
النتائج لا تنضج على نارٍ باردة
ليست كلمات تُلقى على عواهنها، بل قانون صارخ يحكم سير الكون والإنسان معاً: «النتائج لا تنضج على نارٍ باردة».
إنها حكمة تختزل سر كل عظمة، وشرط كل إنجاز، وصيغة كل تحول حقيقي في دنيا الفرد والجماعة.
فهي دعوة صريحة لمن أراد الوصول: أن يتحمل الوجع، ويصادق النار، لأن الثمرة اليانعة لا تُجنى إلا من شجرة سُقيت بعرق التحدي، ونمت تحت شمس الجهد المتوقد.
تأمل في النجم المتألق في كبد السماء، أتظنه ولد بارداً هادئاً؟
كلا. لقد تشكل في رحم انفجار هائل، اندماج نووي محرق حوَّل المادة الخامدة إلى مصدر نور وحياة.
ناره الذاتية هي سر بقائه، وغيابها موته. كذلك الإنسان الطامح إلى القمة - في العلم، الفن، القيادة، أو بناء الذات - لا يصعد سلالم المجد بقدمين مرتاحتين. طريق المعرفة محفوف بوجع السهر والتجريب والفشل المتكرر.
مسار الإبداع يمر عبر أتون الشك والبحث المضني عن الجمال والحقيقة. نار الجهد المحرق، والرغبة المتوقدة، والصبر الناري على المكاره، هي الوقود الوحيد الذي يدفع المرء من سكون الأماني إلى حركة الإنجاز.
انظر إلى «العلاقات الإنسانية العميقة»: هل تُبنى الثقة كقلعة على رمال اللامبالاة؟ هل يُنسج الحب المتين بخيوط البرود العاطفي؟ مستحيل. الصداقة الحقيقية تزهر في تربة المواساة الحارة وقت الشدائد، وتُسقى بدفء الوجود المستمر لا بالغياب المتكرر. الحب الزوجي الناضج يتطلب نار التضحية الصغيرة كل يوم، ووجع التفاهم عند الخلاف، وحرارة الصبر على نقائص النفس والآخر. العلاقة التي تُترك على «نار باردة» من الإهمال والاتكالية والأنانية، سرعان ما تتحول إلى رماد الفتور والانطفاء.
النار هنا هي دفء البذل المستمر، ووهج المشاعر الصادقة، وجمر التغاضي عن الهفوات.
وفي عالم المال والطموح وبناء الأمم، القانون أوضح من شمس الظهيرة.
لا تقوم شركة عظيمة من فراغ الرغبات الباردة.
«ريادة الأعمال» هي رقص على الجمر: وجع المخاطرة المحسوبة، حرارة العمل المتواصل حتى إرهاق الجسد، نار الإصرار الذي لا ينطفئ عند أول عاصفة فشل.
الاقتصادات القوية لم تُشيَّد بخطط نظرية مجمدة، بل بتفاعل حار بين العقول المبتكرة ورؤوس الأموال الجريئة والأيادي العاملة التي تحترق حماسةً لتحقيق المستحيل. والمجتمعات التي تريد النهوض من غفوتها لا تنتظر معجزة باردة، بل تشعل نار المبادرة الفردية والجماعية، وتتحمل وجع التغيير، وتواجه الفساد والتخلف بحرارة المسؤولية المستمرة بالحق والعدل.
النتائج الحضارية لا تنضج في صقيع السلبية والشكوى المجردة.
حتى الطبيعة الصامتة تُرينا الدرس نفسه: «اللؤلؤة» الثمينة وُلدت من رحم الألم، حبة رمل دخلت محارة فتحملت الوجع، وأفرزت حولها مادةً تكلّلت بمر الزمن جوهرةً.
الجبال الشامخة صعدت من أعماق الأرض عبر زلازل وحرائق باطنية هائلة، تحملت وجع التحول لتصير سيدة الأفق.
«البذرة» التي تريد أن تصير شجرةً، لا تكفيها برودة التراب، بل تحتاج إلى نار الشمس لتحفيز نموها، وجهد الانكسار لقشرة الظلام، ووجع اختراق الصخور لتمتد جذورها نحو الحياة.
إذن، «مصادقة النار» ليست دعوة للتدمير الذاتي أو التهور، بل هي اعتراف بالثمن الحتمي، فلا شيء ثمين يُمنح مجاناً.
الألم الجهدي، والتعب، والتضحية، والتحدي، هي العملة الوحيدة لشراء العظمة.
«فهمٌ لطبيعة التحول»: النضج والوصول عملية كيميائية تحتاج إلى حرارة (جهد، حماسة، إصرار) لتحدث التفاعل المطلوب وتحويل المادة الخام (الفكرة، الرغبة، القدرة) إلى نتيجة ملموسة.
«استعدادٌ للخروج من السكون»: منطقة الراحة هي «النار الباردة» القاتلة.
مصادقة النار تعني الرضا بالتوتر الإيجابي، والخروج المستمر من المألوف لمواجهة المجهول.
«إيمانٌ بأن الوجع مؤقت، والإنجاز خالد»: ألم التدريب يزول ويبقى الجسد القوي، وجع الدراسة ينتهي ويبقى العلم، تعب البناء يختفي ويقف الصرح شامخاً.
فليكن هذا العنوان شعاراً لكل راغب في الوصول: «النتائج لا تنضج على نارٍ باردة».
فأشعل في قلبك جذوة الإرادة، واحتضن وجع السعي بصدق، وصادق النار التي تصهر العجز وتُخرج الذهب الخالص من تراب الذات.
ففي الفرن الكوني العظيم، حيث تُطبخ العظائم وتُخبز الإنجازات، لا مكان للنار الفاترة.
كن أنت الوقود، وكن أنت اللهيب، وستجد ثمار عملك – يانعةً وحلوة المذاق – تنضج في وقتها، شاهدةً على أنك تحملت الوجع، وصادقت النار، فحصدت المجد..
أخبار ذات صلة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 4 ساعات
- العربية
كواليس من "مدرسة المشاغبين".. أجر عادل إمام المتدني واتصال عبد الوهاب
شهدت سبعينيات القرن الماضي عمل مسرحي "أيقوني"، هو "مدرسة المشاغبين"، الذي أطلقته فرقة "الفنانين المتحدين" والذي قام ببطولته كلٍ من عادل إمام وسعيد صالح وسهير البابلي. وكشف المنتج الراحل سمير خفاجي كواليس مثيرة لهذا العمل المسرحي، وذلك في مذكراته "أوراق من عمري" التي اطلعت عليها "العربية.نت". وبدأ العمل على هذه المسرحية بعد انفصال فؤاد المهندس وشويكار عن فرقة "الفنانين المتحدين" وانضمامهما لـ"فرقة محمد عوض المسرحية"، حينها حاول خفاجي التعافي من هذه الصدمة وأيقن أن عرض "مدرسة المشاغبين" سيكون الحل الأمثل لعودة فرقته من جديد للساحة الفنية. حاول خفاجي في تلك الفترة التغلب على الأزمات المالية التي كانت تحاصره، وتلقى يوماً ما اتصالاً من مصطفى بركة عرض فيه عليه الشراكة في الإنتاج. اضطر خفاجي للموافقة على هذا العرض كي يجد سبيلاً مادياً ينفق من خلاله على العمل. وقّع الثنائي على عقد الشراكة، وبعدها بدأت عملية التوقيع مع أبطال العرض، حيث انضم عبد المنعم مدبولي للعمل مقابل 650 جنيه (وهو أعلى أجر بين جميع أعضاء فريق العمل)، كما وقّع سعيد صالح مقابل 80 جنيهاً شهرياً، بينما حصل عادل إمام على 70 جنيهاً شهرياً، وحصل يونس شلبي على 20 جنيهاً شهرياً باعتباره كان وجهاً جديداً وكان لا يزال يدرس في المعهد. بدورها، وقّعت نجلاء فتحي على عقد الانضمام إلى المسرحية، وكانت المرة الأولى التي ستقف فيها على خشبة المسرح، لذلك وجهت سؤالاً إلى المنتج يتعلق بعدد الأيام التي ستعرض فيها المسرحية، فأخبرها أن العرض يتم بشكل يومي باستثناء يوم واحد أسبوعياً للراحة، وهو ما أجابت عليه مشيرةً لصعوبة التزامها بشكل يومي. حينها، تراجع المنتج عن تعاقده مع نجلاء فتحي، وحاول التفاوض مع سميرة أحمد، لكنه لم يصل معها إلى اتفاق، فوقع الاختيار أخيراً على سهير البابلي لتلعب دور المدرِّسة في المسرحية. حقق العرض نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير، وكان الجمهور يجد صعوبة كبيرة في الحصول على تذاكر للعروض فتسبب هذا الأمر بمواقف طريفة للمنتج. من 2 وروى خفاجي أنه كان يتعرض بشكل يومي لمقالب من الفنان حسن مصطفى، الذي كان يشارك في العرض في دور المدرس، حيث كان يتصل به هاتفياً ويقوم بتغيير نبرة صوته، ليخبره تارة أنه تابع لرئاسة الجمهورية، وتارة أخرى أنه وزير الثقافة ويرغب بالحصول على تذاكر للعرض. وفي أحد الأيام، رن الهاتف ليجيب خفاجي فيجد الشخص الآخر يخبره أنه الموسيقار محمد عبد الوهاب ويرغب في الحصول على 4 تذاكر للمسرحية، فشك خفاجي بأن المتصل هو حسن مصطفى فقام توبيخه وأغلق الخط. فوجئ بعدها المنتج باتصال هاتفي من أحد الصحافيين الذي عاتبه على ما فعله مع محمد عبد الوهاب، ليدرك حينها المنتج أن الاتصال كان حقيقياً، فوجّه اعتذاراً إلى الموسيقار ومنحه تذاكر للعرض. ومضت الفرقة في طريقها وحققت المسرحية نجاحاً مدوياً، وبعدها قدم خفاجي بعض العروض المسرحية الأخرى. كما أعاد تقديم "مدرسة المشاغبين" من جديد، وحل وقتها حسن مصطفى في دور عبد المنعم مدبولي، بينما قدم عبد الله فرغلي الدور الذي كان يقدمه حسن مصطفى، وهي التوزيعة التي ظهرت تلفزيونياً وانشهرت. وفي عام 1980، قرر خفاجي إعادة تقديم "مدرسة المشاغبين"، وذلك بعد أن انتهى من تقديم عروض مسرحيتي "العيال كبرت" و"شاهد ما شفش حاجه". استطاع وقتها بالفعل جمع النجوم من أجل إعادة إحياء العمل، لكن أحمد زكي رفض أن يشارك في العرض فحل بدلاً منه محمود الجندي. لكن المسرحية لم تحقق حينها نجاحاً فنياً. وفوجئ وقتها الجميع بأن الجمهور كان ينطق بـ"الإفيه" قبل أن يقوله النجم على خشبة المسرح. ولم يكن الجمهور يضحك بسبب حفظه للمسرحية وأحدثاها وحواراتها، حيث كان يستمع إليها على شرائط على مدى سنوات قبل إعادة عرضها.


الشرق الأوسط
منذ 8 ساعات
- الشرق الأوسط
السؤال مرة أخرى
أعرف أني في مقالتي السابقة المنشورة بهذه الصحيفة الغراء، يوم الأحد الأسبق، بعنوان «الثقافة الغربية... هل تتراجع؟»، أعرف أني تعرضت لقضية تتعدد فيها الآراء والمواقف، ويحتمل التعبير عن هذه الآراء معاني مختلفة تفرض على الكاتب ما تفرضه على القارئ، وهو التعامل مع الكلمات بسَعة صدر تسمح للكلمة بأن تفصح عن المعنى وتشير إلى غيره، وتجمع بين القريب والبعيد، وبين المباشر وغير المباشر. هذا ما حاولت أن أعبر عنه في عنوان المقالة الذي جعلته سؤالاً مطروحاً يفتح المجال لتعدد الإجابات، ولم أجعله حكماً أو تقريراً؛ لأن الثقافة موضوع المقالة، والثقافة صور مختلفة يراها كل منا متأثراً بما لديه من معلومات، وبما ينتمي له في الفكر والسياسة، وبالظروف المختلفة التي تحيط به وتُريه صوراً في الثقافة تختلف وتتعدد؛ لأن ما يراه المنتمون لهذا الجانب يختلف عما يراه المنتمون لغيره، والذي يظهر للناس في مرحلة من المراحل يتراجع في مرحلة أخرى. وكلمة الثقافة في ذاتها تشير إلى أكثر من معنى. نقول الثقافة ونعني بها ثقافتنا القومية، ونقول الثقافة ونعني بها الثقافة عامةً؛ القومية والإنسانية. والثقافة في حديثنا المتداول هي، في الغالب، الإنتاج الأدبي والفني، لكنها في التقارير والدراسات العلمية تجمع بين هذا الإنتاج من ناحية، وبين العادات والتقاليد والنظم السائدة من ناحية أخرى. وكما أن في استطاعتنا أن نشير إلى كل ثقافات العالم بكلمة واحدة حين نتحدث عن الثقافة الإنسانية، فباستطاعتنا كذلك أن نتحدث عن الأطوار المختلفة التي تمر بها الثقافة الواحدة صعوداً وهبوطاً، كما فعل المفكر الألماني أوزوالد شبنجلر في كتابه «سقوط الغرب»، الذي أصدره قبل مائة عام وميّز فيه بين التراث الأوروبي القديم والثقافة الأوروبية الحديثة. التراث الأوروبي القديم في نظر شبنجلر هو الثقافة المعبرة عن الروح الأوروبية من حيث هي تاريخ وقيم ونظرة متميزة للعالم. وقد بدأت هذه الثقافة تتدهور في القرن الثامن عشر وتصبح حضارة تقوم على العلم والصناعة والتقنيات الحديثة. وبداية الحضارة بالنسبة له هي بداية تراجع الثقافة. *** وشبيه بهذه الأفكار التي عبر عنها شبنجلر في كتابه «سقوط الغرب»، الأفكار التي قدمها الكاتب الأميركي آلان بلوم في كتابه الذي أصدره في ثمانينات القرن الماضي بعنوانه المعبر عن ازدرائه الثقافة السائدة في أميركا وهو «انغلاق العقل الأميركي». وفيه يميز بين ثقافة الجماهير التي نشطت في أعقاب الحرب العالمية الثانية ورفعت شعار التعددية والديمقراطية واعتمدت في انتشارها على أجهزة الاتصال الحديثة، وبين الدراسات الكلاسيكية التي تراجع الاهتمام بها في الجامعات ليحلَّ محلها التعليم التقني المهني الذي يُقبل عليه الطلاب ليحصلوا على الوظائف دون أن يتزودوا بالثقافة الإنسانية التي يحتاج لها الجميع. هذه النظرة للثقافة التي عَدَّها آلان بلوم انغلاقاً تقابلها نظرة أخرى تتناقض معها ويعبر عنها كاتب أميركي آخر هو لورنس ليفين في كتابٍ ردّ به على كتاب بلوم وسمّاه «انفتاح العقل الأميركي»، وفيه يتحدث عن التعددية الثقافية التي تسمح للأميركيين، على اختلاف أصولهم، البيض، والسود، والهنود الحمر، والأميركيين الجنوبيين، بأن يعيشوا جنباً إلى جنب. وهذا ما ساعد هذه التعددية الثقافية على الانتشار؛ لأنها تعبر عن واقع ملموس. فإذا كان الحديث عن الثقافة يسمح بالاختلاف إلى هذا الحد، فباستطاعتي أن أعود لأطرح السؤال الذي طرحته في مقالتي السابقة عن الثقافة الغربية... هل تتراجع؟ *** وكنتُ في المقالة السابقة قد أشرت إلى افتقار الثقافة الفرنسية إلى الأسماء الكبرى في السنوات الخمسين الأخيرة التي لم يظهر فيها مَن يحل محل جان بول سارتر، أو لويس أراجون، أو آلان روب جرييه، وأمثالهم من الشعراء والروائيين والفلاسفة. وهذا ليس مجرد قضاء وقدر أو قصور فردي، ولكنه واقع ومناخ تسبَّب في الوصول إليهما انخفاض مستوى التعليم، وتراجع الدوافع، وانحسار الشعور بالغايات النبيلة التي تُحرك الطاقات، وتساعد على الاكتشافات، وتؤدي للتواصل. مِن هنا ضعف الإنتاج الثقافي وتراجع في المرحلة الراهنة التي لم تعد تنتج أعمالاً متميزة تذيع أسماء أصحابها في فرنسا وخارج فرنسا، كما كان يحدث من قبل. وكما تراجعت الأعمال المتميزة والأسماء المنتجة، تراجع الجمهور المتلقي، فلم يعد يشعر بالحاجة للثقافة، ولم يعد يطالب، ولم يعد يختار. وهكذا انقطعت الصلة بين الحاضر والماضي أو كادت، فالحاضر لم يعد استمراراً للماضي، والماضي لم يعد له تأثير. وكنتُ في المقالة السابقة أيضاً قد أشرت إلى ما ذكرتْه إحدى المنظمات الدولية في تقرير لها عن تراجع الثقافة الكلاسيكية في برامج التعليم الفرنسية. وفي مقالة اليوم أضيف صورة أخرى من صور التراجع نجدها في تقريرٍ أعدَّه المركز القومي للكتاب في فرنسا، الذي بدأ عمله منذ عشر سنوات، وأعلن، في تقريره، أن الفرنسيين أصبحوا يقرأون أقل، عاماً بعد عام. والتقرير يفصل ما يقول ويستند فيه لإحصاءات محددة، فيقول إن الذين كانوا يقرأون كل يوم تراجعت نسبتهم، وإن قراءة الكتب المطبوعة تتراجع لتحلَّ محلها القراءة عن طريق الكمبيوتر أو التليفون. وإن نصف القراء الفرنسيين، الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر عاماً وأربعة وثلاثين عاماً، يقرأون بهذه الطريقة، وإن جمهور الكتاب المسموع زاد بالقياس إلى الكتاب المطبوع. والذين يجلسون أمام الشاشات ممن بلغوا السابعة من أعمارهم حتى الذين قاربوا العشرين تضاعف عددهم عدة مرات، وإن الوقت الذي يقضيه الفرنسيون في قراءة الكتب يُحسَب الآن بالدقائق، على حين يجلسون أمام الشاشات بالساعات، وإن سبعين في المائة من الكتب المقروءة روايات. *** وباستطاعتنا أن نضيف لما قلناه ما شهدته الساحة السياسية الفرنسية، في السنوات الأخيرة، من تراجع في صفوف اليسار مقابل النفوذ المتزايد الذي حققه اليمين المتطرف المتمثل فيما يسمى «التجمع الوطني»، وهو حزب تتزعمه ماري لوبن استطاع أن يحتل في آخِر انتخابات برلمانية مائة وثلاثة وأربعين مقعداً، وهو عدد يزداد على الدوام ويهدد باستيلاء هؤلاء العنصريين المتطرفين على السلطة. فقد بدأ هذا الحزب طريقه إلى البرلمان باثنين وثلاثين نائباً ظلوا يزدادون حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن. واليمين المتطرف الذي يزداد نفوذه في فرنسا يزداد نفوذه في دول أوروبية أخرى، ومنها إيطاليا التي ترأس حكومتها الآن جورجيا ميلوني الشبيهة بماري لوبن، ومنها المجر. والثقافة الأوروبية الراهنة مسؤولة، من جانبها، عن اتساع نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة في هذه المرحلة التي تُذكّرنا بثلاثينات القرن الماضي حين استولى الفاشيون والنازيون على السلطة في إيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، وأعلنوا الحرب على العقلانية والاستنارة وحقوق الإنسان.


الرياض
منذ 8 ساعات
- الرياض
تحويل الرواية للسينما.. صناعة ثقافية مستدامة
في مشهد ثقافي يتطور بثبات، أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية مؤخرًا عن ترشيح قائمة طويلة من الروايات السعودية تمهيدًا لتحويلها إلى أفلام سينمائية، في خطوة يُنتظر أن تُحدث فرقًا نوعيًا في المشهد الإبداعي السعودي. هذه الخطوة لا تُعد مجرد مبادرة فنية أو مشروعًا عابرًا، بل هي فتحٌ جديد لآفاق التكامل بين الأدب والسينما، وتحقيق عوائد ثقافية، واقتصادية، واجتماعية واسعة. الأدب كرافعة للسينما لطالما كانت الرواية خزانًا غنيًا للحكايات الإنسانية، وللسينما تاريخ طويل في الاعتماد على الأدب كمصدر إلهام وكتابة. تحويل الرواية إلى فيلم لا يعني فقط "نقل القصة"، بل إعادة خلقها بلغة بصرية تُتيح لها الوصول إلى جمهور أوسع، بلغة عالمية تُحاكي العين والوجدان في آن. ترسيخ الهوية الثقافية من خلال تحويل الروايات المحلية إلى أفلام، تُتاح الفرصة لتجسيد تفاصيل الحياة السعودية، لهجتها، بيئتها، قضاياها، وتنوعها الجغرافي والثقافي، أمام العالم. كل فيلم مقتبس من رواية سعودية هو شهادة مرئية على تعقيدات المجتمع، وأحلامه، وتحوّلاته، ويُسهم في صياغة سردية وطنية يملكها السعوديون ويقدّمونها بأصواتهم. اقتصاد الثقافة إن الاستثمار في الرواية وتحويلها إلى فيلم هو استثمار في اقتصاد الإبداع. الصناعة السينمائية لا تنمو دون قصص قوية، والروايات تُعد خامة سردية جاهزًا للتكييف. هذه الخطوة تُحفّز دور النشر، الكتّاب، السيناريست، المخرجين، والممثلين، وتفتح وظائف جديدة، وسوقًا متجددة تحت مظلة الاقتصاد الإبداعي الذي بات أحد روافد "رؤية 2030". دعم الرواية وتقدير الكُتّاب حين يُشاهد القارئ شخصية روايته المفضلة تُجسّد على الشاشة، يشعر بقيمة ما قرأ، وبأن الأدب الذي يتابعه ليس حبيس الورق. ترشيح الروايات لهذا الغرض هو أيضًا رسالة تقدير لكُتّابها، وإشادة بمنجزهم، وتحفيز للأقلام الجديدة لتكتب وهي تدرك أن هناك من يمكن أن يستثمر أعمالها الإبداعية. بناء الجسر نحو العالمية حين تصل رواية سعودية إلى الشاشة، فإنها تخطو خطوة واسعة نحو العالمية. فالفيلم يمكن ترجمته، عرضه في مهرجانات، تداوله رقميًا، وبهذا تُصبح الرواية –ومن خلفها السعودية– حاضرة في الذاكرة الثقافية العالمية. إذن: ما تقوم به هيئة الأدب من ترشيح الروايات لتحويلها إلى أفلام ليس مجرد دعم لصناعة، بل هو صياغة لوعي ثقافي جديد. هو تأكيد بأن الحكاية السعودية تستحق أن تُروى بكل الوسائط، وأننا أمام جيل من الكُتّاب وصنّاع السينما القادرين على أن يحوّلوا النص إلى مشهد، والخيال إلى واقع، والهوية إلى رسالة.