
"قهقهة فوق النيل"... في نقد كلاسيكيات الكوميديا السينمائية المصرية
صدر في كانون الثاني/ يناير الماضي كتاب "قهقهة فوق النيل" للناقد والأكاديمي وليد الخشاب عن "دار المرايا للثقافة والفنون" في القاهرة. في دراسته الجديدة، يواصل الخشاب تأصيله وتطبيقه لفرعين من الدراسات الثقافية والسينمائية في العالم العربي عموماً، وفي مصر على وجه الخصوص: دراسات الاقتباس ودراسات فن الكوميديا في مجال الإنتاج السينمائي.
يستدعي عنوان الكتاب "قهقهة فوق النيل" مشاهد كوميدية ناقدة لأزمات المجتمع الناصري في الفيلم الشهير "ثرثرة فوق النيل"(1971) من إخراج حسين كمال، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ بالعنوان نفسه. لكن الأفلام التي يتعرض لها الكتاب بالتحليل هي كلاسيكيات من الكوميديا السينمائية في العصر الذهبي، من الأربعينات إلى الستينات المصرية، ولا شك في انتمائها الصريح إلى عالم الفكاهة. ولا يدعي أي من تلك الأفلام أنه يقدم نقداً فكرياً أو اجتماعياً أو فلسفياً للمجتمع المصري في تلك الفترة من تاريخ التحرر الوطني.
يعتبر كتاب "قهقهة فوق النيل" امتداداً لمشروع الباحث والأكاديمي الخشاب الذي بدأ بدراسة الكوميديا السينمائية في كتابه السابق المعنون: "مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولاوعي السينما" الصادر عام 2022 عن "دار المرايا" أيضاً. وكأن الفصل الأخير في كتاب "مهندس البهجة" والمخصص للاقتباس، لاسيما بالذات في فيلم "فيفا زلاطا" من بطولة فؤاد المهندس، قد تحول مع كتاب "قهقهة فوق النيل" إلى دراسة كاملة شاملة عن ظاهرة الاقتباس في الكوميديات المصرية الكلاسيكية، المحببة إلى الملايين من الناطقين بالعربية، من أفلام "غزل البنات" و"أبو حلموس" إلى "إسماعيل يس في الطيران" إلى "الزوجة السابعة" إلى "عروس النيل" إلى "آه من حواء".
يتكون الكتاب من أربعة فصول: واحد لأفلام الأربعينات، واحد للخمسينات، واثنين لأفلام الستينات: واحد لأفلام ما قبل حرب حزيران/يونيو 1967 وواحد لما بعد الهزيمة.
ربما يتساءل القارئ لماذا يستلهم الخشاب في كتابه عنوان فيلم "ثرثرة فوق النيل" والرواية التي كتبها نجيب محفوظ بالعنوان نفسه. يشرح الباحث في مقدمة الكتاب، أن استخدام عنوان "قهقهة فوق النيل" كمعارضة لعنوان رواية محفوظ وفيلم حسين كمال المقتبس عنها، يرتكز إلى كون الفكاهة في كتاب الخشاب وفي فيلم حسين كمال على السواء، تمتزج بالسخرية ولا تنفصل عن النقد الاجتماعي/الثقافي والنقد السياسي. لكن باستثناء مناقشة المؤلف هذه القضية في المقدمة، لا تبدو الأعمال التي يحللها الخشاب في مختلف فصول كتابه على صلة وثيقة بالذائقة الفنية التي يمثلها فيلم "ثرثرة فوق النيل". فجميع الأفلام التي يناقشها كتاب "قهقهة فوق النيل" تنتمي من دون لبس إلى عالم الكوميديا التجارية النظيفة التي يطلق عليها في أميركا الكوميديا العائلية أو الكوميديا المناسبة للأسرة، بمعنى أنها كوميديات لا تتطرق إلى فحش في اللفظ أو عري للجسد أو مواضيع صادمة اجتماعياً. وهي كوميديات لا تتعرض للسياسة بشكل مباشر، على عكس المشاهد الساخرة، أو المصبوغة بالفكاهة السوداوية، في فيلم "ثرثرة فوق النيل".
لكن لا يمنع هذا أن كتاب الخشاب الجديد يحذو حذو الكتاب السابق الذي يمثل دراسة ثقافية نقدية متكاملة عن فن فؤاد المهندس السينمائي وتفاعل أفلامه مع سياقها التاريخي والاجتماعي في ستينات القرن العشرين وسبعيناته في مرحلة التحرر الوطني. في الكتابين تناول جاد لأفلام كوميدية، يكشف عن تفاعل الفكاهة مع قضايا اجتماعية ملحة تطرأ بفضل التحديث المجتمعي بعد رحيل الاستعمار وقيام الدولة الوطنية. وفي الكتاب الأحدث "قهقهة فوق النيل"، تركيز أكبر على قضية اقتباس الكوميديا في السينما المصرية. بل أن مجمل الكتاب ينصب تحديداً على تحليل العلاقة بين أفلام أميركية وفرنسية محددة وأفلام مصرية اقتبست عن الأصول الغربية، ويتابع الكتاب تحويل الأفلام الغربية إلى أفلام تبدو منغمسة في الواقع المصري والعربي، ليرصد التغييرات النفسية والاجتماعية في الشخصيات والأحداث التي تتم على الفيلم المقتبس، كما يرصد عملية التمصير اللغوية والثقافية والتاريخية التي يتعرض لها الفيلم الغربي ليتحول إلى فيلم عربي.
يجد القارئ متعة في تحليل الخشاب كيفية انتقال فيلم فرنسي أو أميركي إلى الشاشة المصرية من دون أن يبدو الاقتباس ركيكاً. ومن المدهش أن الباحث يرصد تواتر ظاهرة فنية/ ثقافية في تاريخ اقتباس السينما المصرية للكوميديات الهوليوودية، وهي أن الفيلم الأميركي التجاري الخفيف كثيراً ما يتحول إلى فيلم يناقش قضايا سياسية ويتفاعل مع تحديات التحديث في المجتمع المصري، مثلما حدث عندما تحولت الكوميديا الرومنسية الأميركية "عروس البحر" إلى الفيلم المصري الشهير "عروس النيل". فـ"عروس البحر" مجرد حكاية خفيفة عابثة عن رجل مغرم بالنساء يقع في غرام جنية البحر، ويمضي الفيلم كله في محاولة إخفاء علاقته بتلك المخلوقة الخيالية.
لكن يظل الفيلم مجرد كوميديا خفيفة من نوع "الفودفيل" عن خيانة زوجية، بينما الفيلم المصري "عروس النيل" أكثر أخلاقية واحتراماً لتقاليد المجتمع المصري آنذاك، وهو يركز على مطاردة عروس النيل -القادمة من عصر الفراعنة- المهندس الشاب بطل الفيلم. يرفض الشاب الاستجابة لغزل عروس النيل احتراماً لخطيبته -فهو مرتبط بخطيبة وليس بزوجة كما في الفيلم الأميركي- إلى أن يفسخ خطبته ليتفرغ لعروس النيل، عندما يوقن أنه واقع في حبها. لكن الفيلم المصري يضيف إلى تلك التعديلات الثقافية خطاباً سياسياً قومياً غير مباشر، عندما تتحول العلاقة الناشئة بين عروس النيل والمهندس الشاب إلى مناسبة لزيارة كل معالم العزة المصرية التحررية من مصانع حديثة ومؤسسات عصرية ومن مواقع أثرية تبعث على الفخر وتذكر المشاهد بمجد تليد.
يتميز كتاب "قهقهة فوق النيل" بتقديم تحليلات لأفلام غير مشهورة يندهش حتى المتابع الوفي لكلاسيكيات الكوميديا المصرية من علاقتها بالتاريخ الفني والتاريخ الاجتماعي السياسي لمصر في مرحلتي ما قبل التحرر الوطني وما بعده، بالإضافة إلى تحليلات مدهشة في جدتها لأفلام كنا نتصورها مجرد أوعية للتسلية الخالصة مثل إسماعيل يس في الأسطول وفي الطيران وعفريتة إسماعيل ياسين، وهي دهشة لا تقتصر على اكتشاف المؤلف أن لكل هذه الأفلام أصولاً أميركية. لكن المؤلف يصاحبنا في اكتشاف فيلم كوميدي من اقتباس يوسف وهبي وإخراجه وبطولته بعنوان "عريس من إسطنبول".
اشتهر يوسف وهبي كمخرج سينمائي بتقديم الأفلام المأسوية التي تنتمي إلى النوع الفني المعروف بالميلودراما، المعتمد على الإفراط في الانفعالات الحزينة والمواقف المأسوية من اضطهاد البطلة أو تعذيبها نفسياً، بل وبدنياً، وتعرض البطل لنوائب القدر من يتم وفقر وغربة. لكن الكتاب يكشف عن تحفة سينمائية كوميدية كتبها يوسف وهبي وأخرجها وقام ببطولتها عام 1941 وهو فيلم مقتبس عن مسرحية "لعبة الحب والصدفة" الكاتب الكوميدي الفرنسي الشهير ماريفو.
ووفقاً للكتاب تمكنت الكوميديا السينمائية المصرية من التعرض لقضايا حساسة، وإن لم تكن صادمة، باحتمائها خلف قصص مقتبسة عن الغرب. هكذا تنتقد الكوميديا تعدد الزوجات في "الزوجة رقم 13" والإفراط في الإنجاب في "إمبراطورية ميم"، على سبيل المثال. وربما كانت الرقابة أكثر تساهلاً مع الكوميديا، لأنها فن لا يؤخذ على محمل الجد. لكن المؤكد في رأي الخشاب، أن كل عملية اقتباس كانت تحمل فكرة التنوير والتحديث ولو بشكل غير مقصود من صناع الفيلم.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

المدن
منذ 4 أيام
- المدن
معرض الكتاب: ذاكرة ورقية تأبى الإنزياح
على الرغم من وفرة الكتب، فإن التجوّل في أروقة معرض الكتاب يشي بأننا إزاء ذاكرة ورقية تأبى الإنزياح، ذاكرة متجذرة لكنها في الوقت نفسه على وشك الإنقراض. ربما الكتاب لدى البعض يتجاوز كونه محض تلك الأوراق المصفوفة فوقها الكلمات، بل أن كل كتاب نقرأه ربما هو في بعض نواحيه أقرب إلى دفتر ذكريات. لعل الكتاب في معرض بيروت، يقع بالنسبة للغالبية العظمى من الروّاد، في هذه الخانة. في كتاب "مثالب الولادة" يقول سيوران أن الطريقة الأنجع للخروج من الإحباط تتمثّل في تناول معجم ثم الشروع بالبحث عن كلمات وكلمات. تراني أتمثّل معرض الكتاب في بيروت في نسخته الأخيرة كمعجم كبير بالمعنى الذي ذهب إليه سيوران. هذا المعرض حاجة ماسة للخروج من إحباط له علاقة بتصوراتي الخاصة عن مستقبل الكتاب الورقي، وأقولها بصراحة، له علاقة بمستقبلي الشخصي إزاء العلاقة مع الكتاب... فأنا كائن ورقي إلى أقصى الحدود. ثمة تصورات عن الكتاب ومعارضه تفي لدى عشّاق الكتب حاجات سحيقة الغور، ومعرض الكتاب في بيروت هو في هذا الصدد بمثابة حكم مسبق عصيّ على الإجتثاث، كما آمل. وهو أمل لا مكان له في التالي من السنين، ومع هذا فلا بأس بأن يتشبث المرء بأمل أرعن من آن إلى آخر. بصرف النظر عن روّاد المعرض من بشر عاديين تجري في عروقهم الدماء، إن معرض الكتاب في بيروت هو -في متنه الأروع- قصر منيف يعجّ بكم هائل من الأشباح. أشباح من نمط خاص، لطيفة تقفز من بين سطور الكتب وتتلصص على قرائها بإمعان. بالنسبة إلي، وجود هذه الأشباح أكثر يقينية في المعرض من وجود الآخرين، ومن وجودي أنا بالذات، وأتكلم بشكل خاص عن شخصيات روايات عشقتها وكوّنتني، مثل أوسكار "الطبل الصفيح" لغونتر غراس، وهولدن كولفيلد الفتى الرائع في "الحارس في حقل الشوفان"، والجندي الطيّب شفيك الذي لطالما أخذ بيدي هو ومؤلفه ياروسلاف هاشيك، والشرير ستافروغين بطل ممسوسي دوستويفسكي، فضلاً عن شلّة مركب نجيب محفوظ في "ثرثرة فوق النيل" وغيرهم الكثير الكثير. يستعير الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه "حكمة الغرب"، عبارة الشاعر الإغريقي كاليماخوس، القائلة بأن الكتاب الكبير شرّ كبير، وبصرف النظر عن توظيف راسل لعبارة كاليماخوس في كتابه، فإن الكتاب، كبيراً كان أو صغيراً، هو بالفعل شرّ كبير، لا سيما عندما يستحوذ على الذهن كله، فضلاً عن استحواذه الرائع على القلب والعينَين وبشكل خاص على أصابع الكفّين. إن الأصابع في هذا المحل هي بعينها الكتاب، وأقول هذا عن تجربة في غاية العمق، وسحقاً لسخرية البعض ممن لا يفهمون ما أعنيه بهذا الكلام. فأنا كائن ورقي بإمتياز، وتراني مع الكتاب الورقي إزاء استدراج رائع، إزاء انتهاك من أروع الإنتهاكات. لطالما كان معرض بيروت للكتاب واحة سنوية من الإنتهاكات الجميلة، تستوي في روعتها مع الشرّانية الحميمة للكتاب الذي بين الكفّين والذي هو على شفير الإنقراض. فللأسف الشديد، المستقبل يبّثنا بشكل يومي خبر انتفاء الحاجة للكفّين في العلاقة مع الكتاب. ثمة انحياز ملحّ لعلاقة الأصابع بالغلاف وبالورق، يغذيه معرض الكتاب. وثمة رأفة بالأنف يعمل هذا المعرض على تهيئتها عبر زرع هذا الأنف بين متون الصفحات، وهو ما نحن في صدد فقدانه في المقبل من السنين. معرض بيروت هو بمثابة طبطبة حنو فوق ذاكرتنا الورقية قبل رحلة الوداع. في رائعته التأريخية "المكتبات في العالم القديم" يقول المؤلف ليونيل كاسون، إن الطريقة التي كان يتم عبرها تداول الكتب في العهد الروماني القديم، قامت على تقديم المؤلفين نسخاً منكتبهم للأصدقاء ولزملائهم الكتّاب. لكن، ماذا لما يكون المعرض –معرض بيروت– هو الصديق الأقرب، الصديق الذي شاخ؟ إن التحديق بعينين عتيقتين قد يفي شرط الرؤية في بعض الحالات، إنما في حالة الكتب الورقية ومعارضها، فإن هذا التحديق تلويحة الوداع. ثمة في هذا العالم الضيّق مَن يتنافس على الإستحواذ على الكلمات، وأراني محلّ حدس مفاده أن معرضنا الجميل للكتاب، شأن كل معارض الكتب في العالم، سوف يكون خارج هذه المنافسة كما تشي كل ضروب ما نعايشه من "ذكاء". في نصّه الشهير "مكتبة بابل"، يخبرني الصديق خورخي لويس بورخيس، إن حلّ طلاسم الكون يكون عبر مقاربة هذا الكون اللامتناهي كمكتبة ضخمة، محض مكتبة مترامية الأطراف. في تسعينات القرن المنصرم، لطالما تمثّلتُ معرض الكتاب كحيّز لامتناهي الأطراف، ككَونٍ بيروتي على تخوم البحر. إلا أن الهوية المرتقبة لشكل الكتاب في المقبل من الأيام تقودني للظن أني عما قريب سأكون إزاء نوستالجيا رقراقة، محض ذكريات ورقية تتشبّث بماضيها الحميم. لست أدري من قال أن الشعور هو في العمق التزام الروح بما يحايثها من أفراح أو منغصات، وليس التجوال في أروقة معرض بيروت للكتاب إلا تعضيداً لمنغصات الوداع على الرغم من وفرة الكتب. ومع هذا، تبقى لهذا المعرض وجاهته التي تأبى الإنزياح، وفي البال ما بثّته ليندا مكلستون في كتابها "القواميس" حيال علاقة الإنسان بالكلمات. ليس التفتيش عن الكلمات في القواميس مجرد جمعٍ لأوصال المعنى، بحسب مؤرخة اللغة الإنكليزية، مكلستون. ذلك أن هذا التفتيش عن الكلمات ينطوي في حدّه الأخير على رغبة المرء في جمع أوصال نفسه، عبر جمّ الكلمات. بالنسبة إلي، ما كفّ معرض الكتاب في بيروت عن أن يكون قاموساً بالمعنى الذي ورد في كتاب "القواميس". لطالما شكّل هذا المعرض فرصة لجمع أوصال الذات واستجابة نشطة لشدّ حبال الذات هذه. إنما، وعلى الرغم مما يكتنف مستقبل الكتاب في العالم من غموض وضبابية وربما انمحاء، فلا بأس بأن تبقى معارض الكتب الورقية بمثابة طقوس تتكرر عاماً بعد عام، شأن كل الطقوس. فكما يقال: ما دام هناك قبر تحت الأرض فستكون ثمة أزهار فوقه على الدوم. إنها طقوس الولاء لما يخصّ الأعماق، طقوس متعة الإنصياع إلى ألق الكتاب. وربما في بعض نواحيه، يشكّل معرض بيروت للكتاب طقس استئناف لإنفعالات صارت في خبر كان. فكما قال واحد من أعرق الأصحاب إزاء العلاقة مع الكتب والمكتبات والمعارض وتاريخ القراءة والكلمات: "الآن، وقد بدأ يلحّ اليقين بأن النهاية آتية لا ريب فيها، فلأتمتع أكثر من أي وقت مضى بالأشياء التي ألفت أن أكبر معها: كتبي المفضلة، الأصوات التي أحبها والصحبة القليلة من الأصدقاء" (آلبرتو مانغويل)... ومعرض الكتاب.


النهار
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- النهار
قصة صغيرة: أولاد حارتنا
رواية 'أولاد حارتنا' كانت ممنوعة من النشر في مصر والعالم العربي حتى فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب عام 1988، ليصبح أول عربي يحصل على هذه الجائزة. عبقرية محفوظ تجلت في خلقه لشخصيات مثل أدهم، وجبلاوي، وإدريس، حيث يسرد كل فصل من الرواية قصة من قصصهم، في بناء أدبي عميق.


النهار
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- النهار
الكاتب إبراهيم فرغلي لـ"النهار": الرواية عمل مهيب وما زلت أعيد اكتشاف نجيب محفوظ
أصدر الكاتب والروائي إبراهيم فرغلي أخيراً مجموعته القصصية "حارسة الحكايات" (دار الشروق) في مئة وأربع وأربعين صفحة، من القطع المتوسط. هو الذي قدّم من قبل أكثر من خمسة عشر عملاً سردياً، ما بين الرواية والقصة وكتابة الفتيان والأطفال، والتي أظهرت تأثرات جمة بالأديب الراحل نجيب محفوظ، بحثاً عن جدوى الحياة والموت والكتابة والمنتظر منها، ليحصل قبل عامين على "جائزة نجيب محفوظ" عن روايته "قارئة القطار". "النهار" التقت فرغلي، الذي تحدّث عن علاقته بسرديّاته الملغّزة، للفتيان والأطفال والناشئة، إلى جانب ترحالاته الرجراجة ما بين الرواية والقصة، وكذلك النقد الثقافي والأدبي. هنا نص الحوار: • ما أسباب العودة إلى القصة القصيرة بعد توقف طويل لمصلحة الرواية؟ - دخلت عالم الكتابة من خلال القصة، وكتبت قصصاً عديدة في فترة الإعداد والتجريب قبل أن أنشر أيّ قصة. والحقيقة أنني بعد اختياري النصوص العشرة، التي نشرتها في كتابي الأول "باتجاه المآقي"، عام 1997، مزّقت 40 قصة أخرى رأيت أنها لا تمثل طموحي. وظللت مخلصاً للقصة لأنني أصدرت مجموعتي الثانية "أشباح الحواس"، عام 2001، وكنت أحاول أن أرسّخ أسلوباً أدبياً مختلفاً للقصص، فيه نوع من المزج بين الغرائبي والواقعي، واستدعاء لمسات من الغرابة. ولكن تيمة الاغتراب استمرّت كمشترك مضمونيّ مع نصوص الكتاب الأول، ثم انتقلت إلى الرواية، وكانت بالنسبة إليّ عملاً مهيباً تردّدت في الاقتراب منه مطولاً. وبعد نشر أولى رواياتي رأيت أن أرسّخ قدمي في الكتابة الروائية فتوالت الروايات: "كهف الفراشات"، "ابتسامات القديسين"، "جنية في قارورة"، إلى آخر الأعمال. وكنت بين فينة وأخرى أسأل نفسي، هل فقدت حساسية كتابة القصة؟ لأنني على قناعة بأن كتابة القصة موهبة تحتاج حساسية خاصة ومختلفة. وربما كانت مجموعتي الثالثة "شامات الحسن" 2012 إجابة عن السؤال. ولأن السؤال عن القصة لا يختفي فعادة ما أكتب بين فترة وأخرى نصاً قد أنشره أو لا أنشره. وبسبب تجارب عدة من هذا النوع وجدت أن لديّ نصوصاً يصلح البناء عليها فجاءت هذه المجموعة الجديدة. • أغلب القصص تدور في أجواء فيها شيء من الغرابة، وفيها أيضا محاولة لمزج الذاتي بآفاق عوالم كونية، كما في بعض القصص لعب على موضوع العودة إلى الماضي أو الاغتراب في قصص أخرى. هل توافق؟ - اللمسة التي تجمع بين الواقعي والخيالي هي السمة التي حاولت ترسيخها في قصصي الأولى، واللعب عليها لتأصيل أسلوب أدبي يخصني في الرواية أيضاً. وفي هذه المجموعة حاولت تجريب الأمر في تناول مختلف، أولاً من خلال اكتشاف قدرتي على نسج قصص طويلة نسبياً عن أغلب قصصي السابقة، وأن تكون الحركة فيها بإيقاع بطيء نسبياً؛ فالحركة فيها ذهنية أكثر. كذلك المكان محدود نسبياً، وهذا يتناسب مع حالة استدعاء الماضي لدى أغلب أبطال القصص أو رواتها في حارسة الحكايات. استدعاء الماضي لمواجهته كما في "أشباح المغارة"، و"مقابر الذاكرة"، أو "الهروب من الماضي" كما في "امرأة من أقصى المدينة" و"سينمافيليا"، أو استدعاء الماضي بسبب وجود لمسة نبوية فيه كما في "كضربتين في معركة مثلاً". وبسبب فكرة استدعاء الماضي كانت فكرة الاغتراب ماثلة أيضاً، لأن الاغتراب ليس المقصود به الاغتراب المكاني فقط، بل الاغتراب الوجودي أساساً أو أيضاً، واغتراب الفرد عن حاضره بسبب تعلّقه بالماضي أو لعدم قدرته على التكيّف مع الواقع بشكل ما. • هل في هذه القصص مساحة ذاتية تخصّك شخصياً أو استلهام للذات في بعض القصص؟ - فن القصة الحديث ارتبط كثيراً في زمن الفردية بنوع من التماهي ما بين الكاتب والراوي، وهو انعكاس لطغيان سؤال الفردية على الفرد الحديث، وشيوع فنّ السرد القصصيّ كمختبر لأسئلة عصرية عن أسباب شعور الفرد المعاصر بالاغتراب حتى في بيئته وثقافته التي ينتمي إليها، في مقابل القيم الجماهيرية التي سادت زمنَ ما قبل الحداثة. وربما تكون القصة أحياناً مختبراً ملائماً لسؤال الذات، خصوصاً إذا كانت بين الأسئلة التي تطرحها القصص فكرة مراجعة الذات، وهي الفضيلة الغائبة في ثقافتنا العربية. بعض القصص أفادت من تجارب ذاتية وشخصية، ولكن أغلبها مختلقة بالكامل من الخيال. لكن القصص، التي أفادت من تجارب ذاتية، جسّدت أيضاً تجارب لاختبار كتابة القصة الذاتية بنفس روائي بعض الشيء، وليس بالنفس المختزل المكثف كما شاع أو كما فعلت شخصياً في تجاربي القصصية الأولى. وهذا ما قد يفسر طول القصص الثماني في مجموعة "حارسة الحكايات". • بعض الأماكن موصوفة جيداً مثل باريس في قصة "سينمافيليا"، لكن في ما عدا ذلك الوصف لا يخدم المكان، فلماذا كانت مدينة باريس الوحيدة الموصوفة بهذه الدقة؟ - طبعاً، في نص يجمع بين الخيال والواقع يأخذ المكان بطبيعة الحال منحى مماثلاً. مكان ملتبس بعض الشيء. ثمة قطار مهجور في أرض مهجورة في قصة مثل "كضربتين في معركة" -على سبيل المثال- كأنها محاولة اختلاق مسرح لأحداث دموية تمثل مركز القصة، وثمة مقبرة في قرية قريبة من بلدة صغيرة في "مقابر الذاكرة"، وهي تشبه مناطق المقابر في ربوع مصر تقريباً. كذلك يمكن استشفاف عالم القاهرة في "الأسود الجميل"، والصين في "امرأة من أقصى المدينة". ويمكن لمن يدقق أيضاً أن يرى طابعاً لإسبانيا الأندلسية في "حارسة الحكايات"، لكنني أعتقد أن المكان لم يكن مركز الأحداث في تلك القصص، بل السؤال عن مدى اختلاط الحقيقة بالوهم؛ عن أوهام البعض عن الواقع بسبب التعصب لأفكار لا علاقة لها بالواقع. كذلك الماضي مقابل الحاضر، وبالتالي كان السؤال الوجودي أهم من المكان. لكن في "سينمافيليا" كان المكان موضعاً للهرب من مكان آخر، أو امتداداً لرحلة اغتراب، فأحببت التأكيد على تفاصيل المكان الجديد، وأثر هذه التفاصيل في مشاعر المهاجر أو المنتقل من مكان إلى مكان، الذي قد يجد أن الأماكن تبدو حزينة وشاحبة كأنها انعكاس لدواخله لا يراها إلا بعينيه الهاربتين من مكان آخر وذكرى أخرى يبدو المكان الجديد عصياً على محوها. يرى باريس مدينة حزينة ومثيرة للبكاء. هو انعكاس لمشاعره التي يسقطها على المدينة. • على خلاف جيلك تبدو متأثراً بنجيب محفوظ، كتبت عنه كثيراً واستلهمته في رواية أبناء الجبلاوي. كيف ترى أثر محفوظ على مشروعك الأدبي؟ - بالإضافة إلى ما ذكرت، ففي تقديم كتاب "شامات الحسن" كتبت حلماً رأيته بالفعل. كان محفوظ بطل تلك الرؤيا وظهر في الحلم أيضاً الصديق محمد بدوي، صدرت به تلك المجموعة. والحقيقة أن أثر محفوظ في وعيي عميق كقارئ وكإنسان أولاً. أفدت من تجربته الأدبية في أن الكتابة عمل دؤوب مع الموهبة، وأنها مشروع حياة، وأن مشروع الكاتب يقتضي منه تأمل العالم كله بنزاهة المتخلص من الإيديولوجيا حتى يتمكن من التعبير عن كل نماذج البشر في مسالكهم المتناقضة والمتباينة، وهذا أيضا ألهمني عدم التحزب أو أفادني في استيعاب معنى الاستقلال وعدم الانتماء إلى أي شلة أو كيان أياً كان لأنه شرط من شروط الكاتب النزيه. وشخصياً قرأت محفوظ مبكراً وجيداً مقارنة بجيلي الذي كان أغليهر يردد مقولات ساخرة أو يرى فيه كلاسيكياً عفى عليه الزمن. بالنسبة إلي، ما زلت أعيد اكتشافه. وأرى أن نصاً كلاسيكياً مثل الثلاثية وحدها شهد تجريباً لم يعرفه أعتى المجربين: فثمة سرد بضمير الغائب، ثم توقف لدخول ضمير المتكلم، ثم توقف أو تداع لضمير المخاطب للآخر، ثم ضمير المتكلم مع الذات، أي المونولوج الداخلي. ثمة وصف لمشهد من الخارج (الراوي العليم) ودخول لتيار الوعي في الوقت نفسه في بعض مشاهد ياسين عبد الجواد مع أبيه. وهذه الانتقالات تتم برشاقة آسرة. وستجد تطويراً وتجريباً في كل عمل. فليس هناك، على سبيل المثال، أبدع من خيالات وتداعيات أنيس زكي في "ثرثرة فوق النيل"، فهي مشاهد واقعية سحرية قبل أن يعرفها العالم، من دون مبالغة. ولكني لم أتأمل الأسلوب إلا بعد أن استغرقتني الموضوعات التي أثارتها النصوص والأسئلة عن الله والأديان والخلود وتجار الدين والثورة والطبقات الاجتماعية وسلطة الأب ووضع المرأة المصرية والغبن والقدر. أسئلة حارة ومؤرقة لا يمكن أن ينجو قارئها من تداعياتها مطولاً. بالمناسبة كانت أولى تجاربي الأدبية على الإطلاق محاولة بدائية لتقليد نجيب محفوظ، لكن أهميتها أنها نبهتني مبكراً إلى أن الكاتب يجب أن يتخلص من آثار أي صوت آخر ويخلق صوته الخاص. • وهل تأثرت بأسئلته الوجودية مثلاً أو غيرها في نصوصك بشكل عام؟ - طبعاً، في "أبناء الجبلاوي" واضح جداً تأثري بأسئلته عن سلطة الأب، بمدلولاتها المختلفة، وقد اخترت عدداً من شخصيات رواياته لكي تعود وتستكمل أسئلتها مع نصي أنا. خصوصاً أحمد عبد الجواد وكمال عبد الجواد، وعاشور الناجي، والجبلاوي من "أولاد حارتنا"، وأيضاً من "قلب الليل" وغيرها. وهذا بالتأكيد اثر واضح لنجيب محفوظ أدبياً على نصوصي. مع التأكيد أنني كتبت نصاً ما بعد حداثياً، تأكيداً لفكرته هو عن ضرورة تطور النص مع تاريخ السرد، وهو كان يتجاوز نفسه مع كل نص جديد لغوياً وأسلوبياً. لكن ربما هناك أثر لأسئلة عن معنى الوجود والحياة والموت في أعمالي كلها، لكني قد أطوعها في أسئلة تخصني شخصياً مثل فكرة الخوف من ضياع الهوية أو التراث الإنساني. كما في "أبناء الجبلاوي" و"معبد أنامل الحرير" و"قارئة القطار" على سبيل المثال. لكن هذه قضايا لا تنفصل عن الأسئلة الوجودية الكبيرة بطبيعة الحال. • لديك تجارب في الكتابة للناشئة والأطفال. ما مدى تأثيرها على كتابتك الروائية والعكس؟ وما رأيك في أسباب قلة اهتمام الجمهور بكتب الأطفال في مصر؟ - تجارب الكتابة للناشئة مهمة بالنسبة إلي وممتعة، لأن فرصتي لإطلاق الخيال فيها كبيرة، من جهة ولأنها مغامرة صعبة لأنها تحتاج أساليب وتقنيات وقدرة على مخاطبة جيل آخر في زمن مختلف. وأعتقد أن الكتابة للأطفال والناشئة عموماً مسألة مهمة بل وخطيرة وضرورية. لكنها ليست مدعومة كما ينبغي. ثمة استخفاف بمن يكتبون للأطفال في الثقافة العامة وأيضاً لا نمتلك التراكم الذي يخرجنا من ذهنية الكتابة التقليدية الكلاسيكية للأطفال إلى آفاق أكثر خيالاً وابتكاراً. ومع ذلك فهناك تجارب كثيرة، ومتعددة الأساليب الآن ناجحة ومبتكرة حقيقة على مستوى الكتابة والرسوم لكتاب من مصر والعالم العربي ومن أجيال جديدة. لكنه مجال يحتاج لدعم هائل في الإنتاج والتسويق والتوزيع في مكتبات المدارس والتنسيق مع المناهج المدرسية وأنشطة الطفل وغيرها. • أنت تعيش في الكويت منذ فترة طويلة، هل يؤثر ذلك على الكتابة أو مضمون الكتابة بشكل ما؟ - صحيح، لكن المكان في تقديري لا يؤثر على طبيعة الاهتمام بالقضايا التي تشغلني. فحياتي لو كانت في مصر أو لندن أو غيرهما كانت ستمتثل لأسئلتي حول قضايا المجتمع المصري التي تشغلني بشكل كبير. طبعاً لدي خبرة طويلة في مراقبة المجتمع الكويتي وقد تظهر في تجارب أدبية لاحقاً، لكن لا تزال هناك أسئلة ضاغطة تخص المجتمع المصري بسبب التغيرات الهائلة التي مررنا بها خلال العقدين الأخيرين. لكن وجودي في الكويت، من جهة أخرى، يمنحني فرصة التعرف إلى تجارب أدبية مهمة في الكويت، والتفاعل مع تلك التجارب بناء على فهمي ومعايشتي للتجارب التي يتم التعبير عنها أدبياً في المجتمع الكويتي، والتعرف إلى أسماء مجيدة ومختلفة، وكذلك في المنطقة العربية سواء في لبنان أم في سوريا أم في عمان والسعودية وغيرها من التجارب العربية التي تشهد نضوجاً لافتاً وتنوعاً في التناول والمضامين.