
"نساء المحار" في تونس يواجهن خطر التغيرات المناخية و"السلطعون الأزرق"
تواجه جامعات المحار في تونس عقبات كبيرة لتأمين « لقمة العيش »، بعد حظر موسم الصيد وتراجع إنتاج المحار في ظل التغيرات المناخية التي أثرت في البيئة البحرية التونسية.
مع ابتسامة تظهر تجاعيد وجهها أكثر، تنظر فاطمة حامدي (66 سنة) إلى سقف منزلها الصغير، مستحضرة بداية عملها في جمع المحار قبل ما يزيد على الأربعين عاماً. تعيش فاطمة بمنطقة أجيم في جزيرة جربة جنوب شرقي تونس.
تقطع فاطمة مع رفيقاتها من النساء مسافات طويلة مشياً من محل سكنها إلى سواحل قلالة في جزيرة جربة؛ بحثاً عن المحار أو ما يسمى باللهجة المحلية « القفالة ».
بعد رحلة شاقة غير مضمونة النتائج مشياً على الأقدام، أو من خلال الجلوس في الصناديق الخلفية للشاحنات، وأحياناً بحراً في المراكب، تصل فاطمة ورفيقاتها من جامعات المحار، إلى وجهتهن. يبدأ موسم السماح بجمع المحار في الخريف وينتهي أواخر فصل الربيع.
حين يظفرن بمكان يتوفر فيه المحار، يسرعن إلى صيده منحنِيات لساعات طويلة في الماء، تقول فاطمة: « تظهر علامات وجوده في التراب فنلتقطه بالمنجل، ثم نضعه في السطل ».
يكاد يقتصر جمع المحار على النساء في تونس، أو ما يعرف بـ »الصيد على الأقدام ». يتطلب العمل في هذه المهنة الشاقة مواعيد غير ثابتة. وقد يرافقهن أطفالهن في هذه الرحلة الصعبة.
تضيف فاطمة: « كنت أحمل أطفالي على ظهري، حتى أن قطعة القماش التي أحملهم فيها تترك أثراً في جسدي »، وتتابع: « أذكر أن أحد أبنائي حملته معي ولم يبلغ الأربعين يوماً بعد ».
تقول فاطمة إن بيع محصول المحار ساعد على دفع التكاليف الدراسية لأولادها، وتوفير احتياجات بيتها من طعام وغيره.
تراجع إنتاج المحار في تونس خلال السنوات الأخيرة، في ظل تغير البيئة البحرية بسبب ما طالها قبل أكثر من مئة عام. في ربيع عام 1859، بدأت أعمال حفر قناة السويس بمصر، ممهدة ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وبذلك أسهمت في فتح الطريق أمام ألف صنف من الأحياء البحرية المتوطنة في البحر الأحمر للوصول والاستقرار في شرق المتوسط.
انتقل ما يعرف بالسلطعون الأزرق، السابح من المحيط الهندي إلى غرب المتوسط عبر البحر الأحمر، لكنّه وصل خليج قابس عام 2014، بعد أن ظهر في شباك الصيادين هناك. كما يُعزى ظهور صنف آخر من السلطعون الأزرق إلى حركة السفن، التي تنقله إلى البحر المتوسط.
مع مرور الوقت، ازدادت أعداد السلطعون الأزرق، وبات يغزو المياه القريبة من الشواطئ ويلتهم المحار الذي يشكل مورد رزق العديد من النساء القاطنات في المناطق الساحلية.
يزيد عدد جامعات المحار في تونس على أربعة آلاف امرأة؛ يجمعن المحار من نحو 17 موقعاً تتركز بشكل رئيس في سواحل قابس وصفاقس. ومع ذلك، لا يلقى صيد المحار، الذي يبدو حكراً على النساء في الغالب، اهتماماً من جانب السلطات التونسية.
توجه تونس غالبية صادراتها من « اللافقاريات المائية والرخويات »، ومنها المحار، إلى دول الاتحاد الأوروبي. تستحوذ إيطاليا على نحو 80 في المئة من هذا الإنتاج. وتُعد إيطاليا الخامسة عالمياً في إنتاج المحار، ومع ذلك فإن المحار الذي يعيش في الشواطئ المحاذية لشمال إفريقيا مطلوب في المطاعم الإيطالية لصناعة طبق شهير من المعكرونة.
ويتوطن تونس المحار المعروف باسم Tapes decussatus autochthonous، المميز بطعمه وجودته العالية. يُجمع هذا المحار باليد، باستخدام أدوات بسيطة للحفاظ على تلك الجودة.
ومع ذلك، يُعد صيد المحار نشاطاً مهمشاً، لا ينضوي تحت استراتيجيات الدولة لعدة أسباب؛ من بينها محدودية عدد جامعات المحار مقارنة بعدد الصيادين، في ظل عزوفهن عن الحصول على بطاقة « صياد محترف » لدى السلطات، والتوزيع غير المنتظم للمحار نتيجة طبيعته، حسب تقرير أصدرته وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري عام 2023.
في سبيل لقمة العيش وإعالة أسرهن، تتّبع جامعات المحار أطوار القمر، فهن يضبطن أوقات عملهن حسب المد والجزر؛ إذ يقمن بجمع المحار عندما تتكشف الرمال خلال ساعات الجزر.
في ساحة منزلها، جلست مبروكة قشاط (44 عاماً) القرفصاء ترتق شباك الصيد بخفة، ولا تنهض من مكانها إلا لدقائق معدودة، تتفقد وجبة الغداء قبل عودة ولديها من المدرسة. مبروكة هي جامعة محار من منطقة بوغرارة الساحلية التابعة لولاية مدنين، وتعمل أيضاً في رتق الشباك لإعالة أسرتها بعد وفاة زوجها. تقول: « نذهب أحياناً للعمل بواسطة المراكب، نغادر بيوتنا حتى قبل أذان الصبح؛ ربما في الثالثة فجراً ».
تضيف مبروكة: « نبدأ بجمع الحطب وإشعال النار للتدفئة حال وصولنا… نتناول الإفطار ثم أحياناً تذهب إحدانا فقط لتفقد المحار ، لأنه ليس متوفراً دائماً ».
أما رفيقتها زهرة قشاط (45 عاماً) فتوضح أهمية المد والجزر في تحديد مواعيد العمل: « نحن نستدل بالقمر، عندما يبدأ بالغياب فهذا يعني أن البحر بدأ بالتراجع ». تعمل زهرة في جمع المحار منذ طفولتها بعمر الثانية عشرة.
تشكل جامعات المحار رأس الهرم في « سلسلة القيمة » لهذا الصنف. ففي حال سماح السلطات التونسية بموسم الصيد، تبيع جامعات المحار صيدهن عبر مزاد، بعد الحصول على وصل « معاينة » من ممثل عن الجهاز المحلي التابع لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري. يتم وزن المحار وتحميله بالشاحنات، ثم نقله إلى مراكز التنقية حيث يُنظف قبل بيعه في السوق المحلية أو تصديره إلى الخارج، وفق ممثل المجمع المهني المشترك للصيد البحري بولاية مدنين، فتحي النالوفي.
تُقبِل النساء في المناطق الساحلية بتونس على مهنة جمع المحار؛ لأنها لا تتطلب تدريباً خاصاً أو أدوات باهظة الثمن.
تبيع جامعات المحار المحصول عبر وسطاء. تقول زهرة قشاط إن الوسطاء يشترون المحار بأثمان بخسة تصل إلى خمسة دنانير تونسية (1.57 دولار أميركي) للكيلوغرام الواحد، وهو مبلغ لا يكفي في ظل غلاء الأسعار ونقص الإنتاج، وفق تقديرها. وتضيف: « إن الأمر يتجاوز الاستغلال بكثير ».
الأمر ذاته تؤكده فاطمة الحامدي بالقول: « سبعة دنانير لا تكفي، لا نعرف ما الحل… تركنا الأمر لله ».
تتعرض جامعات المحار لحوادث خلال عملهن. تقول فاطمة إنها أصيبت في قدمها ذات يوم وهي تجمع المحار بمنطقة القطعاية بجزيرة جربة؛ ما اضطرها إلى إجراء عملية جراحية كلفتها مبلغاً مالياً كبيراً. كما تعرضت كل من زهرة ومبروكة إلى حوادث طرق، أثناء تنقلهما عبر شاحنات الوسطاء.
يؤكد عز الدين الدغري (61 سنة)، الذي عمل في السابق وسيطاً في بيع المحار بمنطقة بوغرارة، أن عمل الوسيط في الماضي كان مقنّناً من السلطات، إذ تحدد الأخيرة سعر بيع المحار حسب حجمه . وأوضح أن عمل الوسيط يقتصر على شراء المحار من جامعاته، لكنّه لا يتكفل بنقلهن ولا يتحمل مسؤولية ما يتعرضن له من حوادث الطرق أو العمل.
فرحة لم تكتمل
عام 2020، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) مشروعاً لدعم جامعات المحار في قابس، بالتعاون مع شركة إيطالية تستورد المحار من تونس؛ بهدف تحسين دخلهن في ظل وجود طلب كبير على هذا المنتج في إيطاليا وجنوب أوروبا. اعتمد المشروع على قيام جامعات المحار ببيع محصولهن بشكل مباشر والحصول على عوائد أفضل. كما قدم المشروع حوافز تتيح لهنّ جمع المحار كبير الحجم فقط؛ ما يسمح بنضوج المحار الأصغر للموسم المقبل، وضمان استمرارية سبل العيش لهؤلاء النسوة لسنوات قادمة.
لكنّ السلطات التونسية حظرت جمع المحار قبل بدء الموسم نهاية ذلك العام (2020)، واستمر الأمر حتى العام الماضي (2024). كما تمّ حظر الصيد في موسم 2024/2025.
تعزو وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري منع صيد المحار للسنة الخامسة على التوالي، إلى تراجع المخزون جراء الصيد الجائر والعشوائي. ويمتد موسم صيد المحار من شهر تأكتوبر إلى شهر ماي من السنة التالية.
يقول عز الدين الدغري، إن النساء يلجأن إلى جمع المحار بطريقة عشوائية بعد قرار الحظر؛ والوسطاء لا يتحملون المسؤولية إن واجهتهن أيّ مشكلة.
مبروكة أثناء عملها في رتق شباك الصيد
تراجع الإنتاج
يقول مدير عام الصيد البحري وتربية الأحياء المائية بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، علي شيخ السبوعي، إنه تم دعم جامعات المحار عبر مشروعات تعاون دولي قبل حظر الموسم.
وأوضح أن جامعات المحار يمتهن أنشطة موسمية بديلة مثل جني الزيتون، لأن جمع المحار نشاط موسمي يستمر فترة قصيرة.
وأضاف أنه يجري العمل على استكشاف مناطق جديدة لوجود المحار، عن طريق معهد علوم وتكنولوجيا البحار، مؤكداً أن وضع المحار بات مُهدَّداً وينذر بالخطر في المناطق التقليدية؛ لذا تُجرى إعادة تقييم مخزون المحار، وهو ما يحدد تعليق موسم الصيد أو إبقاءه.
يقول السبوعي إن تراجع المخزون نجم عن التغيرات المناخية والصيد المفرط وصيد المحار قبل وصوله الحجم المسموح وهو 3.5 سنتيمتر ، بالإضافة إلى وجود السلطعون الأزرق. وأكد أهمية المحافظة على هذا الصنف إلى جانب أصناف أخرى مثل سمك البوري؛ لضمان تكاثرها والمحافظة على الثروة السمكية في البلاد.
وبحسب شيخ السبوعي، فإن عدد جامعات المحار يختلف من عام إلى آخر، وقد يكون مرتفعاً جداً في بعض المناطق.
يقول الخبير في البيئة والتنمية المستدامة، عادل الهنتاتي، إن قرار وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بوقف جمع المحار للسنة الخامسة على التوالي كان ضرورياً؛ لتجديد المخزون الوطني من هذا النوع من الأحياء البحرية، مشيراً إلى أن هذا القرار اتُخذ في تسعينيات القرن الماضي للسبب ذاته.
تراجع إنتاج المحار في الفترة بين عام 2016 و2020 بنسبة تصل إلى 95 بالمئة، إذ كان يصل حجم الإنتاج إلى ما يزيد على ألف و800 طن، لينخفض إلى 84 طناً.
يعزو ممثل المجمع المهني المشترك للصيد البحري بولاية مدنين، فتحي النالوفي، تراجع إنتاج المحار إلى الصيد المفرط، خاصة في خليج قابس؛ إذ كان يتمّ صيد المحار على اختلاف أحجامه خلال المواسم وخارجها، حسب قوله. لكنّه أكد أيضاً أن التلوث بسبب المصانع، خاصة في خليج قابس، أسهم في تراجع أعداد المحار.
تقول راضية بن خليفة (40 عاماً)، وهي من جامعات المحار: « أحياناً كنا نذهب لجمع المحار فنجد السلطعون بصدد أكل المحارة، وأحياناً أخرى لا نعثر إلا على صدفتها الخارجية… انتشار السلطعون أثر كثيراً في المحار ».
ويؤكد خبراء أن مياه البحر المتوسط تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة، بدرجة أكبر من بقية المناطق عالمياً. في حين يشير تقرير الصندوق العالمي للطبيعة إلى أن حرارة مياه المتوسط تدعم نحو ألف صنف من الأحياء البحرية غير الأصيلة، وهي تنتشر شمالاً وغرباً كل عام، وتؤدي إلى نزوح الأنواع المقيمة.
ويرى الخبير البيئي، عادل الهنتاتي، أن ارتفاع درجة حرارة مياه البحر استقطب السلطعون الأزرق، ليجد في خليج قابس مناخاً ملائماً للعيش، وهو يقتات على المحار وكائنات بحرية أخرى.
كما أثر هذا الارتفاع في درجة حرارة المياه، والدورة الحياتية للمحار، جراء ظهور ملوثات من البحر، وفق الهنتاتي.
عمدت الحكومة التونسية، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، إلى تدريب الصيادين على صيد السلطعون الأزرق، وتزويدهم بمصائد جديدة خاصة لهذا الغرض. في حين انتشرت المصانع التي تشتري هذا المنتج البحري في الساحل التونسي؛ إذ يُعد مطلوباً في كل من آسيا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، لذا نشأت سلسلة توريد تقوم على هذا الضيف الجديد « الغريب ».
تؤكد فاطمة حامدي أن المحار لم يعد متوفراً كما كان سابقاً. تقارن فاطمة ما كانت تحصل عليه من المحار، وما بات عليه الحال في السنوات الأخيرة: « في الماضي كان متوفراً رغم أن ثمنه أيضاً كان بخساً… تراجعت كمياته، وسعره ليس جيداً مقارنة بمشقة جمعه الكبيرة ».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليوم 24
منذ 3 ساعات
- اليوم 24
"نساء المحار" في تونس يواجهن خطر التغيرات المناخية و"السلطعون الأزرق"
تواجه جامعات المحار في تونس عقبات كبيرة لتأمين « لقمة العيش »، بعد حظر موسم الصيد وتراجع إنتاج المحار في ظل التغيرات المناخية التي أثرت في البيئة البحرية التونسية. مع ابتسامة تظهر تجاعيد وجهها أكثر، تنظر فاطمة حامدي (66 سنة) إلى سقف منزلها الصغير، مستحضرة بداية عملها في جمع المحار قبل ما يزيد على الأربعين عاماً. تعيش فاطمة بمنطقة أجيم في جزيرة جربة جنوب شرقي تونس. تقطع فاطمة مع رفيقاتها من النساء مسافات طويلة مشياً من محل سكنها إلى سواحل قلالة في جزيرة جربة؛ بحثاً عن المحار أو ما يسمى باللهجة المحلية « القفالة ». بعد رحلة شاقة غير مضمونة النتائج مشياً على الأقدام، أو من خلال الجلوس في الصناديق الخلفية للشاحنات، وأحياناً بحراً في المراكب، تصل فاطمة ورفيقاتها من جامعات المحار، إلى وجهتهن. يبدأ موسم السماح بجمع المحار في الخريف وينتهي أواخر فصل الربيع. حين يظفرن بمكان يتوفر فيه المحار، يسرعن إلى صيده منحنِيات لساعات طويلة في الماء، تقول فاطمة: « تظهر علامات وجوده في التراب فنلتقطه بالمنجل، ثم نضعه في السطل ». يكاد يقتصر جمع المحار على النساء في تونس، أو ما يعرف بـ »الصيد على الأقدام ». يتطلب العمل في هذه المهنة الشاقة مواعيد غير ثابتة. وقد يرافقهن أطفالهن في هذه الرحلة الصعبة. تضيف فاطمة: « كنت أحمل أطفالي على ظهري، حتى أن قطعة القماش التي أحملهم فيها تترك أثراً في جسدي »، وتتابع: « أذكر أن أحد أبنائي حملته معي ولم يبلغ الأربعين يوماً بعد ». تقول فاطمة إن بيع محصول المحار ساعد على دفع التكاليف الدراسية لأولادها، وتوفير احتياجات بيتها من طعام وغيره. تراجع إنتاج المحار في تونس خلال السنوات الأخيرة، في ظل تغير البيئة البحرية بسبب ما طالها قبل أكثر من مئة عام. في ربيع عام 1859، بدأت أعمال حفر قناة السويس بمصر، ممهدة ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وبذلك أسهمت في فتح الطريق أمام ألف صنف من الأحياء البحرية المتوطنة في البحر الأحمر للوصول والاستقرار في شرق المتوسط. انتقل ما يعرف بالسلطعون الأزرق، السابح من المحيط الهندي إلى غرب المتوسط عبر البحر الأحمر، لكنّه وصل خليج قابس عام 2014، بعد أن ظهر في شباك الصيادين هناك. كما يُعزى ظهور صنف آخر من السلطعون الأزرق إلى حركة السفن، التي تنقله إلى البحر المتوسط. مع مرور الوقت، ازدادت أعداد السلطعون الأزرق، وبات يغزو المياه القريبة من الشواطئ ويلتهم المحار الذي يشكل مورد رزق العديد من النساء القاطنات في المناطق الساحلية. يزيد عدد جامعات المحار في تونس على أربعة آلاف امرأة؛ يجمعن المحار من نحو 17 موقعاً تتركز بشكل رئيس في سواحل قابس وصفاقس. ومع ذلك، لا يلقى صيد المحار، الذي يبدو حكراً على النساء في الغالب، اهتماماً من جانب السلطات التونسية. توجه تونس غالبية صادراتها من « اللافقاريات المائية والرخويات »، ومنها المحار، إلى دول الاتحاد الأوروبي. تستحوذ إيطاليا على نحو 80 في المئة من هذا الإنتاج. وتُعد إيطاليا الخامسة عالمياً في إنتاج المحار، ومع ذلك فإن المحار الذي يعيش في الشواطئ المحاذية لشمال إفريقيا مطلوب في المطاعم الإيطالية لصناعة طبق شهير من المعكرونة. ويتوطن تونس المحار المعروف باسم Tapes decussatus autochthonous، المميز بطعمه وجودته العالية. يُجمع هذا المحار باليد، باستخدام أدوات بسيطة للحفاظ على تلك الجودة. ومع ذلك، يُعد صيد المحار نشاطاً مهمشاً، لا ينضوي تحت استراتيجيات الدولة لعدة أسباب؛ من بينها محدودية عدد جامعات المحار مقارنة بعدد الصيادين، في ظل عزوفهن عن الحصول على بطاقة « صياد محترف » لدى السلطات، والتوزيع غير المنتظم للمحار نتيجة طبيعته، حسب تقرير أصدرته وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري عام 2023. في سبيل لقمة العيش وإعالة أسرهن، تتّبع جامعات المحار أطوار القمر، فهن يضبطن أوقات عملهن حسب المد والجزر؛ إذ يقمن بجمع المحار عندما تتكشف الرمال خلال ساعات الجزر. في ساحة منزلها، جلست مبروكة قشاط (44 عاماً) القرفصاء ترتق شباك الصيد بخفة، ولا تنهض من مكانها إلا لدقائق معدودة، تتفقد وجبة الغداء قبل عودة ولديها من المدرسة. مبروكة هي جامعة محار من منطقة بوغرارة الساحلية التابعة لولاية مدنين، وتعمل أيضاً في رتق الشباك لإعالة أسرتها بعد وفاة زوجها. تقول: « نذهب أحياناً للعمل بواسطة المراكب، نغادر بيوتنا حتى قبل أذان الصبح؛ ربما في الثالثة فجراً ». تضيف مبروكة: « نبدأ بجمع الحطب وإشعال النار للتدفئة حال وصولنا… نتناول الإفطار ثم أحياناً تذهب إحدانا فقط لتفقد المحار ، لأنه ليس متوفراً دائماً ». أما رفيقتها زهرة قشاط (45 عاماً) فتوضح أهمية المد والجزر في تحديد مواعيد العمل: « نحن نستدل بالقمر، عندما يبدأ بالغياب فهذا يعني أن البحر بدأ بالتراجع ». تعمل زهرة في جمع المحار منذ طفولتها بعمر الثانية عشرة. تشكل جامعات المحار رأس الهرم في « سلسلة القيمة » لهذا الصنف. ففي حال سماح السلطات التونسية بموسم الصيد، تبيع جامعات المحار صيدهن عبر مزاد، بعد الحصول على وصل « معاينة » من ممثل عن الجهاز المحلي التابع لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري. يتم وزن المحار وتحميله بالشاحنات، ثم نقله إلى مراكز التنقية حيث يُنظف قبل بيعه في السوق المحلية أو تصديره إلى الخارج، وفق ممثل المجمع المهني المشترك للصيد البحري بولاية مدنين، فتحي النالوفي. تُقبِل النساء في المناطق الساحلية بتونس على مهنة جمع المحار؛ لأنها لا تتطلب تدريباً خاصاً أو أدوات باهظة الثمن. تبيع جامعات المحار المحصول عبر وسطاء. تقول زهرة قشاط إن الوسطاء يشترون المحار بأثمان بخسة تصل إلى خمسة دنانير تونسية (1.57 دولار أميركي) للكيلوغرام الواحد، وهو مبلغ لا يكفي في ظل غلاء الأسعار ونقص الإنتاج، وفق تقديرها. وتضيف: « إن الأمر يتجاوز الاستغلال بكثير ». الأمر ذاته تؤكده فاطمة الحامدي بالقول: « سبعة دنانير لا تكفي، لا نعرف ما الحل… تركنا الأمر لله ». تتعرض جامعات المحار لحوادث خلال عملهن. تقول فاطمة إنها أصيبت في قدمها ذات يوم وهي تجمع المحار بمنطقة القطعاية بجزيرة جربة؛ ما اضطرها إلى إجراء عملية جراحية كلفتها مبلغاً مالياً كبيراً. كما تعرضت كل من زهرة ومبروكة إلى حوادث طرق، أثناء تنقلهما عبر شاحنات الوسطاء. يؤكد عز الدين الدغري (61 سنة)، الذي عمل في السابق وسيطاً في بيع المحار بمنطقة بوغرارة، أن عمل الوسيط في الماضي كان مقنّناً من السلطات، إذ تحدد الأخيرة سعر بيع المحار حسب حجمه . وأوضح أن عمل الوسيط يقتصر على شراء المحار من جامعاته، لكنّه لا يتكفل بنقلهن ولا يتحمل مسؤولية ما يتعرضن له من حوادث الطرق أو العمل. فرحة لم تكتمل عام 2020، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) مشروعاً لدعم جامعات المحار في قابس، بالتعاون مع شركة إيطالية تستورد المحار من تونس؛ بهدف تحسين دخلهن في ظل وجود طلب كبير على هذا المنتج في إيطاليا وجنوب أوروبا. اعتمد المشروع على قيام جامعات المحار ببيع محصولهن بشكل مباشر والحصول على عوائد أفضل. كما قدم المشروع حوافز تتيح لهنّ جمع المحار كبير الحجم فقط؛ ما يسمح بنضوج المحار الأصغر للموسم المقبل، وضمان استمرارية سبل العيش لهؤلاء النسوة لسنوات قادمة. لكنّ السلطات التونسية حظرت جمع المحار قبل بدء الموسم نهاية ذلك العام (2020)، واستمر الأمر حتى العام الماضي (2024). كما تمّ حظر الصيد في موسم 2024/2025. تعزو وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري منع صيد المحار للسنة الخامسة على التوالي، إلى تراجع المخزون جراء الصيد الجائر والعشوائي. ويمتد موسم صيد المحار من شهر تأكتوبر إلى شهر ماي من السنة التالية. يقول عز الدين الدغري، إن النساء يلجأن إلى جمع المحار بطريقة عشوائية بعد قرار الحظر؛ والوسطاء لا يتحملون المسؤولية إن واجهتهن أيّ مشكلة. مبروكة أثناء عملها في رتق شباك الصيد تراجع الإنتاج يقول مدير عام الصيد البحري وتربية الأحياء المائية بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، علي شيخ السبوعي، إنه تم دعم جامعات المحار عبر مشروعات تعاون دولي قبل حظر الموسم. وأوضح أن جامعات المحار يمتهن أنشطة موسمية بديلة مثل جني الزيتون، لأن جمع المحار نشاط موسمي يستمر فترة قصيرة. وأضاف أنه يجري العمل على استكشاف مناطق جديدة لوجود المحار، عن طريق معهد علوم وتكنولوجيا البحار، مؤكداً أن وضع المحار بات مُهدَّداً وينذر بالخطر في المناطق التقليدية؛ لذا تُجرى إعادة تقييم مخزون المحار، وهو ما يحدد تعليق موسم الصيد أو إبقاءه. يقول السبوعي إن تراجع المخزون نجم عن التغيرات المناخية والصيد المفرط وصيد المحار قبل وصوله الحجم المسموح وهو 3.5 سنتيمتر ، بالإضافة إلى وجود السلطعون الأزرق. وأكد أهمية المحافظة على هذا الصنف إلى جانب أصناف أخرى مثل سمك البوري؛ لضمان تكاثرها والمحافظة على الثروة السمكية في البلاد. وبحسب شيخ السبوعي، فإن عدد جامعات المحار يختلف من عام إلى آخر، وقد يكون مرتفعاً جداً في بعض المناطق. يقول الخبير في البيئة والتنمية المستدامة، عادل الهنتاتي، إن قرار وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بوقف جمع المحار للسنة الخامسة على التوالي كان ضرورياً؛ لتجديد المخزون الوطني من هذا النوع من الأحياء البحرية، مشيراً إلى أن هذا القرار اتُخذ في تسعينيات القرن الماضي للسبب ذاته. تراجع إنتاج المحار في الفترة بين عام 2016 و2020 بنسبة تصل إلى 95 بالمئة، إذ كان يصل حجم الإنتاج إلى ما يزيد على ألف و800 طن، لينخفض إلى 84 طناً. يعزو ممثل المجمع المهني المشترك للصيد البحري بولاية مدنين، فتحي النالوفي، تراجع إنتاج المحار إلى الصيد المفرط، خاصة في خليج قابس؛ إذ كان يتمّ صيد المحار على اختلاف أحجامه خلال المواسم وخارجها، حسب قوله. لكنّه أكد أيضاً أن التلوث بسبب المصانع، خاصة في خليج قابس، أسهم في تراجع أعداد المحار. تقول راضية بن خليفة (40 عاماً)، وهي من جامعات المحار: « أحياناً كنا نذهب لجمع المحار فنجد السلطعون بصدد أكل المحارة، وأحياناً أخرى لا نعثر إلا على صدفتها الخارجية… انتشار السلطعون أثر كثيراً في المحار ». ويؤكد خبراء أن مياه البحر المتوسط تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة، بدرجة أكبر من بقية المناطق عالمياً. في حين يشير تقرير الصندوق العالمي للطبيعة إلى أن حرارة مياه المتوسط تدعم نحو ألف صنف من الأحياء البحرية غير الأصيلة، وهي تنتشر شمالاً وغرباً كل عام، وتؤدي إلى نزوح الأنواع المقيمة. ويرى الخبير البيئي، عادل الهنتاتي، أن ارتفاع درجة حرارة مياه البحر استقطب السلطعون الأزرق، ليجد في خليج قابس مناخاً ملائماً للعيش، وهو يقتات على المحار وكائنات بحرية أخرى. كما أثر هذا الارتفاع في درجة حرارة المياه، والدورة الحياتية للمحار، جراء ظهور ملوثات من البحر، وفق الهنتاتي. عمدت الحكومة التونسية، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، إلى تدريب الصيادين على صيد السلطعون الأزرق، وتزويدهم بمصائد جديدة خاصة لهذا الغرض. في حين انتشرت المصانع التي تشتري هذا المنتج البحري في الساحل التونسي؛ إذ يُعد مطلوباً في كل من آسيا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، لذا نشأت سلسلة توريد تقوم على هذا الضيف الجديد « الغريب ». تؤكد فاطمة حامدي أن المحار لم يعد متوفراً كما كان سابقاً. تقارن فاطمة ما كانت تحصل عليه من المحار، وما بات عليه الحال في السنوات الأخيرة: « في الماضي كان متوفراً رغم أن ثمنه أيضاً كان بخساً… تراجعت كمياته، وسعره ليس جيداً مقارنة بمشقة جمعه الكبيرة ».


ناظور سيتي
منذ 4 أيام
- ناظور سيتي
بعد قرون من الغياب.. قرطبة تستعد لفتح أبواب حماماتها الإسلامية القديمة للزوار بميزانية ضخمة
ناظورسيتي: متابعة في خطوة طال انتظارها منذ عقود، شرعت الحكومة الأندلسية عبر وزارة الثقافة والرياضة في تنفيذ مشروع ترميم شامل لحمامات سان بيدرو الأثرية بمدينة قرطبة، وذلك بهدف تحويل هذا المعلم التاريخي المنسي إلى مزار سياحي وثقافي مفتوح للعموم، مع تحديد موعد الافتتاح خلال عام 2026. المشروع، الذي تقدر تكلفته بـ1.614.271 يورو، ممول جزئياً من الاتحاد الأوروبي عبر صندوق التنمية الإقليمية (FEDER)، وسيمتد على مدى 13 شهراً، وفق ما أعلنت عنه باتريثيا ديل بوزو، وزيرة الثقافة والرياضة في حكومة الأندلس، مؤكدة أن هذا التدخل يمثل "وفاءً بوعد طالما انتظره سكان قرطبة منذ أن استحوذت الحكومة الإقليمية على الموقع سنة 1992". تقع الحمامات بجوار كنيسة سان بيدرو في منطقة أثيركية Axerquía، شرق المدينة القديمة، وهي المنطقة الوحيدة من الأطراف التي لا تزال تحتفظ بهذا النوع من المعالم. وقد تم تصنيفها كـ"موقع ذي أهمية ثقافية" (BIC) بالنظر إلى قيمتها التاريخية والمعمارية، إذ تعود أصولها إلى القرنين 11 و12، وتُعد من أبرز النماذج المتبقية للحمامات العربية الأندلسية. ورغم ما تعرضت له من إهمال لعقود، فقد احتفظت هذه المنشأة بهيكلها الأصلي بدرجة كبيرة، بما في ذلك الغرف الثلاث الكلاسيكية: الباردة، الفاترة، والساخنة، إضافة إلى غرف تغيير الملابس، غلاية التسخين، نظام قنوات الصرف، خزانين للمياه، ونظام رفع المياه يضم ناعورة وبئراً. الترميم لا يقتصر على إعادة بناء ما تهدّم، بل يشمل إحداث تغييرات هيكلية ذكية تتماشى مع الحاجة إلى استقبال الزوار، إذ ستُغطى الحمامات بسقف جديد يعيد تشكيل حجم المبنى الأصلي، ويتيح الإضاءة الطبيعية، بينما ستمكّن المسارات المعلقة على مستوى الطابق الأول من تقديم نظرة بانورامية فريدة على القباب والبنية الداخلية. كما سيُشيّد مبنى جديد في الساحة المجاورة، خُصص ليكون فضاءً للاستقبال ومركزاً لتفسير التاريخ الغني للحمامات عبر محتوى متحفي تفاعلي قيد الإعداد، بانتظار مرحلة التعاقد. اللافت أن هذا المشروع يتزامن مع انطلاق إجراءات إعادة تأهيل محيط كنيس قرطبة المجاور، ثاني أكثر المعالم زيارة في المدينة بعد المسجد الكبير، حيث تم رصد أكثر من 440 ألف يورو لإقامة مركز تفسير جديد يضم محتوى حول تاريخ الكنيس والبقايا الأثرية، بما فيها الميكفي (حمام التطهير اليهودي) الذي اكتُشف مؤخرًا. ويأمل مسؤولو الثقافة في قرطبة أن يشكّل هذا التطوير المزدوج، لحمامات سان بيدرو والكنيس اليهودي، "مجمّعًا تراثيًا موحدًا" يُسلط الضوء على التعددية الثقافية والدينية التي طبعت هوية قرطبة على مر القرون، ويعيد وضع المدينة في قلب الخريطة السياحية والثقافية العالمية.


هبة بريس
٠١-٠٤-٢٠٢٥
- هبة بريس
الساعة "الإضافية" تعود للمغرب هذا الأحد وسط جدال و انتقادات كبيرة
هبة بريس ـ الدار البيضاء يستعد المغرب للعودة إلى التوقيت الصيفي (GMT+1) عند الساعة الثانية صباحا من يوم الأحد 6 أبريل 2025، بإضافة 60 دقيقة إلى التوقيت القانوني. وكالعادة، يرافق هذا التغيير موجة من الجدل بين مؤيديه ومعارضيه، حيث تدافع الحكومة عن القرار بكونه يساهم في ترشيد استهلاك الطاقة وتعزيز التناسق مع الشركاء الاقتصاديين الدوليين، خاصة الاتحاد الأوروبي. لكن في المقابل، تعبر فئة كبيرة من المغاربة عن استيائها من هذا التغيير، معتبرة أنه يؤثر سلبا على وتيرة حياتهم اليومية، خاصة على التلاميذ والعمال الذين يضطرون للاستيقاظ في الظلام. كما تشير بعض الدراسات إلى أن تغيير الساعة البيولوجية قد يكون له تأثيرات على الصحة والمردودية المهنية، و رغم ذلك، تصر السلطات على أن الفوائد الاقتصادية لهذا الإجراء تفوق سلبياته، وتؤكد أن اعتماد التوقيت الصيفي بشكل دائم يخضع لدراسات متأنية. ومع اقتراب موعد تطبيق القرار، تتزايد النقاشات على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يطالب العديد من المواطنين بالإبقاء على التوقيت الطبيعي (GMT) طوال السنة عوض الاقتصار عليه في رمضان فقط. تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X مقالات ذات صلة