
قمة "الناتو"... هل تكون الأكثر سلبية في تاريخ الحلف؟
في الفترة الممتدة من الـ24 إلى الـ26 من يونيو (حزيران) المقبل، تشهد مدينة لاهاي الهولندية الشهيرة قمة حلف "الناتو" السنوية، وهي القمة الأولى للأمين العام الجديد الهولندي الأصل مارك روته، رئيس وزراء هولندا السابق، والأولى أيضاً في ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الثانية.
هل هي قمة الإرادات المتضادة، أم قمة البحث في نهاية الحرب الروسية - الأوكرانية؟
الشاهد أن القمة تأتي، هذه المرة، وسط شكوك عريضة في توجهات الولايات المتحدة الأميركية من جهة، بالنسبة إلى مستقبل "الناتو"، وعلى الجانب الآخر شكوك أكثر عمقاً من ناحية الدول الأوروبية التي يعتريها القلق الكبير من أن تصحو يوماً ما لتجد نفسها بمفردها في مواجهة روسيا الاتحادية في الحال، وربما الصين في المستقبل القريب وليس البعيد.
على قمة جدول أعمال القمة تأمل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا ودول الشمال الأوروبي في صياغة خطة متعددة الأعوام لإدارة تخفيضات التمويل في حال انسحاب أميركا من "الناتو"، وسؤال الانسحاب هذا لم يعد في حقيقة الأمر مزعجاً للأوروبيين، بل ربما بات احتمالاً قريباً، قد تهيأوا لها نفسياً من قبل بضعة أعوام، ولعل ما طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن جيش أوروبي موحد كان إرهاصات أولية لفكرة أوروبا من غير "الناتو".
الأسئلة في واقع الحال قبل انطلاق هذه القمة عديدة وجوهرية، ومنها، هل سيشارك الرئيس ترمب في أعمالها، وإذا شارك فأي خريطة يود أن يرسم لـ"الناتو"، وبما يحقق أهدافه الاستراتيجية ضمن سياسة "أميركا العظيمة ثانية"؟
تنطلق أعمال قمة "الناتو"، وهناك إشكالية كبرى تلقي بظلالها على العلاقات الأميركية - الأوروبية، تلك المتعلقة بالرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الدول الحلفاء في "الناتو"، والتي تركت من دون شك أثراً مؤكداً معدلات التنمية في القارة الأوروبية.
وفي كل الأحوال يبدو السؤال الرئيس: هل لا يزال هناك من يؤمن بأهمية حلف "الناتو" للجانبين الأميركي والأوروبي؟
مخاوف من سلبية القمة المقبلة
قبل أسابيع من انطلاق أعمال القمة، هناك من يتساءل: "ماذا لو لم تسر الأمور في شكل إيجابي؟ بمعنى أن تسود رؤى الوفاق على مواقف الافتراق، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بين الدول التي جمع بينها حلف استطاع الانتصار على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وتالياً وقف صامداً في وجه حلف وارسو طوال أكثر من أربعة عقود ولا يزال قائماً حتى الساعة؟
الجواب المقلق لكثير من المراقبين هو أن هذه القمة يمكن أن تضحى قولاً وفعلاً الأكثر تأثيراً سلبياً في تاريخ الحلف. في المقابل، لن يقاس النجاح بالإنجازات الاستراتيجية، بل بمدى تماسك "الناتو" وانسجامه وصدقيته بعد عودة القادة إلى أوطانهم.
على عتبات القمة، تبدو الأخطار جلية وواضحة للعيون، ولعل الناظر يمكنه أن يدرك بقليل من التبصر كيف أن الولايات المتحدة الأميركية متلهفة على زيادة الأوروبيين حصصهم في الحلف، لا سيما أنه بعدما كان الرئيس الأميركي يطالب بزيادة قدرها اثنان في المئة من إجمالي الموازنات الأوروبية، إذ به يسعى إلى قرابة خمسة في المئة. ولا تبدو إشكالية التمويل هي نقطة الصدام الأكبر والأخطر، بل الموقف من روسيا والحرب الدائرة في أوكرانيا هي بيت القصيد.
تبدو إدارة ترمب معنية بصورة سريعة بإنهاء الأزمة الأوكرانية، حتى ولو حقق الدب الروسي امتيازات واضحة، بعد صراع تجاوز ثلاثة أعوام، في حين تبدو أوروبا غاضبة من النهج التصالحي والتسامحي الذي يبديه دونالد ترمب تجاه روسيا، وسعيه الحثيث إلى تعميق العلاقات الروسية - الأميركية، حتى ولو جاءت على حساب المصالح الاستراتيجية الأوروبية.
تبدو إدارة ترمب معنية بصورة سريعة بإنهاء الأزمة الأوكرانية حتى ولو حقق الدب الروسي امتيازات واضحة (أ ف ب)
هنا يبدو أن الخلاف عميق وليس سطحياً، استراتيجي وليس تكتيكياً، فواشنطن - ترمب، تؤمن بأن التوصل إلى اتفاق في شأن أوكرانيا سيتيح فرصة أفضل لفصل روسيا عن الصين وكوريا الشمالية.
في زمن التحضير للقمة، يجد الأوروبيون أنفسهم قلقين في شأن أمنهم، بينما يقلق الكنديون على حرياتهم، فيما تعطي الولايات المتحدة أولوياتها لاحتواء طموحات بكين. ويتساءل أي مراقب سياسي محقق ومدقق "ما الرابط الرئيس بالنسبة إلى الولايات المتحدة في علاقتها مع أعضاء حلف 'الناتو' من الجانب الأوروبي؟".
الجواب يستدعي العودة إلى رؤية بطريرك السياسة الأميركية هنري كيسنجر الذي استلهم فهماً عميقاً من رجل الدولة البريطاني اللورد بالمرستون في القرن الـ19.
يقطع كيسنجر بأن "ليس لأميركا أصدقاء ولا أعداء دائمين، بل مصالح فقط"، وقد انبثق حلف "الناتو" من التقاء المصالح الوطنية للديمقراطيات الأوروبية مع الولايات المتحدة عينها، وهنا كانت نقطة الشراكة الرئيسة والانطلاقة المحققة والمدققة للحلف ونجاحاته.
بعد يوم واحد من النصر في أوروبا، بات جلياً أن الاتحاد السوفياتي يحكم قبضته على أوروبا الشرقية التي حررها من سيطرة النازيين في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ورأت الولايات المتحدة أن من مصلحتها مواجهة التوسع الأيديولوجي والسياسي والعسكري والاقتصادي للاتحاد السوفياتي، وهو تحول دافع عنه، ببراعة، جورج كينان (دبلوماسي ومؤرخ أميركي) في برقيته الطويلة الشهيرة.
هل تغيرت الأجواء الدولية في الوقت الحاضر لتتراجع أهمية "الناتو" بالنسبة إلى الولايات المتحدة بنوع خاص، أم إن هذا قول يشوبه القصور إذ تظل واشنطن، على رغم تسنمها هرم السياسات العالمية والقوتين العسكرية والاقتصادية، عطفاً على العلمية، في حاجة إلى بقية دعم دول "الناتو" من الجانب الآخر من الأطلسي حيث الامتداد الجغرافي الأوراسي التقليدي؟
أولويات واشنطن في القمة المقبلة
لفهم أبعاد قمة "الناتو" المقبلة، ربما يجب علينا النظر إلى أولويات الولايات المتحدة الآنية، وكيف تتسق مع رؤى وتوجهات الحلف بشكل عام وأفضل قراءة يمكن أن يجدها المرء في سعيه إلى معرفة تلك الأولويات، ما جاء في قراءة مطولة قام عليها كل من الباحث المشارك في مركز "مارغريت تاتشر للحرية" التابع لمؤسسة "التراث الأميركية" "هيرتاج فاونديشن" التي تشكل عقل إدارة ترمب الحالية، جوردان إمبري، بالشراكة مع مستشار سياسات أول لموازنة الدفاع في مركز "دوغلاس وسارة أليسون" للأمن القومي التابع لـ"مؤسسة التراث"، ويلسون بيفر، ومن الواضح للغاية أن ما يهم واشنطن هو الجانب المالي أكثر من أي أمر آخر.
في القراءة المشار إليها يرى الباحثان أنه في ظل تدهور البيئة الأمنية في أوروبا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي، يجب رفع هدف إنفاق "الناتو" إلى 3.5 في المئة كحد أدنى لتمويل زيادة القدرات اللازمة لردع الانتقام الروسي ومواجهة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا. وينبغي أن تكون هذه الزيادة في التمويل وتوسيع القدرات العسكرية الأوروبية الهدف الأساس للرئيس ترمب في قمة لاهاي، ذلك لأن التزام حلفاء "الناتو" بتقاسم حقيقي للأعباء سيحقق وعد المادة الثالثة (الخاصة بتحقيق أهداف الدول المشاركة) من ميثاق الحلف، مع تحرير الأصول الأميركية الضرورية لردع أي عدوان في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
يقطع كيسنجر بأن "ليس لأميركا أصدقاء ولا أعداء دائمين، بل مصالح فقط" (رويترز)
ومن أجل إعادة إرساء الردع الموثوق به، يتعين على الرئيس ترمب تشجيع حلف "الناتو" على عدد من الإجراءات، بحسب الدراسة، من تلك الإجراءات:
- تعيين ضابط أميركي كقائد عسكري قادم لحلف "الناتو". وقد صرح الأمين العام الأول للحلف اللورد إسماي، بأن أحد الأهداف الأساسية للحلف هو إبقاء الأميركيين في أوروبا إلى جانب إبعاد الروس وإبقاء الألمان تحت السيطرة.
- تكليف "الناتو" بوضع استراتيجية تجاه الصين، لا سيما بعدما أقر الحلف في قمته السابقة في واشنطن 2024، بالتهديدات والتحديات التي تشكلها جمهورية الصين الشعبية في المفهوم الاستراتيجي لعام 2022 والتقارير السنوية السرية التي تبين المخاوف الاستراتيجية في شأن الصين. ومع ذلك فمن دون استراتيجية شاملة لتفعيل هذه النتائج وتحديد أولوياتها، يخاطر "الناتو" بالوقوع في فخ التردد الاستراتيجي مما يضر بأميركا وحلفائها.
- ينبغي على الدول الأوروبية الأعضاء في "الناتو"، بطبيعة الحال، التركيز بصورة أساسية على ردع روسيا وتحقيق الاستقرار في محيطها القريب، ولكن يمكنها أن تساعد في ردع الصين من خلال منع نقل التقنيات المستخدمة في الدفاع، وإدانة العدوان الصيني على دول مثل الفيليبين وفيتنام، والتعاون في بناء قاعدة صناعية دفاعية مع دول مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.
خلاصة ورقة التراث تبين لنا أن الولايات المتحدة لا تضع أوروبا في مقدم أولوياتها، والدليل أنها بحكم الضرورة الاستراتيجية، باتت مجبرة على نقل بعض مواردها الاستراتيجية الحيوية من أوروبا إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إذ تمثل الصين تحدياً لا مثيل له للأمن الأميركي على المدى القريب.
يقول الباحثان الأميركيان إنه، لحسن الحظ، أن الولايات المتحدة تمتلك حلفاء أثرياء وأكفاء في حلف "الناتو" في أوروبا، قادرين على توفير معظم عناصر الردع التقليدية في مسرح العمليات.
هل يعني ذلك أن أميركا في طريقها بصورة أو بأخرى للتحلل من التزاماتها الدفاعية في أوروبا، التي حرصت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطوال الحرب الباردة، بذريعة التحضر لمواجهة الصين؟
هل تخشى أوروبا بالفعل من الموقف الأميركي من حلف "الناتو" في المدى الزمني المنظور؟ (رويترز)
أوروبا ومخاوف الهوية المتنامية
هل تخشى أوروبا بالفعل من الموقف الأميركي من حلف "الناتو" في المدى الزمني المنظور؟
المؤكد أن مشاركة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في الاجتماع الذي عقد في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، لوزراء خارجية دول الحلف، وعلى رغم التطمينات التي حاول تقديمها، لم تطمئن الأوروبيين بالفعل.
في ذلك اللقاء قال روبيو، وهو يقف بجوار الأمين العام للحلف مارك روته "الولايات المتحدة نشطة في حلف الناتو أكثر من أي وقت مضى، لقد أوضح الرئيس ترمب دعمه للحلف، سنبقى في الناتو".
لكن على رغم ذلك التصريح الواضح، لم تطمئن قلوب الأوروبيين، لا سيما أن ترمب، ومنذ تولى منصبه للمرة الثانية في يناير (كانون الثاني) الماضي، لمح مراراً إلى أن الولايات المتحدة قد ترفض مساعدة حلفائها الذين لم يحققوا أهداف الإنفاق الدفاعي للحلف في حال تعرضهم لهجوم، مما يقوض اتفاقية الدفاع المشترك التي تعد مبدأ أساساً من مبادئ "الناتو".
من جانب آخر، فاجأ الرئيس الأميركي الأوروبيين برغبته في ضم غرينلاند، وهو إقليم شبه مستقل يشكل جزءاً من الدنمارك، مما يمكن أن يلقي بظلال مستقبلية على قضية السيادة الأوروبية بصورة عامة، ذلك أن السؤال الذي يطرح في المخادع "ماذا لو رغب ترمب في تكرار المشهد عينه مع دول أخرى في أوروبا؟".
لم يكن مفاجئاً، إذاً، أن حلفاء "الناتو" الأوروبيين، يستعدون لفك الارتباط مع توجه الولايات المتحدة نحو آسيا، هنا يبدو أن أحد أهم السيناريوهات التي تشغل أوروبا هو أن الولايات المتحدة قد تسحب قواتها البالغ عددها نحو 100 ألف جندي، التي تتمركز في أوروبا حالياً، وهو الرقم الذي عُزز بنحو 20 ألف جندي في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بعدما شنت روسيا هجومها الكامل على أوكرانيا عام 2022.
لم يكن الأمين العام الجديد لحلف الأطلسي مارك روته واضحاً بما فيه الكفاية للأوروبيين حين سئل عن هذا الاحتمال، وبخاصة بعدما أجاب بالقول "إن هذه قضية ليست جديدة، وإنه لا توجد لدى الجانب الأميركي مخططات لتقليص الوجود الأميركي في أوروبا بصورة مفاجئة".
هل كانت رسائل روبيو مقنعة للحلفاء الأوروبيين؟
يرى رافائيل لوس من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنه من غير المرجح أن ينجح روبيو في طمأنة الحلفاء في ضوء الضوضاء الأخيرة القادمة من الولايات المتحدة. وفي تصريحات للوس لشبكة "دويتشه فيله" يضيف "الأوروبيون لا يجدون هذا الأمر مطمئناً بصورة خاصة، بخاصة بعد إعلان الرسوم الجمركية واشتعال الحرب التجارية مع الولايات المتحدة".
وعنده أنه من غير المرجح أن ينفق أي عضو في حلف "الناتو" خمسة في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي على الدفاع، وتابع: "لكي نحقق ذلك، نحتاج فعلياً إلى اقتصاد موجه مثل الاقتصاد الروسي. خلال الحرب الباردة أنفق بعض حلفاء الناتو خمسة في المئة، أو أكثر على الدفاع، لكنهم شكلوا استثناء إذ تجاوز إنفاقهم في الغالب ثلاثة في المئة".
هل بات على الأوروبيين البحث عن شراكات دفاعية مختلفة، لكن داخل سياق ونطاق حلف الأطلسي عينه، لا كبديل مطلق عن الولايات المتحدة، ولكن كتعويض موقت في أقل تقدير؟
أوروبا وتركيا وشراكة براغماتية
يستذكر المرء التعبير الشهير: الضرورات تبيح المحظورات، ولهذا بات هناك تفكير أوروبي مثير من نوعه، يتصل بتفعيل التعاون الأوروبي - التركي، لكن ضمن نطاق "الناتو".
ليس سراً أن الاتحاد الأوروبي قد رفض طويلاً فكرة انضمام تركيا إلى جماعته السياسية، لكن الأيام الـ100 الأولى من إدارة دونالد ترمب، جعلت بعض الأصوات تطرح التساؤل التالي "هل يمكن لأوروبا وتركيا العمل معاً؟".
صاحب التساؤل روبرت إليس المستشار الدولي في معهد بحوث الدراسات الأوروبية والأميركية في أثينا، وعنده أن الأثر السلبي الذي تركته إدارة ترمب في وقت قصير، يستدعي تفكيراً جدياً في بناء هيكلية أمنية أوروبية في حال انسحاب أميركا من حلف شمال الأطلسي أو تقليص حضورها فيه بصورة كبيرة.
هل كان لنائب الرئيس الأميركي جي دي فانس تأثير ما في هذا التفكير؟
المؤكد أن الأمر كذلك بالفعل، فقد أوضح دي فانس ذلك في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير (شباط) الماضي، عندما أخبر المشاركين أنه في الأعوام المقبلة، يجب على أوروبا أن تكثف جهودها لتوفير دفاعها الذاتي، لكن ليس هذا بالأمر الجديد، فقد كان هذا متوقعاً منذ أعوام، أي منذ ولاية ترمب الأولى.
في مقابلة له مع صحيفة "فايننشيال تايمز" خلال مارس (آذار) الماضي، تحدث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالقول "إن تصرفات الرئيس ترمب كانت دعوة لنا للتوحد وبناء مركز ثقلنا الخاص".
جاءت التصريحات على هامش مؤتمر لندن الذي شاركت فيه تركيا، وظهر فيدان في الصورة كعضو من العائلة الأوروبية، ويومها أضاف "تركيا ترغب في أن تكون جزءاً من أي هيكل أمني أوروبي جديد في حال انهيار حلف الناتو"، لكن نسبة غالبة من الأوروبيين لا تزال تنظر إلى تركيا كنظام استبدادي كامل، عطفاً على أن تركيا حتى الساعة تحتل شمال قبرص، كما أن لها ميولاً واضحة تجاه روسيا، حتى وإن كانت عضواً في حلف "الناتو".
هناك كذلك مسألة المعارضة الأوروبية الداخلية لفكرة انضمام تركيا لأي بنية هيكلية أوروبية أمنية جديدة، فالنرويج وفنلندا والسويد وبولندا، إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا، والآن ألمانيا، هذه جميعها تقف بحزم ضد روسيا.
يعلو تساؤل في الداخل الأوروبي "هل تفقد فكرة إدماج أوروبا لتركيا في سياقات بنيتها الأمنية المستقبلية، حضورها وألقها، ارتكاناً للماضي فحسب؟
المعروف جيداً للقاصي والداني، أن صراعات عميقة نشبت في القرون الماضية بين الدولة العثمانية، وعدد كبير من الدول الأوروبية، ولهذا فإن هناك من يستدعي هذا الإرث السيئ الذكر.
لكن الأرجح، أن صعود التيارات الشعبوية اليمينية في نسبة معتبرة من الدول الأوروبية، يدفع في اتجاه معاكس للتفكير في التعاون المستقبلي الأوروبي - التركي على صعيد بناء رؤية أمنية جديدة، تملأ فراغاً محتملاً للولايات المتحدة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ستار حديدي في مواجهة روسيا
هل يجب على أوروبا اليوم، وربما بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، التفكير في أمر مثير وخارج الصندوق لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة تجاه أوروبا؟
لا ينكر أحد في القارة العجوز اليوم أن المخاوف من أن يكرر القيصر بوتين أو أي من يخلفه في قادم الأعوام، تجربة أوكرانيا مرة أخرى، لا سيما بعدما أثبتت سردية أوكرانيا أن الماضي لا يموت، فقد استمع العالم إلى أصوات كثير من الجنود الأوروبيين يصرخون عالياً بأنهم عما قريب سيعودون إلى برلين، التي حررها أجدادهم. كانت تلك العبارات هي رد الفعل الطبيعي، على ما كشفت عنه الأنباء وقتها من أن الاستخبارات الألمانية خططت لقصف جسر القرم بصواريخ متقدمة. والطرح الجديد، حملته مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية، عبر باول ماركيفيتش مؤرخ أوروبا القرون الوسطى، وماتشي أولشاو الباحث في جامعة "لويولا" في شيكاغو.
ما مقترحاتهم لأوروبا حال فكرت واشنطن، وربما لظروف جيوسياسية قاهرة، كأن تسعى الصين مثلاً إلى غزو تايوان، الانسحاب بدرجة أو أخرى من أوروبا؟
القصة يمكن روايتها كالتالي "عندما ألقى ونستون تشرشل خطابه الشهير: أوتار السلام، عام 1946، في فولتون بولاية ميسوري الأميركية، كانت دول وسط وشرق أوروبا عالقة في دائرة النفوذ السوفياتي على رغم عنها. اليوم معظمها إما أعضاء في حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي، أو كليهما، فيما يتشكل تحالف جديد بين دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق وبولندا، ذلك أن الدول الواقعة على طول الجناح الشرقي للتحالف هي الأكثر عرضة للعدوان الروسي، لكنها الأكثر تصميماً على مواجهته".
هنا يقترح الباحثان أنه، بدعم من الولايات المتحدة، بصورة أو بأخرى، يمكن لهذه الدول أن تشكل حاجزاً حديدياً يشكل الرادع النهائي ضد مخططات الكرملين الإمبريالية، حسب تعبيرهما.
هنا فإنه من شأن تشكيل تحالف دفاعي محكم يضم أعضاء حلف "الناتو" في شمال ووسط وشرق أوروبا أن يشكل نقطة التقاء طبيعية لمواجهة شراكة موسكو اللامحدودة مع الصين في منطقة من العالم يمكن أن تشكل فيها هذه الشراكة خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها.
ولعل الأهم من تقديم الدعم المالي لهذه الدول، فإن مواطنيها، هم الأكثر استعداداً لتحمل الكلف المالية للحفاظ على السلام، لأنهم أكثر استعداداً للدفاع عن أوطانهم من أي عدوان روسي محتمل.
في استطلاع رأي حديث حول استعداد البالغين حول العالم للقتال من أجل وطنهم في حال نشوب حرب، أجاب 78 في المئة من الإيطاليين و57 في المئة من الألمان بـ"لا". وجاءت تلك المعطيات مقاربة بـ32 في المئة فقط من بولندا، وبينما أعلن 41 في المئة من الأميركيين استعدادهم للقتال من أجل وطنهم، فإن وجود ردع قوي في شمال ووسط أوروبا سيضمن عدم اضطرارهم إلى ذلك.
واشنطن وتقديم بدائل لـ"الناتو" الأوروبي
يمكن للمرء أن يتساءل "هل إشكالية الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو مع الرئيس ترمب شخصياً؟ أم أن هناك أبعاداً تتعلق بالتحركات الجيوسياسية الأممية، وبصراع الأقطاب الدولية، وملامح ومعالم النظام العالمي الجديد، الذي لم يولد بعد، تلعب كلها دوراً فاعلاً بعيداً من شخص الجالس في البيت الأبيض؟".
ربما تكون رؤية ترمب MAGA أو "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، ركناً مهماً في القلاقل التي يعيشها الفرع الأوروبي من "الناتو" اليوم وهذا صحيح. وقد يوفي الحظ لرئيس ديمقراطي آخر، خلال ثلاثة أعوام، يعيد الطمأنينة إلى أوروبا، كما فعل بايدن من قبل.
لكن هناك في واقع الأمر حقيقتان مؤكدتان:
- الأولى: تتصل بفكرة تحرك الولايات المتحدة شرقاً، والاستدارة نحو آسيا في مدى زمني قريب، وبخاصة إذا صدقت توقعات بعض العسكريين الأميركيين، حول الصدام المسلح مع الصين من جراء تايوان أو بحر الصين الجنوبي، عطفاً على النفوذ في منطقة المحيط الهادئ بحلول عام 2027.
هنا، يكون من الطبيعي جداً أن تفكر واشنطن في تركيز حضورها العسكري بعيداً من الجانب الأوروبي، إذ ظل التمركز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.
- الثانية: تتصل بالرؤى الروسية والصينية لغرب أوروبا، كل منهما على حدة من ناحية، أو مجتمعتين من ناحية ثانية، وكيف يمكن أن تصحو بعض دول البلقان بداية على ما يشبه الغزو الأوكراني من جديد.
علامة الاستفهام في هذا المقام "ما الذي يمكن أن تفعله واشنطن للناتو الذي تظل الحاجة إليه قائمة وقادمة في العقود المقبلة؟".
المؤكد أنه إذا أرادت واشنطن سلاماً دائماً في أوروبا، فعليها أن تكون مستعدة لمساعدة حلفائها وشركائها الذين يساعدون أنفسهم بالفعل، ماذا يعني ذلك؟
بداية، سيشكل التمركز الدائم للقوات الأميركية في بولندا رادعاً سياسياً لروسيا، سيعزز ذلك مكانة البلاد الاستراتيجية كمركز لوجيستي ساعد في تسليح أوكرانيا بعد عام 2022، وقد يعود إلى هذا المركز عندما تهاجم روسيا جيرانها في المستقبل. وعليه فإنه إذا كان إرسال قوات أميركية إضافية إلى أوروبا يمثل مشكلة، فإن نقلها من قاعدة "رامشتاين" الجوية في ألمانيا إلى بولندا خيار ثانوي جدير بالاهتمام. سيرسل هذا إشارة قوية إلى حلفاء "الناتو" بأن أولئك الذين يستثمرون في أمنهم سيقابلهم وجود أميركي متزايد. علاوة على ذلك، من الواضح أن هدف إدارة ترمب هو تحويل "الناتو" من خلال دفع الحلفاء الأوروبيين إلى زيادة قدراتهم على نشر القوات التقليدية اللازمة لردع روسيا.
هل يجب على واشنطن أن تستخلص من قمة "الناتو" القادمة أمراً مهماً ما؟
مؤكد أن التخفيض الجذري في وضع القوات الأميركية في أوروبا ستكون له نتائج عكسية على هذا الجهد. وعليه ينبغي لواشنطن أن تبني سمعتها الهشة أصلاً لدى حلفائها الإقليميين في ظل النمط الجديد للأمن الأوروبي على ما يذكره مشروع 2025، وهو الردع النووي، إذ لا يزال بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة.
إن الحفاظ على هذه المظلة يسمح لمجموعة الدول القريبة حدودياً من روسيا لا سيما بولندا، بتعزيز قدراتها على تقاسم الأعباء مع الولايات المتحدة التي لا يزال لديها بعض المصلحة في اللعبة، لكنها مستعدة للتدخل وتغيير خطة اللعب في أي وقت.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة عيون
منذ ساعة واحدة
- شبكة عيون
وول ستريت تغلق على ارتفاع بعد حكم بإعادة تعريفات ترامب الجمركية مؤقتًا
وول ستريت تغلق على ارتفاع بعد حكم بإعادة تعريفات ترامب الجمركية مؤقتًا ★ ★ ★ ★ ★ مباشر: أنهت مؤشرات الأسهم الأمريكية تعاملات اليوم الخميس، على ارتفاع مع قرار محكمة استئناف في الولايات المتحدة على الطعن المقدم ضد قرار سابق قضى بوقف تطبيق التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وأمرت بإعادة العمل بها مؤقتاً. وارتفعت مؤشر "داو جونز" الصناعي بمقدار 117 نقطة، أو نحو 0.3%، إلى مستوى 42215 نقطة. وزادت مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" هامشياً بنسبة 0.4% إلى مستوى 5912 نقطة. وصعد مؤشر "ناسداك" بنسبة 0.4%، بمكاسب 74 نقطة، عند مستوى 19175 نقطة. وبحث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليوم الخميس، مع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، السياسات المالية، وسط ضغط من الرئيس على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة. ونقلت شبكة "سي إن بي سي" الأمريكية عن بيان البنك المركزي، أن المسار المستقبلي للسياسة النقدية لم يناقش خلال الاجتماع. وذكر البيان، أن الاجتماع بحث التطورات الاقتصادية بما في ذلك النمو والتوظيف والتضخم، ولكن لم يناقش ترامب باول، في توقعاته للسياسة النقدية، إلا للتأكيد على أن مسار السياسة سيعتمد بالكامل على المعلومات الاقتصادية الواردة. وعلاوة على ذلك، أشار البيان، إلى أن باول وزملاءه في بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يزالون ملتزمين بوضع السياسة النقدية على "تحليل دقيق وموضوعي وغير سياسي". ويأتي الاجتماع في وقت حساس بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، حيث دفع ترامب بتعريفات تضخمية محتملة وحاول بنك الاحتياطي الفيدرالي تحقيق التوازن لتوفير العمالة الكاملة والأسعار المستقرة. حمل تطبيق معلومات مباشر الآن ليصلك كل جديد من خلال أبل ستور أو جوجل بلاي للتداول والاستثمار في البورصة المصرية اضغط هنا تابعوا آخر أخبار البورصة والاقتصاد عبر قناتنا على تليجرام لمتابعة قناتنا الرسمية على يوتيوب اضغط هنا لمتابعة آخر أخبار البنوك السعودية.. تابع مباشر بنوك السعودية .. اضغط هنا لمتابعة آخر أخبار البنوك المصرية.. تابع مباشر بنوك مصر .. اضغط هنا ترشيحات ترامب يبحث مع رئيس الاحتياطي الفيدرالي السياسات المالية مباشر (اقتصاد) مباشر (اقتصاد) الكلمات الدلائليه ترامب أسعار شبكة السعودية مصر اقتصاد


الوئام
منذ 3 ساعات
- الوئام
بعد تعليقها.. محكمة استئناف تُعيد فرض رسوم ترمب الجمركية
أعادت محكمة استئناف اتحادية أمريكية، اليوم الخميس، فرض الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس دونالد ترمب، وذلك بعد يوم من حكم محكمة تجارية بوقف تنفيذها بأثر فوري قائلة إن ترمب تجاوز سلطته بإصدار هذه الرسوم. ولم يقدم قرار دائرة محكمة الاستئناف الاتحادية في واشنطن أي رأي أو تعليل، وإنما وجّه المدعين في القضية باتخاذ إجراء بحلول الخامس من يونيو والإدارة الأمريكية بحلول التاسع منه. وكان الحكم المفاجئ الصادر عن محكمة التجارة الدولية الأمريكية أمس الأربعاء قد هدد بإلغاء الرسوم أو على الأقل تأجيل فرضها على معظم شركاء الولايات المتحدة التجاريين، بالإضافة إلى رسوم الاستيراد على السلع من كندا والمكسيك والصين والمتعلقة باتهامه الدول الثلاث بتسهيل تدفق الفنتانيل إلى الولايات المتحدة. وشهدت الأسواق المالية، التي تذبذبت بشدة مع كل منعطف في حرب ترامب التجارية الفوضوية، تفاؤلا حذرا اليوم. وطعنت إدارة ترمب فورًا على الحكم وطلبت من محكمة استئناف وقفه والسماح ببقاء نظام الرسوم الجمركية ساريًا، ووضع ترمب الرسوم الجمركية في القلب من جهوده لانتزاع تنازلات من الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، بما في ذلك الحلفاء التقليديون مثل الاتحاد الأوروبي. وفي مقابلة مع 'فوكس بيزنس' اليوم عبر المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض كيفن هاسيت عن ثقته في أن الحكم سيُلغَى في نهاية المطاف، وقال إن الأمر لن يعوق توقيع اتفاقات تجارية جديدة. وقال هاسيت 'إذا كان هناك عراقيل صغيرة هنا أو هناك بسبب قرارات يتخذها قضاة يتصرفون مثل النشطاء السياسيين، فالأمر غير مقلق على الإطلاق، وبالتأكيد لن يؤثر ذلك على المفاوضات'. وفي مقابلة مع بلومبرج قال المستشار التجاري للبيت الأبيض بيتر نافارو، وهو من أشد المؤيدين لزيادة الرسوم الجمركية، إن إدارة ترمب ربما تعتمد على قوانين أخرى لتطبيق رسوم الاستيراد إذا ظل قرار المحكمة ساريًا. واستند ترمب في قراراته إلى قانون الصلاحيات الاقتصادية الدولية الطارئة، وهو قانون يهدف إلى مواجهة التهديدات في أثناء حالات الطوارئ الوطنية، لفرض رسوم جمركية على كل شريك تجاري للولايات المتحدة تقريبًا، مما أثار مخاوف من حدوث ركود عالمي. وعلّق الرئيس العديد من الرسوم الجمركية حتى أوائل يوليو بعد أن شهدت الأسواق حالة من الاضطراب.


Independent عربية
منذ 3 ساعات
- Independent عربية
هل تضفي السعودية الشرعية على الاتفاق الأميركي- الإيراني؟
قيل شرق أوسط جديد يظهر حينما تحركت إسرائيل في أكثر من ميدان داخل المنطقة رداً على "طوفان الأقصى"، لكن هل يمكن القول إن شرق أوسط جديداً آخر يظهر على النقيض مما ترسم ملامحه إسرائيل منذ عام 2023؟ شرق أوسط جديد تبدأ ملامحه بالتشكل من منطقة الخليج العربي بين إيران وجيرانها؟ أهم أسئلة الشرق الأوسط الآخر، هل تتغير إيران؟ هل تضفي السعودية الشرعية على الاتفاق الأميركي- الإيراني؟ هل نحن بصدد شرق أوسط جديد مغاير للشرق الأوسط الذي تبغيه إسرائيل؟ أسئلة تطرحها تغيرات عدة تشهدها المنطقة حالياً. ليس من المبالغة القول إن اتفاق المصالحة الإيراني- السعودي أسهم في جزء كبير في تغيير المشهد على نحو يؤسس لاستقرار الأمن الإقليمي. والاتفاق الذي تم برعاية صينية وحرص الطرفان السعودي والإيراني على التوصل إليه لتحقيق مصالحهما الاقتصادية والسياسية، يمكن القول إنه الآن ركيزة في أمن واستقرار المنطقة، بل دفعها نحو وضع أطر جديدة تسهم في إيجاد آليات لحل مشكلاتها. فالاتفاق بين الرياض وطهران أسهم في دعم موقف إيران، بحيث كسر عنها العزلة الإقليمية من جهة، ومن جهة أخرى هو درع حماية في مواجهة السياسة الأميركية تجاه إيران، ولا سيما خلال عهد دونالد ترمب، والتي كان يمكن أن تدعمها إسرائيل في مواجهة إيران لو قرر ترمب التعامل مع إيران باعتبارها خطراً على الأمن الإقليمي ودول المنطقة. ومن ثم كان للمصالحة دور في مساندة دول الخليج، ولا سيما السعودية، لتحديد أجندة واشنطن الإقليمية تجاه طهران، بما يضمن تحقيق أمن الخليج العربي للجميع، إيران والدول الخليجية. إيران تعي ذلك جيداً، مما نراه في تغير الخطاب السياسي الإيراني، فبينما منذ أقل من خمسة أعوام تحدث القادة الإيرانيون عن نفوذ طهران ووصوله إلى أربع دول عربية، نجد أن وزير الخارجية الإيراني الحالي عباس عراقجي يتحدث بلغة ومفردات جديدة تبتعد من التأطير لحال الهيمنة الإقليمية التي تنشدها إيران منذ عقود عدة وتصرفت على أساسها منذ عام 2011، إذ إن دولاً عربية عدة شهدت اضطرابات وتظاهرات شتى هددت استقرار تلك الدول. ونجد أن عراقجي استخدم لغة مختلفة تماماً، فقال خلال منتدى طهران للحوار الذي عقد الشهر الجاري "لا تتصور إيران نفسها قوة مهيمنة، بل دولة قوية بين جيران أقوياء، منسجمة في نسيج إقليمي مرن ومترابط"، وهذا تطور مهم لو عكس بالفعل تغيراً في العقلية الإيرانية وليس مجرد تغيير تكتيكي يستمر في أحسن الأحوال خلال الأربعة أعوام المقبلة من ولاية دونالد ترمب. التغيير في لغة الخطاب السياسي الإيراني راجع بصورة رئيسة إلى التغيرات الاستراتيجية التي شهدتها المنطقة وكان نصيب إيران منها ضعف نفوذها الإقليمي عبر تآكل قوة أذرعها الإقليمية بفعل تداعيات عملية "طوفان الأقصى" التي استغلتها إسرائيل لتغيير ملامح الشرق الأوسط عبر استهداف إيران ومعها غزة ولبنان وسوريا. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وكان لمجيء ترمب في تلك المرحلة دور مهم للتموضع مع الوضع الإقليمي الجديد، وما منح إيران دفعة وقوة أيضاً كان تحسن العلاقات مع دول الخليج الذي أثرت فيه بصورة كبيرة السعودية، فمنحت نوعاً من الشرعية لدبلوماسية الجوار الإيراني، وكان تصريح عراقجي الأخير منذ ساعات قليلة "نحن جادون تماماً في شأن العلاقات الإيرانية- السعودية، سياسة الجوار التي بدأناها بالفعل، سياسة بالغة الأهمية، وللسعودية مكانة بالغة الأهمية في هذه السياسة". وكان للدبلوماسية السعودية النشطة دور في هذا التغيير وكانت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين وأبرزها خصوصاً زيارة وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان آل سعود إلى طهران ولقاؤه المرشد الإيراني، كذلك دور الرياض في دعم المحادثات الإيرانية- الأميركية للتوصل إلى اتفاق، فلا شك في أن دول الخليج العربية تسعى بشدة إلى إتمام اتفاق بين إيران وواشنطن وتجنيب المنطقة تفجر بؤر جديدة لصراعات أو حروب، في وقت تحاول إسرائيل جر واشنطن لمواجهة ضد إيران. وهنا يمكن القول إن عامل الحماية المؤثر في استراتيجية واشنطن تجاه إيران هو تحسن العلاقات بين إيران ودول الخليج، فمن جهة وإلى جانب الخروج من العزلة الإقليمية تروج طهران أنها ليست مهدداً لأمن جيرانها، ومن جهة أخرى تضمن أن قوة العلاقات السعودية- الأميركية ستقوم بدور في جعل واشنطن تصبر أكثر خلال محادثاتها مع طهران للتوصل إلى اتفاق. وتجلى خلال زيارة ترمب الخارجية الأولى لمنطقة الخليج الدور السعودي في دعم الاستقرار بمنطقة الخليج بما يعني أن السعودية لاعب إقليمي رئيس لا غنى عنه لإيران لإضفاء شرعية على محادثات واشنطن- إيران والاتفاق الذي يرغب جميع الأطراف في إتمامه. وداخل إيران هناك إدراك أن السعودية تضطلع بدور غير مباشر في المحادثات الجارية مع واشنطن وتدعمها، بل كانت هناك تقارير تتحدث عن عرض سعودي لاستضافة المحادثات قبل بدء جولاتها، لكن في كل الأحوال الدعم السعودي للمحادثات يضفي شرعية وقبولاً إقليمياً على الاتفاق. وتدرك إيران أن علاقتها الجيدة بالسعودية تعمل على إضعاف الدور الإسرائيلي تجاهها، إذ إن تل أبيب ترفض مبدأ المفاوضات وتسعى إلى إعادة إيران لمرمى الأهداف العسكرية الإسرائيلية. وإن الشرعية التي تضفيها دبلوماسية السعودية على إيران تمارَس في أكثر من اتجاه، بحيث تعمل الرياض أيضاً على إقناع طهران بممارسة دور أكثر هدوءاً، تجنباً لرد الفعل الأميركي والإسرائيلي. لكن الأهم ما بعد التوصل إلى اتفاق أن تستفيد الأطراف الإقليمية جميعها من التأسيس لأطر يمكن من خلالها التفاهم على آليات لحل الخلافات والنزاعات، وأن يجري التأسيس لمفهوم جديد تستقر عليه المنطقة، وهو احترام مصالح الدول المجاورة وعدم إثارة مكامن التهديد، ولأن الاتفاق السعودي- الإيراني أوضح أنه من الممكن التفاهم السياسي بين دول الإقليم المتنازعة على أساس قاعدة التعاون المشترك لتحقيق أهداف الجميع وليس بمنطق المباريات الصفرية، لذا يمكن البحث عن آليات أخرى لتأسيس التعاون الإقليمي للاستفادة المشتركة من موارد الإقليم. الفرصة مهيأة لإيران الآن للاستفادة من الطفرات الاقتصادية التي تحققها دول الخليج العربي عبر اتخاذ خطوات من جانبها لبناء الثقة.