
قصة أبطال العطش والجوع تترجم إلى 18 لغة عالمية
ومن بطولات أطفال غزة استوحت كاتبة الأطفال الأردنية د. أماني سليمان داود قصة "أطفال طابور الماء"، التي قام المركز القومي للترجمة بالقاهرة بترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لتصدر بثلاث لغات، ليقرأ العالم قصة أطفال غزة الذين يعيشون بلا ماء ولا طعام، أطفال صغار تأمر عليهم المحتل بالأسلحة المحرمة والمجرمة دوليا، وأخيرا بسلاح التجويع.
والقصة تلقي ضوءا، ولو ضئيلا، على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر.
ومن ناحيته، أعلن مركز الأزهر للترجمة عن توجهه لترجمة قصة "أبطال طابور الماء" إلى خمس عشرة لغة، تضاف إلى الإنجليزية والفرنسية، في محاولة لتقديم قدر بسيط من التعاطف والتفهم والمشاركة من أجل غزة وأطفالها، الذين منحوا الطفولة معاني جديدة، فصار لزاما علينا تعديل رؤيتنا لموقعهم ووعيهم ودورهم.
أطفال غزة في طابور الماء
"إلى الطفل الفلسطيني الذي يعلم البشرية أبجدية البطولة"
بهذا الإهداء الموحي تفتتح كاتبة الأطفال د. أماني سليمان داود قصتها "أبطال في طابور الماء".
تبدأ القصة بمنظر طابور طويل، ويقف في الطابور ثلاثة أصدقاء: يوسف، ومصطفى، وإبراهيم، طلاب في الصف السابع، وكل منهم ينتظر دوره بصبر لملء الماء.
يقول يوسف -وهو طفل يعشق الميديا ويصور كل ما يحدث بهاتفه الجوال- "كنا طلابا في فصول دراسية سعيدة، لكننا لم نكمل سنتنا الدراسية. لم نهرب من المدرسة، ولم نتركها بإرادتنا، بل هربت المدرسة نفسها، وتحولت غرفها إلى ملاجئ، وصارت مركزا لإيواء النازحين من القصف".
ويتساءل يوسف: "أتعرفون ما معنى إيواء؟ هو أن تضع قلبك في خيمة، وتشد عليه بحبل كي لا يطير خوفا".
ويضيف يوسف: "في الماضي كنا نجري في ساحات المدرسة، نلعب، نقرأ القصص، نضحك كثيرا ونحلم أكثر. أما اليوم، فقد أغلقت مدرستنا، ليس لأننا في عطلة، بل لأن القنابل سبقتها وأوقفت الدروس، فتحولت المدرسة إلى مأوى كبير تنام فيه العائلات المشردة من بيوتها، وتعلق على جدرانها ملابس مبللة بدلا من اللوحات".
لقد وقعت الحرب… تمنينا لو كان ما نحن فيه الآن مجرد كابوس نصحو منه بعد قليل، لكن الكابوس طال كثيرا. استيقظنا على صوت قنابل تهز الأرض تحت أقدامنا، وتحولت حاراتنا إلى رماد، وغدا الحي كله كومة من دخان وغبار، وفي كل لحظة قد يعبر صاروخ من فوقنا أو تسقط قنبلة علينا.
غزة الجميلة كانت لوحة ملونة بالفرح والبهجة، تعج بيوتها بصخب الحياة، أمست بيوت غزة كالعصافير المذعورة، وصارت ترابا هامدا. صفرت ريح الخراب في الأحياء، كما غابت رائحة الزعتر، حتى السماء لم تعد زرقاء، صارت سوداء كأنها تلبس وشاحا من الحزن.
نعيش في خيام كالحة اللون، نصبت على عجل. في فصل الشتاء، تتمايل خيامنا كلما هبت الريح، وتصرخ إذا ما اشتدت، كأنها خائفة.
قررت مع أصدقائي أن نساعد الكبار والجرحى والنساء بسقيا الماء، فالماء أمسى شحيحا منذ أن نشبت الحرب. في كل صباح، نحمل دلاء بلاستيكية أو أي آنية نجدها فيما تبقى من خراب حولنا، ونقف في طابور الماء.
طويل طابور الماء كليالينا الباردة، ننتظر دورنا كي نملأ الأواني، ونسير في طريق وعر مملوء بالحجارة، ندعو الله ألا نتعثر وينسكب الماء الذي انتظرنا بالساعات ليأتي دورنا. فمنذ أن بدأت الحرب، لم يعد هناك ماء، ولم يعد هناك خبز أو طحين، وفرى الجوع والعطش أجسادنا.
لحظات ويقطع صوت الزنانة حالة الخوف المشوبة بالحذر. الملعونة لا تهدأ ولا تنام، ودائما ما تبحث عن شيء تفجره. نغطي آذاننا، لكن الصوت يخترق جلودنا، ولم يعد هناك أطفال في الشوارع يلعبون ويلهون ويضحكون. والآن، لا تسمع إلا أصوات صافرات سيارات الإسعاف، وصراخ الأمهات، وأنين الجرحى، وبكاء المنكوبين.
أطفال في زمن القصف
ويحدثنا يوسف عن أصحابه ويقول: "إبراهيم يحب الغناء، وله صوت جميل، وكانوا يختارونه ليغني الأناشيد الوطنية في الإذاعة المدرسية. ولجمال صوته، كانت الطيور تنتظر سماعه، وظل يشدو بصوته الشجي حتى أثناء الحرب، إلى أن سقطت قذيفة على بيتهم واستشهد والده وأخوه وبعض أقاربه.
جاء مع أمه وأخته الصغيرة ليسكن في الخيمة بجوارنا، ومنذ أن استشهد أفراد أسرته، انقلب إبراهيم إلى شخص صامت، ووجهه جامد كالصخر، لم يعد يغني، بل صار حزينا، دائما ما تغرق وجهه دموعه. ومع ذلك، كانت هوايته أن يجمع أطفال الخيام ويعلمهم كيف يكتبون ويقرؤون الحروف، وكأنه يبني المدرسة من جديد".
"أما صديقي مصطفى، بطل التايكوندو، فقد كان يقودنا كل عام في البطولات المدرسية. ومع بداية الحرب، سقط صاروخ على منزلهم في أطراف الحي، وانتشل من تحت الأنقاض بإصابات بالغة، ووالده برجل مبتورة.
ومنذ ذلك الوقت، فقد القدرة على الكلام، لكنه لم يستسلم، فهو يدور ليربت على أكتاف الأطفال اليتامى، ويحملهم على كتفيه وبين ذراعيه القويتين، ويبتسم لهم، ويحرك عينيه وأنفه بحركات تضحكهم، ويساعدهم في ربط وتصليح حبال الخيام، وإزالة الحجارة والزجاج المتطاير من أثر القصف المستمر على خيامهم".
ويتحدث يوسف عن نفسه ويقول: "أما أنا، فأحب الكاميرا، وحلمي أن أصبح مذيعا مشهورا كي أستطيع تصوير جمال مدن فلسطين. كنت أقرأ النشرة المدرسية كل صباح، ورغم كل الدمار الذي لم يترك بيتا ولا حجرا في جدار إلا ونال منه، رغم كل هذا الدمار، أستعمل هاتفي المحمول الصغير وأصور ما يحدث في المخيم.
وكلما جاءت إشارة إنترنت صغيرة، أبث لكم الحقيقة، وأوثق يومياتي، وألاحق الطوابير والوجوه المتعبة، وأرسل للعالم صور أطفال لا يحملون البنادق، بل دلاء الماء والأحلام، لا يبحثون عن القتال، بل عن قطرة ماء.
سأجعل العالم يرى من هم أهل غزة، وماذا فعل العدو المحتل بنا، وحتى تضيع إشارة الاتصال، لا أضيع وقتا، وأشارك إبراهيم ومصطفى في نقل الماء وبعض المعونات التي تصلنا، ونقوم بتوزيعها على الأهالي في المخيم".
الأمل لا يُقصف
يا أصحابي، بقي قليل من شحن هاتفي، وليس هناك كهرباء في غزة، وقبل أن ينطفئ، سأحدثكم عما جرى قبل أيام. بينما كنا ننقل الماء، سمعنا صراخا قويا، التفتنا، ورأينا لهبا يخرج من خيمة أم زيد.
وفي لحظة، تجمدت في مكاني وأنا أرى مصطفى وإبراهيم يقتحمان الخيمة، ويدخلان وسط النار والدخان، وسحبا طفلين صغيرين. وجريت وراءهما، وحملت طفلا رضيعا. خرجنا والدخان يملأ صدورنا، وجلسنا بوجوه لفحتها النيران وسودها الدخان، ولا نشعر بما أصابنا من جروح.
في تلك الليلة، عاد إبراهيم يغني، ويصدح صوته لأطفال المخيم بأغنيات غزة التي تحترق وتنهض. وأمسك مصطفى عودا، وكتب على التراب: "لقد عاد صوتي".
نظرنا نحوه غير مصدقين، ووقف يصرخ بصوت أدهشنا جميعا: "لن نخرج من أرضنا، سنطرد عدونا، ونحرر وطننا. سيغني إبراهيم لبحر غزة بصوته الجميل، وحتما سأفوز يوما بميدالية ذهبية في بطولة عالمية".
ضحكنا حينها وبكينا من الفرح، أحسسنا بشيء يلمع في صدورنا مثل شعاع شمس وسط الغبار، وفي تلك اللحظة ضممته بكلتا ذراعي، وأقسمت له: "سأنقل خبر فوزك للعالم كله".
وفي صباح اليوم التالي، استأنفنا العمل في نقل بعض المساعدات، وعدنا إلى طابور الماء. لكن القصف العشوائي عاد فجأة، فجرينا شمالا ويمينا، نحمل إلى الخيام العطشى والحزينة شيئا أنفس من الماء؛ نحمل الأمل الذي لا يقصف، ولا يحرق.
إنه الأمل وحده، الذي يجتمع عليه أطفال غزة، أملا في حياة ومستقبل أكثر عدلا وحرية.
المقاومة بالحكاية
وعن أسباب كتابتها لقصة (أبطال في طابور الماء) تقول المؤلفة د. أماني سليمان داود (أكاديمية وقاصة أردنية) للجزيرة نت: "كتبت هذه القصة لا ليقرأها الطفل وحسب، بل ليقرأها المواطن العربي والمواطن الغربي، وألقي ولو ضوءا ضئيلا على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر، ولعلني أراها طرقة ولو خافتة على جدار الخزان، طرقة مني، وطرقة من كل من ساهم في إنتاج هذا العمل رسما وترجمة وإخراجا ونشرا، لعل الطرقات تعلو، والعالم يسمع".
وتتمنى "لعلنا إذا ما دققنا على جدار الخزان لا نموت، ولا ننتهي كما انتهى "رجال في الشمس" التي غزل كلماتها الجميلة الشهيد البطل غسان كنفاني… لعل كتابة القصة شكل من أشكال المقاومة بالكلمة، ولو جاءت خجلى. لا بد من صدى لها، وسنسمع كل العالم صوتنا. ربما من هنا تأتي فكرة قصة (أبطال في طابور الماء)، ومن هنا تنطلق أصوات أبطالها يوسف ومصطفى وإبراهيم".
وتضيف سليمان "كتابة قصة (أبطال في طابور الماء) تجربة فريدة بالنسبة لي؛ إذ حضرت شخوص القصة إلى ذهني منذ شهور، وظلت تمور في داخلي؛ تغيب ثم سرعان ما تتجلى في كل طفل أراه في غزة أثناء متابعتي لما يجري هناك. كانت الشخوص تتضح ملامحها مع مرور الوقت في ذهني، ورغم الوجع والخراب الذي كنت أشاهده في مأساة غزة، إلا أن روح هذه الشخوص الثلاثة الذين غدوا أبطال القصة ظلت أرواحا قوية مشرئبة بالأمل، متمسكة بفكرة البقاء والانتصار، لا تنهار رغم ما واجهته من فقد لأقاربها الذين استشهدوا في الحرب، ومن إصابات بالغة بدلت بالضرورة شكل حياتهم إلى الأبد.
وتكمل الكاتبة أنه "مع قرب اكتمال تصوري لأبطال قصتي حضر مشروع المركز القومي للترجمة، بفكرته النبيلة ورؤيته الإنسانية الشفافة، حينها آن لشخوصي المتخيلين أن يعبروا من عتبة المخيلة إلى الواقع الفني الجمالي، ويتشكلوا حبرا على الورق.
فظهر (يوسف) الطفل الذي يحلم بأن يغدو إعلاميا في المستقبل؛ ينقل صورة وطنه وبهاء طبيعته، وسحر تفاصيله، وظهر (إبراهيم) صاحب الصوت الجميل الشجي الذي رغم استشهاد والده وأخيه وبعض أقاربه، ظل صوته — وإن فقده لبعض الوقت كرد فعل على الصدمة — يصدح بالغناء كأن الغناء شكل من أشكال المقاومة، ومحاولة للتصبر على المأساة.
كما ظهر (مصطفى) الفتى الرياضي الذي شاهد بعينه والده وهو ينتشل من تحت أنقاض بيته الذي سقط عليه، ورغم ذلك استطاع بروحه الأبية المقاومة أن يستثمر قوته البدنية في مساعدة الآخرين من حوله في حيه الذي غدا مخيما يكاد يتهاوى كلما اشتدت الرياح".
شهادة على مأساة حقيقية
أبطال ثلاثة شكلوا استعارات ورموزا للطفل الغزي الذي كان له بيت ومدرسة وأزقة أليفة يلعب فيها وسماء تظله بزرقتها الصافية، وهوايات محببة يمارسها يوميا، ثم مع مجيء الحرب تبدلت كل التفاصيل الجميلة، واندثرت الأحلام، فانقطعت أوصال الحياة الطبيعية، فصار لزاما على هؤلاء الأطفال أن يحملوا الكثير من عبء الحياة، وأن يتنازلوا عن طفولتهم في سبيل أدوار شاقة وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بها.
وتختتم المؤلفة حديثها بفلسفة طابور الماء في الحياة بكل دلالاته وفلسفته وتأويلاته، وتقول: "ندرك جميعنا ماهية الطوابير في اليومي والهامشي من حيواتنا الطبيعية، ولكن، كيف يغدو الطابور في الحرب؟! والأبطال في طابور الماء هم أبطال في طابور الحياة التي نصطف فيها، متشبثين باستحقاقنا لها لأننا لا نحب الموت بل نحب الحياة إذا استطعنا إليها سبيلا".
وما بين حياة أطفال غزة قبل الحرب وحياتهم أثناء الحرب التي ما تزال مشتعلة، تقف قصة (أبطال في طابور الماء) كشاهد على حقيقة مأساة صار لزاما أن تسجل كسردية ضد المحو، وضد الظلم، وضد زوال الرواية الحقيقية لصاحب الحق قبالة رواية العدو المحتل الزائفة، نعلي بها صوت الطفل الغزي، قد يكون مبحوحا لكنه الصوت الذي يتأبى الانطفاء، سردية تمثل شكلا من أشكال حفظ الذاكرة نوجهها لكل أطفال العالم، علهم ينتبهون لأطفال مثلهم يستحقون الحياة ويملكون حقوقا مساوية لهم تماما، علهم يسمعون بطفلنا المقاوم الذي وجد نفسه وحيدا يواجه العالم بصدر عار ومعدة خاوية، حيث غدا في الحرب بلا رغيف يقيم أوده وبلا جدار.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
"غزة فاضحة العالم".. بين ازدواجية المعايير ومصير شمشون
الرباط –"غزة.. فاضحة العالم" ليست مجرد مقالات كتبت في وقتها لمتابعة تطورات قضية فلسطين التي تجاوز تأثيرها الإقليمي مدى أكثر من 75 سنة، لتصل إلى فضاءات عالمية واسعة ما زالت تتفاعل فيها حتى اليوم ككرة ثلج متدحرجة. إنها استعادة للذاكرة، ليس فقط لتسجيل المواقف، بل لتأكيد أن "قضية فلسطين هي أم القضايا في عصرنا الحديث". هكذا يكتب الصحفي المغربي علي أنوزلا على ظهر كتاب جديد جمع فيه مقالاته التي كتبها بين عامي 2016 و2024، حول ما عاشته غزة وما تعيشه إلى الآن، والذي لقي تفاعلا من قبل شخصيات إعلامية وثقافية مغربية. تقول الإعلامية والمذيعة الشابة وفاء كنسوس إن هذه المقالات ليست تحليلات سياسية عادية، بل شهادات صادقة تنطلق من موقف إنساني وأخلاقي، يقف إلى جانب المظلوم، لا من موقع الحياد أو المراقبة من بعيد. وتضيف للجزيرة نت: "ما يميزها هو كيف حول الصحافة إلى نوع من المحاكمة الرمزية. أنوزلا لم يخف انحيازه، بل عبر عنه بوضوح: إلى الضحية، إلى المقاومة، وإلى الكلمة التي تكشف وتوثق". مواقف إنسانية يقول الأديب الألماني غونتر غراس "من يمنح الكلمة للمهزومين، يضع انتصار المنتصرين من جديد محل سؤال". وعلي أنوزلا فعل الشيء ذاته، كما جاء في تقديم الكتاب من قبل الإعلامي المغربي توفيق بوعشرين، إذ يقول إن "أفضل ما يمكن أن تقوم به الكلمات والمقالات والآراء والروايات أن تضع الاحتلال محل سؤال استنكاري، في انتظار أن يأتي الجواب الفعلي من جيل سيخرج من رماد غزة، ومن ضمير الأجيال القادمة". بينما تبرز كنسوس أن أنوزلا جسد الاصطفاف بوضوح في نصوصه، خاصة في ظل العدوان على غزة، حيث يرى أن الوقوف إلى جانب الضحية "ليس فقط موقفا إنسانيا، بل سياسيا أيضا". من جهته، يرى الإعلامي المغربي صلاح الدين لمعيزي أن إصدار كتاب حول موضوع غزة، في هذا الظرف الموسوم بالسعي إلى التطبيع ، هو في حد ذاته موقف مشرف. إعلان ويضيف للجزيرة نت "أنوزلا يمثل صوتا صحفيا مقاوما، وحين يكتب مثلا "غزة أولا وأخيرا"، يترجم رفضه لتلك المعادلة الخاطئة التي تضاد بين النضال من أجل التنمية والديمقراطية المحلية، والنضال من أجل التضامن الإنساني مع قضايا عادلة". ازدواجية يقول أنوزلا "لو كان الدكتور أبو صفية طبيبا أوكرانيا، ومستشفى كمال عدوان يقع في ضاحية في كييف، لتحولت صورته، وهو يواجه الدبابات الروسية، إلى رمز للشجاعة والتضحية في العالم، لكن ازدواجية المعايير الغربية، التي فضحتها حرب غزة، تكشف لنا كل يوم المستوى المتدني الذي انحدرت إليه معايير قيم الغرب". يرى الكاتب والإعلامي حسن بويخف أن هذا السلوك يتجاوز في دوافعه "ازدواجية المعايير" إلى "العنصرية والاحتقار"، مبرزا أن تفسير السلوك المنافق في فلسفة الدولة الغربية "الديمقراطية" نجده في موقع المواطن الغربي فيها. ويشرح للجزيرة نت "في هذه الدول، المواطن هو مصدر السلطة، والحكومات تخشى أن يتحول الرأي العام ضدها، فتعمل على إرضاء مواطنيها وتنتفض عند أي مس بهم، حتى وإن كانوا مذنبين أحيانا، وتكون قوة المناصرة أكبر إذا كان المواطن ذا هوية 'أصيلة' تعبر عن الغرب، أي دون أصول عربية أو إسلامية". ويبرز أن آخر مثال على هذه الازدواجية هو في مأساة غزة، حيث تسببت مقاطع فيديو لرهينتين إسرائيليتين تعانيان الجوع في ردود فعل غربية حادة، بما في ذلك عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن ، بينما يموت في غزة عشرات الأطفال والنساء جوعا. ويضيف "إن السلوك العنصري المحتقر الذي تنتهجه الدول الغربية، نابع بالأساس من انحطاط قيمة المواطن وقضاياه لدى الدول العربية والإسلامية نفسها". مصير شمشون "يستعير أنوزلا أسطورة شمشون لتفسير الأوهام السياسية التي تحرك بنيامين نتنياهو في عدوانه الممتد من غزة إلى دول الشرق الأوسط ، ويقارن بين شمشون الأسطوري الذي دمر المعبد على نفسه ليجر معه الفلسطينيين فقط من أجل إحداث موت ثقيل الكلفة بالنسبة لهذا الشعب، لينبه إلى أن هذا المسار هو نفسه الذي يسلكه نتنياهو في سبيل تحقيق نصر موهوم قد يؤدي إلى دمار شامل"، كما يقول الباحث في الصحافة والإعلام عبد الله أموش. ويضيف للجزيرة نت "يسبر أنوزلا، بشكل موجز، تاريخ شمشون الذي قضى نحبه في أرض غزة، ليحيل على مفارقات يصعب تفسيرها، ويقوده البحث عن قراءة ما يحدث في غزة ومقارنته بالماضي إلى التوقف عند خيار شمشون، الذي هو في المحصلة الأخيرة عبارة عن استعمال السلاح الذري في المواجهة". ويقول إن الكاتب لا يحاول الهرب من الواقع الحالي عبر الغرق في الماضي، بل رام اعتماد تفسير الحاضر باستقراء الماضي، وهو العلم الذي تطور في السياق الغربي خلال البحث عن تفسيرات لسلوك الأفراد والأمم. ويبرز أن أي كاتب وصحفي التزم بالدفاع عن قضايا إنسانية لا بد أن يستعمل كل الأساليب الإقناعية والاستعارية، وحتى العاطفية، من أجل إحداث تأثير لدى الجمهور، طالما هو بعيد عن البروباغندا التي تحرف الحقائق أو تطمسها. رموز المقاومة الجديدة ترتقي سفن الحصار إلى درجة الرموز الفلسطينية، مثلها مثل الكوفية، التي أصبحت رمزا عالميا للرفض والكرامة والتضامن الشعبي. حين يتحدث علي أنوزلا عن سفينة "مادلين"، يوجه شكره العميق إلى الناشطتين غريتا وريما، اللتين علمتا أن الصمت ليس مجرد تواطؤ مع الظلم، بل إهانة لصاحبه أيضا. ويضيف "شكرا لكما، لأن سفينتكما ذكرتنا بقيم الحرية والتضامن والإخاء واللاعنف والعدالة والسلام، وشكرا لأن صدى صوتكما تردد في كل أرجاء العالم، ووصلت رسالتكما إلى القلوب". ويبرز لمعيزي كيف يحول أنوزلا التضامن مع القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية تتجاوز الحدود الدينية والإيديولوجية، مشيرا إلى دعم مثقفين من خلفيات متعددة، ليسوا بالضرورة مسلمين، مما يمثل دعما إيجابيا ومشجعا. ويضيف أنه رغم الانتقادات والسخرية التي تواجه المتضامنين في هذه الحرب الثقافية، ومن احتكار الإعلام من قبل القوى الصهيونية والغربية، يتزايد ارتفاع الأصوات الحرة في العالم، وتسير الأمور نحو تغيير ملحوظ في الرأي العام في عدد من البلدان الأوروبية. قد لا يندرج كتاب "غزة.. فاضحة العالم" بنسخته الإلكترونية ضمن خانة الكتب التقليدية، لكنه يجمع بين مئات المقالات التي تنتمي، كما يؤكد بوعشرين في مقدمة الكتاب، إلى ذلك الجنس الصحفي الذي يسبق عمل المؤرخ، خاصة عندما يكون صاحبه متابعا دقيقا لموضوعه عبر سنوات طويلة، ويكون قلمه ملتزما بالقيم المهنية للصحافة، وفي مقدمتها الانحياز إلى الحقيقة، وإعطاء صوت للضعيف، وإعلاء مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان والسلام العالمي، ذلك السلام المبني على العدالة والإنصاف، وليس "سلام الرومان" المغشوش الذي تحرسه السيوف والنبال وقهر الإنسان.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
قصة أبطال العطش والجوع تترجم إلى 18 لغة عالمية
يبقى الطفل الفلسطيني هو البطل في حرب الإبادة الدائرة على قطاع غزة. الأطفال هم المستقبل، وآلة القتل الإسرائيلية لا تريد فلسطينيا، ولا تريد لهذا المستقبل أن يكون. ووسط هذه الإبادة التي تدور رحاها على مرأى من العالم كله، بدت بطولة أطفال غزة، الذين قتل منهم ما لا يقل عن ثلاثين ألف طفل، أكثر تعبيرا عن عشق الحياة، وأكثر حرصا على السلام في مواجهة ماكينة القتل الإسرائيلية الغاشمة. ومن بطولات أطفال غزة استوحت كاتبة الأطفال الأردنية د. أماني سليمان داود قصة "أطفال طابور الماء"، التي قام المركز القومي للترجمة بالقاهرة بترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، لتصدر بثلاث لغات، ليقرأ العالم قصة أطفال غزة الذين يعيشون بلا ماء ولا طعام، أطفال صغار تأمر عليهم المحتل بالأسلحة المحرمة والمجرمة دوليا، وأخيرا بسلاح التجويع. والقصة تلقي ضوءا، ولو ضئيلا، على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر. ومن ناحيته، أعلن مركز الأزهر للترجمة عن توجهه لترجمة قصة "أبطال طابور الماء" إلى خمس عشرة لغة، تضاف إلى الإنجليزية والفرنسية، في محاولة لتقديم قدر بسيط من التعاطف والتفهم والمشاركة من أجل غزة وأطفالها، الذين منحوا الطفولة معاني جديدة، فصار لزاما علينا تعديل رؤيتنا لموقعهم ووعيهم ودورهم. أطفال غزة في طابور الماء "إلى الطفل الفلسطيني الذي يعلم البشرية أبجدية البطولة" بهذا الإهداء الموحي تفتتح كاتبة الأطفال د. أماني سليمان داود قصتها "أبطال في طابور الماء". تبدأ القصة بمنظر طابور طويل، ويقف في الطابور ثلاثة أصدقاء: يوسف، ومصطفى، وإبراهيم، طلاب في الصف السابع، وكل منهم ينتظر دوره بصبر لملء الماء. يقول يوسف -وهو طفل يعشق الميديا ويصور كل ما يحدث بهاتفه الجوال- "كنا طلابا في فصول دراسية سعيدة، لكننا لم نكمل سنتنا الدراسية. لم نهرب من المدرسة، ولم نتركها بإرادتنا، بل هربت المدرسة نفسها، وتحولت غرفها إلى ملاجئ، وصارت مركزا لإيواء النازحين من القصف". ويتساءل يوسف: "أتعرفون ما معنى إيواء؟ هو أن تضع قلبك في خيمة، وتشد عليه بحبل كي لا يطير خوفا". ويضيف يوسف: "في الماضي كنا نجري في ساحات المدرسة، نلعب، نقرأ القصص، نضحك كثيرا ونحلم أكثر. أما اليوم، فقد أغلقت مدرستنا، ليس لأننا في عطلة، بل لأن القنابل سبقتها وأوقفت الدروس، فتحولت المدرسة إلى مأوى كبير تنام فيه العائلات المشردة من بيوتها، وتعلق على جدرانها ملابس مبللة بدلا من اللوحات". لقد وقعت الحرب… تمنينا لو كان ما نحن فيه الآن مجرد كابوس نصحو منه بعد قليل، لكن الكابوس طال كثيرا. استيقظنا على صوت قنابل تهز الأرض تحت أقدامنا، وتحولت حاراتنا إلى رماد، وغدا الحي كله كومة من دخان وغبار، وفي كل لحظة قد يعبر صاروخ من فوقنا أو تسقط قنبلة علينا. غزة الجميلة كانت لوحة ملونة بالفرح والبهجة، تعج بيوتها بصخب الحياة، أمست بيوت غزة كالعصافير المذعورة، وصارت ترابا هامدا. صفرت ريح الخراب في الأحياء، كما غابت رائحة الزعتر، حتى السماء لم تعد زرقاء، صارت سوداء كأنها تلبس وشاحا من الحزن. نعيش في خيام كالحة اللون، نصبت على عجل. في فصل الشتاء، تتمايل خيامنا كلما هبت الريح، وتصرخ إذا ما اشتدت، كأنها خائفة. قررت مع أصدقائي أن نساعد الكبار والجرحى والنساء بسقيا الماء، فالماء أمسى شحيحا منذ أن نشبت الحرب. في كل صباح، نحمل دلاء بلاستيكية أو أي آنية نجدها فيما تبقى من خراب حولنا، ونقف في طابور الماء. طويل طابور الماء كليالينا الباردة، ننتظر دورنا كي نملأ الأواني، ونسير في طريق وعر مملوء بالحجارة، ندعو الله ألا نتعثر وينسكب الماء الذي انتظرنا بالساعات ليأتي دورنا. فمنذ أن بدأت الحرب، لم يعد هناك ماء، ولم يعد هناك خبز أو طحين، وفرى الجوع والعطش أجسادنا. لحظات ويقطع صوت الزنانة حالة الخوف المشوبة بالحذر. الملعونة لا تهدأ ولا تنام، ودائما ما تبحث عن شيء تفجره. نغطي آذاننا، لكن الصوت يخترق جلودنا، ولم يعد هناك أطفال في الشوارع يلعبون ويلهون ويضحكون. والآن، لا تسمع إلا أصوات صافرات سيارات الإسعاف، وصراخ الأمهات، وأنين الجرحى، وبكاء المنكوبين. أطفال في زمن القصف ويحدثنا يوسف عن أصحابه ويقول: "إبراهيم يحب الغناء، وله صوت جميل، وكانوا يختارونه ليغني الأناشيد الوطنية في الإذاعة المدرسية. ولجمال صوته، كانت الطيور تنتظر سماعه، وظل يشدو بصوته الشجي حتى أثناء الحرب، إلى أن سقطت قذيفة على بيتهم واستشهد والده وأخوه وبعض أقاربه. جاء مع أمه وأخته الصغيرة ليسكن في الخيمة بجوارنا، ومنذ أن استشهد أفراد أسرته، انقلب إبراهيم إلى شخص صامت، ووجهه جامد كالصخر، لم يعد يغني، بل صار حزينا، دائما ما تغرق وجهه دموعه. ومع ذلك، كانت هوايته أن يجمع أطفال الخيام ويعلمهم كيف يكتبون ويقرؤون الحروف، وكأنه يبني المدرسة من جديد". "أما صديقي مصطفى، بطل التايكوندو، فقد كان يقودنا كل عام في البطولات المدرسية. ومع بداية الحرب، سقط صاروخ على منزلهم في أطراف الحي، وانتشل من تحت الأنقاض بإصابات بالغة، ووالده برجل مبتورة. ومنذ ذلك الوقت، فقد القدرة على الكلام، لكنه لم يستسلم، فهو يدور ليربت على أكتاف الأطفال اليتامى، ويحملهم على كتفيه وبين ذراعيه القويتين، ويبتسم لهم، ويحرك عينيه وأنفه بحركات تضحكهم، ويساعدهم في ربط وتصليح حبال الخيام، وإزالة الحجارة والزجاج المتطاير من أثر القصف المستمر على خيامهم". ويتحدث يوسف عن نفسه ويقول: "أما أنا، فأحب الكاميرا، وحلمي أن أصبح مذيعا مشهورا كي أستطيع تصوير جمال مدن فلسطين. كنت أقرأ النشرة المدرسية كل صباح، ورغم كل الدمار الذي لم يترك بيتا ولا حجرا في جدار إلا ونال منه، رغم كل هذا الدمار، أستعمل هاتفي المحمول الصغير وأصور ما يحدث في المخيم. وكلما جاءت إشارة إنترنت صغيرة، أبث لكم الحقيقة، وأوثق يومياتي، وألاحق الطوابير والوجوه المتعبة، وأرسل للعالم صور أطفال لا يحملون البنادق، بل دلاء الماء والأحلام، لا يبحثون عن القتال، بل عن قطرة ماء. سأجعل العالم يرى من هم أهل غزة، وماذا فعل العدو المحتل بنا، وحتى تضيع إشارة الاتصال، لا أضيع وقتا، وأشارك إبراهيم ومصطفى في نقل الماء وبعض المعونات التي تصلنا، ونقوم بتوزيعها على الأهالي في المخيم". الأمل لا يُقصف يا أصحابي، بقي قليل من شحن هاتفي، وليس هناك كهرباء في غزة، وقبل أن ينطفئ، سأحدثكم عما جرى قبل أيام. بينما كنا ننقل الماء، سمعنا صراخا قويا، التفتنا، ورأينا لهبا يخرج من خيمة أم زيد. وفي لحظة، تجمدت في مكاني وأنا أرى مصطفى وإبراهيم يقتحمان الخيمة، ويدخلان وسط النار والدخان، وسحبا طفلين صغيرين. وجريت وراءهما، وحملت طفلا رضيعا. خرجنا والدخان يملأ صدورنا، وجلسنا بوجوه لفحتها النيران وسودها الدخان، ولا نشعر بما أصابنا من جروح. في تلك الليلة، عاد إبراهيم يغني، ويصدح صوته لأطفال المخيم بأغنيات غزة التي تحترق وتنهض. وأمسك مصطفى عودا، وكتب على التراب: "لقد عاد صوتي". نظرنا نحوه غير مصدقين، ووقف يصرخ بصوت أدهشنا جميعا: "لن نخرج من أرضنا، سنطرد عدونا، ونحرر وطننا. سيغني إبراهيم لبحر غزة بصوته الجميل، وحتما سأفوز يوما بميدالية ذهبية في بطولة عالمية". ضحكنا حينها وبكينا من الفرح، أحسسنا بشيء يلمع في صدورنا مثل شعاع شمس وسط الغبار، وفي تلك اللحظة ضممته بكلتا ذراعي، وأقسمت له: "سأنقل خبر فوزك للعالم كله". وفي صباح اليوم التالي، استأنفنا العمل في نقل بعض المساعدات، وعدنا إلى طابور الماء. لكن القصف العشوائي عاد فجأة، فجرينا شمالا ويمينا، نحمل إلى الخيام العطشى والحزينة شيئا أنفس من الماء؛ نحمل الأمل الذي لا يقصف، ولا يحرق. إنه الأمل وحده، الذي يجتمع عليه أطفال غزة، أملا في حياة ومستقبل أكثر عدلا وحرية. المقاومة بالحكاية وعن أسباب كتابتها لقصة (أبطال في طابور الماء) تقول المؤلفة د. أماني سليمان داود (أكاديمية وقاصة أردنية) للجزيرة نت: "كتبت هذه القصة لا ليقرأها الطفل وحسب، بل ليقرأها المواطن العربي والمواطن الغربي، وألقي ولو ضوءا ضئيلا على معاناة أطفال غزة، وتضيء وجها من وجوه مقاومتهم، وتؤكد تشبثهم بالأمل؛ بوصفه شكلا من أشكال البقاء، ومفتاحا من مفاتيح النصر، ولعلني أراها طرقة ولو خافتة على جدار الخزان، طرقة مني، وطرقة من كل من ساهم في إنتاج هذا العمل رسما وترجمة وإخراجا ونشرا، لعل الطرقات تعلو، والعالم يسمع". وتتمنى "لعلنا إذا ما دققنا على جدار الخزان لا نموت، ولا ننتهي كما انتهى "رجال في الشمس" التي غزل كلماتها الجميلة الشهيد البطل غسان كنفاني… لعل كتابة القصة شكل من أشكال المقاومة بالكلمة، ولو جاءت خجلى. لا بد من صدى لها، وسنسمع كل العالم صوتنا. ربما من هنا تأتي فكرة قصة (أبطال في طابور الماء)، ومن هنا تنطلق أصوات أبطالها يوسف ومصطفى وإبراهيم". وتضيف سليمان "كتابة قصة (أبطال في طابور الماء) تجربة فريدة بالنسبة لي؛ إذ حضرت شخوص القصة إلى ذهني منذ شهور، وظلت تمور في داخلي؛ تغيب ثم سرعان ما تتجلى في كل طفل أراه في غزة أثناء متابعتي لما يجري هناك. كانت الشخوص تتضح ملامحها مع مرور الوقت في ذهني، ورغم الوجع والخراب الذي كنت أشاهده في مأساة غزة، إلا أن روح هذه الشخوص الثلاثة الذين غدوا أبطال القصة ظلت أرواحا قوية مشرئبة بالأمل، متمسكة بفكرة البقاء والانتصار، لا تنهار رغم ما واجهته من فقد لأقاربها الذين استشهدوا في الحرب، ومن إصابات بالغة بدلت بالضرورة شكل حياتهم إلى الأبد. وتكمل الكاتبة أنه "مع قرب اكتمال تصوري لأبطال قصتي حضر مشروع المركز القومي للترجمة، بفكرته النبيلة ورؤيته الإنسانية الشفافة، حينها آن لشخوصي المتخيلين أن يعبروا من عتبة المخيلة إلى الواقع الفني الجمالي، ويتشكلوا حبرا على الورق. فظهر (يوسف) الطفل الذي يحلم بأن يغدو إعلاميا في المستقبل؛ ينقل صورة وطنه وبهاء طبيعته، وسحر تفاصيله، وظهر (إبراهيم) صاحب الصوت الجميل الشجي الذي رغم استشهاد والده وأخيه وبعض أقاربه، ظل صوته — وإن فقده لبعض الوقت كرد فعل على الصدمة — يصدح بالغناء كأن الغناء شكل من أشكال المقاومة، ومحاولة للتصبر على المأساة. كما ظهر (مصطفى) الفتى الرياضي الذي شاهد بعينه والده وهو ينتشل من تحت أنقاض بيته الذي سقط عليه، ورغم ذلك استطاع بروحه الأبية المقاومة أن يستثمر قوته البدنية في مساعدة الآخرين من حوله في حيه الذي غدا مخيما يكاد يتهاوى كلما اشتدت الرياح". شهادة على مأساة حقيقية أبطال ثلاثة شكلوا استعارات ورموزا للطفل الغزي الذي كان له بيت ومدرسة وأزقة أليفة يلعب فيها وسماء تظله بزرقتها الصافية، وهوايات محببة يمارسها يوميا، ثم مع مجيء الحرب تبدلت كل التفاصيل الجميلة، واندثرت الأحلام، فانقطعت أوصال الحياة الطبيعية، فصار لزاما على هؤلاء الأطفال أن يحملوا الكثير من عبء الحياة، وأن يتنازلوا عن طفولتهم في سبيل أدوار شاقة وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بها. وتختتم المؤلفة حديثها بفلسفة طابور الماء في الحياة بكل دلالاته وفلسفته وتأويلاته، وتقول: "ندرك جميعنا ماهية الطوابير في اليومي والهامشي من حيواتنا الطبيعية، ولكن، كيف يغدو الطابور في الحرب؟! والأبطال في طابور الماء هم أبطال في طابور الحياة التي نصطف فيها، متشبثين باستحقاقنا لها لأننا لا نحب الموت بل نحب الحياة إذا استطعنا إليها سبيلا". وما بين حياة أطفال غزة قبل الحرب وحياتهم أثناء الحرب التي ما تزال مشتعلة، تقف قصة (أبطال في طابور الماء) كشاهد على حقيقة مأساة صار لزاما أن تسجل كسردية ضد المحو، وضد الظلم، وضد زوال الرواية الحقيقية لصاحب الحق قبالة رواية العدو المحتل الزائفة، نعلي بها صوت الطفل الغزي، قد يكون مبحوحا لكنه الصوت الذي يتأبى الانطفاء، سردية تمثل شكلا من أشكال حفظ الذاكرة نوجهها لكل أطفال العالم، علهم ينتبهون لأطفال مثلهم يستحقون الحياة ويملكون حقوقا مساوية لهم تماما، علهم يسمعون بطفلنا المقاوم الذي وجد نفسه وحيدا يواجه العالم بصدر عار ومعدة خاوية، حيث غدا في الحرب بلا رغيف يقيم أوده وبلا جدار.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
عشرات المشاهير في ألمانيا يدعون لحظر توريد أسلحة إلى إسرائيل
انضم 162 ممثلا وموسيقيا وإعلاميا ألمانيا إلى الدعوة لوقف توريد أسلحة ألمانية إلى إسرائيل. ووفقا لمنظمة "آفاز" فإن من بين الموقعين الجدد على الدعوة المغنيين نينا خوبا وكلويسو، والمخرج فاتح أكين، وآري فولمان الممثل الإسرائيلي الحائز على جائزة غولدن غلوب، والممثلة زاندرا هولر. وتقول "آفاز" العالمية إنها نظمت هذه الحملة، علما بأنها تعرّف نفسها بأنها شبكة حملات عالمية تهدف إلى التأثير على القرارات السياسية من خلال أصوات المواطنين. ويوم الخميس الماضي، حث أكثر من 200 شخصية بارزة بألمانيا المستشار فريدريش ميرتس على وقف توريد أسلحة لإسرائيل وفرض عقوبات عليها في رسالة مفتوحة. وحتى صباح اليوم الأربعاء، بلغ إجمالي المشاهير الموقعين على الرسالة 367 شخصا. ومن بين الموقعين الأوائل على الرسالة الإعلاميان يوكو فينترشايت وكلاس هويفر-أوملاوف، والموسيقيان شيرين دافيد وتسارتمان، والممثلات جيسيكا شفارتس وهايكه ماكاتش وليف ليزا فريز، والممثلون بينو فورمان ودانيال برول ويورغن فوغل، والكاتب مارك-أوفه كلينغ. وفيما يتعلق بالوضع الراهن في قطاع غزة، انتقد موقعو الرسالة أيضا إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نيته احتلال قطاع غزة بأكمله، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية. وجاء في الرسالة "سيد ميرتس، لقد حان وقت التصرف!".