
البحث الاكاديمي العربي: متى نغادر الأطلال؟
بالقياس إلى غالبية الجامعات العربية، فإنّ ما ينجز من أطروحات جامعية عليا (على الأقل في أقسام العلوم الاجتماعية والإنسانية) يأتي في إطار الهوامش، أو المثاقفة الجوفاء، أو الاستخدامات اللغوية الشائعة، أو الأحكام الفقهية التي استقر عليها الوعي الديني، وما عاد البحث فيها والخوض في مائها يقدم إضافة نوعية إلى السلوك العام لطائفة المؤمنين.
قبل سنوات، أعلنت جامعة كامبريدج عن نيتها منح درجة الدكتوراة لأحد الباحثين، الذي كُلف بالعمل على مشروع علمي متخصص يهدف للمحافظة على قوام قوالب الشوكولاته بحالتها الصلبة في المناطق ذات المناخ الحار.
عمل، بلا ريب، يخدم البشر، وينفع الناس، ويبقى في الأرض، رغم أنه يتصل بموضوع قد لا تعتبره جامعاتنا ذا أهمية أو جدوى؛ فهي، جلها، مشغول بالأطروحات الجامعية التي تتحدث عن قضايا تنخرط في إطار اللهو العقلي، وثمة أقسام للغة العربية ينهمك طلبتها في البحث عن استعمالات "حتى" أو "لو" وسوى ذلك من موضوعات لا تنتسب إلى الترف بمقدار انتسابها إلى تصنيع العجز، ووضاعة التفكير، وقلة حيلة الباحثين والمشرفين عليهم.
العلم ما نفع
طلاب في امتحان الجامعة اللبنانية (خدمة الجامعة اللبنانية)
ويروى عن الإمام الشافعي قوله "ليس العلم ما حفظ، إنما العلم ما نفع"، ما يستدعي ربط الأطروحات الجامعية بحاجات المجتمع. فالجامعات العريقة تنسق مع الحكومات والقطاع الخاص، لربط البحث العلمي بمتطلبات الحياة والمجتمع وحاجات السوق، وهذا يبدأ من الشكولاته، ولا ينتهي بالثقافة والفنون والدراسات الاجتماعية السبرية للبطالة (تصل نسبتها بين الشباب العربي 30 في المئة) والعطالة والفقر، ودوافع الانتحار والتمييز الجندري، وكيفية الاستفادة من ثورة الذكاء الاصطناعي، لا لكتابة الأبحاث في نصف ساعة، بل لتوظيف هذه الطاقة العبقرية في إنتاج معرفة تقلل نسبة الغباء فيما نفعل أو ما نقول.
عند إنشائها عام 1913 حددت مؤسسة "روكفلر" الأميركية (Rockefeller Foundation ) رسالتها بأنها تهدف إلى تعزيز ارتقاء البشر في جميع أنحاء العالم، وأنّ قاعدتها المعرفة، وأنها تلتزم بالعمل على إثراء حياة الفقراء والمهمشين في العالم بأسره ودعم معيشتهم. لهذا قامت المؤسسة التي أنفقت زهاء ربع مليار دولار أعمالها الخيرية، من ضمنها تأسيس مدرسة جونز هوبكنز للصحة العامة، ومدرسة هارفارد للصحة العامة، وهما وفق "ويكيبيديا"، اثنتان من أوائل مدارس الصحة العامة في الولايات المتحدة.
وساعدت "روكفلر" في تطوير لقاح الحمى الصفراء، وأتاحث المجال لاحتضان العلماء المضطهدين في بلدانهم، وأفسحت لعقولهم أن تشع في مناخ من الابتكار والتخطي.
النسبة الضئيلة
الأرقام الآتية من مراكز الأبحاث تشير إلى أنّ نسبة الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي، لا تتعدى 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أنّ وعياً جديداً بدأ يتبلور في دوائر صنع القرار العربي بأنّ البحث العلمي هو خشبة النجاة، في عالم تقل فيه الموارد التقليدية وتشع الأفكار التي تبحث عن موارد بديلة، وأكثر إنتاجية، وأشد رفقاً بالبيئة والطبيعة والجهد البدني البشري. جَلد الذات إلى حد إسالة الدم لا يجدي نفعاً، لذا فإنّ تأمل انبعاث النهضة العربية (المتأخرة) في الإنفاق على البحث العلمي، بمقدار الإنفاق على الجهود العسكرية، ربما يقود إلى أن تغيّر الجامعات العربية أولوياتها وتتجه في أبحاثها إلى ما ينفع ويحسن حال الدول والمجتمعات، لأنّ تعريف المعرّف وإعادة شرح "لامية العرب" للشنفرى، والنبش في التاريخ لإثبات أنّ عالِماً عربياً قبل ألف سنة اكتشف علاجاً للسرطان، هو من قبيل إضاعة الوقت، وعدم الإحساس بالقوة الضاغطة للزمن.
الأرقام الآتية من كوريا الجنوبية تفيد بأنّ نسبة نفقات البحث والتطوير في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 4.96 في المئة. ونستذكر كوريا الجنوبية لأنها تنتمي (أو كانت) لما يسمى العالم الثالث، وكانت إلى ما قبل سبعة عقود من أفقر البلاد في آسيا، وبلغت آنذاك نسبة الأمية فيها أكثر من 90 في المئة من السكان، وكانت، وكانت.. وكل ما كانته من شأنه أن يثبط العزائم، ويمنع الهمم من الوثوب، لكنّ الدولة الخارجة من الحروب والاحتلالات التي أنهكتها، أنفقت في عام واحد أكثر من 21 مليار دولار على مشروعات البحث والتطوير. وقررت أخيراً أن تستثمر زهاء 410.4 مليون دولار أميركي، في قطاع واحد فقط، وهو تطوير التكنولوجيا الحيوية الأصلية، كما نقلت وكالة الأنباء الكورية "يونهاب" عن وزارة العلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتخطط الوزارة لتخصيص نسبة كبيرة من هذه الموازنة في مشاريع البحث والتطوير التي تركز على الأدوية الجديدة والمعدات الطبية والطب التجديدي، وكذلك تطوير التقنيات الاستراتيجية الأساسية للبيولوجيا، بما في ذلك البيولوجيا التركيبية وعلم الأعصاب المتقدم، وإنشاء منظومة للأبحاث الرقمية.
كوريا الجنوبية محاطة بالتهديدات الوجودية المباشرة، لكنها لم تهدر مواردها في سبيل التسليح والعسكرة، كما يحدث في بلاد أخرى كثيرة، بل ظلت تعمل وتبتكر وتنافس وتفرض شخصيتها، وهذا خير وسيلة للدفاع عن الذات والوجود.
النموذج الكوري الجنوبي مغرٍ جداً للمقاربة، والاستفادة من التجربة المشعة، لاسيما في مجاليْ التعليم والزراعة، فهاتان المعضلتان كانتا علة البلد الفقير، وأصبحتا خلال عقود قليلة واحدة من روافعه الشاهقة. لقد أدركت هذه التجربة العبقرية أن إطعام الأفواه وإشباع العقول يسيران بشكل متواز. وتلك كانت الشرارة التي قدحت نار التحدي.
تلك بلاد نهضت، لأنها حدقت في المستقبل فأدركته وانخرطت فيه وأبدعت ونافست، ولم تُطل النظر في المكان، ولم تنصب على أطرافه خيام الحنين، والشوق إلى زمن كانت شمس المعرفة تشرق من ضواحيه. الشمس انحسرت الآن عن تلك الحضارة، كما هو حال الأزمنة المتبدلة. ومن الأجدى أن نغادر الأطلال ونسكن في المستقبل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
الطلبة السعوديون في «هارفارد» يحتفلون بتخريج 50 مبتعثاً من جامعات أمريكية
/*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;} نظّم الطلبة السعوديون في جامعة هارفارد، في مقر الجامعة في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الجمعة الماضية، احتفالاً بتخريج 50 مبتعثاً ومبتعثة من جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) ضمن «مسار الرواد» في برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، إضافة إلى جامعتَي بوسطن وتافتس ضمن «مسار التميز». وقالت الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الدكتور تهاني البيز إن هذا الإنجاز يأتي ثمرة لإستراتيجية برنامج تنمية القدرات البشرية، معبرة عن اعتزازها بما حققه الطلبة السعوديون من منجزات علمية وبحثية في مؤسسات أكاديمية عالمية. أخبار ذات صلة من جهته أوضح رئيس النادي السعودي في جامعة هارفارد عبدالله الدوسري أن تخصصات الخريجين شملت؛ الصحة العامة، القانون، الإدارة العامة، بيولوجيا الفم، الهندسة، والتقنيات الحديثة، مشيراً إلى أن النادي كثّف من أنشطته خلال العام، عبر تنظيم فعاليات أكاديمية وثقافية، وأسهم في بناء جسور معرفية بين المملكة وأرقى مراكز البحث والابتكار في العالم.


الرياض
منذ 2 ساعات
- الرياض
من جامعات أمريكيةالطلبة السعوديون في جامعة هارفارد يحتفلون بتخريج 50 مبتعثًا
نظّم الطلبة السعوديون في جامعة هارفارد، في مقر الجامعة في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الجمعة الماضية، احتفالًا بتخريج 50 مبتعثًا ومبتعثة من جامعتي هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) ضمن "مسار الرواد" في برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، بالإضافة إلى جامعتي بوسطن وتافتس ضمن "مسار التميز". وقالت الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الدكتور تهاني البيز: "إن هذا الإنجاز يأتي ثمرة لإستراتيجية برنامج تنمية القدرات البشرية، معبرة عن اعتزازها بما حققه الطلبة السعوديون من منجزات علمية وبحثية في مؤسسات أكاديمية عالمية". من جهته أوضح رئيس النادي السعودي في جامعة هارفارد عبدالله الدوسري, أن تخصصات الخريجين شملت: (الصحة العامة، القانون، الإدارة العامة، بيولوجيا الفم، الهندسة، والتقنيات الحديثة)، مشيرًا إلى أن النادي كثّف من أنشطته خلال العام، عبر تنظيم فعاليات أكاديمية وثقافية، وأسهم في بناء جسور معرفية بين المملكة وأرقى مراكز البحث والابتكار في العالم.


الشرق الأوسط
منذ 10 ساعات
- الشرق الأوسط
دراسات جديدة تنفي وجود مؤشرات على حياة في كوكب «K2-18b»
فيما كان يُعدّ بارقة أمل في رحلة البحث عن حياة خارج كوكب الأرض، جاءت نتائج 3 دراسات علمية مستقلة لتطفئ الحماسة التي أثارها إعلان سابق عن رصد محتمل لمؤشر بيولوجي على كوكب بعيد يُعرف باسم «K2-18b». وكان علماء فلك قد أعلنوا في أبريل (نيسان) الماضي عن اكتشاف مثير للانتباه، أشار إلى احتمال وجود مركب كيميائي في الغلاف الجوي لذلك الكوكب، يُعرف بثنائي ميثيل الكبريتيد، لا يُنتج على كوكب الأرض إلا عبر الكائنات الحية. غير أن تحليلات لاحقة قام بها باحثون من جامعات مرموقة، من بينها جامعتا «أريزونا» و«شيكاغو»، توصلت إلى نتيجة مغايرة تماماً: «ليس هناك دليل قوي ومقنع على وجود هذا المركب، ومن ثم لا مؤشرات حقيقية على وجود حياة هناك»، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز». وقال لويس ويلبانكس، الباحث في جامعة ولاية أريزونا، وأحد معدّي إحدى هذه الدراسات: «الادعاء بوجود حياة هناك يتلاشى تماماً». وكان فريق بقيادة الدكتور نيكو مادوسودهان من جامعة كامبريدج قد استخدم تلسكوب «جيمس ويب» الفضائي لرصد الغلاف الجوي للكوكب «K2-18b»، الذي يبعد نحو 120 سنة ضوئية عن الأرض. وتضمنت نتائجهم إشارات ضئيلة لمركب ثنائي ميثيل الكبريتيد، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في المجتمع العلمي؛ نظراً لأن هذا المركب لا يُعرف على الأرض إلا كونه مخلفاً بيولوجياً للكائنات الحية الدقيقة في المحيطات. ورغم ترحيب المجتمع العلمي بالحذر العلمي الذي أبداه الفريق، سارع باحثون آخرون، من ضمنهم الدكتور رافائيل لوكي من جامعة شيكاغو، إلى التحقق من صحة البيانات، ومراجعة نتائج التحليل بأنفسهم. وكانت خلاصة دراساتهم أن الإشارات المرصودة يمكن تفسيرها بوجود مركبات أخرى غير بيولوجية، مثل البروباين، وهو غاز يُستخدم في الصناعات، ولا علاقة له بالكائنات الحية. وفي دراسة قادها الدكتور ويلبانكس، قام الفريق بتحليل بيانات الغلاف الجوي للكوكب وفق فرضية بديلة، درسوا فيها 90 مركباً محتملاً يمكن أن تُفسّر الإشارة المرصودة، وتبين أن أكثر من نصف هذه المركبات، وعددها 59، يمكن أن تفسّر الإشارة دون الحاجة إلى وجود حياة بيولوجية. من جانب آخر، ردّ فريق كامبريدج بتحليل موسّع شمل 650 جزيئاً، وأعاد تأكيد أن ثنائي ميثيل الكبريتيد لا يزال من أقوى المرشحين. لكن ذلك لم ينهِ الجدل، بل زاد من حدّته. وقال الدكتور ويلبانكس تعليقاً على ذلك: «في الواقع، هذه الدراسة تُفنّد نفسها بنفسها». في خضّم هذا الجدل، يترقّب المجتمع العلمي النتائج المنتظرة لفريق بقيادة الدكتور رينيو هو، من مختبر «الدفع النفاث» التابع لوكالة «ناسا»، الذي أجرى قياسات إضافية باستخدام الأشعة تحت الحمراء. ويتوقع أن تقدم هذه البيانات، التي توصف بأنها أكثر تفصيلاً، وضوحاً حاسماً بشأن طبيعة الغلاف الجوي للكوكب «K2-18b». وقال الدكتور جاكوب بين، من جامعة شيكاغو: «إن البيانات الجديدة قد تكون حاسمة». وأضاف: «العلم يعمل كما يجب. نحن على مشارف الحصول على إجابة واضحة». ورغم أن الآمال في العثور على حياة خارج الأرض قد تلقّت ضربة جديدة، فإن العلماء يؤكدون أن كل اكتشاف -حتى لو كان نفياً- يقربنا خطوة من الإجابة عن أحد أقدم الأسئلة في تاريخ البشرية: هل نحن وحدنا في هذا الكون؟