هل باتت طريق التطبيع معبَّدة بين سوريا وإسرائيل؟
تثبت التطوّرات المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة أن خريطة الشرق الأوسط يُعاد رسمها على نار هادئة حيناً، وعلى نار الحروب المشتعلة أحياناً أخرى، وما كان مستحيلاً في الأمس القريب بات ممكناً في المستقبل الوشيك. فمن كان يتصوّر أن «سوريا الممانِعة»، في الشكل على الأقلّ، إبّان حكم «الأسد الفار»، تتقدّم الآن في عهد «الشرع المنفتح» بخطى ثابتة على طريق التطبيع مع إسرائيل، التي باتت سالكة ومعبّدة أكثر من أي وقت مضى.
فقد كشف الإعلام العبري كما الغربي قبل أيام النقاب عن محادثات مباشرة عُقدت بين تل أبيب ودمشق في باكو، عاصمة أذربيجان، شارك فيها من الجانب الإسرائيلي مسؤولو مجلس الأمن القومي ورئيس شعبة العمليات في الجيش اللواء عوديد بسيوك، الذي يُعَدّ الرجل الثالث في التسلسل الهرمي في الجيش، ومن الجانب السوري ممثلون عن الحكومة السورية وُصفوا بالمقرّبين من الرئيس السوري، وبحضور مسؤولين أتراك، بحكم أن لقاءات بسيوك تُعتبر جزءاً من المحادثات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع أنقرة في شأن الوضع في سوريا، ولما للاستخبارات التركية من دور فاعل في الميدان الأمني السوري.
مكاسب أمنية واقتصادية
المحادثات بين الطرفين السوري والإسرائيلي لن ترقى بطبيعة الحال إلى مفاوضات الحلّ النهائي، أي أنها لن تشمل هضبة الجولان التي احتلّت الدولة العبرية نحو ثلثي مساحتها في «حرب الأيام الستة» عام 1967، قبل أن تضمّها إلى أراضيها عام 1981، والتي يُفترض أن تكون شرطاً سورياً محورياً لأي عملية تطبيع، بل إن جلّ ما يرنو إليه الشرع من مشروع التطبيع، مكاسب أمنية تتمثل بوقف الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية وإعادة الاستقرار إلى الجنوب السوري وانسحاب الجيش الإسرائيلي من هناك ومن المواقع التي احتلّتها الدولة العبرية في الآونة الأخيرة في المنطقة العازلة عقب سقوط نظام الأسد، مع تسليم سلطات دمشق ببقاء الإسرائيليين في بعض النقاط الأمنية الثابتة وقد تكون دائمة في الجنوب السوري بعد التطبيع، بينما تكمن مصالح تل أبيب في التطبيع بضمان بقاء منطقة منزوعة السلاح في جنوب دمشق، وبادعائها بحماية المكوّن الدرزي في سوريا، حرصاً على العلاقة التاريخية «الوطيدة» مع دروز إسرائيل.
كذلك، يطمح الشرع إلى أن يفتح له التطبيع مع تل أبيب أبواب الغرب الاقتصادية على مصراعيها، ويسمح بتدفّق المساعدات المالية الدولية ويطلق العنان للاستثمار الغربي والخليجي في المدن السورية المتعطّشة لضخّ أموال خارجية في عروق الاقتصاد المتهالك منذ عشرات السنين.
أثمان سياسية باهظة
غير أنّ لهذا التطبيع، إن كُتبت له الحياة، أثماناً سياسية داخلية باهظة قد يدفعها الشرع من رصيده الإسلامي والشعبي، خصوصاً في ظلّ انتفاء وجود بيئة شعبية سورية حاضنة للتقارب مع الدولة العبرية، حيث إن أي سلام مع إسرائيل كان يُعدّ من المحرّمات السياسية والأيديولوجية في قاموس مَن تبقّى مِن شعب «محور الممانعة»، بيد أنه في ميزان الشرع أيضاً، هناك أهمية كبيرة لرضا «العم سام» عليه من خلال التطبيع، ولولا هذا الرضا لما تمكّن أصلاً من الإطاحة بحكم آل الأسد المتجذّر لأكثر من خمسة عقود، ولما وصل إلى سدّة الرئاسة الانتقالية. وخير دليل على رضا قاطن البيت الأبيض ومباركته الشرع، لقاؤه به في الرياض الأسبوع الماضي وإشادته به وإبداء إعجابه به كمقاتل، فضلاً عن إعلانه من المملكة رفع العقوبات عن «سوريا الجديدة»، على مسامع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
إذاً، تأتي اللقاءات التي لم تَعُد سرّية بين عدوّي الأمس إسرائيل وسوريا، وسط فوالق زلزالية جيوسياسية تضرب منطقة الشرق الأوسط برمّتها، وفي سياق إقليمي متحوّل، تجهد فيه الدولة العبرية لتوسيع دائرة الدول العربية المُطبِّعة معها، مستفيدةً من حاجة سوريا الجديدة الملحّة للدعم الدولي، وهي الدولة الوليدة المثخنة بجراح حرب داخلية دامية، وبسنين اقتصادية عجاف.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
منذ 2 ساعات
- النهار
صباح "النهار"- إسرائيل تجهز لضرب منشآت نووية وتحذيرات أميركية من حرب أهلية في سوريا
إليكم أبرز الأخبار اليوم الأربعاء 21 أيار/مايو 2025 مانشيت "النهار": أمن الجولة الجنوبية بين الاستعدادات والاعتداءات... أورتاغوس تكراراً: لا يزال أمام لبنان الكثير ما إن طويت صفحة نتائج الانتخابات البلدية والاختيارية في بيروت والبقاع، حتى اتجهت الاهتمامات نحو الجولة الرابعة والأخيرة للانتخابات في محافظتي لبنان الجنوبي والنبطية التي ستجري السبت المقبل. وتختلف ظروف هذه الجولة عن سابقاتها بأن العامل الأمني يطغى عليها أكثر من العامل الانتخابي، نظراً إلى المخاوف القائمة رسمياً وسياسياً وشعبياً من أن تحصل تطورات ميدانية إسرائيلية تؤدي إلى تعطيلها كلياً أو جزئياً. وما يبقي هذه المخاوف قائمة، على رغم استبعاد أوساط معنية تطورات بحجم تعطيلي كامل للعمليات الانتخابية، أن المسؤولين اللبنانيين لا يزالون قبل أيام قليلة من موعد الجولة الرابعة يتحدثون عن السعي إلى ضمانات أميركية وفرنسية وأممية، أي الجهات التي رعت اتفاق وقف النار في تشرين الثاني الماضي، توفّر المرور الآمن للانتخابات وتحول دون تعطيلها. للمزيد اضغط هنا إسرائيل تُجري استعدادات لاستهداف منشآت نووية إيرانية... تحركات عسكرية تشير إلى ضربة وشيكة! كشف مسؤولون أميركيون، لشبكة CNN، أن الولايات المتحدة حصلت على معلومات استخباراتية جديدة تُشير إلى أن إسرائيل تُجري استعدادات لضرب منشآت نووية إيرانية، في الوقت الذي تسعى فيه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتوصل إلى اتفاق ديبلوماسي مع طهران. وقال المسؤولون الأميركيون إن مثل هذه الضربة ستُمثل قطيعة مع ترامب، كما أنها قد تُنذر بصراع إقليمي أوسع في الشرق الأوسط، وهو أمر سعت الولايات المتحدة إلى تجنبه منذ أن أجّجت حرب غزة التوترات بدءاً من 2023. للمزيد اضغط هنا اتصال إماراتي – إسرائيلي يفضي لإدخال مساعدات غذائية عاجلة إلى غزة أجرى الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، اتصالاً هاتفياً مع وزير خارجية إسرائيل جدعون ساعر، أسفر عن الاتفاق على السماح بإيصال مساعدات إنسانية عاجلة من دولة الإمارات العربية المتحدة. وستلبي المساعدات الاحتياجات الغذائية لحوالي 15,000 مدني في قطاع غزة في المرحلة الأولى. للمزيد اضغط هنا بكلفة 175 مليار دولار... ترامب يعلن عن "القبة الذهبية" لحماية أميركا كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم الثلاثاء، عن خطط بناء درع صاروخية باسم "القبة الذهبية" بهدف حماية الولايات المتحدة من هجمات خارجية، مؤكداً أنها ستوضع في الخدمة في نهاية ولايته الثانية. وقال ترامب في البيت الأبيض: "خلال الحملة الانتخابية وعدت الشعب الأميركي بأني سأبني درعاً صاروخية متطورة جداً" مضيفاً: "يسرني اليوم أن أعلن أننا اخترنا رسمياً هيكلية هذه المنظومة المتطورة". للمزيد اضغط هنا ينتقد كثيرون من "جمهور المقاومة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي الدعوات التي توجهها رئاسة الحكومة لإقامة حفلات موسيقية وعروض مسرحية في السرايا الحكومية ويعتبرون أن الحكومة متلهية بالفن أكثر من الاهتمام بواقع الاعتداءات والتهجير في الجنوب. للمزيد اضغط هنا حذّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، اليوم الثلاثاء، من أن سوريا قد تكون على بعد أسابيع فقط من اندلاع حرب أهلية، وذلك بعد أيام من لقائه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في إسطنبول، وإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من السعودية رفع العقوبات عن دمشق. وقال روبيو خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ: "تقييمنا هو أن السلطة الانتقالية، وبصراحة، في ظلّ التحديات التي تواجهها، قد تكون على بُعد أسابيع، لا أشهر، من انهيار محتمل وحرب أهلية شاملة ذات أبعاد مدمّرة، قد تؤدي فعلياً إلى تقسيم البلاد". للمزيد اضغط هنا كتب عبدالوهاب بدرخان: قّمة بغداد: قبل زيارة قاآني وبعدها غداة القمّة العربية، عبّر النقاش الغاضب في القنوات العراقية عن استياء واسع، من انخفاض مستوى تمثيل معظم الدول العربية في القمة التي بذلت بغداد جهوداً كبيرة، لإنجاحها، لكن أيضاً لجعلها حدثاً عراقياً وعربياً مميزاً ومنطلقاً لعودة العراق الى مكانته في المجتمعين العربي والدولي. سأل العراقيون لماذا اختار 15 من قادة الدول (من أصل 22) عدم السفر الى بغداد وأنابوا عنهم وزراء، وكان العديد منهم أكّد حضوره. للمزيد اضغط هنا قّمة بغداد وكتب سركيس نعوم: نتنياهو "يصفّ" في النهاية مع ترامب "إسرائيل لا تسهّل المهمة في سوريا بتدخلاتها العسكرية المتتالية وفي العمق"، قالت شخصية أميركية يهودية مرموقة بتجمّع يضم رؤساء معظم الجمعيات اليهودية في أميركا. أضافت: "ماذا سيحصل إذا سيطرت إسرائيل على نصف سوريا وتركيا على نصفها الآخر؟ ما سيحصل هو حرب بين الدولتين. واحدة هي "أميركا" في الشرق الأوسط وثانية هي عضو في حلف شمال الأطلسي الذي تتزعمه أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والحرب معروفة خسائرها وآثارها السلبية على الجميع. للمزيد اضغط هنا وكتب محمد حسين أبو الحسن: "أم الدنيا" و"ست الدنيا": تجديد الأخوة! حتى الطقس كان مرحّباً بالرئيس جوزف عون، في زيارته الأولى إلى القاهرة، الإثنين الماضي. فتحت مصر ورئيسها وأزهرها وكنيستها ومؤسساتها أذرعها للرئيس اللبناني الذي ذكّر المصريين بوشائجهم الأزليّة مع اللبنانيين، قائلاً: إن ذاكرة الناس مستودع الحقيقة الأكثر صدقاً وعمقاً؛ فحين يقولون إن مصر "أم الدنيا"، وإنّ بيروت "ست الدنيا" فإنهم يؤكدون للعالم أجمع أننا إخوة أشقاء، إخوة من عمر التاريخ! للمزيد اضغط هنا عون والسيسي.


ليبانون ديبايت
منذ 5 ساعات
- ليبانون ديبايت
بعد توريط الفاتيكان وإباحة كل شيء... هل يخرج ترامب خاليَ الوفاض؟!
"ليبانون ديبايت" - هادي بو شعيا يبدو أن إنهاء الحرب في أوكرانيا بات يحتاج إلى نوع من المباركة الدينية، إذ وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإجراء مفاوضات فورية بشأن وقف إطلاق النار في الفاتيكان على إثر محادثته الهاتفية التي استمرت لساعتين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي حال دخل البابا ليو الرابع عشر على خط السلام بين كييف وموسكو فإن الأمر سيكون بمثابة حدث عاملي ضخم. فهل يصبح الحبر الأعظم الآن صانع سلام أم ترامب نفسه؟ المعطى الأول أن البابا الجديد هو أول بابا من أصل أميركي ينتخب عبر التاريخ ما يطرح تساؤلاً حول تحوّل الفاتيكان إلى أداة سياسية بيد ترامب؟! للوهلة الأولى، قد يظن البعض أن ذلك صحيحًا ولكن ليس بشكل مباشر، خصوصًا أن الفاتيكان مرجعية روحية ودينية عالمية تنادي بإحلال السلام وإنهاء الحروب ومراعاة حق الإنسان بالحياة. أما مسألة إعتماد الفاتيكان كوجهة لانطلاق المفاوضات أو المحادثات الأوكرانية-الروسية، إنما تحمل دلالات كثيرة أبرزها تغيّر الخطاب الأميركي أو بمعنى أدق تبنّي ترامب لاقتراح بوتين، ذلك أن الموقف الأميركي، قبيل الاتصال بين ترامب وبوتين، كان منسجمًا مع الموقف الأوكراني ومن خلفه الأوروبي وإن كان المضمون مختلفًا، حيث كانت الدعوة الأميركية تبدأ بوقف إطلاق النار لفترة 30 يومًا لتبدأ عملية المفاوضات؛ إلا أن بعد مكالمة ترامب-بوتين تغيّر موقف ترامب لا بل تبنّى المعادلة الروسية والقاضية بانطلاق المفاوضات إلى حين التوصل إلى وقف إطلاق النار. وعلى إثر ذلك، بلّغ ترامب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأوروبيين بأن المفاوضات سوف تجري على الفور حتى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، أي بعبارة أخرى لم يقل ترامب صراحةً بأنه يحمل أو يتبنّى اقتراح بوتين ومدى انسجامه مع ما كان يريده الأميركي والأوكراني والأوروبي من وقف إطلاق نار فوري ومن بعده تأتي المفاوضات، ولعلّ اختيار الفاتيكان يضفي طابعًا وختمًا دينيين وأخلاقيين، حتى لو لم يكن في صالح أوكرانيا والأوروبيين. إذا باختصار، سارع ترامب لتأطير التحوّل الذي جرى من خلال اختيار الفاتيكان، متجاوزًا بذلك الاعتبارات السياسية والسيادية لأوكرانيا سواء بعد قضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 والأقاليم الأربعة التي باتت تخضع للسيادة الروسية منذ 2022 وهي لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون. أمام هذا الواقع الذي يسود اليوم، لا بد من التذكير بأن دولاً أوروبية كثيرة عبر التاريخ خاضت صراعًا شرسًا وداميًا للتخلص من سلطة الكنيسة على القرار السياسي ما يطرح علامات استفهام حول كيفية الرجوع إلى أمر مماثل حتى لو كان بشكل رمزي؟ فألا يهدد ذلك القيم الديمقراطية التي أرستها أوروبا؟ في حقيقة الأمر، لا يوجد في الولايات المتحدة الأميركية ما يقابل التجربة الأوروبية مع الكنيسة وحتى الخطاب الديني لدى ترامب لا يخرج عن المعتاد في السياسة الأميركية على مدى عقود، صحيح أن هناك من يتحفظ على أصل الفصل بين الدولة والكنيسة، ولكن حتى اللحظة لا يوجد مؤشر يشي بتبدّل موقف ترامب باتجاه منحى ديني. بيد أن من يعتقد أو يحاول التسويق لترامب بأنه رجل سلام من خلال إعلان حزنه على عدد القتلى والدمار الناتج عن طرفي النزاع في كل من روسيا وأوكرانيا ليته يعي تجاهل ساكن البيت الأبيض لما يحصل في فلسطين من تجويع وتعطيش والمقتلة التي تمارس بحق الغزاويين من قبل إسرائيل بتمكين وتمويل وتسليح ومباركة أميركية، ويسابق لإيجاد الحلول البرّاقة والخلّاقة بتجاوز حقوقهم الطبيعية. في المحصلة، قد يرحّب البعض وربما الكثير بموقف ترامب حيال الحرب في أوكرانيا إلا أنه يبقى منقوصًا وملتبسًا ويبقى مبنيًا على ازدواجية معايير فما لا يجوز في أوكرانيا يُحلّل له في فلسطين، بينما يبقي على الدعوة إلى تهجير سكان القطاع إلى الصومال أو ليبيا أو جنوب السودان دون اي حقوق واعتبارات حتى يبقوا فقط على قيد الحياة!


النهار
منذ 5 ساعات
- النهار
ماضي بايدن القريب يطارده إلى بروستاته المصاب بالسرطان
سيظل ماضي جو بايدن القريب يلاحقه طويلاً. سنة 2024 كانت الأطول على الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة. خلالها بدا واضحاً في معظم نشاطه العام أنه ليس على ما يرام. لم تعد التأتأة تبرر له أخطاء تجاوزت هذه المسألة المزمنة، إلى الخلط بين أسماء رؤساء أحياء وآخرين راحلين، وبين دول ودول، وإلى التعثر والجمود على المنصات كأنه نسي تماماً أين هو، إلى آخره من اللحظات المحرجة التي كان الديموقراطيون يتحايلون عليها بالقول إنه، في مكتبه في البيت الأبيض، جو الذي نعرفه، حاداً ويقظاً وعلى رأس عمله، وإن خصومه هم الذين دائما يقتطعون مشاهده من سياقها. لكنها كانت سنة طويلة عليه. في شباط/فبراير 2024 تلقى صفعة علنية من روبرت هور، المحقق الخاص في قضية احتفاظ بايدن بوثائق سرية بعد الخروج من منصبه نائباً للرئيس. حينها خلص المحقق إلى أن بايدن رجل "مسن ذو نوايا حسنة وذاكرة ضعيفة"، ملاحظاً أنه لم يتذكر تاريخ وفاة ابنه بو أو فترة توليه منصب نائب الرئيس. اشتعل بايدن بالغضب حينها مع أنه خرج بريئاً، بينما اعتبر فريقه أن هذه الخلاصة دوافعها سياسية. قبل أيام نشر موقع "أكسيوس" ساعات من التسجيلات للاستجواب الذي خضع له بايدن في العام الذي سبق التقرير. وفيها تأكيد للمؤكد في التقرير بأنه لم يكن بكامل لياقته الذهنية كرئيس لأميركا، وبأنه تلعثم كثيراً ونسي مواعيد محطات فارقة في حياتيه، الشخصية والعامة. بعد التقرير، بدأ مشوار الانحدار المتواصل، وتشديد العزلة التي أحيط بها من قبل زوجته الدكتورة جيل وكبار مساعديه، وبقي مصراً على الترشح مجدداً، وخاض انتخابات الحزب الديموقراطي التمهيدية من دون منافس حقيقي، وفاز بها بالتزكية تقريباً، من دون أن يبذل جهداً انتخابياً وظهوراً عاماً في جولات كان لا شك سيفاقم انكشافه على عيون الإعلام وخصومه كما مناصريه. إلى أن أتت الضربة القاضية. في المناظرة الأولى والأخيرة بينهما، واجه جو بايدن خصمين، أقلهما خطراً عليه كان دونالد ترامب، أما الثاني، الذي طرحه أرضاً من الدقائق الأولى للمناظرة، فلم يكن إلا جو بايدن نفسه، وهو يتمتم بصوت غائر عبارات أشبه بتعاويذ غير مفهومة، وغير مكتملة. ولما تحسن أداؤه قليلاً، كان الوقت قد فات، ولم تعد مجدية محاولته الوقوف من جديد. الباقي بات من التاريخ. الحزب الديموقراطي بدأ يتحوّل تدريجاً من التضامن التام معه ومع قراره الترشح ثانية، إلى تسريبات عن تململ المتبرعين الكبار، ومنع الوصول إليه من قبل دائرته الضيقة ثم افتتاحية جورج كلوني في "واشنطن بوست" حيال وجوب عزوف بايدن عن الترشح، ثم، بعد محاولة اغتيال ترامب، إلى حملة ضغط متصاعدة عليه للخروج من اللعبة وصلت إلى حد عزله معنوياً وتهديده بالتشهير به في حال استمر على عناده. ولأنه تأخر حتى اقتنع، عاد الديموقراطيون ليرموا عليه ثقل تهمة بحجم خسارتهم البيت الأبيض أمام واحد من أعتى خصومهم على الإطلاق. فقد نفدت فرصهم بترشيح أفضل منافس لترامب، وتسويقه في وجه النجم الصاعد مجدداً أقوى بكثير من العام 2016. ومع أنهم بالغوا في مدحه وتكريمه لفظياً، إلا أن ما كُسر بين بايدن وحزبه، أو على الأقل بينه وبين نادي الكبار في الحزب، وكامالا هاريس باتت واحدة منهم، لم يعد بالإمكان إصلاحه. الآن يعود هذا الماضي القريب ليلاحق جو بايدن، في واحدة من أصعب التحديات التي يواجهها رجل في الثانية والثمانين. التفاعل مع خبر كشف سرطان بروستات عدواني تمدد إلى العظام، كما أعلن مكتبه الأحد الفائت، كان يفترض أن يبدأ وينتهي بالتضامن البحت. هكذا فعل دونالد ترامب حين كان من أوائل الذين تمنوا الشفاء لبايدن في تغريدة، كذلك فعل سياسيو الحزبين الجمهوري والديموقراطي. لكن السؤال التالي الذي سرعان ما رمي ككرة ثلج راحت تكبر بسرعة: منذ متى يعلم بايدن بإصابته بالمرض، خاصة أن الإعلان جاء بعد تمدده إلى العظام؟ التهمة القديمة، بأن آل بايدن يخفون أكثر مما يعلنون، عادت تلاحق الرئيس السابق وعقيلته. التساؤل الآن يتمحور عمّا إذا كان يعلم بمرضه خلال ولايته؟ ترامب أبدى ذهوله أمام المراسلين، الاثنين الفائت، من عدم إبلاغ الجمهور بهذا المرض منذ فترة طويلة، خاصة وأنه في المرحلة التاسعة التي يستغرق الوصول إليها وقتاً طويلاً (تسع من عشر هي درجة عدوانية السرطان وليس المرحلة التي وصل إليها). وقال إن "طبيب بايدن ذاته الذي قال سابقاً إنه بصحة جيدة يقول الآن إنه مريض". ما ألمح إليه ترامب قاله أحد النواب الجمهوريين بفجاجة: "طبيب بايدن كان معنياً بالمساعدة في التغطية السياسية بدلاً من تقديم رعاية طبية من الدرجة الأولى". التشكيك بتوقيت إصابة بايدن بالمرض سرعان ما خرج من القمقم، لينتقل من ترامب إلى نائبه جي دي فانس الذي قال إنه "يجب أن نعرف ما إذا كان الرئيس السابق قادراً على القيام بواجبه خلال فترته، وما إذا كان مساعدوه قد أخفوا الحقيقة". ما يزيد من تدخل السياسة في بروستات جو بايدن، النقاش السياسي حول ماضي بايدن القريب، والذي بدأ يتحول إلى وثيقة لطرق التخفي التي انتهجها بايدن ومساعدوه خلال فترة الانحدار الصحي والذهني. الكتاب صدر الثلاثاء لكن الصحف الكبرى نشرت قراءات لأبرز ما فيه، عنوانه "الخطيئة الأصلية: تدهور الرئيس بايدن، التستر على حالته، وقراره الكارثي بالترشح ثانية". وهو كتاب يُقرأ من عنوانه.