
شمال الباطنة.. نقطة تحول في عين الاقتصاد
هند الحمدانية
في شمال الباطنة؛ حيث يتكئ الجبل على البحر، وتغفو الموانئ على ضفاف الأسواق القديمة، تكتسب الحكايات الاقتصادية طابعا مختلفًا؛ إذ لا تبنى الفرص هنا صدفة، ولا تزدهر المشاريع بمعزلٍ عن مؤسساتها بل تنمو على ضوء تكامل الأدوار واتساق الرؤية بين القطاع الخاص والجهات الحكومية ورواد الحُلُم.
خرجت شمال الباطنة من عباءة التكرار، لتصوغ لنفسها حضورًا مستقلًا، وعقلًا تنفيذيًا وصوتًا اقتصاديًا ينمو على أرض الواقع، وحين ننظر إليها من هذا المنظور، لا نراها جغرافيا فحسب؛ بل نراها فكرة تتطور، ومكانًا بدأ يُفكِّر.
لا نكتب هنا لنُغنِّي للمحافظة، أو نُصفِّق لها بقدر ما ينبغي أن نُفكِّر معها، وأن نُمعن فيما فعلت، وفيما يمكن أن تفعل، فكل رقم اقتصادي لا يعني شيئًا ما لم نفك رموزه، وكل مشروع لا يُثمر وعيًا جَمعِيًا بالتحول هو مشروع مؤجل الأثر.
حين سجلت شمال الباطنة نموًا بلغ 16% في ناتجها المحلي خلال عام واحد، من 3.7 إلى 4.3 مليار ريال عماني، لم يكن ذلك مجرد قفزة رقمية؛ بل كان صوتًا يخرج من الأرض ليقول: "أنا هنا"، هذا النمو لم يكن نموًا عشوائيًا؛ بل نتاج عمل فكري واستراتيجي بدا من رؤية واضحة قادها فرع غرفة تجارة وصناعة عمان بالمحافظة، برئاسة المهندس سعيد بن علي العبري الذي لم يتعامل مع منصبه كمنصة بروتوكولية؛ بل كمختبر اقتصادي يعيد فيه قراءة الممكن، ويضع خطوطا واضحةً لتحويل الممكن إلى واقع.
ويتكامل هذا الحراك مع سعادة محمد بن سليمان الكندي، محافظ شمال الباطنة، الذي يشكل بحضوره وتفاعله عنصر قيادة متجدد، يدير خيوط العمل الحكومي والاقتصادي بتوازن لافت، حريص على احتضان المبادرات والمشاريع التنموية التي تعزز مكانة المحافظة كبوابة اقتصادية استراتيجية لعُمان، مؤكدا في لقاءاته أهمية التكامل بين مكتب المحافظ وغرفة التجارة والقطاع الخاص، في صياغة المشهد الاقتصادي للمحافظة.
نُقرأُ بيانات الاستثمار فنجد أمامنا ما يشبه شهادة ميلاد جديدة للمحافظة: 27 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة في ميناء صحار والمنطقة الحرة، 77 فرصة استثمارية قُدرت قيمتها ب 914 مليون ريال عماني، و4622 شركة جديدة سُجلت خلال عامين، وهنا يتفتق وعي ريادة الأعمال، لا عند الكبار فقط؛ بل عند الذين قرروا أن يبدأوا ويكونوا جزءًا فاعلًا من اقتصاد المحافظة.
التحول هنا لا يُقاس بالمال فقط؛ بل بالأثر الذي بدأت تَضخُّه المحافظة في شرايين السلطنة؛ فشمال الباطنة بمينائها.. بمنطقتها الحرة.. بطرقها وموانئها، لم تنتظر القرار المركزي كي تتحرك؛ بل بَنَتْ لنفسها سردية محلية تستمد قوتها من واقع المحافظة وإمكانياتها، لكنها ورغم كل ما أنجزته، لا تزال تسير على حافة سؤال كبير: هل النمو الذي نحققه اليوم، هو ذاته التنمية التي نطمح إليها غدًا؟
هنا يجب أن نُفرِّق بين النمو بوصفه توسعًا كميًا، والتنمية بوصفها تحولًا نوعيًا، فالنمو قد يحدث بالاستثمار وبالبناء وبالأرقام، أما التنمية فتحتاج إلى ما هو أعمق: تحتاج إلى إشراك الإنسان قبل إشراك المال، إلى أن تصبح القرارات الاقتصادية انعكاسا لحاجة الناس لا فقط لعروض المستثمرين.
إن الحديث عن شمال الباطنة لا يكتمل دون الحديث عن الفجوة الصامتة بين الولايات، فالمحافظة - بما فيها من ولايات كبرى كصحار- لا تتحرك كلها بالوتيرة ذاتها، هناك ولايات تسبق وأخرى تلهث، وهناك تركيز للفرص في محاور دون أخرى، وهذه في الحقيقة ليست ملاحظة عابرة؛ بل تنبيه عقلاني يقول: إن عدالة التوزيع ليست ترفًا؛ بل شرطًا أخلاقيًا في فهم التنمية.
وهنا تظهر الحاجة إلى منهج تنموي أكثر ذكاءً، لا يُراعي الجغرافيا فحسب؛ بل يتفهم الفروق بين المجتمعات المحلية، ويصمم لكل ولاية نموذجًا اقتصاديا خاصا بها، انطلاقا من مزاياها لا نسخا لتجارب المحافظات، فيمكن للولايات الساحلية أن تستثمر في الصناعات البحرية، وللداخلية أن تقود مشروعات زراعية وتقنية، وللشريط الجبلي أن يحتضن السياحة البيئية وسياحة المغامرات.
وأظهرت الدراسات وجود أكثر من 77 فرصة موزعة على 8 قطاعات بالمحافظة، من الصناعة إلى الصحة، ومن الأمن الغذائي إلى الاقتصاد الدائري، ومع ذلك تبقى المسألة الأهم: كيف تتحول هذه الفرص إلى مشاريع فعلية لا تبقى معلقة في تقارير النوايا؟ لا بُد من بنية داعمة، لا أقصد فقط الطرق والقوانين؛ بل البنية الفكرية أيضًا: غرفة تجارة وصناعة فاعلة لا تنتظر، مجتمع أعمال لا يكتفي، إعلام اقتصادي يُواكب ولا يُهندس الصورة، ومنصة معرفية تمكن الشباب من فهم منطق السوق والابتكار فيه، ومن الضروري أيضًا الإقرار بحاجة هذه المحافظة إلى مركز دائم للمؤتمرات، لا كتحفة معمارية فحسب؛ بل كبنية ذهنية تؤسس لحوار اقتصادي مستمر.
لقد تميزت غرفة تجارة وصناعة عُمان فرع شمال الباطنة، بخروجها من الدور التقليدي إلى فاعل استراتيجي يُعيد تشكيل العلاقات بين السوق والمجتمع والسلطة، فلقد نظمت أكثر من 88 فعالية ومبادرة خلال عامين، استقبلت وفودًا، وأرسلت وفودًا، بنت شراكات، ورعت أفكارًا ولقاءات عدة. وفي خضم هذا الحراك لم يكن التركيز فقط على الصناعة؛ بل شمل أيضًا قطاعات الثقافة والسياحة والخدمات، فالمحافظة التي تبلغ نسبة إشغال فنادقها 43.5% لا تنقصها الجاذبية؛ بل تحتاج إلى أدوات لترويجها وصناعة منتج سياحي متكامل، وهذا ما ظهر جليًا في منتديات مثل "آفاق الإعمار" و"ملتقى شمال الباطنة السياحي"، اللذين ناقشا ليس فقط الاستثمار؛ بل فلسفة التعامل مع المكان ككائن حي.
من جهة أخرى، فإن طرح مشاريع بقيمة 115 مليون ريال في منتدى صحار للاستثمار والتوقيع على 14 اتفاقية، ليس إلا بداية الطريق، فالثقة التي بُنيت لا تقاس فقط بما وُقع؛ بل بمدى استدامة هذه المشاريع، وارتباطهما بسوق العمل، وفتحها لباب التوظيف أمام أبناء المحافظة الذي يتزايد عددهم عامًا بعد عام.
وحين ننظر إلى تفاصيل المساهمة في الناتج المحلي، نجد أن القطاع الصناعي ساهم بـ1.9 مليار ريال، والزراعة بـ0.45 مليار ريال، والتجارة والخدمات اللوجستية بـ1.1 مليار ريال، ما يدُل على تنوع القاعدة الاقتصادية، لكننا بحاجة الآن إلى ما هو أكثر: إلى الانتقال من مرحلة الاستيعاب إلى مرحلة التأثير.
شمال الباطنة لم تعد محافظة على الخريطة؛ بل أصبحت نقطة وعي في الخريطة الاقتصادية لسلطنة عمان، ما نحتاجه الآن ليس فقط التقدير؛ بل الاستمرار، لا التكرار؛ بل التكامل، غرفة التجارة ومكتب المحافظ والإعلاميون ورواد الأعمال، جميعهم يشكلون لوحة متكاملة لأرضٍ تعرف كيف تحافظ على تراثها، وتمضي نحو مستقبل اقتصادي متنوع، لا يُرهق أحلام الشباب، ولا يُقيد طموح المبدعين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشبيبة
منذ ساعة واحدة
- الشبيبة
استقرار أسعار الذهب وسط فتور الطلب
الشبيبة - العمانية استقرت أسعار الذهب اليوم بعدما أدى وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل إلى فتور الطلب على الملاذ الآمن، لكن ضعف الدولار والإقبال على اقتناص الفرص بعد انخفاض الذهب في الجلسة السابقة ساعد في الحد من الخسائر. واستقر الذهب في المعاملات الفورية عند 3326.39 دولار للأوقية (الأونصة)، بعد أن سجل أدنى مستوى في أكثر من أسبوعين أمس الثلاثاء. وصعدت العقود الأمريكية الآجلة للذهب 0.2 بالمائة إلى 3340 دولارًا. وحوم مؤشر الدولار قرب أدنى مستوياته في أسبوع، مما يجعل الذهب المقوم بالدولار أكثر جاذبية للمشترين في الخارج. وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، زادت الفضة في المعاملات الفورية 0.1 بالمائة إلى 35.94 دولار للأوقية وانخفض البلاتين 0.2 بالمائة إلى 1313.88 دولار ونزل البلاديوم 0.2 بالمائة إلى 1064.01 دولار.


جريدة الرؤية
منذ ساعة واحدة
- جريدة الرؤية
منتدى رجال الأعمال العُماني الجزائري يناقش جهود تعزيز الشراكات وآفاق التعاون الاقتصادي
الجزائر- العُمانية انطلق أمس في العاصمة الجزائرية، منتدى رجال الأعمال العُماني الجزائري بعنوان "الشراكات الاقتصادية الجزائرية العُمانية.. مجالات رائدة وآفاق واعدة"؛ وذلك ضمن مشاركة سلطنة عُمان ضيف شرف في الدورة الـ56 لمعرض الجزائر الدولي. وقال معالي قيس بن محمد اليوسف وزير التجارة والصناعة وترويج الاستثمار إنَ تنظيم هذا المنتدى- الذي شهد حضور نخبة من أصحاب الأعمال من البلدين الشقيقين- دليلٌ على الاهتمام المتبادل بين الجانبين لتنمية العلاقات وتعزيز الاستثمار المتبادل والبحث عن فرص استثمارية بين الطرفين سعيًا لإيجاد تبادل تجاري، وبحثًا عن فرص استيراد وتصدير. وأضاف معاليه- في كلمته بالمنتدى- أن سلطنة عُمان تسعى إلى تنويع وارداتها وتعزيز صادراتها من المنتجات العُمانية وإيجاد تكامل استثماري بين البلدين الشقيقين، مشيرًا إلى أن المنتدى يهدف إلى تنمية العمل المشترك ودفع مقومات التكامل نحو آفاق أكثر اتساعًا؛ لبناء اقتصاد تنافسي متفاعل مع اقتصادات العالم، ومندمج معها، ومتواكب مع المتغيرات، وقادر على دفع استدامة الاقتصاد الوطني خاصة وأن الحكومتين تسعيان إلى تقديم التسهيلات والحوافز والممكنات كافة والتي من شأنها منح القطاع الخاص القدرة على الإسهام في تحقيق الازدهار والنمو المستدام. وأعرب معالي وزير التجارة والصناعة وترويج الاستثمار عن أمله في أن تعزز مشاركة سلطنة عُمان ضيف شرف بالدورة 56 لمعرض الجزائر الدولي زيادة التبادل التجاري الاستثماري بين البلدين الشقيقين، داعيًا القطاع الخاص في البلدين إلى القيام بدوره المنشود مع استعداد حكومتي البلدين لتوفير كافة الممكنات المطلوبة. من جانبه، عبرَ معالي الطيب زيتوني وزير التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية بجمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية عن اعتزازه بالعلاقات التاريخية والأخوية التي تجمع البلدين الشقيقين، والتي بلغت، في السنوات الأخيرة، مستوىً نوعيا من التقارب والتفاهم الاستراتيجي. وأشار معاليه- في كلمته بالمنتدى- إلى أن الزيارة التي قام بها فخامة رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية إلى سلطنة عُمان في أكتوبر 2024، ثم زيارة أخيه حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم إلى الجزائر في مايو 2025، شكلتا محطتَين مفصليتَين في مسار العلاقات الجزائرية العُمانية، توجتا ببيان مشترك أكد بوضوح إرادةَ قائدي البلدين في تعزيز الشراكة الثنائية، والارتقاء بها إلى آفاق أرحب، تخدم المصالحَ المشتركةَ للبلدين والشعبين الشقيقين. وأوضح معاليه أن التعاون الاقتصادي الجزائري العُماني قطع خطوات واعدةً، تجسدت في مشروعات كبرى على غرار مجمع إنتاج الأسمدة بمدينة "بأرزيو"، بقيمة تناهز 2.4 مليار دولار أمريكي وإنشاء الصندوق الجزائري العُماني للاستثمار، إلى جانب مشروعات قيدَ الدراسة في قطاعات السيارات، والطاقة، والصناعة الصيدلانية، والزراعة، مؤكدًا إمكانية توسيع آفاق التعاون الاقتصادي لتشمل قطاعات واعدة وحيوية مثل السياحة، والخدمات، والصناعات الثقافية، والصناعات التقليدية؛ وهي مجالات يملك فيها البلدين إمكانات كبيرةً وفرصًا استثماريةً حقيقية داعيًا إلى مضاعفة الجهود لتطوير قنوات التصدير والاستيراد، واستغلال قدرات البلدَين وتكامل مواردهما الطبيعية والبشرية. من جهته، قال سعادة فيصل بن عبد الله الرواس رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة عُمان إن الجانبين بحثا خلال هذا المنتدى فرص الشراكة المشتركة، والاطلاع على الفرص الاستثمارية المتاحة في كلا البلدين. وأضاف سعادته أنه من المتوقع أن تكون هناك شراكات بين المستثمرين في البلدين الشقيقين في العديد من القطاعات أبرزها الصناعات التحويلية والصيدلة، مشيرًا إلى أن السوق الجزائري يعد سوقًا واعدًا ويتمتع بموقع استراتيجي يتيح للمستثمرين الوصول إلى الأسواق المجاورة لها. واشتمل المنتدى على إقامة 3 جلسات حوارية تطرقت إلى فرص الاستثمار في قطاع اللوجستيات والصناعات التحويلية والتطوير العمراني، كما تم على هامش المنتدى تقديم عروض مرئية وترويجية عن الاستثمار في سلطنة عُمان والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية. وتم تنظيم لقاءات ثنائية بين رجال الأعمال في البلدين الشقيقين هدفت إلى بحث مجالات التعاون التجاري والاستثماري المشترك عبر فتح منافذ تسويقية لمنتجات كلا البلدين والدخول في شراكة استثمارية مشتركة. حضر المنتدى سعادة السفير سيف بن ناصر البداعي سفير سلطنة عُمان المعتمد لدى الجمهورية الجزائرية الشعبية الديمقراطية وعدد من المسؤولين بالقطاعين العام والخاص ولفيف من رجال الأعمال من كلا البلدين الشقيقين.


جريدة الرؤية
منذ 16 ساعات
- جريدة الرؤية
شمال الباطنة.. نقطة تحول في عين الاقتصاد
هند الحمدانية في شمال الباطنة؛ حيث يتكئ الجبل على البحر، وتغفو الموانئ على ضفاف الأسواق القديمة، تكتسب الحكايات الاقتصادية طابعا مختلفًا؛ إذ لا تبنى الفرص هنا صدفة، ولا تزدهر المشاريع بمعزلٍ عن مؤسساتها بل تنمو على ضوء تكامل الأدوار واتساق الرؤية بين القطاع الخاص والجهات الحكومية ورواد الحُلُم. خرجت شمال الباطنة من عباءة التكرار، لتصوغ لنفسها حضورًا مستقلًا، وعقلًا تنفيذيًا وصوتًا اقتصاديًا ينمو على أرض الواقع، وحين ننظر إليها من هذا المنظور، لا نراها جغرافيا فحسب؛ بل نراها فكرة تتطور، ومكانًا بدأ يُفكِّر. لا نكتب هنا لنُغنِّي للمحافظة، أو نُصفِّق لها بقدر ما ينبغي أن نُفكِّر معها، وأن نُمعن فيما فعلت، وفيما يمكن أن تفعل، فكل رقم اقتصادي لا يعني شيئًا ما لم نفك رموزه، وكل مشروع لا يُثمر وعيًا جَمعِيًا بالتحول هو مشروع مؤجل الأثر. حين سجلت شمال الباطنة نموًا بلغ 16% في ناتجها المحلي خلال عام واحد، من 3.7 إلى 4.3 مليار ريال عماني، لم يكن ذلك مجرد قفزة رقمية؛ بل كان صوتًا يخرج من الأرض ليقول: "أنا هنا"، هذا النمو لم يكن نموًا عشوائيًا؛ بل نتاج عمل فكري واستراتيجي بدا من رؤية واضحة قادها فرع غرفة تجارة وصناعة عمان بالمحافظة، برئاسة المهندس سعيد بن علي العبري الذي لم يتعامل مع منصبه كمنصة بروتوكولية؛ بل كمختبر اقتصادي يعيد فيه قراءة الممكن، ويضع خطوطا واضحةً لتحويل الممكن إلى واقع. ويتكامل هذا الحراك مع سعادة محمد بن سليمان الكندي، محافظ شمال الباطنة، الذي يشكل بحضوره وتفاعله عنصر قيادة متجدد، يدير خيوط العمل الحكومي والاقتصادي بتوازن لافت، حريص على احتضان المبادرات والمشاريع التنموية التي تعزز مكانة المحافظة كبوابة اقتصادية استراتيجية لعُمان، مؤكدا في لقاءاته أهمية التكامل بين مكتب المحافظ وغرفة التجارة والقطاع الخاص، في صياغة المشهد الاقتصادي للمحافظة. نُقرأُ بيانات الاستثمار فنجد أمامنا ما يشبه شهادة ميلاد جديدة للمحافظة: 27 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة في ميناء صحار والمنطقة الحرة، 77 فرصة استثمارية قُدرت قيمتها ب 914 مليون ريال عماني، و4622 شركة جديدة سُجلت خلال عامين، وهنا يتفتق وعي ريادة الأعمال، لا عند الكبار فقط؛ بل عند الذين قرروا أن يبدأوا ويكونوا جزءًا فاعلًا من اقتصاد المحافظة. التحول هنا لا يُقاس بالمال فقط؛ بل بالأثر الذي بدأت تَضخُّه المحافظة في شرايين السلطنة؛ فشمال الباطنة بمينائها.. بمنطقتها الحرة.. بطرقها وموانئها، لم تنتظر القرار المركزي كي تتحرك؛ بل بَنَتْ لنفسها سردية محلية تستمد قوتها من واقع المحافظة وإمكانياتها، لكنها ورغم كل ما أنجزته، لا تزال تسير على حافة سؤال كبير: هل النمو الذي نحققه اليوم، هو ذاته التنمية التي نطمح إليها غدًا؟ هنا يجب أن نُفرِّق بين النمو بوصفه توسعًا كميًا، والتنمية بوصفها تحولًا نوعيًا، فالنمو قد يحدث بالاستثمار وبالبناء وبالأرقام، أما التنمية فتحتاج إلى ما هو أعمق: تحتاج إلى إشراك الإنسان قبل إشراك المال، إلى أن تصبح القرارات الاقتصادية انعكاسا لحاجة الناس لا فقط لعروض المستثمرين. إن الحديث عن شمال الباطنة لا يكتمل دون الحديث عن الفجوة الصامتة بين الولايات، فالمحافظة - بما فيها من ولايات كبرى كصحار- لا تتحرك كلها بالوتيرة ذاتها، هناك ولايات تسبق وأخرى تلهث، وهناك تركيز للفرص في محاور دون أخرى، وهذه في الحقيقة ليست ملاحظة عابرة؛ بل تنبيه عقلاني يقول: إن عدالة التوزيع ليست ترفًا؛ بل شرطًا أخلاقيًا في فهم التنمية. وهنا تظهر الحاجة إلى منهج تنموي أكثر ذكاءً، لا يُراعي الجغرافيا فحسب؛ بل يتفهم الفروق بين المجتمعات المحلية، ويصمم لكل ولاية نموذجًا اقتصاديا خاصا بها، انطلاقا من مزاياها لا نسخا لتجارب المحافظات، فيمكن للولايات الساحلية أن تستثمر في الصناعات البحرية، وللداخلية أن تقود مشروعات زراعية وتقنية، وللشريط الجبلي أن يحتضن السياحة البيئية وسياحة المغامرات. وأظهرت الدراسات وجود أكثر من 77 فرصة موزعة على 8 قطاعات بالمحافظة، من الصناعة إلى الصحة، ومن الأمن الغذائي إلى الاقتصاد الدائري، ومع ذلك تبقى المسألة الأهم: كيف تتحول هذه الفرص إلى مشاريع فعلية لا تبقى معلقة في تقارير النوايا؟ لا بُد من بنية داعمة، لا أقصد فقط الطرق والقوانين؛ بل البنية الفكرية أيضًا: غرفة تجارة وصناعة فاعلة لا تنتظر، مجتمع أعمال لا يكتفي، إعلام اقتصادي يُواكب ولا يُهندس الصورة، ومنصة معرفية تمكن الشباب من فهم منطق السوق والابتكار فيه، ومن الضروري أيضًا الإقرار بحاجة هذه المحافظة إلى مركز دائم للمؤتمرات، لا كتحفة معمارية فحسب؛ بل كبنية ذهنية تؤسس لحوار اقتصادي مستمر. لقد تميزت غرفة تجارة وصناعة عُمان فرع شمال الباطنة، بخروجها من الدور التقليدي إلى فاعل استراتيجي يُعيد تشكيل العلاقات بين السوق والمجتمع والسلطة، فلقد نظمت أكثر من 88 فعالية ومبادرة خلال عامين، استقبلت وفودًا، وأرسلت وفودًا، بنت شراكات، ورعت أفكارًا ولقاءات عدة. وفي خضم هذا الحراك لم يكن التركيز فقط على الصناعة؛ بل شمل أيضًا قطاعات الثقافة والسياحة والخدمات، فالمحافظة التي تبلغ نسبة إشغال فنادقها 43.5% لا تنقصها الجاذبية؛ بل تحتاج إلى أدوات لترويجها وصناعة منتج سياحي متكامل، وهذا ما ظهر جليًا في منتديات مثل "آفاق الإعمار" و"ملتقى شمال الباطنة السياحي"، اللذين ناقشا ليس فقط الاستثمار؛ بل فلسفة التعامل مع المكان ككائن حي. من جهة أخرى، فإن طرح مشاريع بقيمة 115 مليون ريال في منتدى صحار للاستثمار والتوقيع على 14 اتفاقية، ليس إلا بداية الطريق، فالثقة التي بُنيت لا تقاس فقط بما وُقع؛ بل بمدى استدامة هذه المشاريع، وارتباطهما بسوق العمل، وفتحها لباب التوظيف أمام أبناء المحافظة الذي يتزايد عددهم عامًا بعد عام. وحين ننظر إلى تفاصيل المساهمة في الناتج المحلي، نجد أن القطاع الصناعي ساهم بـ1.9 مليار ريال، والزراعة بـ0.45 مليار ريال، والتجارة والخدمات اللوجستية بـ1.1 مليار ريال، ما يدُل على تنوع القاعدة الاقتصادية، لكننا بحاجة الآن إلى ما هو أكثر: إلى الانتقال من مرحلة الاستيعاب إلى مرحلة التأثير. شمال الباطنة لم تعد محافظة على الخريطة؛ بل أصبحت نقطة وعي في الخريطة الاقتصادية لسلطنة عمان، ما نحتاجه الآن ليس فقط التقدير؛ بل الاستمرار، لا التكرار؛ بل التكامل، غرفة التجارة ومكتب المحافظ والإعلاميون ورواد الأعمال، جميعهم يشكلون لوحة متكاملة لأرضٍ تعرف كيف تحافظ على تراثها، وتمضي نحو مستقبل اقتصادي متنوع، لا يُرهق أحلام الشباب، ولا يُقيد طموح المبدعين.