
«العريش».. قصص المقاومة ترسم هوية «أرض الفيروز»
ملتقى أدبى أوصى بتدريب أبناء المنطقة لجمع التراث السيناوى شومان يفوز فى مسابقة الغطس.. وشوشة لا يتوقف عن ضبط المصطلح إبراهيم داوود يطلق النكات ويتذكر حكاياته مع «الفاجومى» وخيرى شلبى متحف التراث السيناوى.. كنوز الثقافة الشعبية تنتظر قرارًا من الوزير
كنتُ أسحبُ حقيبة سفرى الصغيرة ذات العجلات، متأملا كلاب السكك التى نشطت مبكرا، وبدأت روتينها اليومى مع النباح والمعارك التى لا طائل من ورائها، من دون أن تُفزع المارة أمام بوابة القصر الذى يحمل لافتة 'مبنى وزارة التربية والتعليم'، خلف ضريح سعد زغلول وسط القاهرة، حيث كنت أتأمل نمط العمارة القديم وأقارنه بقصور منطقة التجمع و'القاهرة الجديدة'، كنتُ أسحب حقيبة سفرى الصغيرة إلى 'شارع المبتديان' محاولا الوصول إلى المقهى المواجه لمبنى 'عمارات العرايس' فى الموعد الصباحى المحدد، حيث ينتظر أتوبيس 'الهيئة العامة لقصور الثقافة' نخبةً من الأدباء والمثقفين المصريين، من أجيال وأعمار وتوجهات مختلفة، للمشاركة فى أعمال ملتقى أدبى يقام فى 'مدينة العريش'، خلال الفترة من 6 إلى 8 مايو الجارى، تحت عنوان 'الثقافة والهوية الوطنية'، وقد كان الكاتب الكبير المصرى سيد الوكيل هو شخصية الملتقى فى دورة هذا العام.
على المقهى كان واحد من أجمل من عرفت شاعرا وإنسانا يجلس متأملا المارة، إنه ذلك الرجل الوسيم الذى حين تقول له 'صباح الخير يا عمنا الغالى' يرد عليك بحضن دافئ وسن ضاحك قائلا: 'الله كريم'.. إنه الشاعر الكبير إبراهيم داوود، الكاتب فى جريدة الأهرام ورئيس تحرير مجلة 'إبداع' فتعرف على الفور أنك سوف تمضى ثلاثة أيام فى جنة الحكايات، وأنك ستكون محظوظا بالصحبة فى هذه الرحلة.
انطلق الميكروباص ـ الذى يقوده أحد أمهر سائقى الهيئة 'على' ـ بعدما أطلق إبراهيم داوود واحدةً من قفشاته الصباحية الرائقة، وطوال الطريق كان الشعور أننا فى مهمّةٍ وطنية، حيث لم يتوقف الناقد الدكتور محمد سليم شوشة عن محاولته ضبط المصطلح، بحضور الكاتبة الصديقة القاصة صفاء عبد المنعم، والناقدة الدكتورة نانسى إبراهيم من جامعة قناة السويس، والصديق الشاعر عيد عبد الحليم، رئيس تحرير 'مجلة أدب ونقد'، الصادرة عن حزب التجمع، وبحضور الشاعرة جيهان عمر، وكاتبنا الكبير سيد الوكيل، وبعد نصف ساعة من السير فى شوارع القاهرة وبالتحديد فى منطقة العبور على طريق الإسماعيلية، كان القاص الدكتور شريف صالح ينتظرنا مُبتسما هو الآخر.
طبعا، لابد أن أعترف ـ بداية ـ أننى أصلا من عشاق العريش، فقد كانت مقر أولى رحلاتى الجامعية وأول مصيف فى حياتى، يوليو من العام 1990، وكلنا يعرف أن الرحلة إلى سيناء الآن وتقديم نشاط ثقافى هناك ـ لايزال أمرا محفوفا بالمتاعب، لأنه يمثل تحديا أمنيا وثقافيا كبيرا، خصوصا خلال سنوات الحرب على الإرهاب التى عرفتها المنطقة فى مرحلة سابقة، وبعد سنوات من خسارة المئات من الشهداء الأبرياء من أبناء الوطن، سواء كانوا من أبناء الجيش أو الشرطة أو الشعب، وعلى بعد حجر من حرب إسرائيلية بشعة على غزة الفلسطينية الباسلة، الأمر الذى رسم خريطة للمقاومة على أرض الفيروز.
لقد اعتقد المثقفون دائما ـ وأنا أولهم ـ أن الثقافة والشعر والغناء والموسيقى والمسرح وكل أشكال الفنون هى رأس الحربة الفعلى فى الصراع مع التيارات الدينية المتشددة، وأن انسحاب الدولة من معركة الوعى الثقافى العام لا يعنى إلا أن نترك الساحة خالية لذلك التيار الإسلامى الفاسد، الذى تأسس بمعرفة الاستعمار البريطانى، وظل يتخبط سياسيا إلى أن قادته ضلالاته إلى شن حرب ضد مؤسسات الدولة التى يُريد أن يحكم شعبها.
فى الطريق إلى العريش كنا متحمسين لزيارة البلد التى تحارب الإرهاب نيابة عن بقية ربوع الوطن، الأمر الذى جعلنا نتحمل وعثاء السفر وعذاب الطريق، ونتجاهل ما سمعناه من حكايات عن تعقيدات إجراءات التفتيش فى 'أنفاق تحيا مصر'، فى الطريق كنا نحلم بزيارة 'متحف للتراث السيناوى' لكننا وجدنا متحفا أعد على عجل بعد اضطرارهم لنقل آثار متحف كان مقاما فى منطقة عمليات وهم فى انتظار قرار من وزير الثقافة، كما حلمنا بوجود أكثر من دار عرض سينمائى وأكثر من مسرح، فوجدناهما فى قصر ثقافة العريش، وحلمنا بالاستماع إلى شعراء البدو وفرحنا لأن واحدة من ليالى الملتقى كانت مخصصة لهم.
حقل ألغام
فى الطريق الذى استغرق نحو ست ساعات سوف تتأمل القاهرة التى تركتها وراء ظهرك، وعليك أن تتأقلم مع إجراءات التفتيش والنزول والصعود، وحين تجاوزنا الأنفاق بنجاح كانت قد تمت قراءة خطاب وزارة الثقافة ـ الذى يحمله السائق ـ أكثر من سبع مرات.
وصلنا العريش بينما كانت أشعة الشمس قد صارت هشة وبرتقالية اللون، صعدنا إلى غرف الفندق الجديد لكى نرى البحر من الأدوار العليا، بسرعة استبدلنا ملابسنا وتناولنا الغداء، ثم انطلقنا إلى الشارع فى الطريق إلى حفل افتتاح الملتقى على مسرح قصر ثقافة العريش الذى يتمتع بفرقة فنون استعراضية على أعلى مستوى، كانت أبرز فقرات الحفل الافتتاحى.
فى كلمته نيابة عن رئيس الهيئة قال رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية فى الهيئة العامة لقصور الثقافة الشاعر مسعود شومان فى افتتاح الملتقى إن ثقافة المناطق الحدودية -خصوصا ثقافة المعابر- لها سمات جمالية وفنية وتعبيرية خاصة، وإن دراسة الثقافة الشعبية لمكان ما تنطوى فى الوقت نفسه ـ على محاولة عميقة لفهم هويته، أما الجلسة الافتتاحية فجاءت بعنوان "الهوية المصرية: إشكالية المفهوم وتحديات المستقبل"، وقدم فيها الباحث الدكتور شريف صالح ورقته التى تعتمد على رؤيته للتاريخ المصرى المتأثرة بمرحلة مصر القديمة، ثم جلسة "تشكلات الهوية فى عصر الذكاء الاصطناعي" وتحدث فيها الدكتور محمد سليم شوشة عن الدور الجوهرى الذى تلعبه اللغة فى تطوير برامج الذكاء الاصطناعى الحالية، والتى اتكأت على اللغة لتصنع ثورة الذكاء الاصطناعى الكبير أو الفائق، محذرا من هذا العقل الاصطناعى الفائق والتوليدى، يقول شوشة: 'أصبح هذا العقل الآلى فاعلا لأول مرة فى التاريخ، يملك دماغا محاكيا لدماغ البشر عبر شبكة عصبية مشابهة للشبكات العصبية التى فى مخ الإنسان، وهذه الشبكة العصبية لها منظومتها البنائية التى تأسست عليها، فى هذه المرحلة الجديدة من امتلاك الآلة لعقل شبه حقيقى، والأكثر دقة أن أقول حقيقيا؛ لأنه محاكاة متطابقة لعقل الإنسان أصبحت فاعلة ومنتجة بشكل حقيقى، ويجب أن ندرك أن قولنا شبه حقيقى إنما يرجع فقط لكونها اصطناعية، أى أنها حتى الآن ليست من لحم ودم، لكنها فى الحقيقة تؤدى -حتى الآن- غالبية وظائف العقل البشرى وبخاصة فى تعامله مع اللغة. فى هذه المرحلة وصل هذا العقل الاصطناعى الفائق والتوليدى إلى حدود عميقة من الفهم وتكوين معنى، والأهم أنه يؤدى ما يعرف بالتعلم العميق (deep learning) والقابلية للتطور ذاتيا'.
فى اليوم التالى أقيمت جلسة "الأدب وتشكيل الهوية الوطنية – الأدب السيناوى نموذجًا"، بمشاركة الباحث الدكتور حمدى سليمان الذى توقف لقراءة أعمال عدد من أدباء سيناء، وقال: 'المتابع للمنتج الأدبى فى شمال سيناء يستطيع ملاحظة أن معظم أدباء سيناء حريصون فيما يقدمون من إبداعات، على تعزيز قيم وثوابت الهوية المصرية الأصيلة، التى تدعم وترسخ وحدة وتلاحم واستقرار الوطن، وتحافظ على ثقافته الوسطية، مع الاهتمام بإبراز التنوع الثرى الذى تتمتع به البيئات الثقافية المختلفة فى مصر'.
فى اليوم الثانى كانت الجلسة الأولى بعنوان "محور الشعر الفصيح"، وقدم فيها الشاعر عيد عبد الحليم قراءته للمشهد الشعرى فى سيناء، مختصا اثنين من شعراء سيناء بالاهتمام، وهما الشاعر حسونة فتحى صاحب ديوان 'قصائد فرت من الحرب'، والذى أهدانى نسخة منه العام الماضى، حين تشاركنا القراءة الشعرية فى واحد من مؤتمرات بيت الشعر بالأقصر، ومن أجواء الديوان التى تتجلى فيها لحظات المعاناة ومفردات الحياة تحت القصف:
'تدربتُ كثيرًا
على قراءةِ الحزنِ فى عَيْنَيْ أمي
فقد كانتِ البلادُ أيضًا
ديارَ حربٍ،
لنمارسَ لعبتَنا إذن
أصمُتُ.. وتصمُتينَ
دون أن أُصَرِّحَ بما أعلمُ فنَهلَك
أو بما تحمله أفكاركِ
فيحترقُ وجهَ البلاد'
توقفت قراءة عيد أيضا عند تجربة الشاعر سالم الشبانة الذى يقول فى ديوانه 'أصابع العازف الأعمي' ليكشف جانبا من الحياة القاسية التى عاشها:
'صحراء تصحو على الحربِ،
خطوتى حقل ألغامٍ
بدو جاهزون للأماثيل،
علبة التبغ لن تصنع نبيا،
ولا القلق قادرٌ
أن ينجينا
رجلٌ غامض
يجمع زهورا سوداءَ،
وينتظرُ ألاعيب الحياة ساهيا'
الجلسة المسائية كانت لحسن الحظ مخصصة لـ "محور الشعر البدوي"، بمشاركة الباحث مسعد بدر، والتى أدارها الباحث مسعود شومان وغنى فيها عبد الكريم الشعراوى أحد شعراء البادية، واختتم الملتقى مساء الخميس بإعلان التوصيات ومنها: 'رفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيونى، مع الإشادة بالدور الوطنى لأبناء سيناء على مر العصور، والتوصية بضرورة زيادة الفعاليات والأنشطة الثقافية بما فيها مهرجانات المسرح والفنون الشعبية والموسيقى العربية على أرض شمال سيناء، بالإضافة إلى إقامة معرض كتاب يشمل إصدارات جميع هيئات وزارة الثقافة، مع إقامة منفذ دائم لبيع إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب فى مدينة العريش، وضرورة إقامة برامج تدريبية لباحثين وباحثات من أبناء شمال سيناء لتأهيلهم لجمع التراث السيناوى.
عن البحر و 'اللصيمة'
بالتوازى مع جلسات الملتقى، حددنا صباح اليوم الأخير لننزل البحر، وقد كنا خلال الأيام الثلاثة حريصين على الفرار إلى المقاهى القريبة لنسمع أدباء ومثقفى العريش وشمال سيناء وهم يتكلمون ويحلمون، وكان الشاعران مسعود شومان وإبراهيم داوود خيرَ دليل إلى هذه المقاهى، حيث كان الحديث يدور عن آلام عاشها الناس فى سنواتٍ سابقة، وقتها كانت إجراءات الحرب سببا فى تخريب حياة بعض الناس، وهو أمر يبدو بديهيا فى 'ميدان المعركة'، إلا أنه يبقى بشعا ومُضنيا لأهالى المنطقة من المدنيين، ويبقى قصة تستحق أن تُروى وأن تعرفها الأجيال المقبلة، لكى تتعلم قيمة أن تساعد قدر الإمكان فى دعم ونشر كل قصص المعاناة فى الحرب.
الإيقاع الصاخب للمقاهى فى العريش وليد المساحات الواسعة دائما، ما يضطر الناس إلى رفع أصواتهم واستخدام مكبرات الصوت، لكن الحديث الهامس يكون من نصيب الكلام عن الأوضاع الاقتصادية خلال فترة الحرب، التى دارت بين عامى (2018 ـ 2023)، يُقال لك إنه فى هذه الفترة الحرجة كنت تسمع عن أسر مستورة اضطرت إلى التسول لكى يطعموا صغارهم، فــى فترة 'حظر الـتجول' لــم تكن بعض السلع الأساسية ـ حتى ـ متوافرة فى الأسواق، لكن الآن كل شىء اختلف، يتنفس الكل بحرية وهم يقولون لك: 'كل ما نريده أصبح الآن سهلا ومتاحا'، وإن كان انتشار القوات والمدرعات حول المبانى الحكومية يبدو أمرا ضروريا ولا يخلو منه شارع فى العريش، بينما الشوارع التجارية حيث محلات العطارة وزيت الزيتون والآيس كريم والملابس غارقةٌ فى الزحام إلى منتصف الليل، كأيّ مدينة مصرية.
حكاية الأديب عبدالله السلايمة، تجسِّد معنى الصمود، فعبدالله كاتب القصة ابن القبيلة العرايشية كبر فجأة وتهدم، وحين رأيته لم أكد أتبينه، فقد فوجئت أنه فَقَد خلال شهور قليلة جزءا من حاسة السمع بعدما فقد كثيرا من وزنه، عرفتُ من وجهه وأصابعه أنه أصيب بمرض البهاق، وبعد قليل اعتذر بصوت واهن مستأذنا فى الانصراف، لأنه سيجرى 'عملية قسطرة' خلال ساعات، فى أحد المستشفيات العامة، انصرف فجأة ولم أعرف السبب فى كل ما جرى له، إلى أن عرفت أنه فَقَدَ محل سكنه، الذى كان فى قلب منطقة اشتباكات بين الشرطة والإرهاب، من دون أن يُصيبه الدور ـ بعد ـ فى سكنٍ حكومى ملائم.
طبعا، لم تكن القبضة الأمنية الصارمة أمرا يسيرا فى حياة الناس أبدا، بل إنك وقتها كنتَ تسمع الشكوى من انقطاع الكهرباء والمياه لمسافات زمنية طويلة عن مناطق كبيرة فى العريش، خصوصا خلال المرحلة المعروفة بالخطة الأمنية الشاملة العام 2018، والتى انطوت بالتأكيد على 'إجراءات استثنائية' فى مناطق مكافحة النشاط الإرهابى لمحاصرة العناصر الإرهابية ومنع تسربهم إلى الداخل، وهى 'الإجراءات' التى طالما وجهت وزارة الداخلية الشكر إلى أهالى هذه المناطق لتفهمهم طبيعة هذه 'الإجراءات'.
فى اليوم الأخير، تناولنا إفطارا سريعا واتجهنا إلى البحر، الذى كان صافيا وهادئا كما فى الأساطير، كان مسعود شومان المشغول دائما بالفولكلور يحدثنا عن أكلة عرايشية خالصة اسمها 'اللّصيمة' التى تتكون من بدنجان وبطيخ نيئ وخبز، حين وصلنا إلى الشاطئ كان الشباب من أبناء العريش يشوون شيئا على الفحم، اتضح أنه 'اللصيمة' بعينها، وحينما انتهوا جاءوا لنا بعلبة منه، فكانت مفاجأة 'لصيمة' جدا، فقد تذوقت طعمها المملح ولم أبح برأيى لأحد.
فى البحر، اكتفى سيد الوكيل بالمشى على الشاطئ بينما جلست صفاء عبدالمنعم تتأمل البحر، وتمشت جيهان عمر كأنها تبحث عن شىء ما، وفى حين تسابق 'شومان وشوشة وشريف صالح' فى مسابقة للغطس وفاز شومان مرتين، بينما حكى إبراهيم داوود وهو يقاوم الموج عن علاقته باثنين من رموز الجيل الماضى، وقال إنهما تركا فى شخصيته آثارا لا تنسى، هما: الأديب والروائى الكبير الراحل خيرى شلبى والشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم 'الفاجومي'، وبمناسبة الحديث عن جائزة البوكر المصرية، تذكر البعض ونحن نحاول أن نسبح فى مياه العريش الصافية أديبا مصريا من أبناء الجنوب هدد وزارة الثقافة فى حقبة الثمانينيات فى حال لم يفز بإحدى جوائز الدولة.
فى البحر وقفت جيهان عمر على الشاطئ وبدت من بعيد كأنها تلقى شيئا فى الماء ثم تعود لتحصل عليه لتلقى به من جديد، تحتفظ جيهان بوجه طفولى ساعد صوتها الرقيق فى تأكيده، خصوصا وهى تلقى قصيدة من شعرها، ورغم أنها صوت نسائى مميز فى جيل التسعينيات إلا أنها لا تعتبر نفسها واحدة من هذا الجيل، كما أنها خالفت نهج الشعراء وأصدرت العام الماضى مجموعة قصصية بعنوان 'قبل أن يرتد إليك طرفك'، أحب كتابة جيهان وبورتريهاتها التى تلتقطها بتلك الكاميرا العتيقة التى تحملها معها دائما، وأصبحت أتفاءل بوجودها فى أى مكان، منذ ساعدتنى بقدراتها السحرية ـ قبل أن أعرفها ـ على الخروج من مأزق مالى تعرضتُ له فى فرنسا العام 2015، عبر واحدة من صديقاتها (شاعرة إنجليزية).
بعد ثلاثة أيام من الحديث عن أشكال المقاومة فى العريش عدتُ إلى القاهرة ظهر الجمعة، لأجدنى أجر حقيبتى الصغيرة وقد امتلأت بالكتب والحكايات والأحلام فى 'شارع التسعين' بالتجمع فى ظهيرة قائظة، فى انتظار سيارة تقلنى إلى البيت، مررت أمام قصور وعمارات زجاجية حديثة، لكنها كانت جميعا شحيحة الظل، فالمبانى الزجاجية الحديثة ـ للأسف ـ لا تجود لا هى ولا الأشجار الهزيلة التى تقف أمامها على المارة فى الشارع بأىّ ظل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوابة ماسبيرو
منذ 14 ساعات
- بوابة ماسبيرو
«العريش».. قصص المقاومة ترسم هوية «أرض الفيروز»
ملتقى أدبى أوصى بتدريب أبناء المنطقة لجمع التراث السيناوى شومان يفوز فى مسابقة الغطس.. وشوشة لا يتوقف عن ضبط المصطلح إبراهيم داوود يطلق النكات ويتذكر حكاياته مع «الفاجومى» وخيرى شلبى متحف التراث السيناوى.. كنوز الثقافة الشعبية تنتظر قرارًا من الوزير كنتُ أسحبُ حقيبة سفرى الصغيرة ذات العجلات، متأملا كلاب السكك التى نشطت مبكرا، وبدأت روتينها اليومى مع النباح والمعارك التى لا طائل من ورائها، من دون أن تُفزع المارة أمام بوابة القصر الذى يحمل لافتة 'مبنى وزارة التربية والتعليم'، خلف ضريح سعد زغلول وسط القاهرة، حيث كنت أتأمل نمط العمارة القديم وأقارنه بقصور منطقة التجمع و'القاهرة الجديدة'، كنتُ أسحب حقيبة سفرى الصغيرة إلى 'شارع المبتديان' محاولا الوصول إلى المقهى المواجه لمبنى 'عمارات العرايس' فى الموعد الصباحى المحدد، حيث ينتظر أتوبيس 'الهيئة العامة لقصور الثقافة' نخبةً من الأدباء والمثقفين المصريين، من أجيال وأعمار وتوجهات مختلفة، للمشاركة فى أعمال ملتقى أدبى يقام فى 'مدينة العريش'، خلال الفترة من 6 إلى 8 مايو الجارى، تحت عنوان 'الثقافة والهوية الوطنية'، وقد كان الكاتب الكبير المصرى سيد الوكيل هو شخصية الملتقى فى دورة هذا العام. على المقهى كان واحد من أجمل من عرفت شاعرا وإنسانا يجلس متأملا المارة، إنه ذلك الرجل الوسيم الذى حين تقول له 'صباح الخير يا عمنا الغالى' يرد عليك بحضن دافئ وسن ضاحك قائلا: 'الله كريم'.. إنه الشاعر الكبير إبراهيم داوود، الكاتب فى جريدة الأهرام ورئيس تحرير مجلة 'إبداع' فتعرف على الفور أنك سوف تمضى ثلاثة أيام فى جنة الحكايات، وأنك ستكون محظوظا بالصحبة فى هذه الرحلة. انطلق الميكروباص ـ الذى يقوده أحد أمهر سائقى الهيئة 'على' ـ بعدما أطلق إبراهيم داوود واحدةً من قفشاته الصباحية الرائقة، وطوال الطريق كان الشعور أننا فى مهمّةٍ وطنية، حيث لم يتوقف الناقد الدكتور محمد سليم شوشة عن محاولته ضبط المصطلح، بحضور الكاتبة الصديقة القاصة صفاء عبد المنعم، والناقدة الدكتورة نانسى إبراهيم من جامعة قناة السويس، والصديق الشاعر عيد عبد الحليم، رئيس تحرير 'مجلة أدب ونقد'، الصادرة عن حزب التجمع، وبحضور الشاعرة جيهان عمر، وكاتبنا الكبير سيد الوكيل، وبعد نصف ساعة من السير فى شوارع القاهرة وبالتحديد فى منطقة العبور على طريق الإسماعيلية، كان القاص الدكتور شريف صالح ينتظرنا مُبتسما هو الآخر. طبعا، لابد أن أعترف ـ بداية ـ أننى أصلا من عشاق العريش، فقد كانت مقر أولى رحلاتى الجامعية وأول مصيف فى حياتى، يوليو من العام 1990، وكلنا يعرف أن الرحلة إلى سيناء الآن وتقديم نشاط ثقافى هناك ـ لايزال أمرا محفوفا بالمتاعب، لأنه يمثل تحديا أمنيا وثقافيا كبيرا، خصوصا خلال سنوات الحرب على الإرهاب التى عرفتها المنطقة فى مرحلة سابقة، وبعد سنوات من خسارة المئات من الشهداء الأبرياء من أبناء الوطن، سواء كانوا من أبناء الجيش أو الشرطة أو الشعب، وعلى بعد حجر من حرب إسرائيلية بشعة على غزة الفلسطينية الباسلة، الأمر الذى رسم خريطة للمقاومة على أرض الفيروز. لقد اعتقد المثقفون دائما ـ وأنا أولهم ـ أن الثقافة والشعر والغناء والموسيقى والمسرح وكل أشكال الفنون هى رأس الحربة الفعلى فى الصراع مع التيارات الدينية المتشددة، وأن انسحاب الدولة من معركة الوعى الثقافى العام لا يعنى إلا أن نترك الساحة خالية لذلك التيار الإسلامى الفاسد، الذى تأسس بمعرفة الاستعمار البريطانى، وظل يتخبط سياسيا إلى أن قادته ضلالاته إلى شن حرب ضد مؤسسات الدولة التى يُريد أن يحكم شعبها. فى الطريق إلى العريش كنا متحمسين لزيارة البلد التى تحارب الإرهاب نيابة عن بقية ربوع الوطن، الأمر الذى جعلنا نتحمل وعثاء السفر وعذاب الطريق، ونتجاهل ما سمعناه من حكايات عن تعقيدات إجراءات التفتيش فى 'أنفاق تحيا مصر'، فى الطريق كنا نحلم بزيارة 'متحف للتراث السيناوى' لكننا وجدنا متحفا أعد على عجل بعد اضطرارهم لنقل آثار متحف كان مقاما فى منطقة عمليات وهم فى انتظار قرار من وزير الثقافة، كما حلمنا بوجود أكثر من دار عرض سينمائى وأكثر من مسرح، فوجدناهما فى قصر ثقافة العريش، وحلمنا بالاستماع إلى شعراء البدو وفرحنا لأن واحدة من ليالى الملتقى كانت مخصصة لهم. حقل ألغام فى الطريق الذى استغرق نحو ست ساعات سوف تتأمل القاهرة التى تركتها وراء ظهرك، وعليك أن تتأقلم مع إجراءات التفتيش والنزول والصعود، وحين تجاوزنا الأنفاق بنجاح كانت قد تمت قراءة خطاب وزارة الثقافة ـ الذى يحمله السائق ـ أكثر من سبع مرات. وصلنا العريش بينما كانت أشعة الشمس قد صارت هشة وبرتقالية اللون، صعدنا إلى غرف الفندق الجديد لكى نرى البحر من الأدوار العليا، بسرعة استبدلنا ملابسنا وتناولنا الغداء، ثم انطلقنا إلى الشارع فى الطريق إلى حفل افتتاح الملتقى على مسرح قصر ثقافة العريش الذى يتمتع بفرقة فنون استعراضية على أعلى مستوى، كانت أبرز فقرات الحفل الافتتاحى. فى كلمته نيابة عن رئيس الهيئة قال رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية فى الهيئة العامة لقصور الثقافة الشاعر مسعود شومان فى افتتاح الملتقى إن ثقافة المناطق الحدودية -خصوصا ثقافة المعابر- لها سمات جمالية وفنية وتعبيرية خاصة، وإن دراسة الثقافة الشعبية لمكان ما تنطوى فى الوقت نفسه ـ على محاولة عميقة لفهم هويته، أما الجلسة الافتتاحية فجاءت بعنوان "الهوية المصرية: إشكالية المفهوم وتحديات المستقبل"، وقدم فيها الباحث الدكتور شريف صالح ورقته التى تعتمد على رؤيته للتاريخ المصرى المتأثرة بمرحلة مصر القديمة، ثم جلسة "تشكلات الهوية فى عصر الذكاء الاصطناعي" وتحدث فيها الدكتور محمد سليم شوشة عن الدور الجوهرى الذى تلعبه اللغة فى تطوير برامج الذكاء الاصطناعى الحالية، والتى اتكأت على اللغة لتصنع ثورة الذكاء الاصطناعى الكبير أو الفائق، محذرا من هذا العقل الاصطناعى الفائق والتوليدى، يقول شوشة: 'أصبح هذا العقل الآلى فاعلا لأول مرة فى التاريخ، يملك دماغا محاكيا لدماغ البشر عبر شبكة عصبية مشابهة للشبكات العصبية التى فى مخ الإنسان، وهذه الشبكة العصبية لها منظومتها البنائية التى تأسست عليها، فى هذه المرحلة الجديدة من امتلاك الآلة لعقل شبه حقيقى، والأكثر دقة أن أقول حقيقيا؛ لأنه محاكاة متطابقة لعقل الإنسان أصبحت فاعلة ومنتجة بشكل حقيقى، ويجب أن ندرك أن قولنا شبه حقيقى إنما يرجع فقط لكونها اصطناعية، أى أنها حتى الآن ليست من لحم ودم، لكنها فى الحقيقة تؤدى -حتى الآن- غالبية وظائف العقل البشرى وبخاصة فى تعامله مع اللغة. فى هذه المرحلة وصل هذا العقل الاصطناعى الفائق والتوليدى إلى حدود عميقة من الفهم وتكوين معنى، والأهم أنه يؤدى ما يعرف بالتعلم العميق (deep learning) والقابلية للتطور ذاتيا'. فى اليوم التالى أقيمت جلسة "الأدب وتشكيل الهوية الوطنية – الأدب السيناوى نموذجًا"، بمشاركة الباحث الدكتور حمدى سليمان الذى توقف لقراءة أعمال عدد من أدباء سيناء، وقال: 'المتابع للمنتج الأدبى فى شمال سيناء يستطيع ملاحظة أن معظم أدباء سيناء حريصون فيما يقدمون من إبداعات، على تعزيز قيم وثوابت الهوية المصرية الأصيلة، التى تدعم وترسخ وحدة وتلاحم واستقرار الوطن، وتحافظ على ثقافته الوسطية، مع الاهتمام بإبراز التنوع الثرى الذى تتمتع به البيئات الثقافية المختلفة فى مصر'. فى اليوم الثانى كانت الجلسة الأولى بعنوان "محور الشعر الفصيح"، وقدم فيها الشاعر عيد عبد الحليم قراءته للمشهد الشعرى فى سيناء، مختصا اثنين من شعراء سيناء بالاهتمام، وهما الشاعر حسونة فتحى صاحب ديوان 'قصائد فرت من الحرب'، والذى أهدانى نسخة منه العام الماضى، حين تشاركنا القراءة الشعرية فى واحد من مؤتمرات بيت الشعر بالأقصر، ومن أجواء الديوان التى تتجلى فيها لحظات المعاناة ومفردات الحياة تحت القصف: 'تدربتُ كثيرًا على قراءةِ الحزنِ فى عَيْنَيْ أمي فقد كانتِ البلادُ أيضًا ديارَ حربٍ، لنمارسَ لعبتَنا إذن أصمُتُ.. وتصمُتينَ دون أن أُصَرِّحَ بما أعلمُ فنَهلَك أو بما تحمله أفكاركِ فيحترقُ وجهَ البلاد' توقفت قراءة عيد أيضا عند تجربة الشاعر سالم الشبانة الذى يقول فى ديوانه 'أصابع العازف الأعمي' ليكشف جانبا من الحياة القاسية التى عاشها: 'صحراء تصحو على الحربِ، خطوتى حقل ألغامٍ بدو جاهزون للأماثيل، علبة التبغ لن تصنع نبيا، ولا القلق قادرٌ أن ينجينا رجلٌ غامض يجمع زهورا سوداءَ، وينتظرُ ألاعيب الحياة ساهيا' الجلسة المسائية كانت لحسن الحظ مخصصة لـ "محور الشعر البدوي"، بمشاركة الباحث مسعد بدر، والتى أدارها الباحث مسعود شومان وغنى فيها عبد الكريم الشعراوى أحد شعراء البادية، واختتم الملتقى مساء الخميس بإعلان التوصيات ومنها: 'رفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيونى، مع الإشادة بالدور الوطنى لأبناء سيناء على مر العصور، والتوصية بضرورة زيادة الفعاليات والأنشطة الثقافية بما فيها مهرجانات المسرح والفنون الشعبية والموسيقى العربية على أرض شمال سيناء، بالإضافة إلى إقامة معرض كتاب يشمل إصدارات جميع هيئات وزارة الثقافة، مع إقامة منفذ دائم لبيع إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب فى مدينة العريش، وضرورة إقامة برامج تدريبية لباحثين وباحثات من أبناء شمال سيناء لتأهيلهم لجمع التراث السيناوى. عن البحر و 'اللصيمة' بالتوازى مع جلسات الملتقى، حددنا صباح اليوم الأخير لننزل البحر، وقد كنا خلال الأيام الثلاثة حريصين على الفرار إلى المقاهى القريبة لنسمع أدباء ومثقفى العريش وشمال سيناء وهم يتكلمون ويحلمون، وكان الشاعران مسعود شومان وإبراهيم داوود خيرَ دليل إلى هذه المقاهى، حيث كان الحديث يدور عن آلام عاشها الناس فى سنواتٍ سابقة، وقتها كانت إجراءات الحرب سببا فى تخريب حياة بعض الناس، وهو أمر يبدو بديهيا فى 'ميدان المعركة'، إلا أنه يبقى بشعا ومُضنيا لأهالى المنطقة من المدنيين، ويبقى قصة تستحق أن تُروى وأن تعرفها الأجيال المقبلة، لكى تتعلم قيمة أن تساعد قدر الإمكان فى دعم ونشر كل قصص المعاناة فى الحرب. الإيقاع الصاخب للمقاهى فى العريش وليد المساحات الواسعة دائما، ما يضطر الناس إلى رفع أصواتهم واستخدام مكبرات الصوت، لكن الحديث الهامس يكون من نصيب الكلام عن الأوضاع الاقتصادية خلال فترة الحرب، التى دارت بين عامى (2018 ـ 2023)، يُقال لك إنه فى هذه الفترة الحرجة كنت تسمع عن أسر مستورة اضطرت إلى التسول لكى يطعموا صغارهم، فــى فترة 'حظر الـتجول' لــم تكن بعض السلع الأساسية ـ حتى ـ متوافرة فى الأسواق، لكن الآن كل شىء اختلف، يتنفس الكل بحرية وهم يقولون لك: 'كل ما نريده أصبح الآن سهلا ومتاحا'، وإن كان انتشار القوات والمدرعات حول المبانى الحكومية يبدو أمرا ضروريا ولا يخلو منه شارع فى العريش، بينما الشوارع التجارية حيث محلات العطارة وزيت الزيتون والآيس كريم والملابس غارقةٌ فى الزحام إلى منتصف الليل، كأيّ مدينة مصرية. حكاية الأديب عبدالله السلايمة، تجسِّد معنى الصمود، فعبدالله كاتب القصة ابن القبيلة العرايشية كبر فجأة وتهدم، وحين رأيته لم أكد أتبينه، فقد فوجئت أنه فَقَد خلال شهور قليلة جزءا من حاسة السمع بعدما فقد كثيرا من وزنه، عرفتُ من وجهه وأصابعه أنه أصيب بمرض البهاق، وبعد قليل اعتذر بصوت واهن مستأذنا فى الانصراف، لأنه سيجرى 'عملية قسطرة' خلال ساعات، فى أحد المستشفيات العامة، انصرف فجأة ولم أعرف السبب فى كل ما جرى له، إلى أن عرفت أنه فَقَدَ محل سكنه، الذى كان فى قلب منطقة اشتباكات بين الشرطة والإرهاب، من دون أن يُصيبه الدور ـ بعد ـ فى سكنٍ حكومى ملائم. طبعا، لم تكن القبضة الأمنية الصارمة أمرا يسيرا فى حياة الناس أبدا، بل إنك وقتها كنتَ تسمع الشكوى من انقطاع الكهرباء والمياه لمسافات زمنية طويلة عن مناطق كبيرة فى العريش، خصوصا خلال المرحلة المعروفة بالخطة الأمنية الشاملة العام 2018، والتى انطوت بالتأكيد على 'إجراءات استثنائية' فى مناطق مكافحة النشاط الإرهابى لمحاصرة العناصر الإرهابية ومنع تسربهم إلى الداخل، وهى 'الإجراءات' التى طالما وجهت وزارة الداخلية الشكر إلى أهالى هذه المناطق لتفهمهم طبيعة هذه 'الإجراءات'. فى اليوم الأخير، تناولنا إفطارا سريعا واتجهنا إلى البحر، الذى كان صافيا وهادئا كما فى الأساطير، كان مسعود شومان المشغول دائما بالفولكلور يحدثنا عن أكلة عرايشية خالصة اسمها 'اللّصيمة' التى تتكون من بدنجان وبطيخ نيئ وخبز، حين وصلنا إلى الشاطئ كان الشباب من أبناء العريش يشوون شيئا على الفحم، اتضح أنه 'اللصيمة' بعينها، وحينما انتهوا جاءوا لنا بعلبة منه، فكانت مفاجأة 'لصيمة' جدا، فقد تذوقت طعمها المملح ولم أبح برأيى لأحد. فى البحر، اكتفى سيد الوكيل بالمشى على الشاطئ بينما جلست صفاء عبدالمنعم تتأمل البحر، وتمشت جيهان عمر كأنها تبحث عن شىء ما، وفى حين تسابق 'شومان وشوشة وشريف صالح' فى مسابقة للغطس وفاز شومان مرتين، بينما حكى إبراهيم داوود وهو يقاوم الموج عن علاقته باثنين من رموز الجيل الماضى، وقال إنهما تركا فى شخصيته آثارا لا تنسى، هما: الأديب والروائى الكبير الراحل خيرى شلبى والشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم 'الفاجومي'، وبمناسبة الحديث عن جائزة البوكر المصرية، تذكر البعض ونحن نحاول أن نسبح فى مياه العريش الصافية أديبا مصريا من أبناء الجنوب هدد وزارة الثقافة فى حقبة الثمانينيات فى حال لم يفز بإحدى جوائز الدولة. فى البحر وقفت جيهان عمر على الشاطئ وبدت من بعيد كأنها تلقى شيئا فى الماء ثم تعود لتحصل عليه لتلقى به من جديد، تحتفظ جيهان بوجه طفولى ساعد صوتها الرقيق فى تأكيده، خصوصا وهى تلقى قصيدة من شعرها، ورغم أنها صوت نسائى مميز فى جيل التسعينيات إلا أنها لا تعتبر نفسها واحدة من هذا الجيل، كما أنها خالفت نهج الشعراء وأصدرت العام الماضى مجموعة قصصية بعنوان 'قبل أن يرتد إليك طرفك'، أحب كتابة جيهان وبورتريهاتها التى تلتقطها بتلك الكاميرا العتيقة التى تحملها معها دائما، وأصبحت أتفاءل بوجودها فى أى مكان، منذ ساعدتنى بقدراتها السحرية ـ قبل أن أعرفها ـ على الخروج من مأزق مالى تعرضتُ له فى فرنسا العام 2015، عبر واحدة من صديقاتها (شاعرة إنجليزية). بعد ثلاثة أيام من الحديث عن أشكال المقاومة فى العريش عدتُ إلى القاهرة ظهر الجمعة، لأجدنى أجر حقيبتى الصغيرة وقد امتلأت بالكتب والحكايات والأحلام فى 'شارع التسعين' بالتجمع فى ظهيرة قائظة، فى انتظار سيارة تقلنى إلى البيت، مررت أمام قصور وعمارات زجاجية حديثة، لكنها كانت جميعا شحيحة الظل، فالمبانى الزجاجية الحديثة ـ للأسف ـ لا تجود لا هى ولا الأشجار الهزيلة التى تقف أمامها على المارة فى الشارع بأىّ ظل.

مصرس
منذ 2 أيام
- مصرس
هذا أنا مذكرات صلاح دياب: حكاية جورنال اسمه «المصرى اليوم» (الحلقة الثالثة)
لمذكرات المهندس صلاح دياب، مؤسس «المصرى اليوم»، والتى تحمل عنوان «هذا أنا»، قيمة خاصة بالنسبة لنا، وقد سعينا هنا فى «المصرى اليوم» لنشر أجزاء من فصولها فى هذه الحلقات، بالاتفاق مع ناشر الكتاب «الدار المصرية اللبنانية»، ومحمد رشاد، رئيس مجلس إدارتها.. القيمة الخاصة مصدرها أن «دياب» يسرد فى قلب هذه المذكرات وبالتفصيل، قصة ميلاد جريدتنا، منذ كانت فكرة فى عقله، وكيف نقل الحماس بشأنها إلى مجموعة مختارة من المقربين له فى أوساط العائلة، وزملاء البيزنس والعمل العام.يكشف صلاح دياب، فى فصول أخرى وبكل جرأة وشفافية، طبيعة التحديات والأزمات التى واجهها فى مشواره وكيف وصلت حد دخوله السجن مرتين. ويكتب أيضًا عن تاريخه الشخصى والعائلى، بسردٍ شيقٍ يخلط التاريخ بالسياسة بوقائع الحياة الاجتماعية فى القاهرة والشرقية والبحيرة، وخارج البلاد.صاحب المذكرات لا يسعى لتجميل مشواره والتركيز على محطات النجاح فقط، بل يستغرق فى هناته وأخطائه، وما أكثرها، بكل جرأة، منذ كان طالبًا مشاغبًا فى الفنية العسكرية، ثم كلية الهندسة، متنقلًا بين مشاريعه والمجالات التى نجح فيها، لافتًا إلى أنه ينطبق عليه القول الشائع: «صاحب سبع صنايع».. وربما أكثر.يركز «دياب»، فى كتابه، على وصفاته وخبراته فى الجرأة والإقدام.. واختيار الوقت السليم للتوسع فى الأعمال، لكنه يُرْجِع جزءًا مهمًا من نجاحاته وتألقه إلى «تقاطعات» وصدف وأقدار أتت فى طريقه.. واستغلها بشكل جيد، فيقول عن ذلك: «جاءت حياتى ورحلتى كسلسلة متصلة من التقاطعات، وما وصلت إليه وما أصابنى من محن كان نتيجة تقاطعات من نوع آخر. تقاطعات لم أدبر لها ولم أستطع التحكم فيها، لكنها جاءتنى بغتةً، هذه التقاطعات يسمونها استسهالاً (صُدف) لكننى أعتقد أنها أقدار ربانية مرسومة...».بالطبع، يصعب التقديم، أو الاقتباس، من مذكرات شاملة لشخص، حياته ثرية بالمواقف والذكريات والعلاقات. حاولنا اختيار عدد من العناوين التى تضمنتها المذكرات، دون أن نستكملها. هى متاحة كاملة فى الكتاب الموجود فى دار النشر والمكتبات الكبرى.إقالة مجدى مهنا من «الوفد» وراء إصرارى على شراء ترخيص جريدة «الزمان» في 2003«حزنت وأحسست بذنب وتأنيب ضمير لأننى كنت وراء كل ما حدث للصديق مجدى مهنا. عند تلك اللحظة بالضبط تحركت لإصدار جريدة خاصة، واتفقت مع مجدى على أن يرأس تحريرها»■ ■ ■ ■لم تكن «المصرى اليوم» وليدة تلك اللحظة التى اتخذت فيها قرارًا بتأسيسها، بل لعلى أسستها فى خيالى لسنوات قبل ظهورها على أرض الواقع.القصة بدأت فى خمسينيات القرن العشرين، حين وُلدت وشببت فى بيت تحتله الصحف والكتب، فأينما وليت وجهى وجدت ظرفًا به صحف، أو مجلدات لصحف قديمة، أو أوراق كُتب عليها «الجهاد».الصحف فى كل مكان.. فى المكتب، فى الصالة، فى غرفة النوم، فى الأدراج، على الأرائك، فوق سفرة الطعام. حين فتحت خزانة جدى توفيق وجدت مجموعة من الصور الفوتوغرافية لمناسبات وحفلات كلها فى مبنى جريدة «الجهاد»، لم أكن حينها أعلم ماهية «الجهاد»، فسألت: «لماذا أجد كلمة الجهاد فى كل مكان؟».الإجابة: «الاسم يعود لجريدة امتلكها جدك توفيق دياب، وكانت الجريدة الأهم فى مصر فى الثلاثينيات، وقد ظلت كذلك حتى إغلاقها فى سنة 1938م».هذه الخلفية أشعرتنى بالفخر، خصوصًا حين علمت أن «الجهاد» كانت تتجاوز توزيع جريدة «الأهرام» وقتئذ، لكن مُلاك الأخيرة آل تقلا كانوا «شوامًا»، يتقنون فنون التجارة والإدارة والتسويق من حيث مراقبة الأرباح وتدقيق الحسابات.شببت عن الطوق. كبرت، وكبرت معى قصة «الجهاد»، وأظنها استقرت فى عقلى الباطن، وانتظرت الوقت المناسب لتخرج فى صورة ذلك المشروع الذى يحمل اسم الأسرة، وفى القلب منها ذكرى جدى؛ لاستعادة جهد وجهاد لا ينبغى أن نهمله؛ لذلك جاء التفكير فى إصدار «المصرى اليوم» أمرًا طبيعيًا يخلو من أى غرابة على رجل مثلى عاش هذه البيئة، ويحمل ذلك الحلم.«المصرى اليوم».. والصدفةفى أحد الأيام سنة 2002م جاءنى الصحفى حسين الشاعر يعرض علىَّ شراء رخصة صحيفته التى كانت تحمل اسم الزمان، وطلب مقابل ذلك 600 ألف جنيه، فرأيت أن المبلغ فيه مبالغة، ولذلك صرفت النظر عن الموضوع.بعد ذلك بفترة، وفى إحدى جلساتى فى «الوفد»، تحدثت إلى الدكتور نعمان جمعة، رئيس الحزب حينئذ، وقلت له شاكيًا، غاضبًا: «أنا أول مصرى يدخل منافسًا للأجانب فى خدمات البترول، وكنت أبذل جهدًا هائلًا فى عملى كاد أحيانًا أن يجعلنى على شفا الانتحار، أجتهد وأنافس لأحقق ربحًا متواضعًا، ثم فجأة أجد شخصًا لا علاقة له بالبترول من قريب أو بعيد يقوم بإنشاء محطة للتكرير»؟!كان أحد رجال الأعمال وقتها قد أنشأ محطة لتكرير البترول، وأدخل معه هيئة البترول شريكًا بحصة 40٪ ودفعت له مليارًا ونصف المليار دولار، ثم دفعت الدولة مبلغًا آخر لتزيد حصتها إلى 60٪، كل ذلك دون مناقصات أو مزايدات، بل دون علم بحقيقة التكلفة، ومع الوقت دخل البنك الأهلى شريكًا، وخرج مؤسس الشركة بعد أن حصل على مليارات الدولارات، أضعاف تكلفة التأسيس، وذلك حتى قبل بدء المشروع. استفزتنى تلك القصة، والتى لم تكن قد خرجت للعلن بعد. وجدت الدولة التى تلجأ للخصخصة هى نفسها التى تدفع مليارات لرجل أعمال لتحول شركته الخاصة إلى القطاع العام، ولم أفهم سبب التوجه للعمعمة بدلًا من الخصخصة.طلبت من الدكتور نعمان جمعة أن يثير تلك القضية الخطيرة على صفحات جريدة «الوفد»، فقال لى: «لو أثرنا تلك القضية فإن الأمر لن يمر على خير، بل أتوقع تصفية جسدية لمن سيفتح الموضوع».كعادتى لم أستسلم، فاتصلت بالصديق مجدى مهنا، رئيس تحرير جريدة «الوفد» وقتذاك. كنت أثق فى نقائه وشجاعته، وأعطيته المعلومات التى تعضد وجهة نظرى فى تلك القضية المثيرة للاستفزاز. لقد رأيت عوارًا فى إجراءات انتقال الملكية للدولة بهذا الأسلوب، فكيف لشركة قطاع خاص أن تنقلب إلى قطاع عام بهذه البساطة، ويحقق مؤسسوها أرباحًا بهذه الضخامة؟وبالفعل تناول مهنا الموضوع فى 6 مقالات نارية نُشرت فى «الوفد» اليومية، آخرها مقال أكد فيه أن الأمر نفسه يكاد يتكرر فى شركة أخرى مملوكة لرجل الأعمال نفسه!بعدها حدث ما حذر منه الدكتور نعمان، فلم يمر شهر على النشر حتى أُجبرت الجريدة على إقالة مجدى مهنا!حزنت وأحسست بذنب وتأنيب ضمير لأننى كنت وراء كل ما حدث للصديق مجدى. عند تلك اللحظة بالضبط تحركت لإصدار جريدة خاصة، واتفقت مع مجدى مهنا على أن يرأس تحريرها. اشتريت ترخيص جريدة «الزمان» وبدأنا- أنا ومجدى مهنا- إجراءات الإصدار فعليًا فى سنة 2003م. اتخذنا مقرا مؤقتًا للجريدة بالمهندسين، إلى أن توفر مكان أفضل بجاردن سيتى، كان عبارة عن طابق أرضى مساحته 400 متر تقريبًا.بدأ «مهنا» بتكوين فريقه، وخرجت عشرة أعداد تجريبية، لكننى- فى الحقيقة- لم أعجب بها على الإطلاق. كانت أشبه بمدرسة «روز اليوسف»، ولم أكن أريد للصحيفة الجديدة أن تكون تقليدًا لشىء موجود بالفعل. لم يكن ذلك ما تمنيته، لا من حيث الفكرة ولا المضمون، ولا الشكل. شعرت بأنها قد تكون جريدة جديدة، ولكن بثياب قديمة.استشرت أصدقائى المقربين من ذوى الخبرة الصحفية، وعلى رأسهم الصحفى الكبير الراحل صلاح منتصر، واتفقوا معى على أن الأعداد الزيرو- أى التجريبية- ليست مُرضية ولن تضيف جديدًا، ولا ترقى لميلاد صحيفة قوية ومتفردة قادرة على الحياة والمنافسة.وفى تلك الفترة، وقعت عيناى مصادفة على مجلة شهرية اسمها «كايرو تايمز» تصدر باللغة الإنجليزية، وجدتها مختلفة فى الشكل والمضمون، فسعيت للتعرف على ناشرها هشام قاسم. ذهبت إليه فى مكتبه فى «جاردن سيتى». عرضت على قاسم أن ينضم ل«المصرى اليوم» ناشرًا، فاشترط أن يجلس أولًا مع مجدى مهنا، رئيس التحرير، وبعدها يقرر الرفض أو القبول.كانت السياسة التحريرية فيما يخص الشؤون الخارجية هى نقطة الخلاف الكبرى بين الرجلين. صار احتدام النقاش بينهما أمرًا معتادًا، وقد حاولت تقريب المسافات بينهما دون جدوى.الحق أننى انحزت لرؤية هشام قاسم، رأيت أن أفكار «مهنا»- مع حبى وتقديرى له- لا تتناسب مع طبيعة المرحلة، فحسمت أمرى فى هذا الاتجاه، وسألت قاسم: إذا كان عدم اتفاقك مع مجدى مهنا نهائيًا ولا رجعة فيه، فما الحل؟ هل ترغب فى أن يترك رئاسة التحرير وتتولى أنت مكانه؟ كانت إجابته مفاجئة لى: لا.. طلباتى أصعب من هذا بكثير، فليرحل مجدى مهنا ومعه فريقه كاملًا، المكون من 200 صحفى.صدمنى ذلك الطلب. الحق أننى خشيت معاداة 200 صحفى دفعة واحدة، هم بالتأكيد ليسوا من عوام الناس، فبإمكانهم استهدافى بأقلامهم، لكن بعد تردد حسمت قرارى بالاستغناء عن فريق العمل بالكامل، بعد ثلاثة أشهر فقط؛ لذلك تم تعويضهم ماديًا ومعنويًا ليتقبلوا بمحبة ومودة اعتذارنا لهم عن عدم الاستمرار.أما مجدى مهنا، فكما عهدته فارسًا فى مهنته وأخلاقه. لم ينعكس اختلافنا فى الجريدة على علاقتنا الإنسانية، واتفقنا على أن يكون له عمود يومى فى الصفحة الأخيرة للجريدة باسم «فى الممنوع». وصار ذلك العمود أيقونة «المصرى اليوم» إلى أن رحل صاحبه، لكننى مازلت أحتفظ بصورة خاصة له فى مكتبى تذكرنى دائمًا به.بعد مجدى مهنا صار علينا البحث عن رئيس تحرير. اقترح هشام قاسم اسم أنور الهوارى الذى كان يعمل وقتئذ فى «العربية» السعودية، وأجرينا معه اتصالًا تليفونيًا، فوافق على رئاسة التحرير.بدأ رئيس التحرير الجديد العمل بحماس شديد، وكان من السهل عليك أن تتلمس موهبته، فهو يمتلك بلاغة لافتة، حتى إننى قلت له ذات مرة: «لم أقرأ فى حياتى أسلوبًا أقرب إلى أسلوب توفيق دياب من أسلوبك أنت».كنت أقصد بذلك لغته الخطابية، وجمله القوية، فى مقاله الذى بدأ فى نشره بالصفحة الأخيرة من «المصرى اليوم» مقابلًا لمقال مجدى مهنا.وفى السابع من يونيو 2004م، صدر العدد الأول من «المصرى اليوم»، وقد تسبب هذا العدد الافتتاحى فى ضجة كبرى، فقد كان مانشيت الصفحة الأولى: «وزراء يدمرون مصر»، مصحوبًا بصور أكبر وأهم أسماء فى البلد وقتها: صفوت الشريف، وكمال الشاذلى، ويوسف والى... وغيرهم.فجَّر أنور قنبلة أحدثت دويًّا صاخبًا سمعه الجميع، وكان ذلك- فى تصورى– هو المطلوب لصحيفة تعلن عن صدورها لأول مرة، وها هى تقول للجميع: ها نحن قادمون، أقوياء ومستقلون، فى وقت كان قارئ الصحف القومية والحزبية قد سئم الإصدارات اليومية الرتيبة التى كانت تسبح بحمد النظام صباحًا ومساءً.مرت الأيام دون أن نحصل على أى من الإعلانات التى كنا ننتظر قدومها بفارغ الصبر، وفجأة حصلنا على الإعلان اليتيم الأول. كان من شركة الأهرام للمشروبات، التى لها بالطبع أن تعلن عن منتجها، ونحن لسنا إلا مجرد وسيلة نشر. لم ندعُ أحدًا لتناول ما تنتجه الشركة. هكذا تناقشنا فى الأمر، لاسيما أن مجلة «روز اليوسف» القومية قبلت الإعلان نفسه، لكن «الهوارى» رفض نشر الإعلان، بالرغم من أن هذا خارج اختصاصه تمامًا؛ فالإعلانات شأن من اختصاص إدارة الجريدة، ولا دخل لرئيس التحرير بها.عندما أقنعناه غصبًا– بطلوع الروح– على القبول، نشره بالفعل، وبخبث شديد وضع أسفله مباشرة فى نفس الصفحة الأخيرة صورة للحجيج بمكة يوم عرفة، ومكتوبًا عليها: «الحجيج يسجدون على عرفات»!كان ذلك بالمصادفة هو يوم وقفة عرفات. تخيّل إعلان مشروبات روحية تحته صورة للحجيج فى عرفة! كان الأمر صادمًا للكثيرين، وغضبة القراء أصعب علينا من غضبة المسؤولين، فأخطر ما تواجهه أى صحيفة– خاصة لو كانت ناشئة– فقدان ثقة القراء.كان أمرًا مستفزًا، فجَّر ردود أفعال وتعليقات غاضبة رهيبة ضدنا، توحى بأن القائمين على هذه الجريدة مجموعة من الكفرة الملحدين، يروّجون لنشر الرذيلة فى البلاد!فعل «الهوارى» هذه الفعلة الكارثية، وسافر بعدها مباشرة إلى الكويت ملبيًا دعوة هناك، وعندما عاد استدعاه كامل دياب، رئيس مجلس إدارة الجريدة فى ذلك الوقت، حيث أعفاه من منصبه، بالرغم من أن تعاقده معنا كان لمدة عام، ولم يقضِ منه سوى سبعة أشهر، ومع ذلك التزمنا بكل مستحقاته حتى نهاية العام.مرحلة جديدة مع «الجلاد»بعد رحيل «الهوارى» جلسنا لاختيار رئيس تحرير جديد. اقترح هشام قاسم اسم مجدى الجلاد، مدير التحرير وقتها، ووصفه بأنه «رجل صنايعى وحرفى ماهر».قبلنا التجربة، أو قل المغامرة. جاء «مجدى»، وراقبت طريقة عمله. فأبلى بلاءً حسنًا، وارتفع توزيع الجريدة وانتشرت بصورة غير مسبوقة، وكان الدكتور أحمد محمود مديرًا للإخراج الصحفى. الحقيقة كان للجريدة فريق متميز تحريريًا وفنيًّا لم تشهده جريدة من قبل.لكن مع الوقت بدأت تواجهنا مشكلة جديدة من نوعها، فبعد أن صار «الجلاد» نجمًا، بدأت تجذبه القنوات التليفزيونية فى إعداد البرامج والإشراف عليها، إلى أن قام بعدها بتقديم برنامج تليفزيونى بنفسه.هنا بدأت العثرات وخلط الأوراق، إذ كيف لرئيس تحرير أن يكون مذيعًا فى برنامج تليفزيونى؟ خاصة إذا كان فى قناة لا علاقة لها بالصحيفة التى يترأس تحريرها، بل قد يكون هناك خلاف فى توجهاتها عن الجريدة التى يديرها!ظل هذا الخلاف عالقًا حتى قرر صاحب القناة التى يعمل بها «الجلاد» تأسيس صحيفة «الوطن»، حيث أغرى الأخير ليتولى تأسيسها ورئاسة تحريرها.اقتربت من جميع رؤساء التحرير الذين عملوا فى الجريدة على مدار عمرها. فبعضهم حافظ على شخصية الجريدة «المستقلة»، مدركين شخصيتها وهويتها وخطها التحريرى، وبعضهم مال بها قليلًا هنا أو هناك. مع ذلك نقدر حجم الضغوط التى يتعرضون لها فى سبيل صدور صحيفة يومية مختلفة.اسمحوا لى أن أضرب مثالًا على تلك المرات التى تدخلتُ فيها مخاطبًا القارئ، عندما وجدت أن هناك بوادر انحراف مهنى ل«المصرى اليوم» عن الخط الذى ارتضيناه لها منذ تأسيسها. كان ذلك فى سنة 2016م، فى الأزمة الشهيرة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية بسبب دخول بعض رجال الأمن النقابة للقبض على بعض الصحفيين.كتبت فى ذلك مقالًا تحت عنوان: «رسالة من مؤسس المصرى اليوم»، قلت فيه:على مدى اثنى عشر عامًا، منذ خرجت «المصرى اليوم» إلى النور، لم أجد دافعًا، ولا ضرورة تستدعى مخاطبة القارئ مباشرة، رغم ما كان فى هذا الزمن من تقلبات وأحداث جسام.كان هناك الكثير من التشاور، وكان هناك ما هو أكثر من النقاش، ولكن قرار النشر كان دائمًا فى يد رئيس التحرير، والمجموعة الممتازة التى تعاقبت على عملية التحرير طوال دستة من السنوات.وللأسف، ولعله كان سببًا فى هذه المداخلة، أرى أن «المصرى اليوم» خرجت عن خط هذه المبادئ التى ارتضيناها هدى ومرشدًا للعمل، فى متابعة الأزمة الأخيرة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية.فمن ناحية التغطية، تداخلت الجريدة مع النقابة، وتبنت مواقفها بالكامل دون نقد، وبنت مواقفها التحريرية اعتمادًا على موقف طرف واحد، واستنادًا إليه بالحجب أو بالتصريح، ومن ناحية أخرى اتخذت مواقف سياسية ليست من صميم عملها أو مهنيتها بالمطالبة بتغيير وزير، أو طلب اعتذار من الدولة.باختصار، إن الجريدة دخلت فى مواقف وتصرفات هى فى جوهرها واجب الأحزاب السياسية، ومجلس النواب، والأجهزة القضائية فى الدولة. مثل هذا الخلط بين أدوار الأجهزة والمؤسسات هو واحد من الأمراض السائدة التى لم يكن على «المصرى اليوم» الوقوع فيها.مثل هذا الخطأ، أتمنى ألا نكرره مرة أخرى، وعلى العكس، فإن تمسك «المصرى اليوم» باستقلاليتها ومهنيتها واجب اليوم أكثر من أى وقت مضى؛ فمصر تمر بمرحلة لا تتحمل المزايدات، أو خلط الأدوار والأوراق، وإنما السعى الحثيث والسريع لبناء الوطن ورفعته، ويبقى انحيازنا الوحيد للقارئ والحق.البحث عن أنيس!خالى كامل دياب كان أول من بارك المشروع وأيده؛ فارتحت نفسيًا وازداد اطمئنانى، فقد عمل فى شبابه فى إدارة جريدة «الجهاد» إلى جوار والده توفيق دياب. أشفقت عليه وعلى نفسى من تحمل كامل الحمل المالى، فبدأت البحث عن شركاء آخرين.طلبت من ابن خالتى وأخى أكمل قرطام الانضمام إلى التجربة الصحفية، فوافق على الفور. أكمل مثقف، محترم، وله مشروعات خيرية وإنسانية متعددة، ولا يرفض لى طلبًا، ثم عرضت الأمر على كل من الدكتور أحمد بهجت- رحمه الله- والمهندس نجيب ساويرس، فوافقا على الشراكة.عرضت على كل شريك نسبة 10٪ كما ينص قانون تنظيم الصحافة، ومنحت أحد الشباب من الذين يعاونوننا، وهو من أصدقاء ابنى «توفيق»، حصة مقدارها 5٪ من أسهم الجريدة، مقابل جهده الذى بذله معنا. هذا الشاب هو شريف عبدالودود، الذى صار عضوًا منتدبًا للمؤسسة بعد استقالة هشام قاسم.نفس الشىء كررته مع شاب يعمل فى مجال الدعاية والإعلان اسمه طارق الشناوى، وهو بالطبع غير الناقد السينمائى المعروف. صارحت الشابين بألا يتوقعا مردودًا، فهذا مشروع غير هادف للربح، وأن منحهما أسهمًا ما هو إلا وسيلة لتنفيذ القانون الذى لا يسمح بأن تزيد نسبة كل مساهم وعائلته على 10٪ من مجموع الأسهم.حرصنا- كما قلت- ونحن نؤسس الجريدة على الفصل بين الإعلان والتحرير، كما تؤكد قواعد المهنة ومواثيق الشرف، حتى لا نخلط الأوراق. تعاقدنا مع وكالة برومو ميديا التى يمتلكها نجيب ساويرس، ويديرها أمجد موسى صبرى. كانت العلاقة جيدة، والإعلانات منتظمة، والأقساط تأتى فى موعد سدادها. كان «أمجد» يديرها بطريقة محترفة وذكية. وفى مرحلة ما، قرر أحد الشركاء تأسيس حزب سياسى ليبرالى باسم «المصريين الأحرار» بعد انتفاضة يناير 2011م. كان عليه استقطاب الميديا والإعلام بأنواعه المختلفة، وهنا أسند وظيفة العضو المنتدب لوكالة الإعلان إلى إيهاب طلعت.الشريك الأساسى فى الجريدة كان المهندس نجيب ساويرس، وهو- بالرغم من رحلته التعليمية فى المدارس الألمانية والأمريكية- لم يتخلَّ يومًا عن طابعه الصعيدى. يتجلى هذا الطابع فى مواقفه التى تتسم بالشهامة، مع كل أزمة أو مشكلة تعرض لها أحد، ولا أنسى أنه قام بتوجيه الجريدة لتذكر فى ترويستها جملة «أسسها صلاح دياب» عند تعرضى لمحنة.ولكن فى الوقت ذاته، هناك وجه آخر لطابعه الصعيدى، يظهر بوضوح حين يغضب، حيث يتحول إلى نفس الصعيدى القُح، وكما يقول هو عن نفسه: «أنا مَيدَّفنليش ميت»!ولابد من تذكر دور الدكتور أحمد بهجت- رحمه الله- وكرم أخلاقه، فأنا لم أجد منه إلا كل نبل وشهامة فى معاملاته معى، رغم كل ما عاناه من الدولة، فإنه لم يتأخر على «المصرى اليوم» فى شىء، سواء بالأموال أو المواقف أو التوجيهات.ولا يختلف المهندس أكمل قرطام عن الدكتور أحمد بهجت فى النبل، فهو أخى الأصغر، وتلميذى، ولم يخذلنى يومًا فى شىء طلبته، بل دائمًا أجده بجوارى فى المُلمات، وما أكثرها!.

مصرس
منذ 2 أيام
- مصرس
اليوم العالمي للشاي.. قصة اكتشافه وأساطير متعلقة به في الثقافة الصينية
يحتفل العالم باليوم العالمي للشاي في 21 مايو من كل عام، تقديرًا لمكانته بصفته أحد أكثر المشروبات استهلاكًا على مستوى العالم، حيث يتغلغل الشاي في مختلف الثقافات الشعبية وجميع المستويات الاجتماعية، ويحظى بإقبال كبير من مختلف الأعمار، فكوب الشاي الدافئ يوفر شعورًا بالهدوء والسكينة بعد يوم طويل أو في أوقات التأمل. كما يُعد تقديم الشاي جزءًا أساسيًا من الضيافة في العديد من الثقافات، ويُشجع على المحادثة والترابط بين الأفراد، ويمثل تحضيره وتناوله طقسًا صباحيًا أو مسائيًا محببًا للكثيرين.-أسطورة شين نونج.. ولادة الشاي من رحم المصادفةووفقًا لدراسة في علم الاجتماع نشرتها مجلة جامعة قناة السويس للدكتور يحيى مرسي عيد، أرسى الصينيون تقليدًا خاصًا بهم في شتى نواحي الحياة. ويُرجع بداية اكتشاف الشاي في الصين إلى أسطورة "شين نونج"، وهو إمبراطور صيني، ويسود الاعتقاد أنه مخترع المحراث الزراعي، ولكنه عُرف أيضًا بخصائصه العلاجية للنباتات، كما أنه اكتشف الشاي.وفقًا للأسطورة، كان الإمبراطور يجلس في ظل شجيرة كثيفة ليحتمي من حرارة النهار الملتهبة، وفي ذلك المكان أشعل الإمبراطور نارًا وقام بغلي بعض الماء لشربه، معتقدًا أن هذه الطريقة ستخفف من مرضه بدلًا من شرب الماء مباشرة من البئر. كان يُغذي ناره بأغصان من شجرة الشاي، ففي لحظة من العناية الإلهية، سقطت بعض الأوراق الصغيرة من هذه الشجرة مباشرة في الوعاء الذي يغلي فيه الماء. عندما شرب الإمبراطور هذا السائل الجديد، شعر بالبرودة والراحة الفورية، مدركًا أن الشاي قد أنعشه ورطبه. وهكذا، وُلد اكتشاف هذا المشروب الذي سيغير العالم.-أسرة تانج.. الشاي وتأمل البوذيينوهناك قصة أخرى ظهرت في الفولكلور الديني الشرقي، وهي قصة أسرة "تانج"، وهي قصة صينية توضح كيفية إدخال الشاي إلى الصين، وتُوضح أن عملية صنع الشاي كانت معجزة قام بها رجل مقدّس، وكان ساخطًا لعدم قدرته على منع النوم أثناء الصلاة.وتحكي الأسطورة أن الزاهد "بوديدهارما" -صاحب مدرسة البوذية القائمة على التأمل وتسمى "زان – Zen"- تطورت بعد ذلك إلى بوذية الزن. ومن أجل نشر هذه الديانة من الهند إلى الصين حوالي عام 525 ميلاديا، وكان الإمبراطور الصيني قد رفضه في البداية، لكنه تمكن في النهاية من ممارسة دور المُبشّر ببداية الزن. وتمكّن هذا الزاهد لعدة أعوام من تطوير ديانته القائمة على الجلوس في حالة تأمل.وتستطرد الأسطورة قائلة: إنه بعد إحدى مرات التأمل وبينما هو جالس أمام أحد الحوائط لمدة 9 سنوات، غطّ في النوم أخيرًا، ثم استيقظ واكتشف عصبيته، فقطع جفنيه وسقطا على الأرض وضربا بجذورهما في الأرض، ثم تحولا إلى شجيرة شاي مشبعة بمادة منبهة ساعدت في عمليات تأمل البوذيين إلى الأبد.- كونفوشيوس.. الشاي وروابط ود المجتمعاتكما أكد كونفوشيوس أن طقوس الشاي تساعد على تقوية العلاقات بين الأفراد لخلق مجتمع يسوده التقليد الفاضلة والسلوك الراقي، وهذا ما يساعد على حل ألغاز الكون من حوله، وذلك عبر الاعتدال في شرب الشاي والاهتمام بالنظافة الشخصية والمظهر اللائق.وبحسب الدراسة، فتوجد طريقتان رئيسيتان لمعالجة الشاي وتناوله: الأولى كانت في قوالب الشاي، حيث كان يتم سحق أوراق الشاي وتشكيلها وضغطها في قالب، ثم تُغلق في حفرة مفتوحة لكي تجف فوق نار الفحم. وعندما كانت تجف قوالب شاي "الكيك"، وتصبح جاهزة، كانت توضع في سلال تتدلى من طرف عمود ويتم توزيعها على الناس. وفي البداية، كان يتم تقطيع الكيك من الأوراق المضغوطة مع البصل والزنجبيل وبعض الفاكهة، وقشر البرتقال والتوت أو النعناع أو الأرز والتوابل أو اللبن.