
«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر
شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، ومن مختلف مدن المغرب قدموا إلى الرباط وتمركزوا في ساحة «أو إل إم» بالسويسي يقودهم شغف البحث، ويسترعي اهتمامهم برنامج متنوع ضم أكثر من 240 فعالية ثقافية من ندوات وتقديم كتب وحوارات مفتوحة ومسابقات وجلسات تكريم، وبمشاركة كبيرة من مئات الناشرين المغاربة والأجانب الذين توافدوا من 48 بلداً. الدورة الحالية بدأت بافتتاح رسمي حضره الأمير مولاي رشيد والشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، احتفاءً بحضور إمارة الشارقة ضيفَ شرفٍ للنسخة الثلاثين من معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب.
هذه المناسبة شكَّلت فرصة لتسليط الضوء على العلاقات الثقافية التاريخية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية؛ حيث خصَّص فضاء العرض عدداً من الأجنحة لألبومات الصور والوثائق الرسمية التي تؤرخ لبدايات التواصل الثقافي والمراحل المختلفة من هذه العلاقة العريقة بين بلدين عربيين متباعدين جغرافيّاً، لكن بقواسم ثقافية مشتركة. وباعتبارها ضيف شرف الدورة، كان برنامج الشارقة الأكثر تنوعاً بين جميع الضيوف، إذ تضمن أكثر من 50 فعالية مزجت بين أماسي الشعر والجلسات الفكرية واللقاءات التواصلية بين المبدعين والناشرين، إضافة إلى خلوات مطالعة وورشات كتابة خُصصت لصقل مهارات اليافعين من طلاب المدارس والقراء الشباب.
الإقبال على الكتب المعرفية التي لها علاقة مباشرة بالتحصيل المدرسي والبحوث الأكاديمية كان كبيراً، حسب ما أفاد به العارضون المرتبطون بالمؤسسات التعليمية والمكتبية المشاركة، مؤكدين الحضور القوي لكتب الجامعة داخل بنية العرض المقدَّم في أنشطة النشر لهذا العام. يُضاف إلى ذلك طلب كبير سُجل على كتب التنمية الذاتية، وكتب السرد من روايات وقصص قصيرة، وأجناس أخرى من التأليف. وكان من اللافت أن مساهمة الفئات الناشئة من الأطفال والشباب في نسبة الشراء كانت كبيرة، وهو ما له علاقة على ما يبدو بحجم التسويق الإعلامي الذي حظي به المعرض هذه السنة، إضافة إلى الدور الذي لعبته الشراكات المبرمة مع المؤسسات التعليمية ونسيج المجتمع المدني المرتبط بقضايا الطفولة والشباب في جذب أعداد كبيرة من قراء الجيل الجديد. ويفسر ذلك أيضاً ما لُوحِظ من تنافس تسويقي كبير بين دور النشر المشاركة، التي عززت من جماليات فضاء العرض بألوان وتصاميم مميزة للكتب، واشتغال كبير على العناوين، وكذا اختيار أجناس محددة من المؤلفات ذات الطابع التشويقي من روايات عالمية مترجمة وأخرى عربية وكتب فلسفية تضع على صفحتها الأولى أسئلة كبرى مكتوبة بخط عريض، ودواوين شعر لأسماء معروفة وغير ذلك من أساليب إغراء القراء العامين الذين يشكلون في الغالب معظم الزوار المعنيين باقتناء ما يُعرض.
حفلات التوقيع كانت صاخبة هذه السنة، وتوزعت أشكالها بين جلسات محورية لتقديم بعض الكتب المنتقاة ومناقشة محتواها؛ حيث اعتمدها المعرض ضمن برنامجه الرسمي. وانتهت بتوقيع النسخ وإهدائها للحضور، وأخرى نظّمتها دور النشر لفائدة كُتابهم الذين نجحوا في استقطاب زبائن لكتبهم المطبوعة حديثاً، فوجدوا ضالتهم في قراء تجمعهم بهم في الغالب علاقة الأستاذية، من قبيل طلبة الجامعات والباحثين الشباب الذين حضروا كي يحظوا بنسخ موقعة من كتب أستاذتهم. وفي الجانب المقابل، كانت هنالك حفلات توقيع أخرى نخبوية ونوعية، وقّع فيها شعراء وروائيون كتبهم لأصدقاء معدودين تجمعهم بهم تجربة الكتابة ممن جاءوا تكريماً للصداقة وللمنجز الإبداعي المشترك.
اللقاءات الفكرية في فضاء الندوات حظيت بين جميع الأنشطة التفاعلية بالنصيب الأكبر من متابعة الزوار، فبين قاعة «حوار» «وتواصل» و«أفق» نوقشت قضايا كثيرة محلية وعربية وعالمية، وأجريت حوارات مع كتاب وفنانين من أسماء بارزة في عالم الأدب والفلسفة والتاريخ وغيرها من حقول المعرفة الإنسانية. وفي هذا الاتجاه، كانت القضايا الراهنة في طليعة ما ركزت عليه فضاءات النقاش؛ حيث أعادت الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية الجدل حول العدالة ومسألة المعايير الغربية المزدوجة في التعاطي مع الأحداث. حول هذا الموضوع، أعادت فعالية «ملتقى الكتاب» التي شارك فيها كل من الكاتب والناقد السوري صبحي حديدي والأكاديمي المغربي أنور المرتجي الذي طرح سؤال «الحاجة إلى فكر إدوارد سعيد»، في ظل المتغيرات في الرأي العام الغربي والتسويق الإعلامي المنحاز اتجاه قضايا المنطقة، لا سيما بعد أحداث غزة الأخيرة.
في الاتجاه ذاته، أُقيمت ندوة حملت عنوان «الإبداع الفلسطيني في مواجهة سياسة المحو»، وأثث نقاشها كل من الشاعر والناقد محمد بنيس والمفكر عبد الإله بلقزيز، اللذان حاورهما الإعلامي والشاعر ياسين عدنان حول دور الإبداع الأدبي والفني الفلسطيني في بناء الشخصية الفلسطينية التي احتفظت بكيانها الخاص وقاومت بقوتها الفنية المحتل ومحاولاته للتجاوز الهوياتي والمحو الثقافي.
وفي جلسة حوار أخرى اختار منظموها عنوان «الجماليات ومأزق العالم»، استعرض المغني والعازف اللبناني مارسيل خليفة جانباً من مشاغله الفنية على الصعيدين الفكري والوجداني؛ حيث بدأ بالتأكيد على أهمية القلق في التكوين النفسي للمبدع، ثم انتقل من الخاص للعام، حين شدد على أهمية أن تضطلع الموسيقى بمهمة المواجهة والسعي المستمر للتغيير.
على هذا النحو أيضاً ساهمت مؤسسات أخرى محلية ودولية من قبيل «إيسيسكو» والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بعدد معتبَر من الأنشطة الحوارية التي زادت فضاء النقاش تنوعاً وثراء، فقدمت الأولى في ندوة رئيسية لها مفهوم الدبلوماسية الحضارية، واستعرضت الثانية الحق في المدينة وتحولات العمران.
وفي ظل توطد العلاقة بين المغرب وفرنسا ثقافياً ودبلوماسياً، وما صاحب ذلك من اتفاقيات الشراكة والزيارات المتبادلة بين وزيري الثقافة في البلدين، خصوصاً بعد حضور المغرب ضيف شرف لمعرض باريس للكتاب قبل أسابيع، ارتفع أداء الأروقة المخصصة للمكتبات الفرنكوفونية من حيث المشاركة والعدد، كما تعزز حضور الفعاليات الثقافية والحوارية وجلسات تقديم الكتب باللغة الفرنسية بشكل لافت، لعل توقيع اتفاقية أرشيفية بين مؤسسة «أرشيف المغرب» والمدرسة الوطنية للمواثيق بفرنسا داخل فضاء المعرض كان علامة من علامات تنامي التعاون الثقافي بين فرنسا والمغرب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- سعورس
125.7 ألف زائر يسدلون الستار على 12 يوماً من المتعة والمعرفة ل"الشارقة القرائي للطفل" 2025
وبتنظيم هيئة الشارقة للكتاب، جسد المهرجان رؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وتوجيهات قرينته سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، في تمكين الأجيال الصاعدة من أدوات المعرفة، وتنمية حبّ القراءة والإبداع في نفوسهم. قارئ الغد .. صانع الحاضر وقال سعادة أحمد بن ركاض العامري، الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب: "نحن لا نُنظم مهرجاناً، بل نستكمل رسم معالم مشروع حضاري يؤمن بأن الطفل ليس قارئ الغد وحسب، بل هو صانع الحاضر أيضاً. هذا ما تؤكده الرؤية الملهمة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، التي تجعل من كل فعالية ثقافية جزءاً من منظومة متكاملة لبناء الإنسان، ومهرجان الشارقة القرائي للطفل اليوم أصبح منبراً عالمياً لترسيخ القيم المعرفية، ومختبراً حياً لإطلاق مواهب الجيل الجديد، وتوسيع خياله، وتمكينه من أدوات التفكير والابتكار". وأضاف: "بتوجيهات ومتابعة سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، نواصل في الهيئة عملنا على تطوير المحتوى، وتوسيع الشراكات، وتقديم تجربة ثقافية غنية تليق بمكانة الشارقة كمنارة للكتاب وأفق مفتوح نحو المستقبل". تكريم الفائزين بجوائز "الشارقة لرسوم كتب الطفل لليافعين" وشهد اليوم الختامي من مهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025 تكريم الفائزين بجوائز "الشارقة لرسوم كتب الطفل لليافعين"، حيث قامت خولة المجيني، المنسق العام لمهرجان الشارقة القرائي للطفل، بتكريم الفائزين عن الفئتين العمريتين، حيث فاز شاراتفيجنيش شينتيلكومار بالمركز الأول عن الفئة (12–15 سنة)، وحلت مريم يحيى كاظم البدري في المركز الثاني. أما عن الفئة العمرية (16–18 سنة)، فحصدت المركز الأول تابارك رضا عبد الله محمد صالح، بينما جاءت آمنة فراز منير جشتي في المركز الثاني. جسر إلى المستقبل بدورها، أكدت خولة المجيني، أن الدورة السادسة عشرة أثبتت مجدداً أن الكتاب هو الوسيلة الأقوى لبناء العقول وصناعة المستقبل، مشيرة إلى أن الزخم الثقافي والتفاعلي الذي شهده المهرجان هذا العام يعكس التزام الشارقة بمشروعها الحضاري العابر للأجيال والحدود، وحرصها على تمكين الأطفال من الإبداع والمعرفة في بيئة غنية بالتجارب والتنوع الثقافي. وأضافت: "حرصنا أن يكون كل طفل محور هذه التجربة، ليغادر المهرجان ومعه الكتاب الذي يعبّر عن شغفه، ويحفّزه على اكتشاف قدراته، وتحقيق أحلامه في المسار الذي يختاره والعمل الذي يلبي طموحاته، ليشق طريقه نحو المستقبل بثقة ومعرفة، مدفوعاً بحب القراءة وشغف الابتكار". برامج وفعاليات من 70 دولة وشهد المهرجان هذا العام مشاركة 122 دار نشر من 22 دولة، واستضاف أكثر من 133 خبيراً من 70 دولة، قدّموا نحو 1024 فعالية شملت جلسات تفاعلية وورش عمل في مجالات الأدب، والفنون، والتكنولوجيا، والعلوم، بالإضافة إلى عروض مسرحية وقرائية وترفيهية، وسط حضور مميز من العائلات والمدارس والمؤسسات التعليمية والثقافية. وتأكيداً على دعم الشارقة لصناعة الكتاب، وجّه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بتخصيص 2.5 مليون درهم لاقتناء كتب من دور النشر المشاركة، لتزويد مكتبات الشارقة بأحدث الإصدارات التي تعزز محتواها العربي والعالمي وتدعم قطاع النشر. زخم معرفي عالمي وشكّل المهرجان فضاءً تفاعلياً للأطفال من خلال 85 عرضاً مسرحياً وجوالاً، وورش في الطهي وفنون الكوميكس، وتقديم أكثر من 50 جلسة ثقافية شارك فيها نخبة من المؤلفين والرسامين والمبدعين من 17 دولة عربي، إلى جانب احتضان معرض "شيرلوك هولمز العالمي" لأول مرة في الإمارات ، وإطلاق منصة "قارئ القرن"، وتدشين الهوية الجديدة للجائزة الدولية لأدب الطفل العربي. تجارب استثنائية تدمج بين الخيال والمعرفة ومن أبرز المساحات التفاعلية التي استحوذت على اهتمام الزوار، جاء "متحف صناع المستقبل"، الذي فتح أبوابه أمام الأطفال لعيش مغامرات تعليمية غنية قدمت بأسلوب مبسط ومرح. كما شهد المسرح الرئيسي حضوراً لافتاً مع العرض الفني "جانكلانديا"، الذي جمع بين الكوميديا وفنون السيرك والموسيقى، وسافر الأطفال إلى عوالم السحر في عرض "السحر في الأجواء" للفنان فيليب بوجارد، حيث تداخلت المؤثرات البصرية مع الحيل السحرية، ليشارك الأطفال في فتح مغارة علي بابا والوصول إلى كنوزها. ونظّم المهرجان حفل "الجيل الذهبي"، أحياه كورال "روح الشرق" احتفاءً بمرور 25 عاماً على تأسيس قناة "سبيس تون"، غنّى خلاله الجمهور الصغير والكبير أشهر التترات التي صنعت ذاكرة الطفولة. إضافة إلى عرض استثنائي بعنوان "شارع العلوم"، قدّم خلاله اليوتيوبر عبد الله عنان واحداً من أضخم العروض العلمية في المنطقة. تكريم المواهب الملهمة وتقديراً لإبداعات الصغار، كرّم المهرجان الفائزين في مسابقة "فارس الشعر" التي سلطت الضوء على المواهب الشعرية في الإلقاء والحفظ، إلى جانب تكريم المواهب الشابة الفائزة في مسابقة رسوم كتب الطفل. وشكّلت هذه الجوائز دعماً معنوياً كبيراً للأطفال المبدعين وصانعي رسومات كتب الطفل، وتحفيزاً لهم على مواصلة التميز الأدبي والفني. أحمد بن ركاض العامري خولة المجيني


الشرق السعودية
٠٢-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق السعودية
فيلم "أناشيد آدم".. سردية البراءة المفقودة والزمن المعطوب
في فيلمه المتفرد "أناشيد آدم"، الذي يمزج بين الواقعية السحرية والتأمل الفلسفي، يقدم المخرج العراقي عدي رشيد رؤية عميقة لتأثير الزمن على الإنسان والمجتمع. الفيلم الذي حصل على جائزة اليسر لأفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، ونال استحساناً نقدياً حينها، عرض في مؤخرا في مهرجان أفلام سعودية ونال جائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل يقدّم رشيد تأمّلاً سينمائياً نادراً في مفهوم الزمن، الطفولة، والثبات أمام التآكل الجماعي، بعيداً عن السرد الكلاسيكي المباشر، يبني رشيد عالمه ببطء وتأمل، مطلقاً مشروعاً سينمائياً يحفر عميقاً في ذاكرة الإنسان العراقي، ويمتد ليطال الأسئلة الكبرى حول المصير الإنساني كله. تبدأ القصة بمشهد بالغ الرمزية: في عام 1946 يظهر طفلان، آدم وشقيقه علي، يشهدان غسل جثة جدهما، يمثل هذا الطقس أول تماس حقيقي مع فكرة الموت، يترك أثراً غير مرئي على وعي آدم. هناك، في تلك اللحظة، يتخذ قراراً غريزياً غير منطقي في الظاهر: أن يرفض النمو، في عالم حيث الكبر يعني الانخراط في دوائر الفقد والتآكل، يختار آدم الطفولة كملجأ، كثورة صامتة، فما هو الثمن الذي دفعه بهذا القرار؟ . زمن داخلي وزمن اجتماعي يبني رشيد أطروحة فلسفية حول الزمن الداخلي مقابل الزمن الاجتماعي.أثر الأزمات العراقية التي تتوالى عبر سنوات مفصلية (1946-1952-1964-1981-2014). يعيش آدم خلال هذه السنوات خارج معادلة الزمن الاجتماعي، ففي الوقت الذي يكبر فيه الآخرون يتزوجون، يشيخون، يموتون يظل آدم ثابتاً، مجمّداً داخل لحظة براءة أولى، وذلك بعد صدمته الأولى لماهية الموت ممثلاً في جثة، بينما "إيمان" ابنة عمه وشقيقه "عليط و"إنكي" الراعي وصديق "آدم" المقرب، يريان في "آدم" نعمة و هدية إلهية في هذه القرية القاسية وعواصف الغبار التي تسيطر عليها، وهو غير راغب بالتخلي عنها. يذكرنا هذا التشبث بالطفولة بمفهوم الزمن الداخلي عند هنري برجسون، الذي يرى أن الزمن الحقيقي هو ذلك الذي يُعاش لا الذي يُقاس بالساعات والأيام والسنوات. العلاقات التي يرسمها الفيلم بين "آدم" وأخيه "علي"، بينه وبين ابنة عمه "إيمان" تكشف مفارقة الزمن المتباين علي يكبر وينخرط في الدورات الاجتماعية التقليدية، "إيمان" تحاول أن تمد جسرًا بين الطفولة والعالم، لكنها تدرك تدريجياً أن المسافة شاسعة، كل محاولة للتواصل تصطدم بجدار الزمن المتجمد حول "آدم". بهذا، تمثل الشخصيات رغم محيطها الخارجي تجسيداً لصراع الزمن مع الإنسان، والرغبة في النضج مقابل الرغبة في الحفاظ على البراءة، الاستسلام للواقع أو مقاومته عبر الصمت. وفي استمرار نمو "علي" وابنه يصبح الزمن الاجتماعي خيانة للروح، النمو ليس تقدّماً بل انحدار نحو الموت، لهذا، اختيار "آدم" ألا يكبر لا يبدو قراراً طفولياً بل موقفاً فلسفياً عميقاً: رفض الانصهار في دورة الحياة التي لا تقود إلا إلى الفناء. البنية البصرية والتكوين الصوتي في أحد المشاهد يُجبر "آدم" على مغادرة القرية، حيث يناديه والده بحزم ويأخذه بعيداً، ينما تنوح والدته من بعيد، تصرخ باسمه وتحاول اللحاق به، لكن والده يزجرها ويهددها بعدم الاقتراب، يُقاد "آدم" إلى مخبأ طيني، يدفع إلى غرفة بباب خشبي، ويغلق عليه الباب بأمر من والده، ويهدد بعدم فك أسره ظناً منه أنه ملعون، ولعنته تحل على القرية وأهلها. قدم هذا المشهد دون مواجهة أو تبرير، بل في لغة جسد تبرز الصراع بين البراءة والسلطة، و المعاقبة على رفض التكوين الطبيعي والانخراط في عالم الكبار، تعكس السينوغرافيا هذا الصراع من خلال الألوان الترابية والضوء النافذ في الغرفة الطينية المعتمة، الصمت الذي يلف هذا المشهد يعبر عن القمع الذي يتعرض له "آدم" وعدم قدرته على الاحتجاج. اختار رشيد أن يتماهى مع فلسفة الثبات هذه من خلال لغة بصرية وصوتية بطيئة ومتوترة، المشاهد طويلة، الكاميرا ساكنة، الألوان يغلب عليها البني والترابي، كأن كل شيء مغطى بطبقة خفيفة من الغبار . الصمت يلعب دوراً جوهرياً؛ حين يتكلم الفيلم، يتكلم بالرياح، بصدى الخطوات البعيدة، والأنين المتقطع للأبواب، لا شيء هنا يعبر عن الاستمرارية، بل عن شعور دائم في العدم. عدي رشيد ليس غريباً عن كيفية تنفيذ أعماله وطرح الأسئلة الكبرى من خلالها، منذ تجربته السابقة "تحت أنقاض بغداد"، كان واضحاً أن مشروعه الإخراجي يتجاوز مجرد توثيق الكارثة السياسية إلى استبطان الوجع الداخلي للإنسان العراقي. في "أناشيد آدم"، يخطو خطوة أبعد، مبتعداً عن المباشرة والخطابية، ومتجهاً إلى سينما الفكرة، حيث الصورة نفسها تصبح معادلاً شعورياً للزمن، وحيث تتكلم التفاصيل البسيطة بما يفوق الكلمات. عاش "آدم" عبر هذه السنوات استعارة مكسورة لطفل عراقي، وربما لطفل بشري مطلق، رافضاً الامتثال لعنف التاريخ. لماذا "أناشيد آدم"؟ يوحي اختيار العنوان بتمائم مبثوثة من صمت طويل، لا تُغنى بقدر ما تُشعر، لن نرى "آدم" في الفيلم بطلاً مغامراً، لكننا نرى بدلاً من ذلك النغمة الحزينة المتكررة، صوت داخلي يهمس بأناشيده ضد صخب العالم الخارجي. وهو بصفته رمزاً للإنسان الأول، هو بداية الخليقة، واستخدام "أناشيد" بصيغة الجمع يوحي بتعدد الحكايات الصغيرة التي يحفظها الزمن المجمد داخله: أناشيد الحنين، أناشيد الرفض، وأناشيد الحزن العميق. هكذا يصبح العنوان مدخلاً لفهم أن الفيلم نفسه نشيد طويل مكسور عن الفقد، لا ينتهي ولا يكتمل. رمزية للعراق من خلال شخصية "آدم"، يرمز الفيلم إلى العراق ككيان لم يُسمح له أن يكبر بشكل طبيعي، بلد ظل معلقاً بين ماضٍ منسي ومستقبل مسدود، كما يمكن قراءة "آدم" بوصفه إنسان يحاول التمسك بلحظة البراءة الأصلية، رافضاً الانجرار نحو عالم التآكل. وبعكس مفهوم الانسحاب، رفض النمو في الفيلم يجسد المقاومة، يصبح الثبات نفسه شكلاً من أشكال الصمود، حتى لو بدا صامتاً، معزولاً، عن الهشاشة المتمردة، عن محاولة التشبث بما لا يمكن استعادته فهو فعل عناد ورعونة ضد تاريخ يُراد له أن يُمحى. في بلد مثل العراق تلتهمه الحروب والمآسي، تأتي "أناشيد آدم" لتذكرنا أن أشد أشكال المقاومة قد تكون في أبسط الأفعال رغم لا واقعيتها: في قرار طفل ألا يكبر، وألا يخون لحظة وجوده الأولى. في النهاية، لا يحسم الفيلم موقفه.. هل انتصر "آدم"؟ أم خسر معركته ضد الزمن؟ يتركنا رشيد في مساحة رمادية من التفكير، مساحة يلتقي فيها الحنين بالمأساة، والبراءة بالحزن العميق لكنه يؤكد أن الزمن عدو داخلي. بهذه الطريقة، يقدم "أناشيد آدم" تجربة سينمائية تُعاش، عمل يهمس ببطء في أذن الذاكرة، داعياً إيانا للتوقف، للتأمل، وربما، للحظة واحدة، للتمرد الصامت على الزمن الذي لا يرحم.


عكاظ
٣٠-٠٤-٢٠٢٥
- عكاظ
بدور القاسمي توقع كتاب «بيت الحكمة» في «الشارقة القرائي للطفل»
وقَّعت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، نسخاً من كتابها الجديد «بيت الحكمة» الفائز بجائزة الشارقة لكتاب الطفل عن فئة كتاب الطفل باللغة الإنجليزية للفئة العمرية من 7 إلى 13 عاماً، بالإضافة إلى الجائزة المرموقة في أدب الأطفال «بولونيا راجازي» لعام 2025. جاء ذلك خلال جلسة توقيع في مهرجان الشارقة القرائي للطفل، الذي يستمر حتى 4 مايو، في مركز إكسبو الشارقة، تحت شعار «لتغمرك الكتب». ونُظمت خلال المهرجان سلسلة من المبادرات النوعية التي تشمل إطلاق إصدارات جديدة، وتوقيع شراكات إستراتيجية، وتنظيم جلسات قرائية حافلة بمشاركة نخبة من الكتّاب، إلى جانب الإعلان عن مشروعات جديدة تدعم ثقافة القراءة وتعزز محتوى النشر العربي الموجّه للناشئة. أخبار ذات صلة وتم إطلاق عدد من الإصدارات الجديدة، من أبرزها كتاب «هل تعلم؟» من تأليف الشيخة ميرة القاسمي، وهو كتاب تثقيفي مشوق يستهدف الأطفال من الفئة العمرية 6 سنوات فما فوق، ويقدم بنسختيه العربية والإنجليزية، معلومات طريفة ومدهشة عن عالم الحيوانات بأسلوب بسيط وجذاب. كما تم إطلاق كتاب «الرجاء ربط الأحزمة» للكاتبة الإماراتية نورة الخوري، وهو كتاب يعرّف الأطفال بعالم الطيران والسفر بطريقة مبسطة ومسلية، حيث يأخذ القراء الصغار في رحلة معرفية تشمل جميع إجراءات السفر من المطار حتى الإقلاع، مما يثري معلوماتهم ويحفز خيالهم حول تجربة الطيران.