
بنور الشريعة تهتدي النفوس
سمية بنت سليمان القنوبية
في زمنٍ يكثر فيه الحديث عن التغيير، وينشغل الناس بإعادة ترتيب مظاهر حياتهم، نغفل في كثير من الأحيان عن التغيير الأهم، ذاك الذي يبدأ من الداخل، من أعماق النفس. فالنفس بطبعها مضطربة، متقلبة، تميل مع الأهواء، وتنخدع ببريق المغريات. وإن تُركت دون تهذيب، سارت في دروبٍ يضيق فيها النور وتتسع فيها الظلال.
لكن، حين تشرق النفس بنور الشريعة، حين تُضاء بآيات القرآن، وتهتدي بسنة النبي ﷺ، فإنها تهدأ، وتطمئن، وتعتدل خطاها نحو ما فيه الخير والرضا. فالشريعة ليست قيدًا، بل هي ضوء يسري في زوايا القلب، يعيد ترتيب الداخل، ويهذب الطباع، ويحرر الإنسان من عبودية الهوى.
لقد مررت مؤخرًا بتجربة شعورية لا تُنسى. شعرتُ بثقلٍ غريبٍ منعني من حضور حلقة للقرآن الكريم. كنت قد قررت الذهاب، لكن شيئًا خفيًّا أعادني إلى مكاني. شعور غامض، كأن خطواتي كُبّلت، وكأن البركة قد انسحبت مني بصمت. لم يكن الأمر كسلًا عابرًا، بل كان تنبيهًا داخليًّا: أن الاقتراب من كلام الله يحتاج صفاء قلب، وصدق نية، ويقظة روح.
حينها أدركت أن القرآن عزيز. لا يُقبل عليه قلب غافل، ولا يدخله جسد متثاقل. هو نورٌ لا يُمنح إلا لمن يشتاق إليه بصدق، ويعود إليه بخشوع. هو ليس مجرد كتاب نقرؤه، بل حياة نعيشها، وأمان نلجأ إليه، وطمأنينة تتسلل إلى دواخلنا كلما ارتوينا من معانيه.
وكلما تأملتُ في نفسي، وجدت أنها تعيش بين مدٍّ وجزر، بين لحظات صفاءٍ وأخرى من ضعف. وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي أن أستسلم للضعف دون مقاومة. لذلك، أصبحت أُدرك أن تهذيب النفس لا يكون إلا بنور الشريعة، فهي التي تضبط السلوك، وتزكّي القلب، وتُذكرني من أكون، ولماذا خُلقت، وإلى أين أمضي.
ومن لطف الله بنا، أن جعل هذا الطريق ممكنًا، بل جميلًا. فحين ألتزم بما أمر به الله، لا أشعر بالقيد، بل أشعر بالارتقاء. حين أبتعد عن الحرام، لا أشعر بالحرمان، بل أشعر بالتحرر. حين أتمسك بصلاتي، حين أتلو كتابه، حين أقتدي بسنة نبيه، أشعر أن الحياة أبسط، وأعمق، وأهدأ.
بل إن الاقتداء بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – صار لي بوابة عظيمة لهذا التهذيب. أحاول أن أتعلم منه الصبر، وأقتدي بعفوه، وأقلّده في تواضعه. فأعظم ما قيل عنه: "كان خُلُقه القرآن"، وكأن الشريعة تجسدت فيه إنسانًا. وهذا هو التحدي الأكبر: أن نعيش الشريعة لا أن نحفظها فقط، أن نكون قرآنًا يُرى لا قرآنًا يُسمع فقط.
وأثناء هذا الطريق، كلما حاولت إصلاح نفسي، شعرت براحة لا توصف. شعور بالرضا عن ذاتي، وكأنني أعود إلى فطرتي الأولى، إلى أصل النقاء الذي خلقني الله عليه. حتى معاملاتي تغيرت، أصبحت أختار الكلمة الطيبة، وأتمسك بالصبر، وأحرص على العطاء، مهما كان بسيطًا.
نعم، التهذيب ليس سهلًا، لكن النتيجة تستحق كل العناء. أعلم أنني قد أضعف، وقد أتراجع، وقد أتأخر عن المجالس النورانية، لكن ما دمت أعود بصدق، ما دمت أستلهم النور من الوحي، فإنني لن أضل الطريق.
إذن، لنسأل أنفسنا: كم مرة تأملنا في آيات الله وكأنها تُخاطبنا؟ كم مرة شعرنا أننا أقرب إليه بعد دمعة خشوع، أو سجدة صادقة؟ كم مرة راجعنا ذواتنا لا لنجلدها، بل لنعيد بناءها من جديد؟
إننا لا نحتاج إلى تغييرات شكلية بقدر ما نحتاج إلى ثورة داخلية، تبدأ بتزكية النفس، والعودة إلى النبع الأول، إلى نور الشريعة. فحين نتهذب من الداخل، يتهذب كل شيء حولنا؛ وتصبح الحياة، برغم مشقتها، أجمل وأسهل، لأن النور في القلب لا يُخبو، ما دام منبعه من الله.
فليكن لنا من كل يوم لحظة صدق، نراجع فيها أنفسنا، ونزيل عنها غبار الغفلة. ولنُدرك أن أجمل ما يمكن أن نهديه لأنفسنا، هو أن نُعيدها إلى ربها، بنورٍ من شريعته، وبرٍّ من رحمته، وخُلقٍ من نبيه عليه الصلاة والسلام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 12 ساعات
- جريدة الرؤية
وفاة أول إمام لجامع السلطان قابوس بمسقط
مسقط - الرؤية انتقل إلى رحمة الله تعالى اليوم، وفي هذه الأيام المباركة، الشيخ الزاهد الورع حمد بن خلفان بن سعيد المحروقي، أول إمام لجامع السلطان قابوس في مسقط، عن عمرٍ قضاه في خدمة الدين والعلم والصلاح بين الناس. لقد كان الشيخ حمد المحروقي من رجال الدين الذين اتسموا بالتقوى، والبساطة، وحُسن الخُلق. وقد عاصر جيلًا من كبار العلماء في عُمان، حيث تتلمذ وتأثر بكل من الإمام محمد بن عبدالله الخليلي والإمام غالب بن علي الهنائي، وحمل عنهم ميراث العلم والإيمان، لينقله إلى الأجيال بروح مخلصة ونفس زاهدة. في حياته، عُرف الشيخ حمد ببشاشته وابتسامته الدائمة، وبحكمته في الإصلاح بين الناس، ومجالسه التي كانت لا تخلو من الفقه، والأدب، وذكر الصالحين. لم يكن مجرد إمام، بل كان مرجعًا روحانيًّا في مجتمعه، يُؤنس الجليس، ويُصلح بين المتخاصمين، وينصح بالحكمة والموعظة الحسنة. وتتقدم أسرة "الرؤية" بخالص العزاء، سائلين المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويدخله فسيح جناته، ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.


جريدة الرؤية
منذ 4 أيام
- جريدة الرؤية
بنور الشريعة تهتدي النفوس
سمية بنت سليمان القنوبية في زمنٍ يكثر فيه الحديث عن التغيير، وينشغل الناس بإعادة ترتيب مظاهر حياتهم، نغفل في كثير من الأحيان عن التغيير الأهم، ذاك الذي يبدأ من الداخل، من أعماق النفس. فالنفس بطبعها مضطربة، متقلبة، تميل مع الأهواء، وتنخدع ببريق المغريات. وإن تُركت دون تهذيب، سارت في دروبٍ يضيق فيها النور وتتسع فيها الظلال. لكن، حين تشرق النفس بنور الشريعة، حين تُضاء بآيات القرآن، وتهتدي بسنة النبي ﷺ، فإنها تهدأ، وتطمئن، وتعتدل خطاها نحو ما فيه الخير والرضا. فالشريعة ليست قيدًا، بل هي ضوء يسري في زوايا القلب، يعيد ترتيب الداخل، ويهذب الطباع، ويحرر الإنسان من عبودية الهوى. لقد مررت مؤخرًا بتجربة شعورية لا تُنسى. شعرتُ بثقلٍ غريبٍ منعني من حضور حلقة للقرآن الكريم. كنت قد قررت الذهاب، لكن شيئًا خفيًّا أعادني إلى مكاني. شعور غامض، كأن خطواتي كُبّلت، وكأن البركة قد انسحبت مني بصمت. لم يكن الأمر كسلًا عابرًا، بل كان تنبيهًا داخليًّا: أن الاقتراب من كلام الله يحتاج صفاء قلب، وصدق نية، ويقظة روح. حينها أدركت أن القرآن عزيز. لا يُقبل عليه قلب غافل، ولا يدخله جسد متثاقل. هو نورٌ لا يُمنح إلا لمن يشتاق إليه بصدق، ويعود إليه بخشوع. هو ليس مجرد كتاب نقرؤه، بل حياة نعيشها، وأمان نلجأ إليه، وطمأنينة تتسلل إلى دواخلنا كلما ارتوينا من معانيه. وكلما تأملتُ في نفسي، وجدت أنها تعيش بين مدٍّ وجزر، بين لحظات صفاءٍ وأخرى من ضعف. وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي أن أستسلم للضعف دون مقاومة. لذلك، أصبحت أُدرك أن تهذيب النفس لا يكون إلا بنور الشريعة، فهي التي تضبط السلوك، وتزكّي القلب، وتُذكرني من أكون، ولماذا خُلقت، وإلى أين أمضي. ومن لطف الله بنا، أن جعل هذا الطريق ممكنًا، بل جميلًا. فحين ألتزم بما أمر به الله، لا أشعر بالقيد، بل أشعر بالارتقاء. حين أبتعد عن الحرام، لا أشعر بالحرمان، بل أشعر بالتحرر. حين أتمسك بصلاتي، حين أتلو كتابه، حين أقتدي بسنة نبيه، أشعر أن الحياة أبسط، وأعمق، وأهدأ. بل إن الاقتداء بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – صار لي بوابة عظيمة لهذا التهذيب. أحاول أن أتعلم منه الصبر، وأقتدي بعفوه، وأقلّده في تواضعه. فأعظم ما قيل عنه: "كان خُلُقه القرآن"، وكأن الشريعة تجسدت فيه إنسانًا. وهذا هو التحدي الأكبر: أن نعيش الشريعة لا أن نحفظها فقط، أن نكون قرآنًا يُرى لا قرآنًا يُسمع فقط. وأثناء هذا الطريق، كلما حاولت إصلاح نفسي، شعرت براحة لا توصف. شعور بالرضا عن ذاتي، وكأنني أعود إلى فطرتي الأولى، إلى أصل النقاء الذي خلقني الله عليه. حتى معاملاتي تغيرت، أصبحت أختار الكلمة الطيبة، وأتمسك بالصبر، وأحرص على العطاء، مهما كان بسيطًا. نعم، التهذيب ليس سهلًا، لكن النتيجة تستحق كل العناء. أعلم أنني قد أضعف، وقد أتراجع، وقد أتأخر عن المجالس النورانية، لكن ما دمت أعود بصدق، ما دمت أستلهم النور من الوحي، فإنني لن أضل الطريق. إذن، لنسأل أنفسنا: كم مرة تأملنا في آيات الله وكأنها تُخاطبنا؟ كم مرة شعرنا أننا أقرب إليه بعد دمعة خشوع، أو سجدة صادقة؟ كم مرة راجعنا ذواتنا لا لنجلدها، بل لنعيد بناءها من جديد؟ إننا لا نحتاج إلى تغييرات شكلية بقدر ما نحتاج إلى ثورة داخلية، تبدأ بتزكية النفس، والعودة إلى النبع الأول، إلى نور الشريعة. فحين نتهذب من الداخل، يتهذب كل شيء حولنا؛ وتصبح الحياة، برغم مشقتها، أجمل وأسهل، لأن النور في القلب لا يُخبو، ما دام منبعه من الله. فليكن لنا من كل يوم لحظة صدق، نراجع فيها أنفسنا، ونزيل عنها غبار الغفلة. ولنُدرك أن أجمل ما يمكن أن نهديه لأنفسنا، هو أن نُعيدها إلى ربها، بنورٍ من شريعته، وبرٍّ من رحمته، وخُلقٍ من نبيه عليه الصلاة والسلام.


جريدة الرؤية
منذ 4 أيام
- جريدة الرؤية
صيغة الملكية
فاطمة الحارثية التشبُّث بفكرة ما أمر كثير الحدوث ويكاد يكون مسلمًا به، وهو أكثر وقعًا وتأثيرًا على الإنسان، لأن بتشبثه قد يقع في هاوية التعصب، وقد يضر القصد النبيل، مما يُعمي بصيرته ويؤثر سلبًا على قراراته وسلوكه. ولنتفق أنه لا يوجد عاقل واعٍ يتحمل أن يتم تحريف قصده وحُسن التوجه، بشكل غيبي دون إعطائه فرصة لتوضيح وبيان الفكرة وأبعادها ومنافعها. والكثير منا، وهذا أمر طبيعي، نستبق الأمور بالاستنتاجات غير الموضوعية، حسب مقدار الخبرة التراكمية لدى كلٍّ منا، وثمة مقاومة غريبة في مسائل محاكاة النتائج إيجابيًا والميل إلى تصور نهايات قد تكون غير منطقية وسلبية في أحيان كثيرة، فمعظم الأفكار تُستقبل بالنقد الهدام دون مقارنات ومقاربات إيجابية وسلبية صحية. ولا أستطيع القول إن الخطأ مقتصر على المتلقي؛ بل يتساوى مع المرسل، خاصة عندما يُخفق المرسل في استخدام الصيغة التي يجب استخدامها في حالة تباين نوع الجمهور أي المتلقي. واستخدام صيغة الملكية هو أول الإخفاق، لأنك أبعدت الطرف الثاني دون أن تشعر. نتعلق أحيانًا بالأمور حتى تفلت منا العلاقات ونخسر الود والألفة، لننتهي بندم لا يمكن تعويضه؛ عندما يتشبث بصيغة الملكية الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت أو الزوج أو الزوجة أو الزميل أو الزميلة أو المسؤول أو المسؤولة أو الشريك أو الشريكة، قد تضيع العلاقات وحتى الحقوق، وهذا الضياع وقعه مؤثر على الجانبين دون شك. عندما يُحسن إليك أحدهم، ليس بالضرورة أنه بحاجة إلى شيء تمتلكه أو خدمة بالمقابل، ربما هو فقط مُسخَّر لقضاء أمر، فلا تعتبر فعله ضعفًا، فهو في المقام الأول استطاع أن يُساعدك، بمعنى هو قادر وقد ذُلّلت له الأسباب، ولا يغُرّك الحال وتحسب أن ما لديك أمر مهم جدًا له، فأنت بعيد كل البعد عن القدرة على سبر أسواره ونفسه، أو كشف الغيبيات والأسباب، ولا يجب على أحد أن يعتقد بقبول أو صبر الطرف الآخر على أفعال صيغة الملكية كمطلق، فقد أحدثتها ظروف مؤقتة، ومُحال دوام الحال. وإن حسب أيٌّ منا أننا نُحسن الصُنع، فقد ارتكبنا جريمة أمن مكر الله تعالى، كما ورد في كتابه الكريم: " أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ " . فهونوا على أنفسكم، فسلطة ومناصب ووصاية الدنيا لم تدم لغيرك لتدوم لك، والمتعة اللحظية غير المدروسة قد تُكبدك خسائر جمَّة في الدنيا والآخرة. لنتوقف قليلًا بعيدًا عن (الأنا الدنيا)، ولنتفكر في (الأنا الآخرة)، كلها (أنا) وكلها تنم عن حب الذات والنفس، والاختلاف يكمن في صيغة الملكية والسعي. وتذكر أن تمتلك نفسك وليس الناس. من بعض محفزات صيغة الملكية: الجهل، والغرور، والشهوات، والرغبات، وحتى الحب غالبًا ما يقع أسير تلك الصيغة. لا بُد أن نمتلك المبادئ الكريمة، مثل حرية الاختيار والقرار تحت مبدأ "لا إكراه"، والحرص على المصلحة العامة تحت مبدأ البعد عن الضرر المتعمد، حسب قوله تعالى: " مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ " و"مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ"، وأيضًا الإيمان بمبدأ أن السكوت عن المنكر يُعد مشاركة وتواطؤًا فيه. وإن طال ... الحسيب الوحيد ولا شريك له هو الله، وبه نستعين.