logo
أسرى التاريخ والأوهام!

أسرى التاريخ والأوهام!

الشروقمنذ يوم واحد
أسرى جمع أسير، وهو المتحكَّم فيه من جهة ما بشعور ومن دون شعور: كأنه عبد مملوك، أو أسير حرب، أو سجين، ولكن هناك نوعا من الأسْر غير هذا الذي تظهر فيه هيمنة الغالب على المغلوب، وهو أسْر الفكرة والعادة والتقليد وإلى ما هنالك من المؤثرات النفسية والعقدية والاجتماعية.
والأسرى كثّر، منهم أسير التاريخ وأسير المعتقد وأسير العادة… ويمكن جمع هذه النماذج كلها في بوتقة واحدة هي: أسرى الأوهام، وأسوأ هذا النوع من الأسرى أسرى التاريخ، الذين توقّفوا عند حدث معين من التاريخ تحوّل مع الأيام إلى معلم رئيسي في حياتهم، إذ أصبح هذا الحدث هو المرجع والمصدر لهدايتهم وهداية غيرهم، بل وأصل أصيل في تصوراتهم للهاديات التي يبحثون عنها، وهم ثلاثة أصناف: صنف أسرى لمعتقدات دينية، وأسرى لعادات وتقاليد اجتماعية وأسرى لوقائع سياسية.
والأسرى لمعتقدات دينية، هم الذين يجترّون معتقدات دينية تاريخية، ويعتبرونها أصلا في حياتهم اليومية، ويبنون عليها ما لا نهاية له من الآراء والمواقف، مثل التيار السلفي ومواقف الشيعة من غيرهم من المسلمين، فينطلقون في بناء تصوراتهم وفهومهم وعلاقاتهم مع غيرهم من المسلمين من وقائع تاريخية لها حكمها الزمني.
التيار السلفي بنى تصوراته على فهوم معينة لنصوص وعمَّمها على الكليات التصورية للتدين والسلوك والتعامل مع الناس، فقول الرسول صلى الله عله وسلم 'خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم'، هل المراد من هذا التفضيل وتزكية المنهجية التي تعاملت بها هذه الطبقات الثلاث مع الواقع والوحي، أم المقصود استنساخ أفعالهم وإعادتها كما هي؟ وهل الاختلاف في النصوص المحتملة تقتضي الموالاة والبراءة كما هو الأمر مع القضايا الكلية والأصلية؟ وهل يمكن لفرع فقهي أن يكون حَكَما على الأصول، كما يقول بعضهم الموقف من البدعي أسوأ وأشد من الكافر الأصلي، إذ يمكن أن نتعامل مع الكافر أما البدعي فلا بدَّ من مقاطعته!
أما الشيعة فجميعُ تصرفاتهم وتعاملهم اليوم مع غيرهم من المسلمين ينطلق من موقف سياسي من الانقلاب على الخلافة الإسلامية من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، التي كانت سببا في منع الإمام علي رضي الله عنه من حقه في قيادة الأمة.
انحراف السلطة السياسية لبني أمية تاريخ، وخروج الخوارج تاريخ، ونشأة الشيعة وخياراتهم السياسية والثقافية تاريخ، ومقاومة الإمام علي لخصومه تاريخ، ومقاومة الحسين حتى الاستشهاد تاريخ، واختلاف الحسن عن الحسين رضي الله عنهما تاريخ، فلماذا يبقى الناس أسرى لهذا التاريخ الذي ولّد فينا أوهاما لا علاقة لها بالنهضة والإصلاح ومقاومة الاستكبار الغربي؟
وهذه الحادثة مهما قلنا فيها من انحراف المنهج السياسي وما فيها من أخطاء أو حتى جرائم على مذهب إخواننا الشيعة، فهي تاريخٌ وغير قالب للتصحيح، قد ذهب بخيره وغيره، ولا حيلة لنا في التعامل معه إلا النظر فيه واستنطاقه والاستفادة منه في مسيرتنا الحياتية حاضرا ومستقبلا، وسواء كانت الخلافة لعلي أو لمعاوية، أو كانت حقا أو باطلا، أو اجتهادا أو جريمة، فهي تاريخ لا علاقة له بواقعنا… ولكن الشيعة انطلقوا من هذا الخطأ السياسي وجعلوا منه موقفا رئيسيا في تصنيف الناس وتسجيل الموقف منهم، ابتداء من تصنيف الصحابة للتفريق بينهم من كان مع علي ومن كان معارضا له؟ رضي الله عنهم جميعا، وشقّ طريق جسد الأمة، لتتميز شيعة علي عن غيرهم من الناس، وبنوا مذهبا بسلسلة من الأئمة لهم مواصفات معينة، وبقي الشيعة برمّتهم أسرى لهذا الخط إلى اليوم، وقد أثّر ذلك على طريقتهم في التعامل مع الوحي والإسلام عموما، فعلماؤهم غير علماء غيرهم، وكتبهم في الحديث غير كتب غيرهم، وكتبهم في الفقه وعلم الكلام غير كتب غيرهم؛ بل يوجد لبعض المغالين منهم 'قرآنٌ' غير قرآن غيرهم… وهذا في الحقيقة كله لا قيمة له، إذا جرّدناه من الخلفية التاريخية التي هي تاريخ، لا أكثر ولا أقلّ، فانحراف السلطة السياسية لبني أمية تاريخ، وخروج الخوارج تاريخ، ونشأة الشيعة وخياراتهم السياسية والثقافية تاريخ، ومقاومة الإمام علي لخصومه تاريخ، ومقاومة الحسين حتى الاستشهاد تاريخ، واختلاف الحسن عن الحسين رضي الله عنهما تاريخ، فلماذا يبقى الناس أسرى لهذا التاريخ الذي ولّد فينا أوهاما لا علاقة لها بالنهضة والإصلاح ومقاومة الاستكبار الغربي؟
هل من المعقول أن تبقى الأمة حبيسة موقف سياسي في التاريخ وتجمّد كل ما يتعلق بالواقع والمستقبل؟ وهل من المعقول أن يُستحضر عمل الحسين ووالده الإمام علي رضي الله عنهما، وتُستبعد بطولات آخرين في التاريخ الإسلام يعدّون بالملايين؟
إن من آثار هذا الأسْر بقاء الحزن مخيما على المجتمع الشيعي إلى اليوم، بلطم الخدود وجلد الأجسام وسيل الدماء في عاشوراء وغير عاشوراء، حزنا على الحسين وأتباعه، ناسين أو متناسين بطولات وشهداء بالملايين تضاهي ما قام به الحسين ووالده رضي الله عنها في العالم الإسلامي.
ويوجد هذا 'الأسْر' أيضا في بعض الطرق الصوفية المنغلقة على نفسها وبعض الجماعات المتطرفة التي اتخذت من المسائل الفقهية الخلافية قواعد لها في بناء المواقف والآراء من غيرهم المخالفين لهم، ونسي الجميع أن من انطلق من قضية جزئية وجعلها حَكَمًا على من يخالفهم ويخالفونه، مصيره التطرُّف والطائفية؛ لأنه يعتقد في نهاية المطاف أن كل من لم يكن على رأيه ومذهبه فهو خارجٌ عن الصواب ومصيره الخراب.
أما الأسْر لعادات وتقاليد اجتماعية، فهم أيضا أسرى لأوهام؛ لأن العادات والتقاليد ليست دائما تستحقّ البقاء، بوصفها قيمة زمنية اقتضتها مرحلة زمنية معينة، ثم فقدت مبررات بقائها، ومن ثم فهي ليست جديرة بالبقاء والتعلق بها.
وكل من يتعامل مع العادات والتقاليد بمعزل عن قوانين النفس والاجتماع الإنساني، والاقتصاد والسياسة، ومقتضيات الوحي ومقرّرات المصالح والمفاسد، مصيره الانغلاق على النفس والوقوع في مخاطر تعميق التخلّف والتطرّف والانحراف.
وأخيرا أسرى الوقائع السياسية، الذين ربطوا أنفسهم بوقائع ومواقف وآراء سياسية معينة، وساروا عليها في جميع مراحل حياتهم، فلم يلمحوا فضيلة في خصومهم السياسيين، كما يرون في أنفسهم من فضائل الكلام وإدراك الحقائق.
ويحضرني هنا مثالٌ لمحمد بوضياف رحمه الله عندما جلبوه في 16 جانفي 1992 لسد فراغ دستوري، لينصَّب رئيسا للمجلس الأعلى للدولة، وهو واحدٌ من مفجري الثورة كما هو معلوم، وكان من بقايا خصومه السياسيين التاريخيين الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، الذي تحوّل إلى معارضة السلطة الجديدة، وقد كان في الحركة الوطنية التاريخية، من المركزيين عند اندلاع الثورة ولم يكن له علاقة بها يومها، فلم يجد محمد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة، ما يعيّر به مهري المعارض للسلطة إلا هذه الواقعة التاريخية، وهي أنّه عندما اندلعت الثورة لم يكن من بين مفجِّريها!
وأخطر ما في هذه الفئات من 'أسرى الأوهام'، هم أسرى المعتقدات الدينية التاريخية والمواقف والآراء السياسية، لتأثيرهم المباشر على الصور الذهنية للناس ببناء آراء ومواقف على أوهام لا سندَ علميًّا لها، فعندما تحُدِّث شيعيًّا في واقع العلاقات بين إيران وجيرانها مثلا، أو سنِّيا في موقفه من الشيعة، ينتقلان بك رأسا إلى الأصول التاريخية لهذا الخلاف، رغم أن التاريخ تاريخ لا يمكن إعادته كما أشرنا، والحقيقة الماثلة بيننا هي أن الشيعة وخصومهم الذين نرى ونشاهد اليوم لا علاقة لهم بما مضى من التاريخ وحقائقه، فلا شيعة اليوم هم أنصار علي، ولا غيرهم يمثلون بني أمية.
وكذلك في الجانب السياسي فلا تزال الأمة أسيرة الجماعات والتنظيمات السياسية، من إسلاميين ويساريين وليبراليين وقوميين، رغم أن الواقع غير الواقع والزمن غير الزمن، ومن ارتضى لنفسه أن يبقى رهينة للوقائع والأحداث التاريخية، دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية، لا حظَّ له في البقاء والاستمرار في العيش؛ لأنه ربط نفسه بمراحل تاريخية وتحجَّج ببعضها أو حاول استنساخها والاهتداء بهديها، وطريقه إلى مزبلة التاريخ في تقديري أقربُ إليه من مرضاة الله يوم القيامة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الجمارك الجزائرية تحتفي بعيد الاستقلال : تقليد رتب وتكريم مجاهدين و مجاهدات من قدامى الجهاز
الجمارك الجزائرية تحتفي بعيد الاستقلال : تقليد رتب وتكريم مجاهدين و مجاهدات من قدامى الجهاز

الجمهورية

timeمنذ 10 ساعات

  • الجمهورية

الجمارك الجزائرية تحتفي بعيد الاستقلال : تقليد رتب وتكريم مجاهدين و مجاهدات من قدامى الجهاز

أشرف اليوم اللواء المدير العام للجمارك الجزائرية " عبد الحفيظ بخوش " على احتفالية خاصة بالذكرى ال63 لاسترجاع السيادة الوطنية تخللتها تقليد رتب وتكريم لمجاهدين ومجاهدات من قدامى الجهاز ، إضافة إلى تكريم فرق جهوية حققت عمليات نوعية خلال السداسي الاول من السنة الجارية سيما في مكافحة التهريب والمخدرات ، وذلك بالنادي الوطني للجيش. الاحتفالية حضرها مستشار رئيس الجمهورية " "المكلف بشؤون الأمن والدفاع بن عتو بومدين ، وبحضور وزير المالية " عبد الكريم بو الزرد " ووزير المجاهدين وذوي الحقوق العيد ربيقة ، واطارات سامية من المديرية العامة للدفاع الوطني ، ومن خلال كلمته بالمناسبة ، اعتبر اللواء الاحتفالية فرصة لتجديد العهد مع الوفاء للوطن، وللوقوف وقفة تقدير لكل من لبى نداء الواجب من أعوان وإطارات الجمارك عبر مختلف التراب الوطني، ولتثمين ما يبذلونه من جهود جبارة، لاسيما على مستوى الفرق العملياتية التي تقف في الصفوف الأولى لحماية الوطن من التهريب والجريمة الاقتصادية، وكل أشكال المساس بالاقتصاد الوطني وصحة وسلامة المواطن مضيفا أن المناسبة مفعمة بالاعتزاز العميق والولاء الصادق، خاصة مع عيد استرجاع السيادة الوطنية كذكرى مفصلية في تاريخ وطننا العزيز التي تخلدها الجزائر، شعبا ومؤسسات عرفانا البطولات وتضحيات رجال ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فثبتوا على المبدأ وواجهوا المستعمر بصبر وثبات وقدموا أرواحهم فداء للوطن مسترسلا أن الاحتفال هذه السنة يأتي في سياق وطني حافل بالديناميكية والتجديد في ظل التزامات الدولة الجزائرية تجاه الشعب ، وجهودها الرامية إلى التأسيس الجزائر قوية عادلة، ومزدهرة، تحت القيادة الحكيمة لرئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني كما تؤكد الجمارك بدورها إنخراطها الفاعل في مسار بناء الجزائر الجديدة عبر تحديث آلياتها، وتأهيل مواردها البشرية، وتكريس مبادئ الشفافية والنجاعة بما يعزز من مكانتها كجهاز سيادي و اقتصادي في أن واحد. ووقف اللواء ايضا عند الإنجازات التي حققتها الجمارك الجزائرية واستشراف التحديات المقبلة بوضع هدف سام قوامه مواكبة التحولات والانخراط الكلي في دعم التنمية الوطنية، وحماية مقدرات الوطن. وعرف القطاع – بحسب بخوش – قفزة نوعية في العديد من مساراته ،خاصة ما تعلق بتجسيد بادرة التحول الرقمي وكذا في مجالات التنسيق الميداني مع مختلف الهيئات الأمنية، بما يعكس صورة مؤسسة عصرية متفاعلة مع محيطها الوطني ، فالجمارك الجزائرية تضطلع بدور محوري في مواكبة هذا المسار الوطني الطموح، من خلال تحديث أدوات العمل، وتأهيل المورد البشري، وترسيخ مبادئ الشفافية والنجاعة، بما يعزز حضورها كمؤسسة سيادية واقتصادية مساهمة في بناء الجزائر الجديدة ولفت بالموازاة حرص جهازه على تثمين الموارد البشرية وترقيتها من خلال تقليد الرتب ايضا لمختلف الإطارات الإطارات الضباط والأعوان الذين تمت ترقيتهم إلى رتب أعلى داعيا إياهم إلى مواصلة مسار العطاء والتفاني في خدمة الوطن والمصلحة الجمركية، بكل التزام ومسؤولية محييا في الاخير اولاءك المرابطين على الحدود، في مواجهة ظواهر التهريب والجريمة الاقتصادية، والذين يسهرون على حماية مقدرات الوطن وسلامة مواطنيه بكل مسؤولية وتفانٍ

موقف المسلم إزاء سنة التدافع بين الحق والباطل.
موقف المسلم إزاء سنة التدافع بين الحق والباطل.

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 15 ساعات

  • إيطاليا تلغراف

موقف المسلم إزاء سنة التدافع بين الحق والباطل.

د. إدريس أوهنا نشر في 12 يوليو 2025 الساعة 12 و 00 دقيقة إيطاليا تلغراف أ.د. إدريس أوهنا على كل مسلم أن يقف موقفًا صحيحًا وقويا في التدافع الجاري بين الحق والباطل اليوم؛ وذلك بأن يلتزم بالآتي: (أولا) يعرف الحق وينصره بما يدخل تحت استطاعته ووسعه من أسباب، ويعرف الباطل وينكره ويقاومه بما يدخل تحت استطاعته ووسعه من أسباب كذلك؛ فإن النصر يتنزل على المؤمنين الآخذين بالأسباب لا على القاعدين، أو من يكتفون بالدعاء ويتركون ما بأيديهم من أسباب أخرى، أو من يقولون: كيف يقع هذا الظلم على أهل غزة ثم لا تتدخل الملائكة لحسم الأمر؟ أو ما شابه ذلك؛ فإنه مناف لمنطق السنن الإلهية، ومسقط لقانون التدافع بين الحق والباطل، قال الله عز وجل: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} محمد 4، وقال عز وجل: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنَ الله ذو فضل على العالمين} البقرة 249، وقال: {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} الحج 140. ثم إن المسلم عندما يعرف الحق وينصره، ويعرف الباطل وينكره بما تحت يديه من الأسباب، عليه أن يستحضر جملة أمور من بينها: الأمر الأول: أن يأخذ بالأسباب دون استعجال النتائج؛ كما جاء في آخر خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: 'وإن الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله؛ فإن الله عز وجل لا يَعْجل بعجلة أحد…'. الأمر الثاني: أن يركز المدافع للباطل -كيفما كان نوع هذا الباطل- على نجاحه هو أولا في امتحان التمحيص والابتلاء، وما الدنيا إلا دار ابتلاء: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وكما تجري سنة الابتلاء والتمحيص على المؤمنين، تجري سنة الإملاء والاستدراج على الكافرين والظالمين، قال تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} آل عمران 178. الأمر الثالث: أن لا يحقر في مسار التدافع بين الحق والباطل من المعروف شيئا، كمن يقل: ما جدوى الوقفات والمسيرات والبيانات والمقالات والتدوينات والمحاضرات والندوات والأشعار والمسرحيات والمقاطعات وما إلى ذلك؟ لو لم يكن لها أي جدوى لما قال صلى الله عليه وسلم: 'من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان'، ولاكتفى بالقول: 'من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.' ولم يزد عليها؛ إذ لا جدوى من التغيير باللسان والتغيير بالقلب على زعم من يدعي ذلك ويقول به. ولما قال كذلك: 'جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم'؛ إذ ما جدوى التغيير بالألسنة على زعم من ينفي أثرها وجدواها؟ فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ في بيان جدوى تلك الوسائل جميعها، وفي إثبات أثرها في الدنيا والآخرة. ولو لم يكن لتلك الوسائل والأسباب من أثر إلا الإعذار إلى الله تعالى ببذل ما في الوسع والاستطاعة تبرئة للذمة لكان لازما القيام بها، فما بالك أن لها آثارا نافعة بإذن الله تعالى لا تخفى إلا على من عميت بصيرته. الأمر الرابع: أن يعلم يقينا أنه مأجور على أخذه بالأسباب المقدور عليها بصرف النظر عن النتائج والمسببات التي تخضع لإرادة الله ومشيئته، فهو الذي يجريها متى شاء وكيف شاء، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف 21. (ثانيا) ألَّا يقف موقفًا متذبذبًا بين أهل الحق وأهل الباطل؛ محايدا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فإن ذلك من صفات المنافقين الذين قال فيهم الله عز وجل: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 143]. (ثالثا) ألَّا يغتر بكثرة أتباع الباطل، ولا يتأثر سلبا بذلك؛ فتضعف همته ويتسرب إليه اليأس والفتور، بل يلزم الحق وإن قل أهله ومناصروه، قال بعض السلف: 'عليك بطريق الهدى، ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا يغرنك كثرة الهالكين'. فقد أنبأنا الله تعالى في كتابه أن الباطل أكثر أتباعا من الحق، قال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله} الأنعام 116، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة، ومع ذلك ينبغي للمؤمن الثبات على الحق، ومدافعة الباطل، دون يأس أو فتور. (رابعا) ألَّا يقنط ولا ييأس إذا أصاب أهل الحق نكبة، أو علا صوت أهل الباطل حينًا؛ فإن العاقبة للحق وأهله. إيطاليا تلغراف الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف السابق فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زيادات جمركية بنسبة 35 % على كندا

فلسطين الحصن المنيع لاستمرار الأمة
فلسطين الحصن المنيع لاستمرار الأمة

أخبار اليوم الجزائرية

timeمنذ 17 ساعات

  • أخبار اليوم الجزائرية

فلسطين الحصن المنيع لاستمرار الأمة

مراصد إعداد: جمال بوزيان التضامن الإنساني والأخوي غير مشروط مع أهل غزّة.. فلسطين الحصن المنيع لاستمرار الأمة تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي مختلف المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ. ///// نحن ضد التهييج والتشكيك وضد التضييع والتفريط أ.زهير سالم إلى فضيلة الأخ الموقر المكرم المجاهد الأبي الشيخ كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة.. إلى الأخ الوفي الرشيد الذي ما غير ولا بدل وظل قويا وأمينا ومستشرفا.. والجواب على ما سألتم ما أجاب به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار يوم خاف بعضهم أو تخوفوا: بل الدم الدم.. والهدم الهدم.. ونحن أبناء الشام الكبير دمنا واحد وعهدنا واحد ومصيرنا واحد.. وذاك العهد الذي عاش عليه كل حر من أبناء الشام.. أيها الأخ الوفي الحبيب.. ولقد ذكّرتم بما لا ينسى ولقد ظلت رؤيتكم دائما هي الأوضح وكان حديثكم كالقطر يقع على قلوب أحبابكم السوريين الذين راعهم فجور الفجار وتغير الأغيار الذين غيروا وبدلوا وما زالوا…يطبلون ويشككون.. أيها الأخ الكريم الأحب.. يكتب إليك مواطن سوري- ويجير على المسلمين أدناهم- ظل يكتب منذ ستة عقود: أن فرق السنين بين نكبتنا في جنوب الشام ونكبتنا في شماله خمسة عشرا عاما فقط.. خمسة عشر عاما كانت بين 1948 و1963 وما كانت النكبة الثانية إلا للتغطية على الأولى وقد علمنا وكم وددنا أن الناس كلهم يعلمون.. النكبة واحدة والفرق في التوقيت.. وأن تغريبة أحرار الشام الأعلى مثل تغريبة أبناء فلسطين ستة عقود أو تزيد.. أيها الأخ الأعز الأغر الأبلج الأوثق.. لقد قرأت منشورك الناضح بالصدق والمتخوف بإشفاق وإخلاص.. وأحببت أن نتواصى بين يدي ما قرأت أو تعقيبا عليه.. وأن نحذر جميعا التهييج.. وقد سبق أن كتبت مقالي بأن نحذر التهييج قبل أربعة وعشرين ساعة من كتابتكم لمنشوركم المتخوف تخوف الناصحين.. كتبت مقالي احذروا التهييج تحذيرا وليس تخديرا وأنا أتابع فحيح أفاعي الولي الفقيه بين ظهرانينا من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. ويخطبون على منابرنا ويرفعون زورا ويهتانا عناوين الخوف علينا.. هم يا أخي الذين عرفناهم معا على مدى عقود هم الذين ما أكثر ما سمعناك على منبر الجمعة تفضحهم وتندد بهم وتكشف عوارهم.. نعم أيها الأخ الأحب إن من شأن المسلم إذا وجد أخا له قد تقدم أن يظل يدعو له: اللهم الهمه رشده.. اللهم ثبت قدميه واحفظه من بين يديه ومن خلفه.. وارزقه البطانة الصالحة تلهمه وتنصحه.. إن إرث ثورة السوريين الأحرار على مدى ستة عقود قد صارت الآن عهدة بيد الرئيس أحمد الشرع ومن ملفاتها الأولى ملف فلسطين. -من بحرها إلى نهرها- وملف القدس والأقصى.. وما يكون لنا أن نشك أو نتشكك لضوضاء يتعمد إثارتها.. عملاء نتنياهو من طرف وعملاء بشار المقاوم الممانع في الجولان وفي تل الزعتر وفي طرابلس مع عملاء مقاومي البيجر طبقا عن طبق.. من طبق آخر.. أيها الأخ الأغر أملنا بالله وثقتنا بالممارسين من قيادة هذه الثورة المنيفة: أن أمرنا كل أمرنا قد عاد إلي يد أمينة تحتاج إلى ثقتنا وإلى دعمنا وإلى تأييدنا وإلى تفهمنا وإلى صبرنا.. ومع كل ذلك تحتاج إلى حضورنا وقيامنا جميعا على قضيتنا بالحق.. لا نتشكك ولا نتخون.. ولا نغفل ولا نسترسل بل حضور واع وحرص أكيد.. فلسطين نحن جميعا أهلها. وأكتب دائما لا يمتحن سوري حقيقي على فلسطين لا على حيفا ولا على يافا ولا على عكا فهل يمتحن على القدس والأقصى؟! لا يمتحن شامي على عقيدته ولا مشروع رسالته.. والشعب السوري بدون تدمر ولا صيدنايا ولا فرع فلسطين.. أصبح اليوم أشد عزيمة وأكثر إصرارا.. ولكن أولياء الولي الفقيه يظلون يشككون ويزعمون أن سورية مع فرع فلسطين كانت أوفى لفلسطين إن سقوط بشار الأسد كان يعني سقوط الحصن الذي صنع هزيمة الخامس من حزيران في الخامس من حزيران أخي - وأنتم الأعلم- تحول الموقف العربي من موقع المطالبة بتحرير فلسطين إلى شعار: الأرض مقابل السلام. ومن مثلكم يتعلم طلاب العلم هذه الحقائق أعود فأؤكد أخي: نحن ضد التهييج.. وضد التشكيك وكذا ضد التضييع والتفريط.. أعاننا الله جميعا على أداء الأمانة وحمل اللواء. ///// كيف نأكل وننام.. وبغزّة يحدث ما يحدث؟ متى ستجد غزّة الصديق الحقيقي؟ أ.د.محمد عبد النور جاء في إصحاح سيراتش : إذا كنت ستتخذ صديقا أخبره أولا ولا تتعجل في إيلائه ثقتك إذ أن بعض الرجال هو صديق لمنفعته الذاتية ولن يلتزم فيه أوقات الشدة.. كذلك فإن بعض الأصدقاء هو رفيق مائدة الطعام ولن يستمر في صداقته في يوم المحنة.. وإذا حط بك الدهر فسيكون ضدك وسيختفي عن ناظريك…الصديق الوفي هو درع قوي: ومن وجد مثل هكذا صديق.. فإنه يكون قد عثر لنفسه على كنز لا شيء يعوض عن صديق وفي. وتروى قصة عن صديقين أدين أحدهما بسرقة لم يرتكبها ومع أنه كان بريئا إلا أنه حكم بأربع سنوات سجنا نام صديقه -الذي شعر بضيق شديد نتيجة لهذه الإدانة- على الأرض في كل ليلة قضاها صديقه في السجن إنه لم يرد التمتع برفاه النوم على فراش وثير وهو يعرف أن صديقه كان ينام على حصير أطلق سراح الصديق السجين في النهاية وبقي الاثنان صديقين إلى الأبد. كيف يمكننا تفسير هكذا سلوك ملغز؟ لماذا يكون الناس صداقات وتحالفات تعاونية مديدة؟ عمليا الأمر عندنا أمر غير ملغز لأنه يفسر بمفهوم الأخوة الدينية التي تتجاوز القرابة العصبية إلى المعتقد المشترك وإلى المعتقد الذي يوجب التعاون والإيثار بين أصحاب المعتقد المشترك. طرح ديفيد باس مسألة مهمة في القضية وهي أن الإيثار والتعاون القرابي أمر شبه طبيعي ومفهوم جدا لكن كيف يكون التعاون والإيثار بين الأصدقاء الذين ليست بينهم قرابة جينية حقيقية وكيف يتحمل هؤلاء الأصدقاء التكاليف الباهظة في إيثار بعضهم بعضا في ظل حضور الأنانية المتأصلة في النفوس؟ ذلك ما طرحه علماء الاجتماع الحيوي فيما سموه بمشكلة الغيرية أو قل مشكلة الإيثار الإيثار الذي يحصل من غير قرابة عصبية فهو أمر ملغز إليهم فُسر الأمر أولا بأنه إيثار متبادل أي أنه منفعة متبادلة تقوم على اعتبار الزمن المديد في التعاون -وليس التبادل الآني على الطريقة التجارية- وذلك هو الأساس العقلي والتجريبي للأخلاق الدينية باعتبارها أخلاقا تبادلية تقوم على حقيقة أن لا تبادلية القيم والأخلاق يعني انخرامها. فهو يعني أن الدين يقوم على اعتبار تبادل غير آني الأخلاق الدينية تبادلية لكنها غير آنية تقوم على مبدأ التعاون التداولي غير المباشر داخل الجماعة. فمساعدتي لشخص ما اليوم لا تعني أنه هو الشخص الذي سيساعدني يوما ما في المستقبل عند ما احتاج المساعدة أيضا لكن أفراد الجماعة التي أعيش داخلها لهم القيم الإيثارية نفسها التي أملكها وأن الذي يساعدني اليوم إنما كان تلقى مساعدة من شخص رابع يوما ما فالأمر دائري ومتشابك يقوم أساسا على الثقة المطلقة في الوفاء وفاء غير عيني فرديا لكنه وفاء في عين الجماعة التي أصرف فيها تعاوني وإيثاري. يسميه علماء السوسيولوجيا أيضا بـ معضلة السجين وهي في الواقع معضلة سجينين ذلك أن السجينين المتهمين المعزولين عن بعضهما يجب أن يحفظا سر بعضهما البعض بشكل مطلق حتى تتحقق مصلحتهما معا في البراءة وأن أسوأ سيناريو هو أن يثق أحدهما ويخون الآخر في الوشاية أو الاعتراف. وإنما الأزمة الحقيقية التي ستغرق فيها الجماعة عندما تنقطع سلسلة التعاون بين أفرادها وفي نموذج غزّة وهو انقطاع سلسلة التعاون بشكل عميق بين شعوب الأمة الواحدة التي قامت وحدتها على غير أساس قرابي وأن الحاصل فعلا في غزّة هو عزل الشعب الغزي عن محيطه بما هو أقسى من إبادته أو تجهيره فهي ضربة قيمية تنهي الصلة بين محيطها كما أنها ضربة فعليه بإنتاج إنسان غزي عاش لمدة عام ونصف وضعا سيجعله مختلف نوعيا عن محيطه الذي كان يفترض أنه منه وينتمي إليه إنسان لا تزول الآثار التي خلفتها عليه الحرب إلى غاية وفاته وكيف بنا إذا كانت جماعة تعدادها مليونان. لذلك فإن السؤال: ألم يكن ممكنا للشعوب المحيطة بغزّة والمنتمية إليها دينيا أن تتخلى عن الحياة ومظاهرها كما تخلى صديق السجين المظلوم عن نومه المعتاد أن تتشبه بها وتتقمص حالتها ولو في أدنى المظاهر إقلالا للنوم والطعام والعيش على الكفاف والعزوف عن المتع التوقف عن العمل والدراسة مثلا أن يكون احتجاجا عكسيا ما دام التظاهر الإيجابي لذاته ممنوعا في العالم العربي فقد كان يمكن وما يزال التظاهر السلبي بالانقطاع عن مزاولة الحياة العادية والعزوف عنها؟ وقد رأينا أن المقاطعة الاقتصادية لبعض منتجات تؤتي أكلها فكيف بإيقاف جميع مظاهر الحياة ذلك ما لن يستطيع أحد منعه منه. فالواضح أن ما يحدث بغزّة بالفعل يصيبنا بالقوة بمعنيين: رمزا متمثَّلاً أو فعلا مؤجلا أو كلاهما معا وعليه كان التصرف الغريزي الطبيعي وأمام السدود والعقبات الحاصلة بين شعب غزّة والشعوب المحيطة هو تقمّص الحالة الغزية وإعادة إنتاجها في كل بقعة من أراضي الإسلام عن طريق إنتاج كل مظاهر التخلي عن الحياة . ///// أيام تشهد على اغتيال الوعي الديني.. عاشوراء نموذجًا لانقلاب المواسم الدينية إلى مواسم رعب أ.د.الصالح شليحي في ظل تصاعد الحديث عن طقوس الشعوذة وخطف الأطفال خلال المناسبات الدينية تتراجع روح العبادة وتُستنزف طمأنينة المجتمع بين فوضى الإشاعات وتقصير التوعية. في هذه المواسم يفترض أن تتعالى الأرواح وتستنير العقول بنفحاتها لكن اليوم نرى أن الخُرافة تسحب البساط من تحت الطمأنينة الجمعية وتزجّ المجتمع في دوائر الخوف والوساوس. مناسبة عاشوراء بوصفها زمنًا ذا قداسة في الوجدان الديني الإسلامي تحوّلت إلى مساحة مشحونة بالذعر الشعبي حيث تختلط أخبار السحر الأسود باختطاف الأطفال وتُربط الطقوس الشعائرية بممارسات الشعوذة وتتعالى أصوات التحذير وأخذ الاحتياط في كل مكان. حتى غدا الحديث عن صيام هذا اليوم المبارك مقترنًا بعبارات: احذروا الأطفال لا تتركوهم وحدهم احموا المقابر . انفجار منصات التواصل الاجتماعي بأخبار أكثرها مزعومة حول اختطافات جماعية لأطفال يُستعملون في طقوس الشعوذة خلال المناسبات الدينية وتحديدًا في الليالي المرتبطة بعاشوراء أو العشر الأواخر من رمضان ساهم في ترسيخ عقلية الخوف من المناسبات بدل التعظيم لها. الخطير في الأمر ليس فقط اختلال أولويات الوعي الجمعي بل في غياب رد رسمي ثقافي وديني وأمني يعيد صياغة الخطاب ضمن معايير التبصير لا التهويل. تحت هذه الظروف تجاوز الخوف حدود الحيطة المعقولة ليتحوّل إلى ثقافة فرعية تنتشر في المجتمعات الهشة حيث تفسّر كل حادثة بربطها بقوى خفية وتُنسج القصص حولها بعبارات قاتمة: وجدوه مذبوحًا قرب المقبرة دون أدلة ولا توثيق. الإعلام الرسمي من جهته غالبًا ما يواكب هذه الأخبار بالسكوت أو يعيد نشرها دون تحليل أو تكذيب مما يكرّس الهاجس ويجعله من المسلّمات. في كل هذا الغبار تغيب المؤسسة الدينية عن أداء دورها الحيوي فلا خطب توعوية علمية ولا دروس دينية تُفكك هذه المرويات. يُترك المواطن فريسة بين تهويل غير مبرر ومؤسسات صامتة وبين منصات افتراضية تصنع رأيًا عامًا زائفًا يوظف الدين من جهة ويغذّي الخرافة من جهة أخرى. المناسبات الدينية التي خُصّت في النصوص الإسلامية بالتحفيز على الذكر والعبادة وصلة الرحم والعمل الخيري تتحوّل اليوم إلى نقاط مراقبة أمنية وتحذيرات عائلية جماعية. تتبدل القيم من التنافس في العطاء إلى التنافس في إغلاق الأبواب والتجسس على الجيران. وتُرسم صورة قاتمة لزمان يفترض فيه أن يكون من أنقى محطات العام. الخطر الحقيقي لا يكمن في وجود ممارسات شعوذة – وهي حتمًا موجودة – بل في التضخيم العشوائي لها وتوظيفها في ترويع العائلات وإخراج المجتمع عن سلم أولوياته. فبعض المنصات تبني أرباحها على مثل هذه القصص. وهناك حسابات تستثمر في الخوف وتستقطب تفاعلًا عاليًا من خلال سرديات غير محققة تخلق توترًا مجتمعيًا دون مساءلة قانونية. إن الأمن المجتمعي ليس فقط في عدد الدوريات بل في ترشيد الوعي وضبط المخيال. ومحاربة السحر لا تكون بزرع الرعب بل بتجفيف منابعه وتفكيك أسبابه وتعزيز دور المؤسسات الدينية والتعليمية في ترسيخ اليقين العقلي لا الاستسلام للوساوس. من جهة أخرى وجب ألا تَغفل السلطات المختصة عن تتبع الحسابات والصفحات التي تنشر هذا النوع من المحتوى. ليس من باب القمع بل من باب حماية الوعي العام من التحول إلى سوق سوداء للخرافة. هناك خيط رفيع بين التوعية بالخطر والترويج له. وبين كشف الحقيقة وصناعة الرعب. المدارس والمساجد والجمعيات الدينية والثقافية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تُعيد رسم معالم الخطاب المتعلق بالمناسبات الدينية وأن تستعيد هدوء المجتمع. فبدل خطب تحذر من السحر طيلة الوقت لم لا تكون هناك دروس تحفّز على الصيام والأجر والمحبة وتعليم الأبناء القيم النورانية لهذه المحطات الزمنية؟ الإعلام أيضًا شريك في إعادة التوازن. فتغطية المناسبات لا يجب أن تُختزل في تقارير عن حوادث غامضة. لا بد من محتوى يقدّم المعنى يشرح الفضل ويؤسس لرؤية تربط الزمن المقدّس بالعمل الصالح لا بالخوف من الظلام. في دول عديدة ترتبط المناسبات الدينية بتكثيف العمل التطوعي ومبادرات مجتمعية مشتركة كإطعام الصائم وحملات النظافة ومشاريع الوقف لا بمشاهد القبور في آخر الليل وكمّامات المشعوذين. الطفل الذي يفترض أن يَحيا أيام عاشوراء في ظل تعاليم دينية كالصيام وتعلم القصص القرآني وربط الذاكرة التاريخية بنجاة موسى عليه السلام يجد نفسه موضوعَ تحذير ضحية توجس جماعي من الظلامي الغامض بدل أن يكون محور الرجاء ونقطة التأسيس لمجتمع أكثر وعيًا ونقاءً. التحولات الرقمية وسرعة انتشار المعلومة تفرضان على الدولة بمؤسساتها كافة أن تتقدم خطوة في تأطير هذا النقاش عبر خطاب رسمي ديني وأمني وإعلامي يملأ الفراغ ويقطع الطريق على سماسرة الرعب. لا يُمكن ترك الذاكرة الجمعية تُعاد برمجتها كل عام وفق خريطة حسابات تلهث وراء التفاعل والربح او لاعتبارات أعمق وأخطر على حساب قيم راسخة في الثقافة الإسلامية. فالمواسم عند المسلمين كانت مواسم أمل لا قلق. ومواسم اجتماع لا انقسام. الوقوف أمام هذه الظاهرة لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة بل إلى رؤية واضحة وتنسيق فعّال بين الفاعلين الدينيين والأمنيين والتربويين. لا بد أن تعود عاشوراء لتكون يومًا تعليميًا تعبّديًا تضامنيًا. وألا نسمح أن تُختطف أرواح أطفالنا بين مشعوذ في مقبرة وآخر خلف شاشة يروّج للغيب الكاذب. المعركة الحقيقية اليوم هي معركة وعي لا معركة أشباح. ومن لا يدرك خطورة تسليم الوعي الشعبي للخرافة سيفاجأ يومًا بأن الفوضى لا تبدأ دائمًا من الرصاص.. بل من الإشاعة. ومع هذا لا بد من الأخذ بأسباب الحيطة والحذر في كل حين التزاما بطاعة الأخذ بالأسباب في ديننا الحنيف. ورحمة الله على كل ضحايا هذه الخطط الشيطانية التي لن يُمكِّن الله لها في أرض الإسلام الجزائر. حقوق النشر © 2024 أخبار اليوم الجزائرية . ة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store