
التحول الرقمي الاثراء الحقيقي لصناعة المستقبل
يشير مصطلح التحول الرقمي في التعليم إلى دمج التقنيات الرقمية والاتصالات في مختلف جوانب العملية التعليمية بما يُعزّز فعاليتها وجودتها. حيث تؤكد اليونسكو أن الابتكار الرقمي قادر على إثراء وتحويل التعليم وتسريع التقدم نحو تحقيق الهدف الرابع من التنمية المستدامة . وقد أثبتت جائحة كوفيد-19 ضرورة هذه الثورة؛ إذ كُشفت عن ضعف البنى التحتية الرقمية في دول كثيرة، مما حرم نحو ثلث الطلاب العالميين من التعليم لسنة كاملة. لذلك تحرص المؤسسات الدولية على توظيف الابتكار الرقمي لتوسيع فرص التعليم وتعزيز الشمولية، ورفع جودة التعلم ومردوديته .
الأبعاد التقنية للتحول الرقمي
يشمل التحول الرقمي بعدًا تقنيًا أساسيًا يتمثل في البنى التحتية التكنولوجية والشبكات والأنظمة المستخدمة في التعليم. فالاتصال بالإنترنت وسرعته يشكّلان العمود الفقري لمدى نجاح التعلم الرقمي. فقد لاحظت اليونسكو أن حوالي 32% من سكان العالم (2.6 مليار شخص) لا يحصلون على الإنترنت، ولا يرتبط نحو 60% من المدارس الابتدائية عالميًا بشبكة الإنترنت . هذا الفارق التقني يبرز أهمية الاستثمار في توسيع شبكات الاتصالات وتوفير الأجهزة اللازمة كالكمبيوترات والأجهزة اللوحية والساعات الذكية التعليمية. كما تتضمن الجوانب التقنية أيضًا تطوير البرمجيات التعليمية والمنصات الرقمية (مثل نظم إدارة التعلم LMS)، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز لتخصيص مسارات التعلم. فالمؤسسات التعليمية أصبحت تستخدم أدوات مثل الواقع الافتراضي لتعزيز الفهم النظري، ويُتوقع أن تزداد أهمية هذه التقنيات مع التوسع في التعلم عن بُعد.
الأبعاد التربوية للتحول الرقمي
يركز البعد التربوي على كيفية استخدام التكنولوجيا لتحسين العمليات التعليمية والمناهج والتفاعل بين المعلم والمتعلم. يُعزّز التعليم الرقمي التفاعل والمشاركة عبر أدوات التواصل الإلكتروني، ويتيح تخصيص المحتوى بناءً على قدرات الطالب ومستواه. على سبيل المثال، تدعم الأنظمة التعليمية الرقمية التعلم التكيفي، حيث تخضع المسائل لتقييم فوري وتقدم دروسًا بديلة بناءً على أداء الطالب. كما تُعتبر الموارد التعليمية المفتوحة (OER) جزءًا من هذا البُعد، إذ تتيح للمؤسسات تبادل الكتب والمناهج الرقمية مجانًا، مما يقلل الحاجة للمطبوعات التقليدية. وأكدت اليونسكو أن الاستجابة للمؤسسات التعليمية تتضمن تدريب المعلمين والطلاب على المهارات الرقمية، مثل الكفاءات الحاسوبية.
الأبعاد الاقتصادية للتحول الرقمي
يتعلق البعد الاقتصادي بالتمويل والاستثمار والعائد الاقتصادي للتعليم الرقمي. فمن جهة، يقدّر البنك الدولي أن الإنفاق العالمي على التعليم سيتجاوز 404 مليار دولار بحلول عام 2025 ، مما يعكس أهميته كمُجال اقتصادي رئيس. ويسهم التحول الرقمي في خفض التكاليف على المدى الطويل، فعلى سبيل المثال أدى اعتماد الموارد التعليمية المفتوحة إلى وفورات كبيرة؛ فقد وفرت كلية التقنية في ميلووكي نحو 5 ملايين دولار من تكاليف الكتب الجامعية خلال ثلاث سنوات . بيد أن التكاليف الأولية لإنشاء البُنى التحتية الرقمية (كإيصال الإنترنت وتوفير الأجهزة) مرتفعة، خاصة في الدول النامية. لذا تتعاون المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي واليونسكو لدعم هذه الاستثمارات الرقمية. وفي مؤتمر صحفي عام 2023، أعلن البنك الدولي ومؤسسة IDB استثمار أكثر من 500 مليون دولار لربط 12 ألف مدرسة في أمريكا اللاتينية وتحسين مهارات 350 ألف معلم رقمياً .
مزايا التحول الرقمي في التعليم
يُقدم التحول الرقمي في التعليم فوائد عدّة على الأصعدة التقنية والتربوية والاقتصادية، منها:
توسيع نطاق التعليم والوصول الشامل: تُمكّن التقنيات الرقمية من إيصال المحتوى التعليمي إلى الطلاب في المناطق النائية والريفية دون قيود جغرافية . فالحواسب المحمولة والهواتف الذكية تتيح التعلم في أي زمان ومكان، مما يدعم سياسات التعليم مدى الحياة.
تحسين التفاعل والمشاركة: تخلق الأدوات الرقمية بيئات تعلم تفاعلية (مثل الفصول الافتراضية والمنتديات التعليمية)، الأمر الذي يزيد مشاركة الطلاب وتحفيزهم. ووفقًا لأحد الأبحاث، يُؤدي الدمج الرقمي إلى تعزيز التفاعل الفردي مع التعليم، مما يدعم تحسين نتائج التعلم .
تحديث المناهج وتنمية المهارات: يدفع التحول الرقمي إلى تضمين معارف القرن الحادي والعشرين في المناهج، مثل التعلم الآلي والبرمجة والتفكير النقدي. فالتعامل مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في التعليم يعزز مهارات التفكير النقدي والتقني لدى الطلاب، ويُعدّهم لسوق عمل متطور.
تقليل التكاليف على المدى الطويل: على الرغم من ارتفاع التكاليف الأولية، يساهم التحول الرقمي في خفض نفقات المنشآت التعليمية، حيث تقل الحاجة للمواد المطبوعة وتسهّل عمليات الإدارة والتقييم. على سبيل المثال، يُمكن للأنظمة الإلكترونية الأوتوماتيكية تصحيح الاختبارات وحساب الدرجات بسرعة، مما يوفر وقت المعلمين ويقلل الاعتماد على الموارد المادية .
زيادة شمولية التعليم: تخلق الموارد الرقمية فرصًا للتعليم للأطفال ذوي الإعاقة من خلال استخدام أدوات مساعدة (مثل النصوص الصوتية أو تصفية الألوان). كما تعزز التعلم الرقمي دمج الفئات المهمشة بأنظمة تعليمية مرنة وشاملة.
لقد أثبتت بعض التجارب العملية نجاح هذه المزايا. ففي أوروغواي مثلاً، أطلقت الحكومة مبادرة Ceibal بتوزيع حواسب محمولة على جميع الطلاب والمعلمين، مما حوّل بيئة التعلم إلى منصة رقمية شاملة وأثمر عن تحسن في المخرجات التعليمية وتقليل الفجوات المعرفية . وعلى سبيل المثال، في ناميبيا نجح مدرسون في مدرسة ريفية باستخدام جهاز حاسوب واحد وجهاز عرض لتحسين الدروس، إذ قال أحدهم: «الآن يمكنني إدماج محتوى رقمي ومقاطع فيديو أو صور تشرح الدروس أوضح من الكتب» .
تحديات التحول الرقمي في التعليم
رغم الفرص الكبيرة، تواجه عملية التحول الرقمي في التعليم تحديات حقيقية، أهمها:
الفجوة الرقمية: لا تزال نسبة كبيرة من الطلاب بلا وصول إلى الإنترنت أو الأجهزة. على الصعيد العالمي، أحصت اليونسكو أن نحو 826 مليون طالب لم يكن لديهم حاسوب منزلي، و706 مليون بلا إنترنت منزلي خلال جائحة كوفيد-19 . والأمر أشد حدة في البلدان الفقيرة؛ ففي إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً لا يحظى 89% من الطلاب بحواسب و82% بلا إنترنت . كما يُقدر أن 56 مليون متعلم يعيشون في مناطق غير مخدومة بشبكات الهاتف المحمول . كل ذلك يهدد تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية.
نقص التدريب الرقمي للمعلمين: تتطلب أدوات التعليم الرقمي مهارات تقنية ومهارات تدريس جديدة. ومع ذلك، فإن التدريب على هذه المهارات لا يزال محدودًا في كثير من الدول. فوفقًا لليونسكو، فإن 64% فقط من معلمي المرحلة الابتدائية في إفريقيا جنوب الصحراء تلقوا أدنى مستوى من التدريب، وغالبًا دون تضمين مهارات تكنولوجيا المعلومات . هذا العجز في تدريب المعلمين يضعف كفاءة استخدام التقنيات الجديدة في الصف.
التكلفة والبنية التحتية: تحتاج المدارس إلى استثمارات كبيرة لتأمين أجهزة الحاسوب والإنترنت عالي السرعة والبنية التحتية التقنية، وهو ما يمثل عبئًا ماليًا على الدول ذات الميزانيات المحدودة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب مثل هذه الأنظمة صيانة دورية وتحديثًا مستمرًا، فضلًا عن مواجهة مشاكل كهربائية وتقنية؛ فعلى سبيل المثال تعاني بعض مناطق العراق من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي مما يعوق الاتصال بالإنترنت في أغلب المدارس .
تحقيق العدالة في الوصول: يحتاج التحول الرقمي إلى سياسات تراعي الفئات الضعيفة؛ فعدم وجود خطط شمولية قد يؤدي إلى زيادة الفوارق. لذلك تدعو اليونسكو إلى دعم بدائل للتعليم عن بعد (كالإذاعة التلفزيونية والإذاعية) لتخفيف آثار الفجوة التكنولوجية .
التجارب الدولية الناجحة
تسهم الأمثلة الناجحة حول العالم في توضيح إمكانية تحقيق فوائد التحول الرقمي. إلى جانب تجربة أوروغواي المذكورة، حقّقت استونيا وفنلندا وغيرها من الدول تطورًا مبكرًا في التعليم الرقمي؛ فقد وفّرت أستونيا منصة إلكترونية موحدة للمدارس والمدّرسين لتعزيز التفاعل بين الطالب والمعلم. كما عملت سنغافورة على تحديث المناهج لتشمل مهارات البرمجة والذكاء الاصطناعي تدريجيًا. وتقع هذه الابتكارات ضمن إطار استراتيجيات وطنية تعليمية تهدف إلى تحسين جودة التعليم وملاءمته لاحتياجات العصر. على الصعيد الدولي، تشارك اليونسكو والمنظمات العالمية بيانات وتوصيات؛ فبالإضافة إلى مبادراتها التي أشرنا إليها، أصدرت اليونسكو توصيات ونماذج كإطار كفاءات تكنولوجيا المعلومات للمعلمين، وإرشادات للذكاء الاصطناعي في التعليم، لدعم صانعي السياسات في تعظيم منافع التحول الرقمي وتقليل مخاطره .
التجربة المحلية في العراق
في السياق المحلي، شرعت مؤسسات عراقية وعربية في تبني إجراءات للتحول الرقمي بالرغم من التحديات. فعلى سبيل المثال، نظمت اليونسكو بالشراكة مع الحكومة العراقية وقطاع الاتصالات في مايو 2020 قمة افتراضية تحت عنوان «التعلّم لا يتوقف»، هدفت إلى دعم معاهد التدريب التكنولوجي واستمرارية التعليم الجامعي خلال جائحة كورونا . وأكد ممثلو اليونسكو التزامهم بتعزيز التعلم عن بُعد في العراق، وتبادل الخبرات حول الحلول الممكنة لضمان جودة التعليم الرقمي واستمراريته . على الرغم من محدودية البنية التحتية، أعلنت الحكومة العراقية عن مبادرات لتحسين الاتصالات وبث الدروس التلفزيونية، وسعت وزارة الاتصالات إلى توسيع تغطية الإنترنت في المناطق الريفية . وتُعد هذه الجهود بذورًا أولية نحو تقليص الفجوة الرقمية محليًا، ويظل التحدي قائمًا في تدريب المعلمين وضمان صيانة الأجهزة واستمرارية الكهرباء.
أثر التحول الرقمي على جودة التعليم وتكافؤ الفرص
يؤدي التحول الرقمي في نهاية المطاف إلى تعزيز جودة التعليم وجعله أكثر شمولًا. فالأساليب التعليمية الرقمية الشخصية (مثل المحتوى التكيفي والفصول الافتراضية) تحسن فهم الطالب وتلبيه احتياجاته الخاصة، مما ينعكس إيجابيًا على التحصيل العلمي. وقد لخصت دراسة حديثة أن التحول الرقمي يعزّز التفاعل وسهولة الوصول، وفي النهاية يخفض نفقات التعليم عبر الإنترنت ويعزز شموليته. من ناحية أخرى، يؤكد الخبراء أن تساوي فرص الوصول إلى هذه التقنيات يجب أن يكون هدفًا أساسيًا؛ إذ يلزم توجيه الدعم للفئات المهمشة (كالطلاب في المناطق الريفية والفتية ذوي الاحتياجات الخاصة) لضمان العدالة التعليمية . وفي هذا السياق، يشير البنك الدولي إلى أن توفير تعليم ذو جودة ومتاحة للجميع في جميع مراحل الحياة يعد أمرًا حاسمًا للقضاء على الفقر والتفاوت الاجتماعي . لذلك فإن معالجة تحديات الفجوة الرقمية وتدريب المعلمين وضمان تمويل مستدام، كلها عوامل ضرورية لتحقيق التأثير الإيجابي الكامل للتحول الرقمي على مستوى التعليم.
وختام القول ان التحول الرقمي في التعليم يشكل ثورةً حقيقية تزحف عبر المؤسسات التعليمية عالمياً ومحلياً. فهو يقدم فرصًا واعدة لتحسين جودة التعليم وتوسيع فرص التعلم، غير أن تحقيق هذه المنافع يتطلب جهودًا متوازنة لمواجهة العقبات التقنية والتربوية والاقتصادية. من خلال تبنّي سياسات شاملة تجمع بين الاستثمار في البنى التحتية الرقمية، وتطوير المحتوى التعليمي وتدريب المعلمين، يمكن للدول أن تحوّل هذه الثورة إلى رافعة تنموية. تؤكد التجارب الدولية والمحلية على أهمية الدمج الذكي للتكنولوجيا مع اهتمام الإنسان في صميم العملية التعليمية، لضمان أن تعود ثمار التحول الرقمي على جميع الطلاب دون استثناء. في النهاية، فإن الاستثمار في التعليم الرقمي لن يثري فحسب المهارات التقنية للجيل الصاعد، بل سيُسهم في بناء مجتمعات أكثر مساواة واستدامة، تحقق أهداف التنمية المستدامة للتعليم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرأي العام
منذ 2 أيام
- الرأي العام
اكتشاف حفرية ديناصور عمرها 67.5 مليون عام تحت موقف سيارات متحف دنفر
أعلن متحف دنفر للطبيعة والعلوم فى الولايات المتحدة عن اكتشاف حفرية ديناصور عمرها 67.5 مليون سنة تحت موقف السيارات الخاص به، وعُثر على أحفورة جزئية من العظام، تُعرف بأنها عظمة ديناصور طيري من العصر الطباشيري العلوي، على عمق 763 قدمًا تحت سطح الأرض، وهي أقدم وأعمق اكتشاف يُكتشف ضمن حدود مدينة دنفر، وفقا لما نشره موقع' artnews'. واكتُشفت الحفرية، وفقًا للبيان الصحفي أثناء قيام المتحف بمشروع حفر تجريبي للطاقة الحرارية الأرضية لتحديد إمكانية تحويلها من الغاز الطبيعي إلى الطاقة الحرارية الأرضية، وأجرى الفريق بحثًا علميًا متزامنًا في محاولة لفهم جيولوجيا حوض دنفر بشكل أفضل. وقال باتريك أوكونور، مدير علوم الأرض والفضاء بالمؤسسة، في بيان: 'قد يكون هذا الاكتشاف الأكثر غرابة للديناصورات الذي شاركت فيه على الإطلاق'. وتابع: 'ليس من النادر للغاية العثور على أي حفرية كجزء من مشروع حفر فحسب، بل قدم هذا الاكتشاف فرصة تعاونية متميزة لفريق علوم الأرض بالمتحف لإنتاج مقال بحثى بقيادة باحث ما بعد الدكتوراه في متحف دنفر للطبيعة والعلوم، الدكتور هولجر بيترمان'. تم تمويل حفر الطاقة الحرارية الأرضية من خلال منحة قدرها 250 ألف دولار حصل عليها المتحف في عام 2024 من خلال برنامج حكومي لتسهيل الانتقال إلى الطاقة النظيفة. ووصف بوب رينولدز، الباحث المشارك في علوم الأرض بالمتحف، اكتشاف الحفريات بأنه 'ساحر' وأضاف في بيان: 'خلال 35 عامًا من العمل في المتحف، لم تُتح لنا فرصة كهذه من قبل – لدراسة الطبقات الجيولوجية العميقة تحت أقدامنا بهذه الدقة' وتُعرض الحفرية الآن في المتحف كجزء من معرض 'اكتشاف تين ريكس'.


وكالة الصحافة المستقلة
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- وكالة الصحافة المستقلة
التحول الرقمي الاثراء الحقيقي لصناعة المستقبل
د.براق طالب الموسوي يشير مصطلح التحول الرقمي في التعليم إلى دمج التقنيات الرقمية والاتصالات في مختلف جوانب العملية التعليمية بما يُعزّز فعاليتها وجودتها. حيث تؤكد اليونسكو أن الابتكار الرقمي قادر على إثراء وتحويل التعليم وتسريع التقدم نحو تحقيق الهدف الرابع من التنمية المستدامة . وقد أثبتت جائحة كوفيد-19 ضرورة هذه الثورة؛ إذ كُشفت عن ضعف البنى التحتية الرقمية في دول كثيرة، مما حرم نحو ثلث الطلاب العالميين من التعليم لسنة كاملة. لذلك تحرص المؤسسات الدولية على توظيف الابتكار الرقمي لتوسيع فرص التعليم وتعزيز الشمولية، ورفع جودة التعلم ومردوديته . الأبعاد التقنية للتحول الرقمي يشمل التحول الرقمي بعدًا تقنيًا أساسيًا يتمثل في البنى التحتية التكنولوجية والشبكات والأنظمة المستخدمة في التعليم. فالاتصال بالإنترنت وسرعته يشكّلان العمود الفقري لمدى نجاح التعلم الرقمي. فقد لاحظت اليونسكو أن حوالي 32% من سكان العالم (2.6 مليار شخص) لا يحصلون على الإنترنت، ولا يرتبط نحو 60% من المدارس الابتدائية عالميًا بشبكة الإنترنت . هذا الفارق التقني يبرز أهمية الاستثمار في توسيع شبكات الاتصالات وتوفير الأجهزة اللازمة كالكمبيوترات والأجهزة اللوحية والساعات الذكية التعليمية. كما تتضمن الجوانب التقنية أيضًا تطوير البرمجيات التعليمية والمنصات الرقمية (مثل نظم إدارة التعلم LMS)، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز لتخصيص مسارات التعلم. فالمؤسسات التعليمية أصبحت تستخدم أدوات مثل الواقع الافتراضي لتعزيز الفهم النظري، ويُتوقع أن تزداد أهمية هذه التقنيات مع التوسع في التعلم عن بُعد. الأبعاد التربوية للتحول الرقمي يركز البعد التربوي على كيفية استخدام التكنولوجيا لتحسين العمليات التعليمية والمناهج والتفاعل بين المعلم والمتعلم. يُعزّز التعليم الرقمي التفاعل والمشاركة عبر أدوات التواصل الإلكتروني، ويتيح تخصيص المحتوى بناءً على قدرات الطالب ومستواه. على سبيل المثال، تدعم الأنظمة التعليمية الرقمية التعلم التكيفي، حيث تخضع المسائل لتقييم فوري وتقدم دروسًا بديلة بناءً على أداء الطالب. كما تُعتبر الموارد التعليمية المفتوحة (OER) جزءًا من هذا البُعد، إذ تتيح للمؤسسات تبادل الكتب والمناهج الرقمية مجانًا، مما يقلل الحاجة للمطبوعات التقليدية. وأكدت اليونسكو أن الاستجابة للمؤسسات التعليمية تتضمن تدريب المعلمين والطلاب على المهارات الرقمية، مثل الكفاءات الحاسوبية. الأبعاد الاقتصادية للتحول الرقمي يتعلق البعد الاقتصادي بالتمويل والاستثمار والعائد الاقتصادي للتعليم الرقمي. فمن جهة، يقدّر البنك الدولي أن الإنفاق العالمي على التعليم سيتجاوز 404 مليار دولار بحلول عام 2025 ، مما يعكس أهميته كمُجال اقتصادي رئيس. ويسهم التحول الرقمي في خفض التكاليف على المدى الطويل، فعلى سبيل المثال أدى اعتماد الموارد التعليمية المفتوحة إلى وفورات كبيرة؛ فقد وفرت كلية التقنية في ميلووكي نحو 5 ملايين دولار من تكاليف الكتب الجامعية خلال ثلاث سنوات . بيد أن التكاليف الأولية لإنشاء البُنى التحتية الرقمية (كإيصال الإنترنت وتوفير الأجهزة) مرتفعة، خاصة في الدول النامية. لذا تتعاون المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي واليونسكو لدعم هذه الاستثمارات الرقمية. وفي مؤتمر صحفي عام 2023، أعلن البنك الدولي ومؤسسة IDB استثمار أكثر من 500 مليون دولار لربط 12 ألف مدرسة في أمريكا اللاتينية وتحسين مهارات 350 ألف معلم رقمياً . مزايا التحول الرقمي في التعليم يُقدم التحول الرقمي في التعليم فوائد عدّة على الأصعدة التقنية والتربوية والاقتصادية، منها: توسيع نطاق التعليم والوصول الشامل: تُمكّن التقنيات الرقمية من إيصال المحتوى التعليمي إلى الطلاب في المناطق النائية والريفية دون قيود جغرافية . فالحواسب المحمولة والهواتف الذكية تتيح التعلم في أي زمان ومكان، مما يدعم سياسات التعليم مدى الحياة. تحسين التفاعل والمشاركة: تخلق الأدوات الرقمية بيئات تعلم تفاعلية (مثل الفصول الافتراضية والمنتديات التعليمية)، الأمر الذي يزيد مشاركة الطلاب وتحفيزهم. ووفقًا لأحد الأبحاث، يُؤدي الدمج الرقمي إلى تعزيز التفاعل الفردي مع التعليم، مما يدعم تحسين نتائج التعلم . تحديث المناهج وتنمية المهارات: يدفع التحول الرقمي إلى تضمين معارف القرن الحادي والعشرين في المناهج، مثل التعلم الآلي والبرمجة والتفكير النقدي. فالتعامل مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في التعليم يعزز مهارات التفكير النقدي والتقني لدى الطلاب، ويُعدّهم لسوق عمل متطور. تقليل التكاليف على المدى الطويل: على الرغم من ارتفاع التكاليف الأولية، يساهم التحول الرقمي في خفض نفقات المنشآت التعليمية، حيث تقل الحاجة للمواد المطبوعة وتسهّل عمليات الإدارة والتقييم. على سبيل المثال، يُمكن للأنظمة الإلكترونية الأوتوماتيكية تصحيح الاختبارات وحساب الدرجات بسرعة، مما يوفر وقت المعلمين ويقلل الاعتماد على الموارد المادية . زيادة شمولية التعليم: تخلق الموارد الرقمية فرصًا للتعليم للأطفال ذوي الإعاقة من خلال استخدام أدوات مساعدة (مثل النصوص الصوتية أو تصفية الألوان). كما تعزز التعلم الرقمي دمج الفئات المهمشة بأنظمة تعليمية مرنة وشاملة. لقد أثبتت بعض التجارب العملية نجاح هذه المزايا. ففي أوروغواي مثلاً، أطلقت الحكومة مبادرة Ceibal بتوزيع حواسب محمولة على جميع الطلاب والمعلمين، مما حوّل بيئة التعلم إلى منصة رقمية شاملة وأثمر عن تحسن في المخرجات التعليمية وتقليل الفجوات المعرفية . وعلى سبيل المثال، في ناميبيا نجح مدرسون في مدرسة ريفية باستخدام جهاز حاسوب واحد وجهاز عرض لتحسين الدروس، إذ قال أحدهم: «الآن يمكنني إدماج محتوى رقمي ومقاطع فيديو أو صور تشرح الدروس أوضح من الكتب» . تحديات التحول الرقمي في التعليم رغم الفرص الكبيرة، تواجه عملية التحول الرقمي في التعليم تحديات حقيقية، أهمها: الفجوة الرقمية: لا تزال نسبة كبيرة من الطلاب بلا وصول إلى الإنترنت أو الأجهزة. على الصعيد العالمي، أحصت اليونسكو أن نحو 826 مليون طالب لم يكن لديهم حاسوب منزلي، و706 مليون بلا إنترنت منزلي خلال جائحة كوفيد-19 . والأمر أشد حدة في البلدان الفقيرة؛ ففي إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً لا يحظى 89% من الطلاب بحواسب و82% بلا إنترنت . كما يُقدر أن 56 مليون متعلم يعيشون في مناطق غير مخدومة بشبكات الهاتف المحمول . كل ذلك يهدد تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية. نقص التدريب الرقمي للمعلمين: تتطلب أدوات التعليم الرقمي مهارات تقنية ومهارات تدريس جديدة. ومع ذلك، فإن التدريب على هذه المهارات لا يزال محدودًا في كثير من الدول. فوفقًا لليونسكو، فإن 64% فقط من معلمي المرحلة الابتدائية في إفريقيا جنوب الصحراء تلقوا أدنى مستوى من التدريب، وغالبًا دون تضمين مهارات تكنولوجيا المعلومات . هذا العجز في تدريب المعلمين يضعف كفاءة استخدام التقنيات الجديدة في الصف. التكلفة والبنية التحتية: تحتاج المدارس إلى استثمارات كبيرة لتأمين أجهزة الحاسوب والإنترنت عالي السرعة والبنية التحتية التقنية، وهو ما يمثل عبئًا ماليًا على الدول ذات الميزانيات المحدودة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب مثل هذه الأنظمة صيانة دورية وتحديثًا مستمرًا، فضلًا عن مواجهة مشاكل كهربائية وتقنية؛ فعلى سبيل المثال تعاني بعض مناطق العراق من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي مما يعوق الاتصال بالإنترنت في أغلب المدارس . تحقيق العدالة في الوصول: يحتاج التحول الرقمي إلى سياسات تراعي الفئات الضعيفة؛ فعدم وجود خطط شمولية قد يؤدي إلى زيادة الفوارق. لذلك تدعو اليونسكو إلى دعم بدائل للتعليم عن بعد (كالإذاعة التلفزيونية والإذاعية) لتخفيف آثار الفجوة التكنولوجية . التجارب الدولية الناجحة تسهم الأمثلة الناجحة حول العالم في توضيح إمكانية تحقيق فوائد التحول الرقمي. إلى جانب تجربة أوروغواي المذكورة، حقّقت استونيا وفنلندا وغيرها من الدول تطورًا مبكرًا في التعليم الرقمي؛ فقد وفّرت أستونيا منصة إلكترونية موحدة للمدارس والمدّرسين لتعزيز التفاعل بين الطالب والمعلم. كما عملت سنغافورة على تحديث المناهج لتشمل مهارات البرمجة والذكاء الاصطناعي تدريجيًا. وتقع هذه الابتكارات ضمن إطار استراتيجيات وطنية تعليمية تهدف إلى تحسين جودة التعليم وملاءمته لاحتياجات العصر. على الصعيد الدولي، تشارك اليونسكو والمنظمات العالمية بيانات وتوصيات؛ فبالإضافة إلى مبادراتها التي أشرنا إليها، أصدرت اليونسكو توصيات ونماذج كإطار كفاءات تكنولوجيا المعلومات للمعلمين، وإرشادات للذكاء الاصطناعي في التعليم، لدعم صانعي السياسات في تعظيم منافع التحول الرقمي وتقليل مخاطره . التجربة المحلية في العراق في السياق المحلي، شرعت مؤسسات عراقية وعربية في تبني إجراءات للتحول الرقمي بالرغم من التحديات. فعلى سبيل المثال، نظمت اليونسكو بالشراكة مع الحكومة العراقية وقطاع الاتصالات في مايو 2020 قمة افتراضية تحت عنوان «التعلّم لا يتوقف»، هدفت إلى دعم معاهد التدريب التكنولوجي واستمرارية التعليم الجامعي خلال جائحة كورونا . وأكد ممثلو اليونسكو التزامهم بتعزيز التعلم عن بُعد في العراق، وتبادل الخبرات حول الحلول الممكنة لضمان جودة التعليم الرقمي واستمراريته . على الرغم من محدودية البنية التحتية، أعلنت الحكومة العراقية عن مبادرات لتحسين الاتصالات وبث الدروس التلفزيونية، وسعت وزارة الاتصالات إلى توسيع تغطية الإنترنت في المناطق الريفية . وتُعد هذه الجهود بذورًا أولية نحو تقليص الفجوة الرقمية محليًا، ويظل التحدي قائمًا في تدريب المعلمين وضمان صيانة الأجهزة واستمرارية الكهرباء. أثر التحول الرقمي على جودة التعليم وتكافؤ الفرص يؤدي التحول الرقمي في نهاية المطاف إلى تعزيز جودة التعليم وجعله أكثر شمولًا. فالأساليب التعليمية الرقمية الشخصية (مثل المحتوى التكيفي والفصول الافتراضية) تحسن فهم الطالب وتلبيه احتياجاته الخاصة، مما ينعكس إيجابيًا على التحصيل العلمي. وقد لخصت دراسة حديثة أن التحول الرقمي يعزّز التفاعل وسهولة الوصول، وفي النهاية يخفض نفقات التعليم عبر الإنترنت ويعزز شموليته. من ناحية أخرى، يؤكد الخبراء أن تساوي فرص الوصول إلى هذه التقنيات يجب أن يكون هدفًا أساسيًا؛ إذ يلزم توجيه الدعم للفئات المهمشة (كالطلاب في المناطق الريفية والفتية ذوي الاحتياجات الخاصة) لضمان العدالة التعليمية . وفي هذا السياق، يشير البنك الدولي إلى أن توفير تعليم ذو جودة ومتاحة للجميع في جميع مراحل الحياة يعد أمرًا حاسمًا للقضاء على الفقر والتفاوت الاجتماعي . لذلك فإن معالجة تحديات الفجوة الرقمية وتدريب المعلمين وضمان تمويل مستدام، كلها عوامل ضرورية لتحقيق التأثير الإيجابي الكامل للتحول الرقمي على مستوى التعليم. وختام القول ان التحول الرقمي في التعليم يشكل ثورةً حقيقية تزحف عبر المؤسسات التعليمية عالمياً ومحلياً. فهو يقدم فرصًا واعدة لتحسين جودة التعليم وتوسيع فرص التعلم، غير أن تحقيق هذه المنافع يتطلب جهودًا متوازنة لمواجهة العقبات التقنية والتربوية والاقتصادية. من خلال تبنّي سياسات شاملة تجمع بين الاستثمار في البنى التحتية الرقمية، وتطوير المحتوى التعليمي وتدريب المعلمين، يمكن للدول أن تحوّل هذه الثورة إلى رافعة تنموية. تؤكد التجارب الدولية والمحلية على أهمية الدمج الذكي للتكنولوجيا مع اهتمام الإنسان في صميم العملية التعليمية، لضمان أن تعود ثمار التحول الرقمي على جميع الطلاب دون استثناء. في النهاية، فإن الاستثمار في التعليم الرقمي لن يثري فحسب المهارات التقنية للجيل الصاعد، بل سيُسهم في بناء مجتمعات أكثر مساواة واستدامة، تحقق أهداف التنمية المستدامة للتعليم.


شفق نيوز
١٨-٠٧-٢٠٢٥
- شفق نيوز
ماذا يعني دخول البحرين عالم الطاقة النووية السلمية؟
انضمت البحرين إلى الدول الخليجية الساعية لتطوير الطاقة النووية السلمية، إذ وقّعت الولايات المتحدة والبحرين بالأحرف الأولى اتفاقية للتعاون النووي المدني، في "خطوة تُظهر استعداد الولايات المتحدة للشراكة مع أيّ دولة ترغب في متابعة برنامج نووي مدني لا يهدف إلى إنتاج أسلحة أو تهديد أمن الدول المجاورة"، بحسب تعبير وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو. وجاء ذلك في إطار الزيارة الرسمية التي قام بها ولي عهد البحرين ورئيس مجلس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فماذا يعني ذلك بالنسبة للبحرين؟ EPA تأتي اتفاقية التعاون النووي المدني في إطار التزام البحرين بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، وبما يسهم في دعم الجهود الدولية لمواجهة تحديات التغير المناخي وحماية البيئة. ومن شأن التعاون الثنائي أن يساهم في تطوير قدرات البحرين في استخدام الطاقة النووية لأغراض مدنية، وتلبية احتياجاتها مثل توليد الكهرباء وتحلية المياه وتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على النفط، كما من شأنها أن تتيح للمنامة الاستفادة من التكنولوجيا والخبرة الأمريكية في هذا المجال والتعاون في مجالات "الأمان النووي"، كالتدريب والبحث، مع الالتزام الكامل بالمعايير الدولية. ويأتي التوقيع البحريني- الأمريكي في ظل الانخراط الخليجي في قطاع الطاقة النووية السلمية والالتزام بشكل أكبر بأهداف الاستدامة والطاقة النظيفة، على سبيل المثال، تمضي الإمارات في تشغيل مفاعل "براكة"، فيما تسير السعودية بخطوات ثابتة نحو تعاون مع الولايات المتحدة لتطوير الصناعات النووية السلمية داخل المملكة. ويقول الكاتب السياسي البحريني عبدالله الجنيد إن التفاهم البحريني الأمريكي يأتي في إطار توجّه دول مجلس التعاون الخليجي للانخراط في عملية تعزيز مصادر إنتاج الطاقة الكهربائية وقدرات تحلية المياه وتوجيه جزء كبير من هذه الاحتياجات للصناعات الجديدة، مضيفاً لبي بي سي عربي أن البحرين لديها طموح كبير في عملية الانخراط بشكل حيوي في الثورة الصناعية الرابعة كالحاسوب الكمي وتخزين المعلومات، وهذا يقتضي وجود مصادر طاقة تكون ذات كفاءة عالية. أما الخبيرة في الشؤون النووية في منطقة الخليج نور عيد، فتوضح أن معظم الدول، عندما تعلن عن رغبتها في تطوير الطاقة النووية، تبدأ بتوقيع مذكرات تفاهم مع العديد من الشركاء لتنويع خياراتها لأن مذكرة التفاهم لا تُلزمها بشيء، بل هي فقط بمثابة إعلان عن "خطى جدّية" في المضي بخطة لتطوير الطاقة النووية السلمية، ولكن عندما تبدأ عملية تقديم العروض، عندها يبدأ اتخاذ القرار الفعلي، بحسب وصفها. وتضيف عيد في حديث لبي بي سي عربي أنه بالنسبة للبحرين ونظراً لأنها دولة صغيرة، لا تملك القوى العاملة اللازمة ولا الخبرة الفنية لتطوير برنامج طاقة نووية متكامل، وتعطي مثالاً عن الإمارات التي بدورها لا تملك القوى العاملة الكافية لتشغيل المحطات النووية بنفسها، بل اعتمدت على شركات كورية لهذا الهدف وبعدد كبير من الخبراء الأجانب. لكن عيد لفتت إلى وجود مفاعلات SMRs أي المفاعلات المعيارية الصغيرة وهي مفاعلات نووية مصممة لتكون أصغر حجماً وأكثر مرونة من تلك التقليدية، يمكن تصنيعها ونقلها وتركيبها في مواقع وبلدان مختلفة، وهي لا تتطلب مساحة كبيرة، وبالتالي فإن كثيراً من الدول باتت تفكر في تطوير مفاعلات مماثلة، لأنها ليست مكلفة مقارنة بمحطات الطاقة النووية التقليدية كما أنها سهلة التشغيل، فضلاً عن استئناف البنك الدولي تمويل مشاريع الطاقة النووية بعد توقف دام عقوداً، وذلك في إطار جهوده لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة النظيفة ودعم التنمية المستدامة. وتتوقف عيد عند واقع قطاع الطاقة النووية في الولايات المتحدة الذي تقول إنه "يعاني"، مشيرة إلى أن الأمريكيين يراهنون على مفاعلات SMRs التي يُتوقع أن ينتهوا من العمل على النموذج الأولي منها في العامين المقبلين، لإحياء صناعتهم النووية، على الرغم من كلفتها المرتفعة. لكنّ الأمر لن يشكّل مشكلة بالنسبة للخليجيين عموماً وللبحرين خصوصاً، بحسب عيد، التي ترى أن توقيع البحرين على مذكرة التعاون هو خطوة سياسية أكثر من أي شي آخر. توقيت حساس وأبعاد استراتيجية ويرى بعض المراقبين أن التوقيع يأتي في توقيت استراتيجي يحمل أبعاداً جيوسياسية واقتصادية مرتبطة بالوضع الإقليمي والدولي. فهو يأتي في ظل التصعيد المتجدد حول البرنامج النووي لجارة البحرين، إيران، وبعد المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران التي دامت 12 يوماً، والضربة العسكرية التي وجّهتها الولايات المتحدة للمفاعلات النووية الإيرانية. ويعتبر أستاذ العلاقات الدولية الدكتور خطار أبو دياب، أن التوقيع بين المنامة وواشنطن هو رسالة لإيران بأنّ كل شيء ممكن، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت قد شددت على أهمية سلمية البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي هو "نوعٌ من التحفيز للجانب الإيراني". ويقول أبو دياب لبي بي سي إن الولايات المتحدة تتجه لشراكات في مجال الطاقة البديلة والطاقة النووية السلمية في كل دول المنطقة، وتسعى لتأخذ "الحصة الأساسية من الكعكة" في ظل منافسة من قبل دول أخرى أبرزها كوريا الجنوبية والصين وروسيا وبعض الدول الأوروبية. وصحيح أن الولايات المتحدة تسعى لجني مكاسب اقتصادية - بحسب أبو دياب - لكنها في المقابل تعمل على الإسهام بإعادة صياغة منظومة إقليمية أمنية، موضحاً أنه وعلى الرغم من إمكانيات البحرين المحدودة قياساً بدول أخرى غنية في المنطقة، إلا أن التوقيع هو خطوة لطمأنة البحرين، بمعنى أن الولايات المتحدة عندما تقوم بالتعاون النووي المدني مع أي دولة، فهي تشكل ضمانة أمنية لها بشكل أو بآخر، حتى لو لم تعلن ذلك صراحة. ما الذي يجمع المنامة وواشنطن؟ لا شك أن اتفاقية التعاون النووي السلمي فضلاً عن الاستثمارات البحرينية التي أُعلن عنها بقيمة 17 مليار دولار أمريكي، وتشمل اتفاقيات في مجالات الطيران والتكنولوجيا والصناعة والاستثمار، ستعزز من الثقة المتبادلة والشراكة المتينة بين البحرين والولايات المتحدة، وتفتح باباً لتعاون أوسع في مجالات أخرى ضمن تحالف استراتيجي طويل الأمد. وبحسب الكاتب السياسي البحريني عبدالله الجنيد، فإن البحرين ليست بجديدة على الاستثمار في الصناعات التحويلية، متوقفاً عند أهمية اتفاقية إنشاء كابل ألياف ضوئية بحري بطول 800 كيلومتر في شمال الخليج، يربط بين البحرين والسعودية والكويت والعراق بالشبكات العالمية، وقال إنه أحد المشاريع ذات الأبعاد الاستراتيجية بعد تعرّض الكابلات البحرية التي تمرّ في خليج عدن وباب المندب لكثير من التهديدات والهجمات. ويضيف الجنيد أن البحرين والولايات المتحدة تحكمهما علاقات تاريخية ليست وليدة سنوات مضت، كما أن المنامة طوّرت علاقات مختلفة مع الإدارة الأمريكية على المستويات كافة. وتستضيف البحرين مقر الأسطول الخامس الأمريكي على أراضيها ما يجعلها مركزاً رئيسياً للعمليات البحرية الأمريكية في الخليج، ولأمن حركة الملاحة في المنطقة. كما أنها أول دولة خليجية توقع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة دخلت حيز التنفيذ في يناير/حزيران 2006، فضلاً عن كونها طرفاً رئيسياً في الاتفاقيات الابراهيمية التي رعاها ترامب خلال ولايته الرئاسية الأولى، والتي أقامت بموجبها البحرين علاقات رسمية مع إسرائيل.