكثر من كونه محاولة جادة للإصلاح والتحسين، في حين لا يُظهر تيار النساء المحافظ أي شكل تنظيمي أو تفاعلات رسمية مع قضايا النساء العامة إلا بشكل خجول، ويتحرّك بردود فعل متأخرة تتفاعل مع الحدث لا تصنعه.
لقد تحولت قضايا النساء إلى محرض ومحرك للرأي العام، وهو ما أدركته بعض النساء وبدأت باستخدامه كوسيلة للشهرة والانتشار ولفت الأنظار، إذ لا يتطلب الأمر سوى خروج سيدة باكية أو صارخة في بث مباشر، تقدم معلومات مغلوطة وتشتكي من الظلم الواقع عليها، في محاولة لكسب الاستعطاف والتضامن حتى تصبح على صدارة الأخبار وتتحول قصتها إلى قضية رأي عام. والشواهد على ذلك كثيرة، وقد تطوّر الأمر لدى بعضهنّ ليعتبرن أنَّ الصراخ والوقاحة والإساءة دليل على التّحضر وعلى نموذج المشاركة الفعال والمطلوب من النساء في المجتمع.
ماذا نريد في التعاطي مع وجود المرأة وقضاياها؟
قد يبدو هذا السؤال إشكاليًا بذاته، لا سيّما مع غياب الدراسات العلميّة والمنهجية، ولكن سأسمح لنفسي أن أجيب عن هذا السّؤال كوني أتبنّى رأي شريحة واسعة من النّساء السوريات، وأتابع مشاكلهنّ منذ سنوات، وأدرك تمامًا حساسيّة بعض القضايا، والضغط الممارس على الحكومة والمجتمع لإشراك المزيد منهنّ في عملية صناعة القرار.
وربما أضطر للتّذكير بالمعلومة المعروفة بأن النساء في سوريا يشكلن ما يقارب الـ 60 % من مجموع سكانها، وقد حملن على كاهلهنَّ أعباءً ثقيلة، وبادرن للعمل في الظّروف الصعبة، وأثبتن جدارتهنّ في الكثير من المجالات العلمية والعملية والإنسانية وحتى السياسية والإعلامية.
ولهذا تتطلّع المرأة السوريّة إلى أن يثق المجتمع بكفاءتها وقدرتها على العمل والتأثير والإنجاز والبناء دون وصاية أو تشكيك، ودون الدعوة إلى إقصائها أو إبعادها إلى الصفوف الخلفيّة، بل على العكس أن يمكّنها ويدفعها للواجهة لإيمانه بدورها وكفاءتها، فهي شريكة النضال والتضحية والبذل والعطاء والصبر أيام المحن والشدائد.
كما تبرز الحاجة لمعالجة بعض جوانب الثقافة المجتمعية التي تتحرج من ظهور المرأة في الفضاء العام لأسباب مختلفة، وترتبك أحيانًا من هيئتها وأفكارها، أو تحاول التدخل في قضاياها الشخصية كلباسها وطريقة حديثها، أو حتى تفرض القيود على وجودها بحجة الحماية الزائدة.
فهذه الوصاية على سلوك النساء والحماية المُدّعاة لم تعد منطقية في ظل الانفتاح الكبير الذي تعيشه مجتمعاتنا، بل على العكس قد تخلق ردة فعل معاكسة ومتمرّدة تدفع النساء بعيدًا عن مجتمعاتهنّ نحو الطرف المغاير.
وإلى جانب ذلك، فلا بد للمجتمع بأطيافه المختلفة أن يتكاتف ويجرّم استباحة أعراض النساء وعائلاتهن في حال الاختلاف معهن أو ارتكابهن خطأ ما، فما يحدث في السر والعلن معيب جدًا ومخالف لشرع الله، تعالى، إذ تصل هذه الاستباحة حدّ الكبيرة في بعض الأحيان من قذف وسبّ وتشهير وإيذاء يطال السيّدة وعائلتها ومعارفها، أو يسمح البعض لنفسه بالتحرّش بها في الفضاء الافتراضي وتهديدها متناسين بأن الله مطّلع على السرّ والعلن.
وأرسل من هنا رسائل نصح للنساء اللواتي عزمن على اقتحام حقول الألغام والمشاركة في بناء الأوطان، إذ لا يمكن للمرأة أن تمارس دورًا حقيقيًا وتغييرًا إيجابيًا في المجتمع، وهي تقدم نفسها كنموذج يخيف الآخرين ويهاجمهم ويناصبهم العداء، بل ويستقوي عليهم بالخارج.
كما أن هذا الخطاب الاستعلائي المتشنج والأسلوب الفج المثخن بالمصطلحات الغربية والنسوية قد يتسبب في نتيجة تنعكس سلبًا على القضية محل النظر، فتضيع جهود كل من يريد إصلاح أوضاع النساء وحل مشكلاتهن نتيجة سوء تقديم الرسالة وبشاعة الأسلوب.
كما لا يمكن للمرأة أن تمارس دورها أيضًا دون حاضنة مجتمعية تدعمها وتثق برأيها، ولا من خلال عداء مع الرجل والمجتمع وأعرافه وتقاليده كاملة، ولا بمحاولة تغييره قسرًا وفقًا للكتالوج الغربي، ولهذا فإن الانتقائية في اختيار القضايا التي تستحق النضال، والانفصال عن أولويات المجتمع واحتياجاته، والاعتماد على العلاقات والضغوط الخارجية للوصول للمناصب والتمويل، والتهديد والتلويح والاستقواء بالخارج عند أي مشكلة أو اختلاف لا يجعل من أي سيدة مناضلة ولا مدافعة عن حقوق المرأة، بل يحولها في بعض الأحيان إلى مدعية تلهث وراء المناصب والشهرة، وتستخدم قضايا النساء لمنافع شخصية.
هناك شريحة واسعة من النساء السوريات تطمح بإعادة بناء علاقة صحية مع المجتمع، ينتقل فيها من حالة الوصاية عليها إلى حالة الشراكة الحقيقية معها، والاعتراف بأحقية الوجود الفعال في الفضاء العام المؤثر، دون الحاجة للكوتا والضغط الخارجي أو حتى المحسوبيات، وإنما يصبح وجودها ضرورة نتيجة وعي مجتمعي وإدراك ذاتي لأهمية مشاركتها.
كما تأمل هذه الشريحة بضمان حقوق متساوية لجميع النساء بكافة أطيافهن في المشاركة والتمثيل والحصول على المناصب وفق الكفاءة والخبرات، والأحقية بارتكاب بعض الأخطاء والتعلم منها دون الخوف من المجتمع أو من انتقامه الشديد، فمجتمعاتنا تحترم المرأة ودورها وتأثيرها ونحتاج أن نترجم هذا الاحترام إلى واقع عملي ملموس في كافة المجالات.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 41 دقائق
- الجزيرة
الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا
إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية. ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟ في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه. إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها. فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام. إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة. الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة. تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث. هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية. وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان. فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم. وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار. التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة. هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش. من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له. ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور. فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد. كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟! الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة. كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام. ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم. من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية. أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء. لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة. من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.


الجزيرة
منذ 41 دقائق
- الجزيرة
المحكمة العليا الإسرائيلية: إقالة رئيس الشاباك غير قانونية
قضت المحكمة العليا في إسرائيل اليوم الأربعاء بعدم قانونية إقالة الحكومة لرئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار. وفق تقارير نقلتها وسائل إعلام إسرائيلية، فإن المحكمة العليا "تقضي بأن قرار إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي كان "غير قانوني ومخالفا للقانون" ومن جانبه، قال وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير إن "المحكمة العليا داست السلطة القانونية الصريحة للحكومة، وقرارها بخصوص رئيس الشاباك سياسي وغير ديمقراطي". وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أقال رونين بار في 6 مارس/آذار الماضي، في خطوة اعتبرت غير قانونية. وقال بار في وقت سابق إن إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على إقالته يعود لرفضه طلبا شخصيا له يتعلق بإدلائه بشهادته في قضايا فساد. وأثارت الإقالة جدلا سياسيا وقانونيا في إسرائيل. وتقدمت أحزاب معارضة بالتماسات إلى المحكمة العليا الإسرائيلية ضد القرار، مما دفع الأخيرة إلى تجميد الإقالة لحين النظر في الالتماسات. وتعمقت الازمة عندما أعلن نتنياهو تعيين قائد البحرية الأسبق إيلي شربيت رئيسا لجهاز "الشاباك"، قبل أن يتراجع تحت وطأة انتقادات داخل حكومته.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
أسانج يشارك في "كان" بقميص يوثق أسماء آلاف الأطفال الفلسطينيين الشهداء
ظهر مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج مرتديا قميصا يحمل أسماء 4 آلاف و986 طفلا فلسطينيا قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة خلال مشاركته في فعاليات مهرجان "كان" السينمائي. وأوضح بيان على حساب لجنة دعم أسانج في منصة "إكس" -"تويتر" سابقا- أمس الثلاثاء، أن جوليان يشارك في مهرجان كان السينمائي في فرنسا من أجل عرض الفيلم الوثائقي "رجل الستة ملايين دولار" (The Six Million Dollar Man) حول أسانج. وأشار البيان إلى أن أسانج شارك في المهرجان مرتديا قميصا يحمل أسماء 4 آلاف و986 طفلا دون سن الخامسة قتلتهم إسرائيل في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولفت إلى أن الجانب الآخر من القميص يحوي عبارة "أوقفوا إسرائيل". وانطلقت فعاليات المهرجان بدورته الـ78 في 13 مايو/أيار الحالي وتستمر حتى 24 من الشهر ذاته. وخلّفت الحرب الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 175 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، فضلا عن مئات آلاف النازحين.