
إقفال المعابر غير الشرعية مع سوريا: ضربة لاقتصاد لبنان أم فرصة؟
جاء التهريب بالازدهار للمناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، وهو ما لم تحققه وعود "الإنماء المتوازن" والخطط الحكومية التي بقيت حبراً على ورق وجهة نظر شريحة واسعة من أبناء منطقة وادي خالد في أقصى عكار شمال لبنان، ففي تلك المنطقة لا تزال البنى التحتية بدائية، ولا تزال الطرق بأكثرها ترابية، حيث يستخدم الأهالي في تنقلاتهم الدراجات الجبلية، وبدأ كثير منهم الاستغناء عن الزراعة المكلفة لمصلحة العمل على المعابر.
ويعد التهريب في تلك المنطقة "ظاهرة تاريخية"، فليس بالجديد انتقال الأشخاص عبر المعابر غير النظامية ومن دون تفتيش، وهو ما تفرضه طبيعة المنطقة الجغرافية وتسهله العلاقات الاجتماعية والروابط العائلية، كما أنه جاء نتيجة طبيعية لبحث الإنسان عن سد تأمين مورد دخل ثابت وسد حاجاته الأساسية، فاستغل الناس قرب المسافات، ونصبوا على النهر ألواحاً خشبية سموها جسوراً لتسهيل العبور.
في تلك المنطقة لا يجيد السكان إخفاء الأمور، فهم يتحدثون بالحقائق كما هي، إذ يستثمر الأكثرية الفرصة المتاحة لكسب رزقهم، وجاء انهيار نظام البعث السوري، وقصف المعابر النظامية بين لبنان وسوريا لتوسيع حدود تلك الفرص مع رغبة جامحة لدى الناس لزيارة سوريا والاطلاع على الأوضاع بعد هرب بشار الأسد وعائلته ومساعديه إلى موسكو، وشكلت مرحلة الأحداث الساحل السوري، محطة في تزخيم المعابر غير النظامية، إذ دخلت ما يزيد على 20 ألف نازح عبر سهل عكار وحدها نحو لبنان، إذ يقيمون لدى أقاربهم في القرى ذات الغالبية من الطائفة العلوية.
رحلة ممتعة وآمنة
خلال عطلة عيد الفطر شهدت المعابر غير النظامية بين لبنان وسوريا حركة ناشطة، إذ غادرت عائلات سورية لبنان لتمضية فرصة العيد بين أهاليهم والعائدين، كما قصد لبنانيون سوريا للتنزه، واستكشاف الأحوال هناك، والتجوال على ما تبقى من أسواقها القديمة، ومقومات الحياة فيها.
تصف الشابة آية رحلة العائلة إلى حمص بـ"المريحة" و"الممتعة"، وتروي على بعد مئات الأمتار من أحد مراكز الأمن العام اللبناني في عكار أنها عبرت إلى سوريا من خلال معبر يقع مقابل "كازية أم جامع"، إذ "دفعنا 70 دولاراً للمسؤول عن المعبر لأننا سيارة عائلية، ومن ثم عبرنا على طريق ترابية إلى الجانب السوري". وتضيف "بعد نصف ساعة فقط كنا في قلب مدينة حمص، بينما كنا نحتاج إلى سبع ساعات من أجل التوجه من الشمال إلى معبر المصنع، ومن ثم تحمل الإجراءات الروتينية، وقطع مسافة طويلة، وبالتحديد هذا السبب الذي دفعنا لتفضيل معبر وادي خالد"، مشيرة إلى أنه "عندما أصبحنا في الأراضي السورية، كان عناصر قوات الأمن العام السوري في غاية التهذيب معنا، وكانوا يوجهون إلى عدم تفتيش النساء وتسهيل حركة القادمين من طرابلس بسبب المعاملة الحسنة التي لقيها السوريون أثناء إقامتهم في تلك المنطقة لبنان".
من جهته يتحدث عامر عن ذهابه لتفقد أملاكه في سوريا، إذ عبر إلى هناك رفقة العائلة لقضاء فرصة العيد، وقد اضطر إلى العبور سيراً على الأقدام، قبل التوجه إلى حمص وباقي المناطق السورية من خلال سيارات موجودة على الطرف الثاني للحدود، مشدداً على أنه "ما كان للعائلة أن تعود وترى أملاكها مجدداً لولا سقوط نظام البعث في سوريا"، ويلفت إلى أن الرحلة كانت منتجة، إذ زار محافظات سورية عدة من حمص إلى حماة وحلب، وحالت الظروف دون التوجه إلى درعا.
حدود واسعة
على طول 378 كيلومتراً تمتد الحدود البرية بين لبنان وسوريا، ومن أجل ضبطها تتوزع من الجانب اللبناني 40 برج مراقبة متطورة، تديره قوة الحدود البرية، إلا أن الأعداد غير كافية وهو يجعل أعمال التهريب ميسرة وسهلة، وفي منطقة عكار، يتولى فوج التدخل البري الأول مراقبة وضبط 110 كيلومترات من الحدود على امتداد 56 بلدة لبنانية.
في الآونة الأخيرة انشدَّت العيون إلى منطقة سهل عكار بوصفها النقطة الرئيسة التي دخل من خلالها آلاف النازحين من قرى الساحل السوري وحمص إلى القرى الحدودية، مستفيدين من أواصر القربى وسهولة التضاريس، فيما تزدهر عمليات نقل البضائع شمالاً في وادي خالد.
ويؤكد العارفون بالمنطقة أن تداخل الحدود اللبنانية والسورية، يجعل "عمليات الضبط غير ممكنة إطلاقاً" على رغم الجهود التي يقوم بها الجيش اللبناني، إذ أوقف في الثالث من أبريل (نيسان) الجاري 192 سورياً حاولوا التسلل إلى لبنان بصورة غير نظامية، في المقابل نشرت صفحة "وين الدولة" عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لتهريب آلاف غالونات البنزين إلى سوريا في شاحنات "بيك أب" صغيرة عبر الحدود اللبنانية – السورية.
تؤكد أوساط مطلعة على أمن المعابر النظامية في شمال لبنان أنه بعد استهدافها في الـ26 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 تعرضت تلك المعابر إلى أضرار كبيرة، وهي لا تزال مغلقة حتى يومنا هذا، سواء كان معبر العبودية، العريضة، أو حتى البقيعة، مضيفة أن "معبر العريضة تمت صيانته وجاهز للافتتاح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى معبر العبودية الأقل تضرراً بانتظار قرار حكومي، وقيام الجانب السوري بتأهيل وصيانة المركز في الجانب السوري بعد تعرضه للتكسير والنهب عقب سقوط النظام السابق، وربما يحتاج ذلك إلى وقت لدعمه لوجيستياً، إضافة إلى تأهيل الجسر للعبور بين البلدين".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل تنتشر أحاديث بين الأهالي عن توجه لإغلاق معبر البقيعة في وادي خالد، بسبب عدم رغبة الجانب السوري باستمرار، والاكتفاء بمعابر العريضة والعبودية، وتحذر الأوساط الأمنية اللبنانية من أخطار تركيز حركة العبور على المعابر غير النظامية، "لأنه في الأحوال الطبيعية كانت العربة تمر وتتعرض للتسجيل والتفتيش عبر نقطة الجمرك اللبنانية، قبل وصولها إلى الأمن العام، حيث مزيد من التدقيق ومنح الأذونات، ومن ثم الدخول إلى الجانب السوري للحصول على إذن الدخول، ومن ثم رقابة الجمارك السورية"، فيما لا تخضع المعابر غير النظامية لهذه الاحتياطات الأمنية.
من الجانب السوري للحدود، يتحدث سلمان مشرف على أحد المعابر قرب منطقة الشيخ عياش لـ"اندبندنت عربية" عن دورها في تخفيف وطأة أزمة الوقود في سوريا، إذ تدخل صهاريخ الغاز والبنزين، ويتخوف من "أخطار جمة تتعرض لها المنطقة بسبب تجميع الآلاف من غالونات البنزين بسعة 10 ليترات على طول المناطق الحدود، وأي شرارة نار قد تؤدي إلى كارثة بسبب كثافة عبور، وتصدير البنزين من دون معايير الصحة"، لافتاً إلى أن "الجغرافيا تسهم في ازدهار المعابر، إذ يكفي للمسافر العبور على ألواح خشب فوق النهر، ليدخل إلى الجانب السوري".
ويقوم مسؤول المعبر بتأمين العابر بوسائل النقل، إذ يؤمن له الانتقال بواسطة النقل العام إلى حمص لقاء 10 دولارات، وإذا أراد سيارة كاملة يمكنه استئجار سيارة لقاء 50 دولاراً، لافتاً إلى أن "الربح ضئيل لأن سعر صفيحة البنزين في سوريا 20 دولاراً، أما في لبنان 15 دولاراً، ولكن الطلب في ازدياد لأن حركة النقل ازدادت كثيراً بسبب عودة أعداد كبيرة"، و"يُتوقع تراجع تدريجي لأعمال تهريب البنزين من لبنان بسبب ضخ النفط ونقله من الشرق السوري إلى مصفاة حمص، مما ينذر بحلول مستقبلية ممكنة".
في قلب اقتصاد التهريب
يعتبر التهريب مورد دخل لسكان المناطق الحدودية بين البلدين، فيما تتحدث بعض التقارير الإعلامية عن أن الجزء الأكبر من النشاط التجاري بين لبنان وسوريا يكون اليوم عبر المعابر غير الشرعية.
هذا التهريب ليس بالجديد بحسب الخبير الاقتصادي بلال علامة، إذ يستغل الأهالي التداخل من أجل نقل البضائع بين طرفي الحدود والاستفادة من فارق الأسعار.
يقر الدكتور علامة أن هذا النوع من التبادل بمثابة النشاط غير الرسمي ويصنف غير شرعي، ويعتبر أنه ذو تأثير محدود في الاقتصاد في حال استمر على النطاق الضيق واقتصر على المناطق المتداخلة، ولتأمين الاستهلاك الفردي المحدود، إلا أن تجاوزه تلك الحدود يصبح ضاراً بالاقتصاد الوطني. من هنا، يتحدث علامة عن تجارة غير شرعية منظمة تديرها شبكات تهريب، وتعمل على تأمين حاجات دولة من سلع معينة على حساب دولة أخرى ومدخراتها. وهو ما تعرضت له الساحة اللبنانية خلال السنوات القليلة الماضية، إذ نشطت عمليات تهريب السلع المدعومة من مصرف لبنان نحو الداخل السوري، من ربطة الخبز وصولاً إلى الدواء، بغية تخفيف الخناق المفروض على النظام السوري السابق بموجب قانون قيصر.
تؤدي تلك الأنشطة إلى خسارة البلاد لمداخيل كبيرة للخزانة على شكل فوات فرص وخسارة الرسوم والضرائب المهدورة، ويتطلب الأمر تدخلاً من السلطة المركزية للحد من تلك التجاوزات التي تتخذ الطابع المنظم. ويشدد علامة على ازدهار التهريب في مختلف دول العالم في ظروف معينة وفي مناطق محددة قد تكون بعيدة من المركز، ولكن تسعى الدولة إلى تقييده ومنع اتساعه أو الوقوع في شرك الجريمة المنظمة والتجارة غير الشرعية.
المعبر الوحيد
يؤكد المتخصص العسكري أكرم سريوي أن عوامل تاريخية وجغرافية وسياسية أسهمت في تجذر المعابر غير النظامية قائلاً "هناك أسباب عدة منعت ضبط الحدود البرية في المرحلة السابقة، أهمها عدم توافر الإمكانات الكافية لدى الجيش اللبناني، فالطبيعة الجبلية الوعرة تحتاج إلى عدد كبير من العناصر، والتجهيزات الفنية، إضافة إلى أن الجيش السوري أيام النظام السابق، كان يرعى عمليات التهريب"، متابعاً أن العلاقة التي كانت قائمة مع "حزب الله" الذي كان لديه عدد كبير من المقاتلين في سوريا وكانوا يتنقلون بين البلدين عبر معابر غير شرعية، وليس هذا وحسب، فالتداخل السكاني في عدة مناطق حدودية "سمح بتجذر عصابات التهريب، بخاصة في ظل تراجع سلطة الدولة على تلك المناطق".
تشكل سوريا المعبر البري الوحيد للبنان نحو الدول العربية وتركيا، ويسلط سريوي الضوء على تحول بعض النقاط الحدودية، إلى "مراكز نشطة ومهمة للتجارة وتبادل السلع، لعبت دوراً مهماً في تنشيط الدورة الاقتصادية"، مستدركاً "لكن خروج الأمور عن سلطة الدولة، وانتشار جماعات تهريب مسلحة، وتدهور الوضع الاقتصادي في سوريا جراء العقوبات، جعل المناطق الحدودية منافذ للنظام السوري للتفلت من العقوبات، وتجارة الكبتاغون، وتهريبه عبر لبنان إلى دول عربية وغير عربية"، لافتاً إلى أن الضرر الأكبر حدث للبنان جراء تهريب المواد المدعومة، من وقود وسلع غذائية، وتهريب الدولارات إلى سوريا.
ملف على الطاولة
في زيارتها الأخيرة، طرحت المندوبة الأميركية مورغان أورتاغوس ملف ضبط الحدود اللبنانية – السورية في المنطقة الشمالية أي عكار، والشرقية في البقاع والهرمل، ويضع سريوي هذا الاهتمام الأميركي بموضوع الحدود البرية في إطار النظرة العامة إلى مستقبل لبنان وموقعه في السياسة الأميركية، إذ يقول "اتضح من الزيارة الأخيرة للمبعوثة الأميركية أن الولايات المتحدة تولي اهتماماً خاصاً للبنان، وفي أكثر من ملف، بدءاً من الشأن الأمني والمطالبة بنزع سلاح 'حزب الله'، وتشكيل لجان فنية للتفاوض المباشر وبحث مسائل أمنية وحدودية واقتصادية مع إسرائيل، وصولاً إلى مطالبة بالإصلاحات المالية والإدارية ومكافحة الفساد وغير ذلك".
ويتجلى هذا الاهتمام الأميركي المتزايد، حسب سريوي من خلال "الإلحاح على تنفيذ المطالب الإصلاحية وبسط سلطة الدولة، يوضح أن أميركا التي تبني قرب بيروت، واحدة من أكبر سفاراتها في العالم، تريد أن يدخل لبنان مرحلة جديدة من الاستقرار والتعافي، الذي يسمح لها بجعله مركزاً مهماً لعملها في منطقة الشرق الأوسط". ليخلص إلى أنه "انطلاقاً من هذه الرغبة الأميركية يمكن فهم اهتمام أورتاغوس بمسألة الحدود البرية، وضبط المعابر بين لبنان وسوريا، ويبدو أن واشنطن تدرك أن الوضع في سوريا، سيكون هشاً لوقت طويل، وهناك تخوف من تسرب جماعة مسلحة، وتهريب سلاح ومخدرات عبر الحدود، وفي الاتجاهين، لأن الفوضى على جانبي الحدود بين لبنان وسوريا، ستشكل خطراً على الداخل اللبناني، وكذلك على أمن إسرائيل، وهذا ما يقلق الأميركيين".
الإدارة المؤجلة
ينشر الجيش اللبناني خمسة أفواج على طول الحدود الشمالية الشرقية، وقدمت بريطانيا مساعدات مهمة للجيش لبناء أبراج مراقبة لضبط الحدود، لكن الطبيعة الوعرة للمنطقة والتداخل السكاني وتجذر عصابات التهريب، سمح ببقاء معابر غير شرعية عديدة، وفق تأكيد المتخصص سريوي الذي حذر من تكرار ما جرى في الأمس القريب بسبب تداخل الحدود، بعدما شهدت المناطق الحدودية اشتباكات بين الجيش اللبناني والمهربين، وكذلك بعض العشائر اللبنانية خاضت قتالاً مع عناصر من هيئة تحرير الشام، عندما تقدمت الأخيرة للسيطرة على بعض القرى الحدودية السورية، وأثارت تلك الأحداث قلقاً أميركياً، من احتمال انفجار الوضع. ويتحدث سريوي عن دور لعبته السعودية في تبريد الأجواء، وعقد اللقاء بين وفد أمني لبناني وسوري في الرياض، والاتفاق على نقاط عدة لضبط الوضع، وأبدى تخوفه من تكرار تلك الأحداث، معتبراً أن "ما جرى لا يطمئن بصورة كاملة، ولا يزال التخوف موجوداً من تدهور الوضع على جانبي الحدود"، مذكراً بـ"مطالبة بعض الأطراف بنشر قوات الأمم المتحدة لمساعدة الجيش، لكن لبنان ما زال يرفض هذا الطلب".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 4 ساعات
- Independent عربية
خطوة إلى الوراء في انتخابات ديمقراطية
لن تسهم الانتخابات المحلية في لبنان قيد أنملة في تحقيق التغيير السياسي الذي طال انتظاره، بل هي ربما أعادت بعض الروح لكل تلك القوى المسؤولة عن كوارث الأعوام الماضية التي تواصل تمسكها بمنع أي إصلاح اقتصادي أو مالي اجتماعي وبرفض إمساك الدولة بقرارها السيادي بعيداً من سطوة سلاح الميليشيات وهيمنة مافيات المذاهب. لقد انفتحت آمال التغيير مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ثم اختيار رئيس جديد للحكومة من خارج الصندوق التقليدي لتحالف الميليشيات والفساد، لكن سرعان ما وجد الاثنان نفسيهما طاقماً جديداً على جثة متهالكة لا ينفع فيها وعظ أو إرشاد. والجثة هذه ثقيلة ومتجذرة تتمسك بقوة بكل مكاسبها وتجاوزاتها الماضية، لا تفيد فيها غير مراسم دفن لائقة إذا كان مقدراً للبلاد أن تعبر عنق الزجاجة. شكَّلت التطورات الهائلة في المنطقة، بدءاً من هزيمة "حزب الله" في حربه التي شنَّها تحت عنوان إسناد غزة و"مشاغلة" الجيش الإسرائيلي، وصولاً إلى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد دفعاً قوياً لإرادة جموع اللبنانيين الذين يشكون ويرفضون منذ عقود هيمنة الحزب التابع لإيران وراعيه السوري المزمن على مقدراتهم وبلادهم، وهم عبروا عن ذلك، ومعهم قوى دولية وعربية أساسية، في فرضهم اختيار رأسي الجمهورية والحكومة ممن لم تكن تتوقعه القوى السياسية التقليدية. إلا أن سير السلطة التنفيذية الجديدة المنتخبة في فرض تدابير وسياسات جديدة، بدءاً من تنفيذ القرارات الدولية وحصر السلاح بيد الدولة وإقرار التشريعات والإصلاحات والتعيينات الإدارية البديلة، سرعان ما اصطدم بقوى الأمر الواقع المتجذرة. فلا "حزب الله" يقبل بالتخلي عن السلاح ولا أقطاب مافيا المال، الممثلين بقوة في مجلس النواب وإدارات الدولة يقرون بمسؤولياتهم عن الانهيار الكبير منذ 2019، وهم مع المستقوين بالسلاح لا يسمحون بقضاء فاعل، أولى مهامه كشف أبعاد جريمة العصر في تفجير مرفأ بيروت ومحاكمة المسؤولين عنها. كان يفترض أن تتحول مناسبة إجراء الانتخابات المحلية لاختيار مجالس البلديات والمخاتير في المدن والقرى اللبنانية إلى فرصة إضافية أساسية لإطلاق نقاش جاد حول المرحلة السابقة، تتحدد فيها المسؤوليات ويجري على أساسها التقدم خطوة جادة نحو فرض شروط التغيير الصعب، في ملاقاة عملية لخطاب القسم الذي أدلى به رئيس الجمهورية أمام مجلس النواب ولبيان الحكومة الجديدة أمام المجلس إياه. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل إن قوى "المنظومة" (كما يسميها اللبنانيون) على مختلف انتماءاتها قادت حشودها الانتخابية خطوات أخرى إلى الوراء. لم تتناول تلك القوى المتصارعة على الفوز بالمقاعد المحلية، في خطابها وحملاتها الانتخابية، مسائل الانهيار الاقتصادي المالي والاجتماعي، ولا تناولت المسؤولية عن الانفراد بحرب ضد إسرائيل أسفرت عن دمار مريع وآلاف القتلى والجرحى وعودة الاحتلال إلى مناطق في الجنوب اللبناني كان أخلاها قبل ربع قرن، بل انصرفت إلى حملات تجييش مذهبي انقسامي هدفها تعزيز نفوذها التقليدي وإمساكها برقاب جمهور أعمته العصبيات المحلية والانتماءات الطائفية عن رؤية المحنة التي يقاد إليها مجدداً. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في المناطق البعيدة من نفوذ "حزب الله" ساد منطق تقاسم الحصص وتعزيزها من دون تقييم للمسؤوليات أو استشراف للمستقبل، وفي مناطق انتشار الطائفة الشيعية منع الحديث عما جرى في الحرب وقبلها باعتبار ألا صوت يعلو فوق صوت "الشهداء" الذين قضوا في حرب أرادتها إيران تعزيزاً لنفوذها الإقليمي وليس لتعزيز منعة لبنان وخيارات "شيعته" وشعبه. على مساحة الأراضي اللبنانية اقتيد مئات آلاف الناخبين إلى منافسات غابت عنها السياسة بما هي محاسبة ونقد واستنتاج واستشراف وخيارات للمستقبل. لم يناقش أحد في أسباب الحروب والمسؤولية عنها، ولم يتنطح طرف سياسي للبحث في أسباب الانهيار منذ عام 2019، لتوفير أساس لاصطفافات جديدة وإيصال أصوات مختلفة إلى مجالس المدن والقرى، بل إن جدلاً من هذا النوع جرى قمعه ومنعه بقوة التخوين والتزكية واستحضار العصبيات البدائية في مناطق انتشار "حزب الله" وحلفائه، فيما مارست مختلف القوى التقليدية الأخرى، على اختلاف انتماءاتها الطائفية والمذهبية والسياسية، أشنع أنواع التحريض المتبادل في نقاط نفوذها من دون أن تتوقف عن الانتظام في تحالفات انتخابية في مكان آخر مع الخصوم لتحقيق فوز لا معنى له. الحصيلة الطبيعية لعملية الانتخاب المحلي كانت التمديد لهيمنة قوى الأمر الواقع نفسها، على رغم اختراقات شجاعة ومعبرة، على حساب آمال التغيير التي بناها اللبنانيون مع قيام الإدارة الجديدة ممثلة برئيسي الجمهورية والحكومة، جوزاف عون ونواف سلام. وكشفت هذه الحصيلة، عشية انتخابات نيابية مقررة بعد عام من اليوم، صعوبة الاعتماد على عمليات الاقتراع، في ظل هيمنة قوى السلاح والمال والعصبيات، لإحداث خرق يلاقي متطلبات الانتقال اللبناني إلى مواكبة التغييرات الحاصلة في الإقليم، والدفع العربي والدولي نحو استعادة الدول لقرارها في حصر السلاح وإنهاء عصر الميليشيات التابعة، وإنجاز الإصلاحات التي تفرضها حاجات البلدان وضرورات انتظامها في الوقائع الدولية الجديدة. لا يعني ذلك أن الديمقراطية اللبنانية القائمة على الاقتراع يمكن استبدالها، وإنما يجب الحرص عليها والعمل على تطويرها وبناء وعي جديد يحاكي التحولات الإقليمية والدولية لإنتاج مراكز قرار مختلفة. لقد دخلت المنطقة عصر إنهاء حالات السلاح خارج الدولة من تركيا إلى سوريا إلى فلسطين نفسها، ولا يمكن للبنان بعد التجارب المرة التي عاشها أن يواصل بعض من فيه التمسك بالسلاح بديلاً للدولة. لقد أصبح كل ذلك عقبة من الماضي ووصفة لاختراق مديد آن الأوان للخلاص منه.


الوطن
منذ 6 ساعات
- الوطن
شبهة تحريم الحج وشبهة تحريم التصريح له
جاء كلام يظهر على أنه فتاوى بتحريم الحج هذا العام، وبعضها تحرمه منذ أعوام وبعضها لا تحرم الحج وإنما تفتي بحرمة المال الناتج عنه. وهو كلام لا نزال نسمعه منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى حين لم يكن هناك سوى ما تروج له الدولة العثمانية، ومن يتصدرون لتأليف الكتب على ما تريد، كأحمد زيني وابن عبدالشكور وابن جرجيس وابن سند وغيرهم، أما الآن فقد أصبح بإمكان كل فرد أن يكون إعلاماً بذاته، ولذلك فحينما يكثر المعارضون للسعودية تكبر معه جماهيريتهم وتشيع دعايتهم، وهكذا كان. وقلة ممن تحدث في هذا الموضوع من طلبة العلم بشكل علمي رصين، يرجو الحق، ويبتعد عن التَّسيِيس؛ وقد اطلعت على رد أحد هؤلاء وهو مبادرة طيبة، جزاه الله خيراً، لكنه أهمل كثيراً من الجوانب المهمة جداً التي يكتمل رده لو أضافها. وهنا أقول كان كثيرون يقولون إن السعودية كدولة تأخذ كثيراً من المال على الحجاج عند إصدار التأشيرة؛ وإن كان الكلام ليس جديداً، فقد كان يقال مثله منذ أسست مع أنها كانت تصدر تأشيرات الحج مجاناً، فلا غرابة أن يأتي الكلام عليها حين جعلت رسم تأشيرة الحج مبلغ 300 ريال أي أقل من الـ100 دولار وبالتحديد حوالى 80 دولاراً وهو السعر نفسه لتأشيرة الزيارة ولتأشيرة السياحة، أي إن من يدخل السعودية لأي غرض سواء أكان حجاً أم عمرة أم سياحة سيدفع المبلغ نفسه. وهذا المبلغ لا يقتضي هذه الفتوى الشنيعة بتحريم الحج أو تأثيم فاعله أو غير ذلك، لأمور منها: أنه مبلغ أقل بكثير جداً من المبلغ الذي تأخذه من الحجيج دولهم، إذ تأخذ الدول مبالغ تتفاوت ما بين 4 آلاف دولار و500 في بعض الدول العربية، إلى 15 ألف دولار في دول أخرى. إذاً هل يصبح أن يكون دفع 80 دولاراً مؤدياً إلى القول بالتحريم؟ أمر آخر: إن الحج واجب على القادر عليه أياً كان وأينما كان؛ ولو بُلي الناس بحاكم لا قدر الله يأخذ المال الضخم على الحجاج لوجب الحج مع وجود هذا الحاكم، ومع إثمه، فيما إذا كان ما يأخذه فوق ما يكلفه عمل الحج وخدمته بكثير، فإن كان ما يأخذه الحاكم دون ما يكلفه عمل الحج أو مثل ما يُكلفه عمل الحج أو فوقه بمقدار يعادل ربح العمل فهذا أمر مباح وليس محرماً ومن قال بالتحريم فإنما هو من السفهاء حقاً. نعم هم السفهاء حقاً، وليسوا بعلماء ولا بطلاب علم على الحقيقة؛ وذلك أنهم يقولون مثلاً: إن الأموال التي يدفعها الحاج تعود إلى الكيان الصهيوني، وهذا أولاً زعم مخالف للحقيقة كما أنه زعم يَتَصَور صاحبه لجهله أن الـ300 ريال التي يقدمها الحاج كأنها تصير بمجموعها 3 تريليونات أو أكثر، وهذا تصورٌ لا نقول إنه طفولي؛ بل الأطفال يتصورون أفضل منه؛ لأن الـ300 ريال تصير إذا حَسَبْنا الحجاج بمليوني نسمة إلى 600 مليون ريال أي 160 مليون دولار، وهو مبلغ لا يصل إلى قيمة طائرة حربية من الطائرات التي يستخدمها الصهاينة؛ كما أن السعودية وهذا هو الكلام الحق ليس بينها وبين الكيان الصهيوني أية علاقة، وقد حاول خصوم المملكة إثبات ذلك بكلام استطاعوا به تأليب الشعوب غير المتعاطفة مع السعودية، لكنه غير صحيح، وليس لديهم شاهد على ذلك صورة واحدة بين مسؤول سعودي في موقع المسؤولية وأي مسؤول صهيوني؛ مع أن الصهاينة ينشرون الصور بشكل مريب كما نشروا صور بعض من زارهم من كبراء العرب ولهم معهم علاقات وطيدة، وحاول هؤلاء العرب ستر تلك الصور؛ لكن ولع الصهاينة بالفضائح فوق كل اعتبار عندهم. على أي حال هذا رد على القول بوجود علاقة بين السعودية والكيان الصهيوني، مع أنه في حال وجود علاقة لا يمكن القول بتحريم الحج؛ فليست العلاقة تعني الإمداد المالي، وليست أموال الحج هي التي تغني العدو بالسلاح، ومعروفة مصادر العدو من الأسلحة؛ وعلى افتراض كون العدو يشتري الأسلحة بمال السعودية، وهذا افتراض أبعد من الشمس، ولكننا نقوله جدلاً فلا يجعل ذلك الحج محرماً، لأن الله أمر عباده بالحج إلى مكة، ولم يكلف أحداً بتتبع ما يدفعه من مال وأين يصير؛ لأن الله إذا شاء نَصْرَ المسلمين نَصَرَهُم ولو كانت الدنيا تُمِد عدوهم كما فعل، عز وجل، بالمسلمين الأوائل فانتصروا في اليرموك والقادسية وغيرها. وقضية أخرى يذكرها المسيسون ضد السعودية ولم نر عالماً بذل نفسه للعلم- لا للسياسة- ذكرها؛ وهي إنكارهم على المملكة اشتراط التصريح للحج؛ وأَعْلَمُ أن هؤلاء المنكرين لو تولى من يُحِبونه- لأقدر الله- شأن الحج، ونسأله أن يزيد عزنا بمن ولاه الله حكمنا، لأقر التصاريح، وربما زاد عليها؛ ولكن حديثنا هنا سيكون للبعيدين عن تأثير السياسة والحقد والحسد فيهم؛ فنقول لنفرض صحة ما قالوه من عدم ضرورة التصاريح وجواز الاحتيال، نعوذ بالله من ذلك، وهذا ما قاله بعض أدعياء العلم واستدلّ بقوله تعالى «سبيلاً» الواردة في قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً»، وقال إنها نكرة في سياق الإثبات فتعم كل سبيل، سواء بتصريح أو غير تصريح أو احتيال أو غيره ؛ فأولاً: النكرة في سياق الإثبات لا تعم وهذا وهم منه؛ ثانياً: لو فرضنا صحة ذلك هل سيكون الإسلام هو الإسلام؟ هل الإسلام الذي يدعو إلى الصدق والسماحة والعدل والانضباط والوقار والاعتدال وحفظ المروءة والكرامة، هو الإسلام الذي يبيح الكذب والحيلة والتزوير والاندساس والتذلل للبشر، وكل هذه الصفات هي التي لا بد للمحتال من اقترافها، فهل هذا هو الإسلام، لا والله لا يكون الإسلام بهذا الشكل أبدا. واستدلال هذا المتمشيخ معارض بالكتاب ومعارض بالمصالح، أما معارضته بالكتاب فقوله تعالى ﴿يَسأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُل هِيَ مَواقيتُ لِلنّاسِ وَالحَجِّ وَلَيسَ البِرُّ بِأَن تَأتُوا البُيوتَ مِن ظُهورِها وَلكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى وَأتُوا البُيوتَ مِن أَبوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [البقرة: 189] فقوله تعالى «ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها» وقوله «وأتوا البيوت من أبوابها» ظاهر في أن دخول البيوت من ظهورها زيادة مبتدعة في أعمال الحج، وكان الأحمسيون وهم قريش يعملونها، وكذلك الأنصار، فنهوا عن ذلك، فإذا كان دخول البيوت من ظهورها منهي عنه في ذلك الزمن، ففي هذا الزمن أولى ألا تدخل للحج بالحيلة، وهي تقتضي الكذب والكذب محرم في الإسلام، وهو أشد تحريماً إذا كان في عبادة يرجو المرؤ منها أن يخرج من سيئاته كيوم ولدته أمه، فكيف يفتتحها بالحيل والأكاذيب. هذا وإن الحكومة السعودية ترجو أن تضخم من أعداد الحجيج، ولكن كيف تُضَخِّمُهم ومنهم من يحجون دون تصريح فيصلون بذلك إلى ضعف عددهم، وربما إن أتيح الأمر دون رقابة كما يطالب هؤلاء أن يتضاعف العدد أضعافاً أخرى، لذلك فضبط هذا الأمر مما لا شك في ضرورته واتخاذ كافة الوسائل لفعله، فلولا ضبط عدد الحجاج لبطل حج كثير من الناس وذلك لأن عرفة لن تستغرقهم وسوف يبقى كثيرون خارج عرفة والحج كما يعلم الكل: عرفة، وكذلك الأمر في منى ومزدلفة، وقد وجدنا هذا الأمر حدث فعلاً في المشاعر الثلاثة ووجدناه في منى بشكل فظيع، فهل يريد هؤلاء المتهورون المتهوكون في ما يبثونه على المسلمين من فتاوى ألَّا يحج الناس أم يريدون مكسباً سياسياً في وهمهم حين تقع السعودية في هذه العقبات وتسقط المسلمين. أضف إلى ذلك أمراً هو الأهم، وهو أن منع الحج دون تصريح بل وتحريمه يسهم في تأمين الحجاج وسلامتهم من كثير من الأمور، ومنها: الفوضى وما تؤدي إليه، وقد علمنا ما نتج عن الفوضى في أزمان سابقة من موت المسلمين وما حل ببعضهم، ومنها: أن مكة في أيام الحج يعدها كبار قادة المخدرات في العالم مكاناً مناسباً للتبادل، ولا أعني هنا أن القادمين للزيارة من هذا النوع حاشا لله فكثير منهم بل والغالب عليهم حسن الديانة إلا أننا نجد استخدام الحج غير النظامي وسيلة لانتهاك الحج بكثير من المعاصي ومنها هذه المعصية أمراً مقبولاً عند هؤلاء أجارنا الله وإياكم.


Independent عربية
منذ 20 ساعات
- Independent عربية
شركات الطاقة الأميركية تخفض استثماراتها في الاستكشاف والإنتاج
منذ تولي إدارة الرئيس دونالد ترمب السلطة في الولايات المتحدة مطلع هذا العام اتخذت إجراءات عدة لتغيير سياسة التحول في مجال الطاقة من الوقود الأحفوري إلى الطاقة الخضراء المتجددة، وأصدر ترمب أكثر من قرار منها إلغاء الإعفاءات الضريبية لمشروعات الطاقة النظيفة وإلغاء القيود التي فرضتها الإدارة السابقة للرئيس جو بايدن على تخصيص الأراضي الفيدرالية لاستكشاف وإنتاج النفط، وحظر توسيع خطوط الغاز وتصديره. وأعلن ترمب وفريقه حتى خلال الحملة الانتخابية عام 2024 أن الهدف المرجو لتلك الإدارة هو هيمنة الولايات المتحدة على سوق النفط والغاز العالمية بزيادة الإنتاج، ففي آخر أعوام إدارة بايدن أصبحت أميركا أكبر منتج للنفط في العالم بمستوى إنتاج بلغ العام الماضي أكثر من 13 مليون برميل يومياً في المتوسط، وأصبحت الولايات المتحدة من بين كبار مصدري النفط في العالم، بعدما كانت مستورداً صافياً له من قبل، بمعدل تصدير يزيد على 4 ملايين برميل يومياً. وكثيراً ما كرر ترمب أن إدارته ستزيد إنتاج أميركا النفطي بمقدار 4 ملايين برميل يومياً خلال فترة رئاسته، بينما قدر فريقه الاقتصادي تلك الزيادة بمقدار 3 ملايين برميل يومياً، ذلك خلال وقت يريد فيه ترمب أن تنخفض أسعار النفط إلى مستوى 50 دولاراً للبرميل، إلا أن الأمر ليس بيد الإدارة الأميركية تماماً، فقطاع النفط تحكمه شركات كبرى خاصة تضع سياساتها المستقبلية على أساس مصالح مساهميها، وليس بحسب خطط وسياسات الإدارة في واشنطن. الأسعار والاستثمار على عكس الأهداف الرسمية للسياسة النفطية تراجع استثمار شركات الاستكشاف والإنتاج في قطاع النفط داخل الولايات المتحدة العام الماضي بنسبة واحد في المئة، بحسب ما كشفه تقرير مفصل لمؤسسة "ستاندرد أند بورز" العالمية للتصنيف الائتماني صدر نهاية الأسبوع، وتوقع أن ينخفض استثمار تلك الشركات العام الحالي ما بين خمسة و10 في المئة نتيجة هبوط أسعار النفط. ويُرجع التقرير أسباب انخفاض الاستثمار الرأسمالي لشركات الاستكشاف والإنتاج في قطاع النفط والغاز داخل الولايات المتحدة إلى "الاضطراب الاقتصادي العالمي، وتذبذب أسعار النفط بشدة والالتزام بالانضباط المالي ومكاسب رفع الكفاءة". يقدر تقرير المؤسسة أن إجمال الإنتاج من النفط والغاز للعام الحالي لن يتأثر بتراجع نشاط الشركات سوى بمقدار قليل، بسبب معدلات الإنتاج خلال الربع الأول من العام ومكاسب رفع الكفاءة المستمرة، مضيفاً "لكننا نتوقع تأثيراً واضحاً على معدلات الإنتاج خلال العام المقبل إذا استمر انخفاض معدلات الإنفاق الرأسمالي". وسيكون ذلك أكثر وضوحاً في قطاع النفط أكثر من قطاع الغاز، إذ يقول واضعو التقرير إنهم يعتقدون أن "منتجي النفط الأميركيين سيخفضون الإنفاق (على الاستكشاف والإنتاج) أكثر فأكثر إذا انخفض سعر خام 'وسيط غرب تكساس' (الخام الأميركي الخفيف) إلى مستوى 50 دولاراً للبرميل". وزادت شركات الطاقة الأميركية الإنفاق الرأسمالي ما بعد أزمة وباء كورونا، وتحديداً خلال عامي 2022 و2023 بصورة واضحة، لكنها بدأت تتراجع عن ذلك العام الماضي لينخفض معدل الإنفاق على توسيع الأنشطة عن مستويات عام 2023. وبحسب التقرير، كان التراجع العام الماضي نتيجة عوامل عدة إضافة إلى وجود فائض سيولة لدى الشركات تمكنها من توزيع الأرباح على مساهميها. وفي ظل متوسط سعر 75 دولاراً للبرميل من الخام الأميركي تستطيع الشركات موازنة الإنفاق الرأسمالي ولو بقدر ضئيل، مع توزيع عائد على أسهمها وتأمين سيولة للطوارئ. استراتيجيات الشركات مع انخفاض أسعار النفط إلى متوسط 60 دولاراً لخام وسيط غرب تكساس هذا العام، خفضت الشركات إنفاقها الرأسمالي على توسيع نشاط الاستكشاف والإنتاج. ويشرح التقرير كيف أن "منتجي النفط الأميركيين لم يخفضوا الإنفاق الرأسمالي لأن مشروعاتهم ليست مجدية اقتصادياً عند سعر 60 دولاراً للبرميل، بل لأنهم يريدون الحفاظ على معدلات الإنفاق أقل من مستويات انسياب العائدات والاستمرار في توزيع العائد على حملة الأسهم وإعادة شراء أسهم الشركات". وبحسب الخطط الاستراتيجية للشركات التي استعرضها تقرير "ستاندرد أند بورز"، تظهر موازنات الشركات خفضاً في الإنفاق الرأسمالي بما يصل إلى ما بين نسبة خمسة وسبعة في المئة، لكن التقرير يتوقع ارتفاع هذه النسب إلى 10 في المئة إذا استمر متوسط سعر الخام الأميركي يدور عند مستوى 60 دولاراً للبرميل، ويمكن أن تخفض الشركات إنفاقها على توسيع النشاط أكثر من ذلك إذا انخفض متوسط السعر عن هذا المعدل. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ويلاحظ التقرير أن الشركات التي أعلنت، خلال إفصاحها الدوري للربع الأول من هذا العام، خفضاً واضحاً في الإنفاق الرأسمالي هي شركات إنتاج النفط، مع انخفاض أسعاره بنحو 20 في المئة هذا العام. ومن المتوقع الإعلان عن مزيد من خفض الإنفاق الرأسمالي خلال موسم الإفصاح التالي بعد أسابيع، إلا أن التقرير يتوقع استمرار معدلات الإنتاج مستقرة، من دون نقص واضح لتلك الشركات خلال هذا العام على رغم خفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة الـ10 في المئة المقدرة. هذا بالنسبة إلى شركات إنتاج النفط، أما شركات إنتاج الغاز الطبيعي فيتوقع أن تزيد من إنفاقها الرأسمالي هذا العام والعام المقبل في ظل توقعات ارتفاع الطلب، وبخاصة على الغاز الطبيعي المسال نتيجة زيادة توليد الطاقة لسد حاجات مراكز تشغيل البيانات وعمليات الذكاء الاصطناعي، طبقاً لتقديرات "غلوبال كوموديتي إنسايتس" وسيزيد الطلب على الغاز الطبيعي المسال بمقدار 6 مليارات قدم مكعبة يومياً خلال الفترة من أكتوبر (تشرين الأول) 2024 إلى مارس (آذار) 2026. وتقدر "غلوبال" تضاعف الطلب خلال عام 2029 ليصل إلى 25.7 مليار قدم مكعبة يومياً، أي بزيادة بنسبة 25 في المئة على الطلب الأميركي حالياً. إنتاج الغاز لذا يقدر التقرير أن تزيد شركات إنتاج الغاز الإنفاق الاستثماري على نشاطات الاستكشاف والإنتاج بنسبة ستة في المئة، بما يعني زيادة الإنتاج بنسبة خمسة في المئة، ويتوقع أن تشهد أسعار الغاز الطبيعي المسال ارتفاعاً خلال نهاية هذا العام وبداية العام المقبل. وعلى عكس التقديرات والتوقعات للولايات المتحدة، يرى تقرير "ستاندرد أند بورز" أن الإنفاق الاستثماري على مشروعات الاستكشاف والإنتاج في كندا سيرتفع بالنسبة إلى شركات النفط ويتراجع بالنسبة إلى شركات الغاز الطبيعي، إذ تواصل شركات النفط الكندية زيادة الإنفاق الرأسمالي منذ عام 2020 ويتوقع أن يستمر هذا التوجه للعام الحالي. وتستفيد الشركات من تقليص فارق السعر للخام الكندي عن الخامات القياسية بما يزيد العائدات والأرباح. أما بالنسبة إلى الغاز الطبيعي، تظل الأسعار ضعيفة، وبخاصة في حوض شركة "ألبرتا إنرجي"، لذا يتوقع أن يركز المنتجون أكثر على المكثفات السائلة. وعلى رغم بدء تشغيل المرحلة الأولى من مشروع الغاز الطبيعي المسال الكندي هذا الصيف، فإن التقرير لا يتوقع زيادة كبيرة في الطلب. ويخلص التقرير إلى أن شركات النفط والغاز في كندا ستزيد إنفاقها الرأسمالي بصورة مجمعة هذا العام بنسبة ثلاثة في المئة، ويعد ذلك تراجعاً واضحاً عن الزيادة خلال العام الماضي التي بلغت تسعة في المئة، وتترجم هذه الزيادة في الإنفاق إلى زيادة في إنتاج النفط والغاز الطبيعي بنسبة خمسة في المئة تقريباً.