
طبيبة تفقد 9 من أولادها.. 10 قصص مبكية من القتل الجماعي لأطفال غزة
ليس في فلسطين أسرة إلا ولها قصة مع الفقد وتاريخ مع الأسى، وفي كل خافقة تئد الصواريخ طيف طفل طال انتظاره، وتطبع بحرقة اللهب والفقد على قلب أم مكلومة في الزوج والوالدين ثم الأبناء.
للموت أكثر من عنوان وصورة في فلسطين ، وله هوس مجنون بالأطفال، يأخذهم دارجين ورضّعا، بل يأخذهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم قبل أن تبتسم لهم الحياة.
ومع محنة الطوفان وما سقيت به الأرض بعدها من لهب بات عداد الموت يأخذ بالجملة، ولا يرضى دون ما فوق منتهى الجموع من الأكباد الرطبة والأجساد الوديعة.
آلاء النجار.. الرقم الأعلى والصبر الجميل
لم تكن الطبيبة آلاء النجار أول فلسطينية يفجعها الاحتلال الإسرائيلي في فلذات أكبادها، لكنها كانت الأكبر حظا من الألم والأكبر نصيبا من المأساة، وصاحبة الرقم الأعلى بين أمهات فلسطين حينما تلقت على حين غرة ودون أي ميعاد جثامين أبنائها التسعة الذين قضوا حرقا في غارة جوية حانقة بحي قيزان في مدينة خان يونس.
كانت الأم -التي تعمل طبيبة في مجمع ناصر الطبي- يملأ قلبها الأسى لما ترى من أهوال ومصائب وأجساد تحولت إلى مزع، قبل أن يكون قلبها المفعم حبا مسرحا لحرقة لا تنتهي.
وإذا كانت آلاء قد تسنمت العالي من حرق المأساة، والأقسى من لهب الفقد فقد تسنمت أيضا العالي من درجات الصبر، فكان ردها عند الصدمة الأولى عندما بلغها أن تسعتها الناضرين قد تحولوا إلى حمم وذكريات وأشلاء "هم أحياء عند ربهم يرزقون".
إعلان
يحيى، راكان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، سيدين، لقمان، سيدرا، كانت سيدرا هي الصغرى، قدمت إلى الحياة تحت اللهب، وقبل 6 أشهر فقط كانت قد التقطت أولى صور الحياة، لتعود إلى الخلود شهيدة تأخذ مكانها في طابور طويل من الأطفال الذين اقتطف اللهب الإسرائيلي أعمارهم وهم دون السنة، أما يحيى فقد كان الأكبر بين أخوته، ولم يكن يزيد على 12 سنة.
ومن الجميع لم يبق لآلاء غير ابنها آدم الذي نجا بصعوبة من الموت، وما زال تحت العناية المركزة بعد عمليتين مستعجلتين.
وأخشى ما تخشاه أسرة آلاء أن تهد صدمة الفقد جبل صبرها المكين، أو أن يلحق آدم بأخوته الراحلين، وبين ذلك ملاذ من الصبر تأوي إليه أمهات فلسطين وهن مسافرات في مداءات الكفاح، وترميهن الجراح إلى الجراح.
الشهيد هنية.. أبو الشهداء وسابقهم إلى الخلود
أخذ بيت الشهيد إسماعيل هنية نصيبا غير منقوص من الفقد، وجالت بين أرجائه راجمات اللهب، فأخذتهم وهم في ميعة الصبا وعنفوان الطفولة عندما استشهد في 10 أبريل/نيسان 2024 أحفاد خمسة كانوا في سيارتهم يجوبون مخيم الشاطئ، صلة لرحم ماسة وتهنئة بعيد الفطر الذي لم يفطر فيه الفلسطينيون بغير الدم والفقد، كان من بين الشهداء الخمسة 3 من أبناء الشهيد هنية واثنان من أحفاده، ليؤدي ضريبة القيادة والمواطنة في غزة، وهي ضريبة لا تقدر بغير الدم والشهداء.
العم أحمد.. قربان من 11 شهيدا بين ابن وحفيد
لم تكن الشقق الخمس لبيت العم أحمد غير سعي حثيث من أب حنون ليحيط نفسه ببنيه وأحفاده، قسّم بيته ذا المساحة الكبيرة إلى 5 شقق عامرة بالأبناء والأحفاد، كان البيت مجمع مدخرات العمر ومنتدى الذكريات ومستقر الشيخوخة التي أرادها العم أحمد عامرة بالعطف والحنان والاحتضان.
لكن صواريخ الاحتلال الإسرائيلي كانت تحمل رأيا آخر ونارا حارقة، فأتى اللهب الشقق الخمس من كل جانب وحوّلها إلى ما يشبه "الكفتة" وفق تعبير الشيخ المكلوم، توالت 3 صواريخ فأحالت البيت رمادا، وضجيج الفرح الذي كان يغمره دماء وعويلا وأشلاء ممزقة.
ومضى العم أحمد في سيارة إسعاف، وبعد 4 عمليات أفاق على الخبر المأساة، فقد استشهد بذلك اللهب الحارق 11 شخصا من أبنائه وأحفاده، ثم امتدت للحزن آماد لا تنتهي، وذوت زهرة الحياة في جسد خرقه حديد المنزل المنهار، وروح اكتوت بـ11 جرحا و11 ذكرى مؤلمة.
الملائكة الصغار.. دم طفولي يصبغ جدران الكنيسة
لم تكن الكنائس في غزة أكثر أمنا من مساجدها، ليس فوق تلك الأرض ما يستحق غير الموت والإحراق وفق العقيدة والسياسة الإسرائيلية الحالية.
في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أوى العشرات إلى كنيسة برفيريوس (أقدم كنائس غزة) فاحتضنتهم صور يسوع، قبل أن تحرقهم صواريخ إسرائيل ، قضى في تلك الحادثة 18 شخصا، من بينهم 3 أفنان صغيرة، هم رامز السوري وجولي وماجد، كان أكبرهم في الـ14 والأصغر في العاشرة.
ضم الوالد إليه الجثامين الممزقة وهو يبكي بحرقة من خذله المكان الذي كان يعتقد فيه الأمان" "لقد قصفوا ملائكتي دون إنذار، قتلوا أطفالنا، أطفال الأقارب".
يوسف شرف.. موت يعم كل الأرحام
تطوع شرف في لجان الإنقاذ، كان يحمل روحه في راحة، ويحمل في الأخرى طعاما وماء وبسمة يوزعها على النازحين من غزة، قبل أن يتلقى صباح 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خبر استشهاد والديه وابنه وبناته الثلاث وإخوته وعماته وخالاته، وكأن الموت كان يصول بين الأرحام ليقطع حظها من الحياة.
لم يكن حزن شرف على بناته الثلاث وابنه أشد من حزنه على أخيه وزوجته وابنهما الصغير الذي وُلد قبل القصف بأيام بعد 16 سنة من الانتظار، وفي بيت شرف كان 13 آخرون من أبناء إخوته وأخواته بين شهداء البرج الذي كانوا يسكنون فيه.
لانا (16 عاما)، وهالة (11 عاما)، وجانا (9 أعوام)، وجوري (6 أعوام)، وتولين (4 أعوام)، وكريم (عامان)، وعبيدة الذي لم يزد عمره على عام واحد.
لم تكن هذه الأسماء وتلك الأرقام غير سطر في كتاب عريض من أسماء الأطفال الذين أحرقتهم إسرائيل وأحرقت من ورائهم قلوب من لم يسبقهم إلى الشهادة من آباء وإخوة وأرحام.
أم محمود.. عويل على ضفة الدم
في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 فقدت أم محمود 5 من أبنائها إثر قصف تعرّض له منزل العائلة في شمال غزة غير بعيد عن مستشفى كمال عدوان الشاهد على كثير من المآسي.
لم تطق الأمة المكلومة صدمة الفقد المفاجئ، فهوت تحتضن الركام وتلوذ بالأنقاض معولة تنادي من لن يرد عليها (محمود وبراء وتيسير ومعتز وآية)، كان الحزن يأكل ذلك القلب المحترق، ولم يُجدِ النداء، فقد أسرج الشهداء الصغار خيل الرحيل وحلقت بهم إلى الخلود تاركين قلب أمين مكلوم، ربما تكون قد التحقت بهم في الشهداء، وخلف الجميع قصة أخرى من قصص لا تنتهي ما لم تضع الحرب المجنونة في غزة أوزارها.
أبو القصمان.. رحلت مع 8 من أبنائها وأحفادها
"نحنا بخير، ديروا بالكم على حالكم" ولم يكن الأمر كذلك، بل كانت رسالة وداع لترحل فاتن أبو القمصان مع 17 آخرين من أسرتها، من بينهم 5 من أولادها و3 أحفاد.
تلقى شقيقها الرسالة، ولم يطل الانتظار حتى تلقى الخبر القاتل، حاول أن يعوذ من ألمه بما يرى من يوميات الفقد، لكن دفقات الأسى كانت أكبر من الصمود العاطفي "كيف لي أن أعبّر عما يختلج صدري من ألم وقهر، نعم نحن في غزة اعتدنا على الموت، لكن أيا يكن فراق الأحبة صعب".
مضت في تلك المأساة 18 نفسا زكية، من بينها 9 أطفال، وبقيت لساعات أو أيام 6 تحت الأنقاض، من بينهم 3 أطفال آخرين، ومضت قصة أخرى وصفحة حمراء من ديوان الموت المجنون في غزة.
إياد الرواغ.. صوت الأقصى الذي رحل مع 11 من أفراد عائلته
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اضطرت زوجتي للسفر مع ابني المصاب، واضطرت لظروف ترك طفلها الرضيع بغزة معي، ويبدو أن رحلة العلاج ستطول لأكثر من شهرين، لذلك أبحث عن شخص من مرافقي المصابين يستطيع أخذ ابني الرضيع معه من غزة وإيصاله إلى والدته في سيناء".
إعلان
كان ذلك آخر ما دوّن إياد على فيسبوك، ثم جاءت إسرائيل بالحل السريع، فقصفته ليستشهد فورا هو و4 من أولاده هم طفله الرضيع أحمد وأخوته لؤي وندى ويزن.
ولم يبق من الذكرى غير الألم الذي أخرجته أم لؤي من غربتها في مصر ، وأحرقت به قلوب عالم مُبَنَّج منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إسلام أبو جزر.. أم 5 أبناء في قطار الشهادة السريع
أخذت مدينة رفح نصيبها من كل ما تعرضت له غزة من قصف ودمار وشهادة، وكانت الشهيدة إسلام أبو جزر وأطفالها الخمسة حسن وإبراهيم ونور وسيلين وسيلا خليل حسن أبو جزر إحدى قصص الفقد المروعة في غزة.
ومرة أخرى يخون المكان الذي كانت إسلام تظن أنه آخر مثوى للأمان، لكن حضنها لم يخن أطفالها، فجمعها وإياهم اللهب الغادر، وألقت بهم صواريخ الاحتلال إلى لائحة طويلة من الشهداء الأطفال والأمهات الداميات المحاجر.
حضن الجدة.. قبر صغير لـ4 أشقاء شهداء
في خان يونس كان أحد المنازل الصغيرة يكتب قصة عناق بين الأجيال، تتوكأ الجدة على عكاز الأيام وتحتضن أحفادها الأشقاء الأربعة، ليتحول إلى عناق طويل من الدم ورحلة استشهاد جماعية، ليكون للفقد صوته وصيته في كل بيت غزي.
تلك 10 قصص من مآسي الفقد وفظائع اللهب الحاقد، وما هي إلا عينة صغيرة ونموذج من نهر الدم الأحمر الذي يجرف غزة منذ أكثر من عام ونصف في واحدة من أفظع مآسي التاريخ وأفظع حروب الغدر والانتقام الهمجي من الحياة وكل ما يمت إليها بصلة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
خبير عسكري: المقاومة لا تزال تقاتل بخان يونس وهذه خطة الاحتلال لإشغالها
قال الخبير العسكري العقيد حاتم كريم الفلاحي إن عمليات المقاومة شرقي مدينة خان يونس (جنوبي قطاع غزة) تؤكد استمرار العمل العسكري ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي قرب المنطقة العازلة التي تتمركز فيها منذ وقت طويل. وأوضح الفلاحي -في تحليله المشهد العسكري بغزة- أن المقاومة لا تزال تمتلك من الإمكانيات والقدرات العسكرية التي تُمكنها من إعاقة تقدم القطاعات والقوات الإسرائيلية شرقي خان يونس. ووفق الخبير العسكري، لا تزال هناك بنى تحتية تستخدمها المقاومة في مواجهة قوات الاحتلال والتصدي لها، رغم أن جيش الاحتلال طلب من سكان المنطقة الشرقية من خان يونس إخلاءها (تهجير)، وأصبحت بعض مناطقها مثل خزاعة أثرا بعد عين إثر تدميرها. وفي وقت سابق اليوم الجمعة، قالت سرايا القدس -الجناح العسكري ل حركة الجهاد الإسلامي – إن مقاتليها استهدفوا قوة إسرائيلية خاصة قوامها 10 جنود تحصنت داخل أحد مباني إسكان "الأوروبي" في خان يونس بقذيفة مضادة للتحصينات. وأكدت السرايا -وفق الإعلان- إيقاع القوة بين قتيل وجريح، مما استدعى هبوط عدد من الطائرات المروحية في المكان لإخلاء الخسائر مساء أمس الخميس. وكذلك، أعلنت سرايا القدس أن مقاتليها بالاشتراك مع كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- أجهزوا على قوة إسرائيلية متوغلة في منطقة "الأوروبي" جنوب شرقي خان يونس. وأوضحت السرايا أنه تم استهداف القوة الإسرائيلية بقذيفة مضادة للأفراد والاشتباك المباشر معها من مسافة الصفر. وحسب الخبير العسكري، فإن الاحتلال يريد إشغال المقاومة بالضغط من محاور برية متعددة، خاصة أن العمليات العسكرية تتركز حاليا في مناطق متعددة في شمالي القطاع (بيت لاهيا و جباليا و حي الشجاعية)، إضافة إلى خان يونس جنوبا. وأمس الخميس، بثت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- كمينا مركبا ببلدة القرارة شرقي خان يونس، حيث استدرج مقاتلو القسام جنود الاحتلال إلى عين نفق مفخخة بعد استخدام تكتيك "عواء الذئب"، قبل تفجيرها بالقوة الإسرائيلية والإطباق عليها من المسافة صفر. ووفق الفيديو، فقد استدرج مقاتلو القسام قوات الإنقاذ وفجروا عبوتين مضادتين للأفراد بها، ثم فجروا 3 مبانٍ تحصّنت فيها قوات الاحتلال، وذلك بعد عملية رصد دقيقة لتقدم الآليات الإسرائيلية نحو منطقة الكمين. وقبل أيام، قال رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير إن حرب قطاع غزة طويلة ومتعددة الجبهات، وتعهد بـ"حسم المعركة مع لواء خان يونس كما فعلنا في رفح".


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
القسام تبث فيديو لتفجير منزل مفخخ بـ"مستعربين" شرقي رفح
بثت الجزيرة مشاهد حصرية توثق استهداف كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- مجموعة من المستعربين التابعين ل جيش الاحتلال الإسرئيلي شرقي مدينة رفح جنوبي قطاع غزة. وأظهرت المشاهد -التي بثتها القسام اليوم الجمعة- عناصر من المستعربين بلباس مدني يتحركون بتوجيه من الجنود الإسرائيليين، وينفذون عمليات تمشيط تحت حماية طائرات الاحتلال في منطقة حدودية شرقي رفح ، ويقتحمون منازل الفلسطينيين. وتضمنت اللقطات تفجير مقاتلي القسام منزلا مفخخا في قوة المستعربين شرقي رفح، مما أدى إلى وقوع قتلى ومصابين في صفوفهم. ووفق القسام، فقد استخدم الاحتلال عددا من المستعربين في تمشيط المنازل والبحث عن الأنفاق والمقاومين خلال التوغل الإسرائيلي بمختلف محاور قطاع غزة. كما منح جيش الاحتلال -حسب فيديو القسام- المستعربين مهاما أخرى مثل زراعة العبوات وتفخيخ المنازل، إذ يتجولون بعربات مصفحة في مناطق التوغل. بدوره، قال مصدر أمني في المقاومة للجزيرة إنه تبين أن قوة المستعربين "عملاء للاحتلال للتمشيط ورصد المقاومين ونهب المساعدات". وكشف المصدر الأمني أن عناصر القوة تابعون لـ"عصابة المدعو ياسر أبو شباب وتعمل مع جيش الاحتلال داخل رفح"، مؤكدا أنه "سيتم التعامل مع العملاء وغيرهم بحزم، وسنعتبرهم جزءا من الاحتلال مهما تستروا بحمايته" إعلان وفي أواخر أبريل/نيسان الماضي، قالت وسائل إعلام عبرية إن حدثا أمنيا وقع في رفح ضد وحدة المستعربين "اليماس" التابعة لما يعرف بقوات حرس الحدود. ودأبت فصائل المقاومة في غزة على توثيق عملياتها ضد قوات جيش الاحتلال وآلياته في مختلف محاور القتال منذ بدء العملية البرية الإسرائيلية في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وظهرت خلال المقاطع المصورة تفاصيل كثيرة عن العمليات التي نفذت ضد قوات الاحتلال. كما دأبت على نصب كمائن محكمة ناجحة ضد جيش الاحتلال كبدته خسائر بشرية كبيرة، فضلا عن تدمير مئات الآليات العسكرية وإعطابها، إضافة إلى قصف مدن ومستوطنات إسرائيلية بصواريخ متوسطة وبعيدة المدى.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
غزة: 600 يوم من الصمود الأسطوري
حين يصبح الإنسان أقوى من الحديد، وتصبح الحقيقة أقسى من الصمت! غزة، هذه البقعة الصغيرة المحاصرة منذ ما يقارب العقدين، لم تعد مجرد اسم على خارطة الشرق الأوسط! إنها الآن رمز.. أيقونة.. صرخة حارقة في وجه عالم أصابه العطب الأخلاقي حتى نخاعه. ستمائة يوم من الحرب، ولم تنكسر.. لم ترفع راية بيضاء، ولم تُطفئ جذوة الأمل رغم ركام البيوت، ورائحة الموت، وارتعاش الأطفال في أحضان الليل بلا كهرباء، ولا دواء، ولا ماء نظيف. الحرب كما ترويها غزة ليست توازن قوى، بل توازن مبادئ.. ليست تفوقًا تقنيًّا، بل تفوقًا أخلاقيًّا.. ليست مناورات تكتيكية، بل استعدادًا لتقديم الروح فداءً لما تؤمن به الحروب ليست دبابات وصواريخ فقط في كتب التاريخ العسكري، تُروى الحروب غالبًا عبر الخرائط، وأسماء المعارك، وحجم الخسائر، والنسب المئوية للنجاح أو الفشل.. لكن غزة قدمت درسًا مختلفًا. الحرب كما ترويها غزة ليست توازن قوى، بل توازن مبادئ.. ليست تفوقًا تقنيًّا، بل تفوقًا أخلاقيًّا.. ليست مناورات تكتيكية، بل استعدادًا لتقديم الروح فداءً لما تؤمن به. إنها حرب الإنسان الأعزل ضد آلة تجسدت فيها البشاعة الحديثة بأبشع صورها: طائرات بدون طيار، قنابل ذكية، قنابل فسفورية، جرافات، عزل كامل، وكل ذلك في مواجهة صدور مفتوحة لا تملك إلا الإيمان. العالم بلا أقنعة في ستمائة يوم، لم تكشف غزة وجه إسرائيل فقط، بل وجه العالم كله.. كم بدا هذا الكوكب صغيرًا، جبانًا، كثير الكلام، لكنه قليل الفعل! كم من "قمة طارئة" عُقدت، وكم من "جلسة خاصة" خُصصت لمناقشة العدوان.. كلمات، خطب، دبلوماسية مُنمّقة، بيانات ختامية.. ثم لا شيء! إعلان كأنما غزة كائن خارق لا تنطبق عليه قواعد الرحمة الدولية، كأن أطفالها لا يحق لهم البكاء، وكأن نساءها لا يحق لهن النجاة. كل شيء انكسر في هذه الحرب: شرعة حقوق الإنسان، ميثاق الأمم المتحدة، وهم العدالة الدولية.. كل ذلك أصبح رمادًا تحته نار صامتة، اسمها غزة. قهرٌ على الهواء غزة لم تُقهر، بل قهرت.. لم تُحرج، بل أحرجت. كشفت عورات أنظمة عربية هرعت للتطبيع، ثم التزم بعضها الصمت، والبعض الآخر راح يلوم الضحية لأنها لم تمت "بشكل لائق"! وحتى بعض المنظمات الحقوقية العالمية لم تسلم من فضيحتها الأخلاقية؛ إذ ساوت بين الضحية والجلاد، وابتكرت تعابير جديدة مثل "الدعوة إلى التهدئة من الطرفين"، وكأنما طفلٌ يقذف حجرًا يوازي قصف أبراج بأكملها. غزة لم تصمد فقط، بل صنعت ذاكرة! هذه الذاكرة ستلاحق كل المتواطئين، كل المتفرجين، كل من آثر الحياد في زمن يجب فيه الانحياز للمظلومين ولو بالكلمة قادة لا يحتاجون لجيوش القيادة في غزة لم تكن صورة في مكتب رئاسي. كانت أمهات يخبزن الخبز تحت القصف، أطفال يرسمون الشمس في كراساتهم الرمادية، شباب ينقلون المصابين وهم يلفظون أنفاسهم.. هؤلاء هم الجنرالات الحقيقيون، قادة الظل الذين لا تصنعهم البروتوكولات، بل تصنعهم المأساة عندما يتفوق الإنسان على نفسه. التاريخ يُعلّمنا: البقاء للشرفاء أجل، من يقرأ التاريخ جيدًا يعرف أن القوة العارية لا تدوم. الإمبراطوريات التي حكمت العالم بالسيف سقطت لأن الشرف لم يكن جزءًا من معادلتها.. النازية، الفاشية، الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وحتى الاستعمار الإسرائيلي، مهما طال عمره فلن يستطيع أن يزرع جذوره في أرضٍ لا تنحني. غزة لم تصمد فقط، بل صنعت ذاكرة! هذه الذاكرة ستلاحق كل المتواطئين، كل المتفرجين، كل من آثر الحياد في زمن يجب فيه الانحياز للمظلومين ولو بالكلمة. صرخة ضمير إذا كان هناك معنى حقيقي للبطولة في القرن الحادي والعشرين، فهو موجود في غزة. بطولة ليست في هوليود، ولا في كتب "التنمية الذاتية"، بل في دمعة طفل فقد أهله وما زال يقول "أنا بخير".. في وجه أم تودّع أبناءها وتقول للكاميرا "لن ننكسر".. في طبيب يعمل في مستشفى بلا أجهزة ولا أدوية، ويصرخ: "أنقذوا ما تبقى من إنسانيتكم". إعلان ستمائة يوم من الدم والدمع والصمود، وستكتب غزة سطرها الأخير بنفسها. لن تكتبه تل أبيب، ولا مجلس الأمن، ولا عواصم الكذب الدولي.. بل سيكتبه قلب طفل نجا من المجزرة، وقرر أن يحمل الحجر من جديد ليبني لا ليقذف، لأن شعبًا كهذا لا يُهزم. وغدًا، حين يُعاد ترتيب العالم، سيكون السؤال: "أين كنت يوم صمدت غزة؟".