logo
قراءة في كتاب "المسلمون ونصرة قضايا الأمة.. أحكام وضوابط" للدكتور سالم عبد السلام الشيخي

قراءة في كتاب "المسلمون ونصرة قضايا الأمة.. أحكام وضوابط" للدكتور سالم عبد السلام الشيخي

إيطاليا تلغراف٠٨-٠٥-٢٠٢٥

إيطاليا تلغراف نشر في 7 مايو 2025 الساعة 21 و 48 دقيقة
إيطاليا تلغراف
بقلم: د. علي محمد الصلابي
هذا الكتاب من تأليف فضيلة أخي وصديقي، الذي عرفته منذ أكثر من خمسٍ وثلاثين سنة في مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة المنورة. وقد وفقنا الله عز وجل للالتحاق بالجامعة الإسلامية في المدينة، حيث كان الشيخ الدكتور سالم عبد السلام الشيخي من طلبة كلية الشريعة، وكنت من طلبة كلية الدعوة وأصول الدين. وتجاورنا في المدينة، فتوثقت بيننا الصلة، وتقوّت أواصر المودة والأخوة والتناصح. ومن ثم التقينا مجددًا في مرحلة الدراسات العليا بجامعة أم درمان في السودان، قبل أن نفترق، فيكون من نصيبه الإقامة في الغرب، وبالتحديد في بريطانيا، متفرغًا للدعوة، والتدريس، والإفتاء، والخطابة، بينما بقيتُ في ديار المسلمين منشغلًا بالبحث والتأليف في مجالي التاريخ والتفسير.
وقد مضت بنا السنون، وتوالت الأعوام، وأصبح لكلٍّ منا أحفاد، واقترب وقت الرحيل إلى عالم البرزخ والقدوم على الله. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة. ولقد مرّ بخاطري شريط طويل من الذكريات، تخللته مواقف عميقة، ولقاءات مع مشايخ وعلماء وطلاب علم، ممن جمعتنا بهم العقود الماضية. ولعل الله ييسر لنا عرض تلك الذكريات وكتابتها يومًا ما، إن شاء سبحانه وتعالى.
ونعود إلى الكتاب الذي أحسن المؤلف اختيار عنوانه: 'المسلمون ونصرة قضايا الأمة: أحكام وضوابط'، منطلقًا فيه من قيم الإسلام ومبادئه في نصرة المظلوم والملهوف. ولا يخفى تأثره العميق بقضايا فلسطين وكشمير وبورما، وما يعانيه أهلها من ظلم، وتحيّز، وطغيان. وقد عرض أيضًا لحالة الوهن والغثائية التي تعيشها الأمة اليوم، كما وصفها رسول الله ﷺ في الحديث المشهور: 'يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها'، وقال قائل: أوَمن قِلّة نحن يومئذٍ؟
قال: 'بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن'.
قيل: وما الوهن يا رسول الله؟
قال: 'حب الدنيا وكراهية الموت'.
ويرى الكاتب أن على العلماء والفقهاء أن يوضحوا معالم طريق النصرة والمناصرة لإخوانهم المؤمنين المضطهدين في مختلف بقاع الأرض، حتى يكون موقف المسلمين قائمًا على أسس راسخة من العلم الشرعي والدليل الواضح والفقه النيّر، لكل من أراد القيام بالواجب الشرعي في النصرة. فطريق العمل ينبغي أن يُسترشد فيه بالعلم الصحيح، كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: 'من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح'.
وقد قسم الكاتب كتابه إلى أبواب وفصول ومباحث، حيث تناول في الباب الأول الجانب التأسيسي المفاهيمي لقضية النصرة، متضمنًا فصلين رئيسيين:
الفصل الأول: التحديد المفاهيمي
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: 'قضايا المسلمين: التعريف، والمفهوم، وبعض نماذجها المعاصرة.
وقد بيّن المؤلف أن لفظ 'القضايا' يُراد به النوازل والأزمات إذا ورد بصيغة المفرد. أما عند الإضافة – كما في 'قضايا المسلمين' – فيقصد به الكوارث والمظالم والمصائب التي تحلّ بجماعة من المسلمين في أي مكان في العالم، سواء كانت ذات طابع سياسي، أو اجتماعي، أو إنساني، أو غير ذلك.
كما فرّق بين مصطلحي 'القضية' و'الأزمة'، وبيّن أن 'القضية' – بحسب رؤيته – أشمل وأعمق، إذ إن الأزمات غالبًا ما تنشأ عن مشكلات داخلية في الأمة، كالأزمات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بينما القضايا قد تنجم عن مشكلات داخلية أو خارجية، مثل الاحتلال والحروب المفروضة على المسلمين. لذلك آثر الكاتب استخدام مصطلح 'قضايا المسلمين' بدلًا من 'أزمات المسلمين'، نظرًا لشموليته ودقّته.
وقارن المؤلف بين مفاهيم المشكلات، والقضايا، والكوارث، ثم تناول في المطلب الأول مفهوم القضايا في اللغة والاصطلاح، مبيّنًا الفروق الدقيقة في الاستخدام، ومقدمًا تعريفًا تأصيليًا يُبرز أبعاد المصطلح.
وفي المطلب الثاني، قدّم إطلالة موجزة على أبرز قضايا المسلمين في العصر الحديث، فبدأ بـ قضية فلسطين واحتلالها، ثم قضية كشمير تحت عنوان: 'مصيبة الاحتلال واغتصاب الأرض'.
وتطرق إلى ما تعانيه الأقليات المسلمة في العالم، مستعرضًا مآسيهم في عدد من الأقاليم مثل الإيغور في الصين، والروهينغا في بورما، وأشار إلى ما يتعرضون له من اضطهاد وتطهير عرقي.
كما تناول مأساة الحروب والفتن الطائفية التي عصفت ببلاد المسلمين، وخصّ بالذكر ما حلّ بالمسلمين في سوريا من دمار واستبداد.
ولم يغفل الحديث عن الجرائم القانونية والحقوقية، كالاعتقال السياسي، والسجن التعسفي لأصحاب الرأي من العلماء والمفكرين والسياسيين، متوسعًا في عرض هذه الفئة وما تعانيه من تضييق وتعذيب.
كما تحدث عن الحرمان من الحقوق الأساسية للإنسان، كالذين حُكم عليهم بالإقامة الجبرية في منازلهم، أو منعوا من السفر والتنقل، أو حُظر عليهم الخطابة والتواصل مع الناس.
ورأى أن هؤلاء المظلومين، من المعتقلين وأصحاب الفكر والرأي، ممن سُلبت منهم كرامتهم وحريتهم، يستحقون النصرة والمناصرة، والسعي الجاد لرفع الظلم عنهم، وإغاثتهم بكافة السبل الممكنة.
وفي المبحث الثاني، خصّصه للحديث عن النصرة، من حيث المفهوم والحقيقة، مبرزًا البعد اللغوي والشرعي. واستعرض فيه المعاني اللغوية التي أوردتها المعاجم لمادة 'نصر'، وهي: الإغاثة، والانتصار، والتأييد، والنجاة، والعطاء، والبذل.كما ناقش الفروق اللغوية بين النصرة والمعونة، ثم اختار تعريفًا شرعيًا للنصرة بعد دراسة، فقال:
'النصرة هي إعانة المسلمين المظلومين على الوصول إلى حقوقهم المشروعة، ودفع الأذى عنهم، وتأييدهم من أجل النجاة والخلاص من الظلم، مع إغاثتهم بكل ما يعين على تفريج كروبهم، ومواساتهم في آلامهم وأحزانهم.'
وتوقف كذلك عند مفهوم التخاذل لغةً واصطلاحًا، مؤكدًا وجود ظاهرة التخاذل عن نصرة المظلومين في واقع الأمة، على الصعيد الإنساني والشرعي.
وأما المبحث الثالث، فقد تناول فيه الضوابط والأحكام، وافتتحه بمدخل تعريفي، حيث عرّف الضوابط في اللغة والاصطلاح، وذكر أقوال العلماء في تعريف الضابط الفقهي، ثم عرض مناهجهم على النحو الآتي:
• المنهج الأول: اعتبار الضابط مرادفًا للقاعدة الفقهية.
• المنهج الثاني: التفريق بين الضابط والقاعدة، مع توضيح جوانب التمايز بينهما.
وفي المطلب الثاني من هذا المبحث، عرّف الأحكام لغة واصطلاحًا، وبيّن أقسامها ومجالات تطبيقها في السياق الفقهي.
وقد غلب على هذا الفصل الطابع الأكاديمي المتخصص، إذ ركز على تأصيل المفاهيم من حيث اللغة والاصطلاح، بأسلوب يوافق منهجية رسائل الماجستير والدكتوراه، ويمهّد لفهم أكثر دقة لقضية النصرة.
أما الفصل الثاني المعنون بـ'أحكام النصرة'، فقد احتوى على خمسة مباحث، كان المبحث الأول منها مخصصًا لـ دواعي النصرة وأسبابها الشرعية، وقد قُسّم إلى ستة مطالب، أولها:
المطلب الأول: النصرة وتحقيق الأخوة الإسلامية
استدل فيه بنصوص شرعية تؤكد رابطة الأخوة في الدين، من أبرزها قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وقوله ﷺ: 'مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.'
المطلب الثاني: النصرة والذمة الواحدة للمسلمين، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: 'المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم'.
والمطلب الثالث، تكلم عن وجوب النصرة وتحقيق الولاء بين المسلمين، واستدل بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ [الممتحنة:9]، وقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، وغير ذلك من الآيات وشروح العلماء لها من البغوي والقرطبي وابن كثير ومحمد سعيد القحطاني.
المطلب الرابع: المسؤولية الشرعية في القيام بالقسط والشهادة
استدل فيه بالآيات المحكمة التي تؤسس لمبدأ القسط، ومن ذلك قوله تعالى:
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29].
المطلب الخامس: الخلق الإسلامي ومقتضى عدم الخذلان
وقد تناول فيه مسؤولية المسلم في نصرة أخيه، وبيّن أن التخاذل خُلق مذموم يُناقض مقتضى الأخوّة الإيمانية.
المطلب السادس: ترك النصرة سبب للفتنة في الأرض
استدل بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، مشيرًا إلى أن عدم القيام بواجب النصرة يؤدي إلى اختلال التوازن وفساد الأرض.
المبحث الثاني: النصرة الشرعية: حكمها وأدلتها
تناول فيه الحكم الشرعي لإزالة الظلم عن المظلومين، ودفع المنكر والأذى، مستندًا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة تنهى عن خذلان المسلم أو تسليمه لعدوه.
وأكد وجوب النصرة القلبية وجوبًا عينيًا، واستدل بالأحاديث التي بيّنت مراتب الإنكار، مركّزًا على فضل الإنكار القلبي عند العجز.
المطلب الثاني: مسؤولية المرأة المسلمة في النصرة.
شدد على أن للمرأة دورًا مهمًا في نصرة قضايا الأمة، وذلك من خلال تربية الأبناء، والدعاء، والتوعية، والمساهمة في مجالات النفع العام بما يتوافق مع خصوصيتها الشرعية.
المطلب الثالث: أهل النصرة ومستحقوها
تناول فيه الفئات التي تستحق النصرة من أهل الإسلام، وبيّن ضوابط تحديد المستحقين شرعًا وفق مبادئ العدل والرحمة.
المبحث الثالث: المسؤولية الشرعية المترتبة على الامتناع عن تقديم النصرة
المطلب الأول: مفهوم الجريمة الإيجابية والسلبية.
عرّف الجريمة بنوعيها، وقارن بين الفعل العدواني المباشر (الجريمة الإيجابية)، وبين الامتناع المؤدي للضرر (الجريمة السلبية). واستشهد بآراء من كتب مؤثرة مثل:
• 'التشريع الجنائي الإسلامي' لعبد القادر عودة،
• 'الجريمة والعقوبة' لأبي زهرة،
• 'نظرية الجريمة السلبية' لداوود نعيم.
المطلب الثاني: الركن المادي في الجريمة السلبية وشروط تحقق الخطر
عرض فيه مكونات الجريمة بالامتناع، مركّزًا على توافر شرط الخطر المترتب على عدم الفعل.
المطلب الثالث: الامتناع السلبي عند تعيين الواجب.
ناقش فيه الخلاف الفقهي بين العلماء في هذا الموضوع، واستند إلى مصادر معتبرة كـ:
• 'مغني المحتاج' للشربيني،
• 'المغني' لابن قدامة،
• 'رد المحتار' لابن عابدين،
• 'حاشية الدسوقي على الشرح الكبير'.
المطلب الرابع: الامتناع عن النصرة الواجبة في حق المسلم
بيّن فيه الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي، موثقًا بالأدلة الشرعية وآراء المذاهب السنية الأربعة.
المبحث الرابع: القواعد والأصول الضابطة لوسائل النصرة الواجبة
ومن أبرز ما ورد في هذا المبحث، ما عرضه في المطلب الرابع حول نظرية 'الغاية تبرر الوسيلة'، حيث فنّدها تفنيدًا علميًا وشرعيًا، موضحًا فسادها العقلي والشرعي.
وقد قال في خلاصة بليغة:
'ينبغي على المسلمين وهم يقومون بواجب النصرة لقضايا أمتهم، أن يدركوا أن مخالفة الشرع في الوسائل كمخالفته في الغايات، وأن الغاية لا تبرر الوسيلة. ولا يجوز أن يُنصر المسلم المظلوم بوسائل محرمة، لأن النصرة لها ضوابط شرعية وأخلاقية لا يجوز تجاوزها.'
وحذّر من توظيف هذه النظرية لتبرير القتل والاعتداء على الأبرياء، مبينًا أن من يستخدمونها يرتكبون انتهاكات باسم النصرة، وهم في الحقيقة يخالفون مقاصد الشريعة، ويرتكبون أعظم الجرائم بحق الإنسانية، كما قال الله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وأكد أن كل مؤسسات الفتوى والمجامع العلمية المعاصرة أجمعت على تحريم الأعمال الإرهابية التي تُرتكب بزعم نصرة قضايا الأمة، واعتبر أن هذه الأعمال – من تفجيرات واغتيالات وقتل عشوائي – هي منافية للشرع، مفسدة في الأرض، وخارجة عن مقتضى الدين ومصالح الخلق.
وشرح في المطلب الخامس قاعدة 'الميسور لا يسقط بالمعسور'، وفي المطلب السادس 'وسائل النصرة بين الإباحة والتوقيف'، ووضح في المطلب السابع قاعدة 'سد الذرائع' وتطبيقاتها المعاصرة، وخلاصة ما قاله العلماء في هذا الصدد.
وفي المبحث الخامس تكلم الدكتور سالم عن النصرة، وتحدث عن آدابها وأسباب ضعفها في الأمة، وقسم هذا المبحث إلى مطالب مهمة منها:
المطلب الأول: المسارعة إلى النصرة واستحضار الواجب الشرعي، وتوسّع في بيان عظم التكاليف الشرعية وعظم المسؤولية، ودعا إلى المسارعة في النصرة والإغاثة.
المطلب الثاني: الإخلاص والاحتساب لله في نصرة المسلمين.
المطلب الثالث: الحرص على القليل وإتمام أعمال النصرة، معرجاً على القاعدة الشرعية 'لا تحقرن من المعروف شيئاً'، وضرب أمثلة، منها: التصدق بما يعادل نصف تمرة، والكلمة الطيبة، وإدخال السرور على قلب من تلقاه، والنهي عن احتقار المعروف الذي يقدمه الآخرون واستصغاره، واستدل بجملة من الأحاديث النبوية في بيان أجر الأعمال الصالحة التي ظاهرها أنها قليلة وهي عند الله عظيمة، ودعا إلى إتمام العمل الصالح والاستمرار فيه.
المطلب الرابع: حذر من خطورة المن والأذى. واعتبر من الآداب والأخلاق المتعلقة بواجب نصرة المسلمين لإخوانهم المظلومين وقضاياهم المتعددة والمتنوعة؛ أدب ترك المن والأذى، وبين حكم ذلك في الشريعة، واستدل بقوله تعالى: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ﴾ [البقرة: 264]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى﴾ [البقرة: 262]، وأشار إلى الآثار السيئة للمن على الفرد والمجتمع.
المطلب الخامس: تعرض لبيان أسباب ضعف النصرة في واقع الأمة، منها: ضعف استشعار الواجب الشرعي تجاه نصر المسلمين، وضعف معالم الإيمان وغياب مفهومه الصحيح، وغياب دور العلماء في التوعية والإرشاد بحقوق الأخوة الإسلامية، والتعلق بالدنيا والاستغراق في متطلباتها ولذاتها، والتفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة، والضعف التربوي والاجتماعي، والحرب الممنهجة على مؤسسات النصر والإغاثة.
وأفرد الباب الثاني للجانب التنزيلي والتطبيقي لقضية النصرة. ففي الفصل الثالث من الكتاب خصه لذكر وسائل النصرة، ووزع حديثه على أربعة مباحث، المبحث الأول: نصرة المسلمين بقنوت النوازل والدعاء.
وتكلم في المطلب الأول عن قنوت النوازل؛ التعريف والمشروعية.
والمطلب الثاني: مذاهب العلماء في قنوت النوازل.
والمطلب الثالث تكلم عن أحكام جامعة في قنوت النوازل.
وفي المطلب الرابع، تكلم عن سنن قنوت النوازل وآدابه وتوصيات للمسلمين، بأن يكون الدعاء مناسباً للمقام في طوله وصياغته، وتحدث عن تأمين المأموم في دعاء القنوت، وعن رفع اليدين في دعاء القنوت وبين أقوال الفقهاء في هذه المسائل الفقهية. وأفرد في المبحث الثاني حديثه عن النصرة المالية والإغاثية.
وجعل حديثه في المطلب الأول عن مقدمات وممهدات في النصرة المالية والإغاثية، وتكلم عن الإنفاق في سبيل الله تعالى وعظم المثوبة، وعن بعض وجوه الإنفاق في النصرة المالية كإغاثة البلاد المنكوبة، وإعانة الأسر الفقيرة، والمساهمة المالية في كل ما يعين على فكاك الأسرى والسجناء في المناطق المحتلة من العالم، وإغاثة المرضى بالأدوية ونحوها، وستر المستضعفين في أنفسهم وأهليهم وذويهم وسد خلّتهم، ورعاية الأيتام والأرامل كالرعاية المادية عبر ما يسمى 'الكفالة الشهرية'، والرعاية التعليمية والصحية، وتحدث عن التخريج الفقهي للمؤسسات القائمة على النصرة والإغاثة.
وفي المطلب الثاني، تحدث الشيخ الدكتور سالم الشيخي عن الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة، وأجاب عن سؤال: هل في المال حق سوى الزكاة؟
وفي المطلب الثالث تكلم عن أحكام مختارة في النصرة المالية لواقع المسلمين، كحكم قيام المؤسسات الإغاثية نيابة عن المسلمين بالسؤال والاستجداء للمحتاجين، وبين صورة المسألة واختلاف الفقهاء فيها، وفي جواز المسألة للغير، وكراهة المسألة للغير، وبين القول الراجح في ذلك، ورجح جواز سؤال الغير فيما يتعلق بسؤال المسلم لغيره، وخصوصاً للمؤسسات الإغاثية لما يترتب على ذلك من تحقيق مقاصد شرعية للنصرة.
وتكلم عن حكم جمع التبرعات لنصرة قضايا المسلمين في المساجد والمراكز الإسلامية، وتعجيل الزكاة بعد اكتمال النصاب قبل حولان الحول، وركز على صورة المسألة واختلاف الفقهاء والراجح في ذلك، وبيّن مذهب عامة الفقهاء في جواز تعجيل الزكاة، وبين الحكم الشرعي في نقل الزكاة من بلد إلى آخر.
وفي المطلب الرابع، وضح ضوابط النصرة الإغاثية المالية، كإخلاص النية لله، والالتزام بالأحكام الشرعية في مجال الإغاثة، وعدم الوقوع في المخالفة القانونية، وتوسيد الأمر لأهله، والالتزام بالضوابط الشرعية عند قبول المعونات من المؤسسات غير الإسلامية.
وفي المبحث الثالث، كان الحديث عن النصرة الإعلامية لقضايا المسلمين، وخصص هذا المبحث لبيان أهميتها وأحكامها وضوابطها المتعلقة بها، فتحدث في المطلب الأول عن حقيقة النصرة الإعلامية وأنواعها: كالكلمة الصادقة في وسائل الإعلام وعبر المؤتمرات والندوات واللقاءات الفكرية، والقلم النزيه الذي يكتب في الوسائل المتاحة في الصحف والدوريات ومواقع الإنترنت.
وفي المطلب الثاني، بين أهداف النصرة الإعلامية وقيمتها الأخلاقية كقيمة الالتزام بالحق والصدق والتثبت في الأخبار، والعدل والإنصاف. وفي المطلب الثالث أشار إلى ضوابط النصرة الإعلامية: كتجنب المخالفات القانونية في المجال الإعلامي خارج ديار المسلمين، والاعتناء بمضمون رسالة النصرة الإعلامية كالوضوح والأدلة والبراهين، وأن تكون الرسالة بلسان القوم ولغتهم. ومن الضوابط التي ذكرها، الالتزام بآداب الخطاب الإسلامي، والتفريق بين نبذ الظلم، ومعاداة الأديان.
وفي المبحث الرابع، كان حديث الدكتور سالم الشيخي عن النصرة السياسية والقانونية القضائية وواجب أهل الاختصاص، فبين في المطلب الأول حقيقة النصرة السياسية وأهدافها، وفي المطلب الثاني، بين النصرة بالمظاهرات والاحتجاجات السلمية وأحكامها وضوابطها، فبين حقيقة المظاهرات والاحتجاجات السلمية، ووضح خلاف العلماء في حكم المظاهرات، وتوسع في استعراض آراء العلماء فيها، ورجح جواز خروج المسلمين في المظاهرات السلمية للتعبير عن حقوقهم والمطالبة بها، وقال: 'وينتقل الحكم من الجواز إلى الندب إذا كانت المظاهرات لتحقيق وجه من أوجه النصر لقضايا المسلمين، وهي صورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'.
وذكر المؤلف مجموعة من الضوابط والآداب التي ينبغي على القائمين على المظاهرات، ومن خرجوا نصرةً لإخوانهم، أن يلتزموا بها، ومن ذلك:
• استحضار الإخلاص لله تعالى.
• الالتزام بجميع اللوائح القانونية المنظمة للمظاهرات.
• اجتناب الأقوال والأفعال والأخلاق المحرّمة شرعًا، كالسّبّ والشتم والعنف وسوء المعاملة.
• عدم الاعتداء على ممتلكات الأبرياء، أو تحطيم محلاتهم، أو إحراق السيارات، فإنّ هذه الأفعال كلّها محرّمة شرعًا ومرفوضة قانونًا وأخلاقًا.
• اجتناب الاعتداء على المرافق العامة والمؤسسات الخدمية ونحوها، لما في ذلك من إفساد وإضرار بالمصلحة العامة.
المطلب الثالث: الأصوات الانتخابية ونصرة قضايا المسلمين
تناول فيه قضية استثمار الصوت الانتخابي في الدول ذات النظام الديمقراطي لنصرة قضايا الأمة، وناقش مدى شرعية توجيه الصوت نحو من يتبنى تلك القضايا ويدافع عنها.
المطلب الرابع: التحالفات السياسية في سبيل نصرة المسلمين
بيّن فيه حكم التحالف السياسي من أجل دعم قضايا المسلمين، مستعرضًا مفهوم التحالف في اللغة والاصطلاح، ومفهوم 'الحِلف' في الإسلام، وموقف الفقه الإسلامي من الاستعانة بغير المسلمين.
وقد أسند تحليله إلى أقوال الفقهاء ومصادرهم المعتمدة، من أبرزها:
• حاشية ابن عابدين
• المبسوط للسرخسي
• مواهب الجليل للحطاب
• روضة الطالبين للنووي
• المغني لابن قدامة
• أحكام أهل الذمة لابن القيم
• الكافي لابن عبد البر
• الموسوعة الفقهية الكويتية.
وجاء عرضه فقهيًّا منهجيًّا، مع التفصيل الوافي والربط بالواقع المعاصر.
المطلب الخامس: المسلمون في الغرب والنصرة القانونية والقضائية
تناول فيه مسؤولية المسلمين في الغرب تجاه قضايا أمتهم، من خلال السبل القانونية والقضائية المتاحة، كرفع الدعاوى ضد المحتلين والمعتدين أمام المحاكم الدولية، أو السعي لإدانة الجرائم والانتهاكات بحق المظلومين، مع بيان حكم التحاكم إلى القضاء الوضعي في تلك البلاد، وضوابط ذلك في الفقه الإسلامي.
إنَّ كتاب 'المسلمون ونصرة قضايا الأمة' للدكتور الشيخ سالم عبد السلام الشيخي يُعد إضافة حقيقية ومعتبرة إلى المكتبة الإسلامية، وهو من المراجع المتخصصة المهمة في هذا الباب.
وأوصي طلاب العلم والعلماء والمشتغلين بالدعوة والفقه والحقوق، بالاطلاع عليه والاستفادة مما فيه من مقاصد وأهداف شرعية عظيمة، تخدم الأمة في حاضرها ومستقبلها.
كما أوصي بترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية، لتعميم نفعه على الشعوب الإسلامية في أصقاع الأرض، ولإبراز حقيقة النصرة الشرعية المطلوبة، المتمثلة في:
إغاثة المسلمين المظلومين، والدفع عنهم، ومساندتهم للوصول إلى حقوقهم المشروعة، وتفريج كروبهم، ومواساتهم في آلامهم وأحزانهم، وفق الضوابط الشرعية والأخلاقية.
وقد قدّم الدكتور سالم في هذا الكتاب خدمة جليلة للعلماء والدعاة والخطباء، في بيان أمانة البلاغ الشرعي المتعلقة بواجب النصرة والدفاع عن حقوق المسلمين المستضعفين في كل بقاع الأرض.
نسأل الله عز وجل، بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يتقبل من أخينا الدكتور سالم عبد السلام الشيخي هذا الجهد المبارك، وأن يبارك فيه، ويجعل له فيه القبول بين أهل العلم والدين، وأن ينفع به الأجيال المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونسأله سبحانه أن يبارك في جهوده العلمية والفقهية والدعوية، وأن يجعلنا وإياه من المخلصين العاملين، والمسددين المؤيدين، وأن يختم لنا بخاتمة الإسلام، ويحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
كتبه: علي محمد محمد الصلابي
بتاريخ: 8/ذو القعدة/1446 هجرية
الموافق: 6/مايو/2025م.
إيطاليا تلغراف
التالي
مغاربة العالم وسعي بعض الناس لحرمانهم من بعض حقوقهم:

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟
فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟

الشروق

timeمنذ 3 ساعات

  • الشروق

فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟

عندما كتب أب الترسانة النووية الفرنسية والجيوبولتيكي الجنرال بيار ماري ڤالوا كتابه 'فرنسا.. هل ستخرج من التاريخ؟'، كان يتساءل منطقيا عن مستقبل 'بلاد الغال' التي كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، وكان هو أحد عرابي قوّتها الإستراتيجية من خلال قيادة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، ليتفرغ بعدها للفكر والبحث الجيوسياسي من خلال التأليف مثل كتابه 'شمس الله تعمي الغرب'، و'أوروبا تغير سيدها'، و'وداعا للجيوش'، والذي تحدث فيه عن نهاية عصر الجيوش التقليدية وبداية عهد نماذج الجيوش التكنولوجية والعلمية. لكن جوهر تساؤل الكتاب، الذي كان يكتب من زاوية جيوسياسية عميقة، كان عن قدرة فرنسا على الاستمرار في التأثير في العالم في ظل التغيّرات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، مع فقدان فرنسا النفوذ الاستراتيجي في إفريقيا بعد استقلال مستعمراتها، إلى ضعف القوة الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، مرورا بتراجع قوتها العسكرية والإستراتيجية في الساحة الدولية. عصر الأفول الفرنسي تعيش فرنسا اليوم مرحلة دقيقة من تاريخها، تتّسم بتراجع استراتيجي بنيوي في ظل عالم يشهد تحوّلا جذريا في موازين القوى، فقد كانت الجمهورية الخامسة، بإرثها الإمبريالي، من بين القوى الأوروبية التي تربّعت على قمة النظام الدولي الاستعماري حتى منتصف القرن العشرين، غير أن عالم ما بعد الحرب الباردة وخصوصا في نسخته الراهنة، كشف عن انكماش متسارع للدور الفرنسي على الصعيدين الإقليمي والدولي، ففي كتابه المرجعي 'هل تخرج فرنسا من التاريخ؟'، يطرح الجنرال بيار ماري ڤالوا، أحد مهندسي القوة النووية الفرنسية، سؤالا وجوديا لا يخلو من نبوءة جيوسياسية قاتمة حول المستقبل الإمبراطوري الفرنسي مفاده: هل أصبحت فرنسا على أعتاب الخروج من التاريخ؟ وهو التساؤل الصادر عن رجل من صلب المؤسسة العسكرية والدبلوماسية، وليس مجرد صرخة حنين من معمّر تقليدي إلى مجد هيمنت فيه باريس بالقوة والإجرام، بل هو تشخيص دقيق لانهيار أسس النفوذ الفرنسي التقليدي من خلال أفول الهيمنة في إفريقيا، تداع للاستقلال الإستراتيجي، وضعف التمايز الأوروبي عن سياسات واشنطن. لقد تحوّلت باريس بعد الحرب العالمية الثانية إلى قوة ثانوية سياسيا وعسكريا، أمام صعود الثنائي القطبي الأمريكي- السوفياتي، ومع أن الجنرال شارل ديغول حاول هندسة خروج استراتيجي من التبعية عبر مشروع قومي- سيادي يقوم على ترسانة نووية مستقلة ودبلوماسية متحررة من الوصاية الأطلسية، إلا أنّ هذه المقاربة اصطدمت بتغيرات النظام العالمي منذ السبعينيات، وخصوصا بعد سقوط جدار برلين. وفي مطلع الألفية، ومع تسارع التحوّلات الجيوسياسية العالمية، وجدت فرنسا نفسها عاجزة عن صياغة مشروع استراتيجي يعيد تعريف حضورها في النظام الدولي، فقد تفكّك نفوذها في إفريقيا، وأضحت قوة متداعية تعاني من مشاكل بنيوية، وهو ما يشي بأن الأفول الفرنسي ليس مؤقتا ولا عرضيا، بل هيكليّ ومركّب، لا تعكسه فقط خريطة النفوذ المنكمش، بل أيضا الشلل الفكري المستفز والمتطرف داخل النخب الفرنسية وعجزها عن إنتاج خطاب استراتيجي بديل عن 'الرؤية الديغولية'، وهو ما تجلّى بوضوح في أزماتها مع دول الساحل والجزائر، إذ لم تعد قادرة على التكيّف مع موجة الجيل الإفريقي الجديد 'السلطوي والشعبي'، ولم تعد تتعامل مع العلاقات على أساس الندية، بل استمرت في إعادة إنتاج فكر الاستعلائية الموروث عن الاستعمار، وسط التحول في مراكز الثقل العالمي نحو 'الجنوب العالمي'Global South. ركائز العقيدة الإستراتيجية الفرنسية وضع ديغول رؤية إستراتيجية كبرى لضمان استمرار فرنسا كقوة عظمى مستقلة وفاعلة في النظام الدولي، رغم ما خلفته الحرب العالمية الثانية من تراجع في النفوذ الفرنسي، إذ تمحورت هذه الرؤية حول أربعة أسس كبرى شكّلت بمجملها ما يمكن وصفه بـ'عقيدة ديغول'، وقد سعت هذه العقيدة إلى ترسيخ الاستقلالية الإستراتيجية لفرنسا، وجعلها تتجاوز موقع التابع داخل التحالفات الغربية. كان أول هذه الأسس الحفاظ على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، فقد أدرك ديغول أن مقعد فرنسا في هذا المجلس لا يمثل فقط امتيازا دبلوماسيا، بل هو رافعة سياسية وهيكلية لاستمرار النفوذ الفرنسي في العالم ومنصة ضمن 'الخمسة الكبار' في إدارة شؤون العالم، وكان هذا المقعد، وفق رؤية ديغول، التعويض الرمزي والعملي عن فقدان الإمبراطورية الاستعمارية، كما شدّد ديغول على ضرورة ربط فرنسا بما تبقى من نفوذها في إفريقيا جنوب الصحراء عبر منظومة 'فرنسا-إفريقيا'، وهي شبكة سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية أنشأها بإشراف مباشر من مستشاره المكلف بالشؤون الإفريقية، جاك فوكار، ولم تكن هذه الشبكة مجرد امتداد للسياسة الاستعمارية، بل كانت بنية خفية تسهر على تثبيت رؤساء أفارقة موالين وتأمين موارد الطاقة والمعادن لفرنسا، خصوصا اليورانيوم من النيجر والنفط من الغابون، في مقابل الحماية العسكرية والسياسية، وقد استمرت هذه الشبكة تعمل بأساليب وصفها المؤرخون بالوحشية والانقلابية حتى عهد جاك شيراك، الذي خفّف من قبضتها مع نهاية الحرب الباردة. تمثّلت الركيزة الثالثة في بناء قوة ردع نووية مستقلة، تحت مسمى'القوة الضاربة' النووية، وهي ما شكّل قلب 'السيادة الإستراتيجية الفرنسية'، فقد رفض ديغول المظلة النووية الأمريكية كما أراد حلف الناتو، وأصرّ على امتلاك القرار النووي السيادي. بعد أن أصبحت فرنسا الدولة الرابعة امتلاكا للسلاح النووي، قادرة على الردع بلا وصاية أمريكية أو أنجلوسكسونية، بينما تبنّى ديغول سياسة الحياد النشط خلال الحرب الباردة، عبر الانسحاب من القيادة العسكرية الموحدة لحلف الأطلسي (1966)، ومنحت هذه المقاربة هامش مناورة واسعا في إقامة علاقات مع الصين الشيوعية، والاتحاد السوفياتي، والعالم العربي، ضمن ما وُصف بـ'ديبلوماسية التوازنات الكبرى'. بداية التراجع بدأ التراجع الإستراتيجي الفرنسي مع صعود الاقتصاد الألماني في أوروبا، رغم أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمّرة ومن دون مستعمرات، إلا أن ألمانيا الغربية تحوّلت إلى قوة اقتصادية كبرى منذ عام 1960، وتفوقت على كل من فرنسا وبريطانيا، بناتج إجمالي بلغ 84 مليار دولار مقابل 73 مليارا لبريطانيا و62 مليارا لفرنسا، واستمر هذا التفوق حتى اليوم، إذ بلغت قيمة الناتج الإجمالي الألماني 4456 مليار دولار، 3340 مليار لبريطانيا، و3031 مليار لفرنسا. على الصعيد الاقتصادي الداخلي، تواجه فرنسا تحديات متزايدة تتمثل في ارتفاع الدين العامّ الذي تجاوز 113 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 35 بالمائة عام 1990 وارتفع إلى 57 بالمائة في عام 2000. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل إلى 128.4 بالمائة بحلول عام 2030، مع استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع تكاليف الاقتراض، فقد سجل الناتج المحلي الفرنسي نموا بنسبة 0.9 بالمائة (2023) و1.1 بالمائة (2024)، فيما خفض البنك المركزي توقعاته لنمو 2025 إلى 0.7 بالمائة بدلا من 0.9 بالمائة المتوقعة سابقا، وتوقع نموا بنسبة 1.2 بالمائة لعام 2026، مع زيادة معدلات البطالة وانتشار الفقر في بعض المناطق. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 14 بالمائة من السكان الفرنسيين يعيشون تحت خط الفقر، في ظل تفاوت اقتصادي كبير بين الطبقات، إلى جانب ذلك، يشهد قطاع الصناعات الثقيلة تراجعا حادا، رغم أنه كان مصدرا رئيسيا للنمو والابتكار، مما أثّر سلبا على القدرة التنافسية والنمو الاقتصادي العامّ لفرنسا، وأدى إلى تراجع موقعها ضمن أكبر اقتصادات أوروبا. تراجع القوة العسكرية الفرنسية على الصعيد العسكري، تعيش فرنسا تراجعا واضحا في قدرتها على بسط نفوذها الاستراتيجي دوليا، رغم احتفاظها بترسانة نووية من بين الأكبر عالميا، إلا أن هذه الأسلحة، التي شكّلت ركيزة الردع الفرنسي خلال الحرب الباردة، فقدت اليوم كثيرا من فعاليتها ورمزيتها في عالم تهيمن عليه موازين الردع المتبادل والقدرات الصاروخية العابرة للقارات، التي تتفوق فيها قوى كبرى مثل بكين، وموسكو، وواشنطن. في إفريقيا، تآكلت المكانة العسكرية الفرنسية بشكل متسارع لعقود، إذ اعتمدت باريس على شبكة واسعة من القواعد العسكرية والتدخلات المباشرة في مالي والنيجر وتشاد.. لكن الموجة الجديدة لفكر السيادة الإفريقية، لاسيما بعد الانقلابات المتتالية في منطقة الساحل، دفعت هذه الدول لطرد القوات الفرنسية، كما حصل في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، فضلا عن تشاد والسنغال وكوت ديفوار، ولم تعد فرنسا قادرة على الحفاظ على وجودها العسكري في 'حدائقها الخلفية'، ولم يتبقّ لها سوى قاعدة واحدة في جيبوتي وتعاون عسكري مع الغابون. رافق هذا الانكماش في إفريقيا نكسات إستراتيجية على الصعيد الدولي، أبرزها 'صفعة الغواصات' (2021)، ما شكّل إهانة دبلوماسية وعسكرية نادرة لباريس، وكشف تراجع ثقة الحلفاء بقدرتها الصناعية والتكنولوجية في مجال الدفاع. أما في آسيا، فقد شهدت مكانة المعدات العسكرية الفرنسية تراجعا ملحوظا بعد 2022، مع انخفاض واضح في الطلب على الأسلحة الفرنسية، وواجهت صفقات بيع طائرات 'رافال'، التي روّج لها كدليل على تفوق الصناعة الدفاعية الفرنسية، عدة انتكاسات، منها أعطال فنية خاصة في أنظمة الرادار في الهند، التي أثارت مخاوف تقنية وعسكرية، إضافة إلى جدل سياسي داخلي حول شبهة فساد في صفقة الشراء عام 2021، ما أثر على سمعة الطائرات وشركة 'داسو للطيران'، كما انتشرت أنباء عن إسقاط باكستان لطائرات 'رافال' خلال النزاع الحدودي الأخير مع نيودلهي، مما يزيد من تراجع الثقة في المنظومة العسكرية الفرنسية. وهو ما يعكس فقدان فرنسا تدريجيا لمكانتها كمورد موثوق للسلاح، ويبرز تحدّيات كبيرة أمام صناعتها الدفاعية للحفاظ على حصتها في هذا القطاع الحيوي، كما أن فرنسا لم تعد قوة حاسمة في مناطق النزاع، بل تحولت إلى فاعل هامشي تتجاوزه القوى الإقليمية والدولية أو تستغني عنه. توترات مع الدول الإفريقية ازدادت التوترات بين فرنسا والدول الإفريقية التي كانت سابقا تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، فقد كانت هذه الدول تمثل جبهة إستراتيجية لفرنسا عبر عقود، سواء من ناحية الموارد الطبيعية أو الأهمية الجيوسياسية، لكنها باتت اليوم أكثر استقلالية وتنوعا في علاقاتها الدولية، كما بدأ العديد من قادة إفريقيا في إعادة تقييم علاقاتهم مع فرنسا، معتبرين أن هذه العلاقة لا تزال تهيمن على مقدراتهم الاقتصادية والسياسية. في كتابه المرجعي 'هل تخرج فرنسا من التاريخ؟'، يطرح الجنرال بيار ماري ڤالوا، أحد مهندسي القوة النووية الفرنسية، سؤالا وجوديا لا يخلو من نبوءة جيوسياسية قاتمة حول المستقبل الإمبراطوري الفرنسي مفاده: هل أصبحت فرنسا على أعتاب الخروج من التاريخ؟ وهو التساؤل الصادر عن رجل من صلب المؤسسة العسكرية والدبلوماسية، وليس مجرد صرخة حنين من معمّر تقليدي إلى مجد هيمنت فيه باريس بالقوة والإجرام، بل هو تشخيص دقيق لانهيار أسس النفوذ الفرنسي التقليدي. في هذا السياق، يشير أنطوان جلاسر في كتابه 'متغطرس مثل فرنسي في إفريقيا' إلى أن ما يسميه 'الاستعلاء الفرنسي'، هو أحد أبرز أسباب تصدع العلاقة بين باريس والعواصم الإفريقية، فالطبقة الحاكمة في فرنسا لا تزال تتعامل مع القارة الإفريقية بمنطق الاستعمار الجديد، متجاهلة تطلعات السيادة والكرامة الوطنية لشعوبها، وهذا السلوك الاستعلائي يزيد من الغضب الشعبي والرسمي في إفريقيا، ويعزز الدعوات لإنهاء النفوذ الفرنسي واستبداله بشراكات تقوم على الاحترام والمساواة. كما ازدادت الدعوات إلى إنهاء العلاقة الاستعمارية بالكامل مع فرنسا في بعض الدول الإفريقية، مع إعطاء الأولوية للتعاون مع قوى جديدة مثل الصين، التي تقدّم نموذج شراكة مختلفا بعيدا عن الهيمنة التقليدية، مما جعل فرنسا اليوم في موقف دفاعي، بعدما كانت تعدّ القوة الاستعمارية التي تهيمن على قرارات الدول الإفريقية. أزمة الهوية وصراعات الداخل يناقش بيار ماري ڤالوا في كتابه أزمة الهوية الوطنية الفرنسية باعتبارها من القضايا الجوهرية التي تواجه فرنسا اليوم، إثر التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع الفرنسي، إذ رأى أن السياسات الحكومية في التعامل مع الهجرة أضعفت التماسك الاجتماعي، ويطرح ڤالوا سؤالا محوريا 'هل لا تزال فرنسا تعرف نفسها كأمة؟'، مشيرا إلى أن القيم الفرنسية التقليدية مثل الجمهورية والعلمانية تواجه صعوبة في التعبير عن واقع مجتمع معقد ومتغير، مما أدى إلى تباينات وانقسامات داخله، مع تراجع القيم الإستراتيجية التي كانت فرنسا تدافع عنها دوليا، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، إذ بدأت باريس تضع مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية فوق المبادئ الكونية، ما أثّر سلبا على سمعتها ومصداقيتها. رغم أن ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمّرة ومن دون مستعمرات، إلا أن ألمانيا الغربية تحوّلت إلى قوة اقتصادية كبرى منذ عام 1960، وتفوقت على كل من فرنسا وبريطانيا، بناتج إجمالي بلغ 84 مليار دولار مقابل 73 مليارا لبريطانيا و62 مليارا لفرنسا، واستمر هذا التفوق حتى اليوم، إذ بلغت قيمة الناتج الإجمالي الألماني 4456 مليار دولار، 3340 مليار لبريطانيا، و3031 مليار لفرنسا. داخليا، رأى ڤالوا أن فرنسا تواجه صراعات اجتماعية وسياسية حادة تهدّد استقرارها، مع تصاعد التوتر بين الفئات الاجتماعية، لاسيما بين الشباب والمهاجرين. وتبرز هشاشة النظام السياسي الفرنسي مع صعود الحركات اليمينية المتطرفة، التي ارتفعت نسبتها في التصويت من 3 بالمائة إلى نحو 30 بالمائة، مصحوبة بخطاب كراهية متزايد يستهدف خصوصا الجاليات الإسلامية، وتغذيه سياسات إقصائية ومعايير مزدوجة تعمّق الانقسامات الاجتماعية، إضافة إلى تنامي موجات الإسلاموفوبيا التي تضعف اللحمة الفرنسية، فضلا عن فكر يميني استعماري يعقّد العلاقات الثنائية مع دول مثل الجزائر. ويؤكد ڤالوا على هشاشة النظام السياسي أمام هذه التحديات، مشيرا إلى أن الاحتجاجات الشعبية تعكس حالة اضطراب اجتماعي وسياسي تتطلب إعادة نظر جذرية في الهوية الوطنية والسياسات الداخلية والخارجية لفرنسا. مستقبل فرنسا تعاني فرنسا من انكماش جيوسياسي متسارع تجلّى في تراجع دورها على الساحتين الأوروبية والدولية. ففي 2024، بلغت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2.1 بالمائة فقط مقارنة بـ4.2 بالمائة عام 1990، ما يعكس فقدانا تدريجيا لقدرتها الاقتصادية النسبية، ففي الصناعات الدفاعية، تراجعت حصتها في سوق السلاح العالمي من 10.5 بالمائة عام 2010 إلى 7.6 بالمائة عام 2022، لصالح منافسين مثل الصين وكوريا الجنوبية، وفق تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. يشير أنطوان جلاسر في كتابه 'متغطرس مثل فرنسي في إفريقيا' إلى أن ما يسميه 'الاستعلاء الفرنسي'، هو أحد أبرز أسباب تصدّع العلاقة بين باريس والعواصم الإفريقية، فالطبقة الحاكمة في فرنسا لا تزال تتعامل مع القارة الإفريقية بمنطق الاستعمار الجديد، متجاهلة تطلعات السيادة والكرامة الوطنية لشعوبها، وهذا السلوك الاستعلائي يزيد من الغضب الشعبي والرسمي في إفريقيا، ويعزّز الدعوات لإنهاء النفوذ الفرنسي واستبداله بشراكات تقوم على الاحترام والمساواة. كما انخفض حجم التجارة الفرنسية مع إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 21 بالمائة بين 2015 و2022، في حين تضاعفت المبادلات التجارية الإفريقية مع الصين خمس مرات منذ 2000. وفي أوروبا، أظهرت بيانات مجموعة ماكنزي تراجع حصة فرنسا من الاستثمارات الصناعية لصالح ألمانيا وبولندا، كما تراجع ترتيبها في مؤشر الابتكار العالمي إلى المرتبة 12 بعد أن كانت ضمن العشرة الأوائل، ما يعكس هشاشة موقعها في سباق الثورة الصناعية الرابعة. أما الحرب في أوكرانيا، فقد أكدت ارتهان باريس للمظلة الأطلسية بقيادة واشنطن، فرغم محاولات ماكرون لتعزيز 'الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية'، إلا أن الواقع أظهر محدودية هامش المناورة الفرنسي، خاصة في ظل هيمنة القرار الأمريكي داخل الناتو وضعف الإجماع الأوروبي، وتراجع الدور الأمريكي في بعض الفترات، وأمام صعود قوى جديدة مثل الصين، والهند، وتركيا، وتنامي تكتلات اقتصادية كبرى (بريكس، ومنظمة شنغهاي)، أصبحت فرنسا في موقع المراقب بدلا من الفاعل، وسط نظام دولي سريع التوجّه نحو التعددية القطبية، فهذا التراجع لم يعد ظرفيا أو رمزيا، بل هيكليا، وتؤكده الأرقام والسياسات المتذبذبة.

الذكرى المئوية لمعهد الحياة
الذكرى المئوية لمعهد الحياة

الشروق

timeمنذ 6 ساعات

  • الشروق

الذكرى المئوية لمعهد الحياة

ذكر الكاتب الكيني- الأمريكي مُوكُومَا وَانجُوجي في كتابه: 'نهضة الرواية الإفريقية'، المنشورة ترجمته العربية في سلسلة عالم المعرفة بالكويت؛ ذكر أن شعار الأوربيين في كينيا كان: 'افعلوا بالعقل ما فعله السيف بالجسد' ( ص 47). والحقيقة، أن هذا الشعار ليس في كينيا فقط أو في المستعمرات الإنجليزية فحسب، بل هو شعار الأوربيين في كل البلدان التي احتلوها، خاصة البلدان الإسلامية، حيث يعتبر الإسلام من أقوى أسباب الجهاد ضد المعتدين. لقد نال الجزائرَ من هذا الفعل نصيب موفور على أيدي الوحوش الفرنسيين، الذين كان شعارهم هو تجريدنا من سلاحنا المعنوي، المعبر عنه بلسانهم ( le désarmement moral) بهدف 'توحيشنا' (ensauvagement)، وهو ما سماه الإمام عبد الحميد بن باديس 'الموت الفكري'، عندما علق على كلام الوالي العام الفرنسي في الجزائر، موريس فيوليت، الذي قال في إحدى خطبه بأن نسبة الموتى بين أطفال الأهالي بلغت أربعين في المائة، فكتب الإمام قائلا: 'إنه إذا كان يموت من أبناء الجزائريين أربعون في المائة موتاً جسدياً، فإنه يموت منهم نحو الألف في الألف موتا فكريا، فما نلاقيه من داء الجهل أكثر مما نلاقيه من داء الموت'. الشهاب ع 9 في 7/1/1926 ص 4). وهذا ما عبر عنه الشيخ مبارك الميلي بـ 'العقل الجزائري في خطر'. (جريدة المنتقد في 6/8/1925 س 1). بسبب تجهيلهم، أو تعليمهم تعليما ضرره أكثر من نفعه، أو بتشجيع الطرقية المنحرفة المبتدعة، أو ما سماه الإماء محمد البشير الإبراهيمي: 'ضراوة الحَجاج وطراوة الحلاج'. وكما لم يستسلم آباؤنا للغزو الصليبي المادي وجاهدوه جهادا مسلحاً استمر منذ الاحتلال حتى الربع الأول من القرن العشرين، فقد جاهدوا 'ترسانة' الغزو المعنوي- وهو الأخطر- جهادا كبيرا، ولم يقعدهم عن هذا الجهاد لا قلةُ الرجال ولا انعدام المال، فقد أَنفَقُوا قليل موجودهم في سبيل وجودهم، واستلذوا الأذى واسْتَعْذَبُوا العَذَاب. من المؤسسات التي أقيمت في بلادنا لإعداد الجيل الزاحف بالمصاحف، معهد الحياة في مدينة القرارة بولاية غرداية، الذي أسس على تقوى من الله في 1925/5/21 تحت اسم 'مدرسة الشباب' ليتطور في عام 1937 إلى معهد الحياة، ولا يزال يمد الجزائر بخيرة العناصر خلقا وعلما لمواجهة قتلة العقل المسلم. لقد قام هذا المعهد المعمور على كفي رجلين هما الشيخان إبراهيم بيوض ( 1899 – 1981) وسعيد بن بلحاج شريفي ( عدون 1202 – ما 200) دون أن نبخس الآخرين أشياءهم. لقد كان الهدف من تأسيس هذا المعهد هو إعداد 'المجاهدين' الذين يواجهون الغزو الفكري الصليبي، وكان شعاره منذ أسس إلى اليوم: 'الدين والخلق قبل الثقافة، ومصلحة الجماعة والوطن قبل مصلحة الفرد'. لقد أضاء معهد الحياة الجزائر وأنار ما حولها، وقد امتد إشعاعه إلى خارج الجزائر في تونس، وليبيا، وعُمان وشرق إفريقيا.. وممن تخرجوا في هذا المعهد- وهم كثير- محمد الأخضر السائحي، صالح خوفي، محمد ناصر، بلحاج شريفي، محمد شريفي.. وقد جدد المعهد منذ سنوات ووسع، ونظم إلى درجة أنه يفوق بعض المؤسسات العليا. وقد تمنيت أن أحضر الاحتفال بهذه الذكرى في القرارة وقد دعيت، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد مسني الكبر، ووهن العظم.

الأصل في الأنفس والأموال التحريم
الأصل في الأنفس والأموال التحريم

الخبر

timeمنذ 12 ساعات

  • الخبر

الأصل في الأنفس والأموال التحريم

إن أصل هذه القاعدة متضمن في أحاديث كثيرة، من أهمها قوله صلى الله عليه وسلم: 'أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها'، وقوله في خطبة حجة الوداع: 'إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه'. وقد حرصت الشريعة الغراء على تأكيد أصل الحرمة في النفوس والأموال وحمايته، فمن جانب النفوس، قامت الشريعة بحماية الذات الإنسانية من التلف، سواء كان ذلك على وجه الإفراد أو العموم، لأن النفوس البشرية تنفرد بمقومات وخصائص تجعلها تختلف عن بعضها البعض، فإن في افتقاد بعضها قد يؤدي إلى انخرام قوام نظام المجتمع، وذلك لثقلها المعنوي وقوة أثرها فيه، ويلحق بحفظ النفوس من الإتلاف حفظ أطراف الجسد وأجزائه، وذلك لفقد منفعتها عند انعدامها واحتياج النفس لمن يقوم مقامها، وتأمينا لهذا الجانب، أوجبت الشريعة القصاص فقال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} البقرة:179، وقوله تعالى: {كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} المائدة:45. وأوجبت الدية على من أتلف نفسا أو جزءا منها خطأ جبرا للضرر اللاحق بالمصاب، قال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} النساء:92، وهذا المناط الذي اعتمده الأصوليون في التدليل على حفظ النفس وبيان أصل التحريم فيها، يبدو أنه قاصر عن أداء تلك المهمة لأن القصاص عبارة عن تدارك ما فات من الأنفس، وبالتالي فهو أضعف أنواع الحفظ والحماية لها، لأن مفهوم الحماية والحفظ لها بمعناه الواسع هو إبعادها عن التلف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السارية والفتاكة بواسطة أنظمة العلاج الوقائي والمبكر والرقابة الصحية على المنتجات الغذائية المصنعة وغير المصنعة، وكذلك مصادر المياه وغيرها. وبناء على هذا، منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس؛ وهو الذي وقع في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، حيث بلغه أن الوباء وقع بالشام، فاستشار المهاجرين والأنصار، شبابهم وشيوخهم، في الدخول إلى البلد الموبوء وعدمه، فاختلفوا عليه في آرائهم، وكان رأيه الرجوع عنه، فأخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه'، فرجع عمر من سرغ' أخرجه البخاري ومسلم، وقد أورده مطولا ومختصرا واللفظ لمسلم. وفي هذا السياق، جاء قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة:195. أما من جانب المال، فقد أوجبت الشريعة حد السرقة بقطع يد السارق لمن استوفى شروط ذلك، والزجر لمن كان دونها، قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} المائدة:38. ومن هذا القبيل حد الحرابة، وضمان قيم المتلفات. وتحقيقا لمقصد الشريعة في صيانة الأموال، قال الفقهاء بتضمين الصناع لما تحت أيديهم، ومنع أكل مال الغير بالباطل، قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} البقرة:188، وقال صلى الله عليه وسلم: 'لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه'. وحرم الغبن والتغرير إلا إذا كان يسيرا فهو معفو عنه، كما منعت الشريعة جميع التصرفات المالية التي تفضي إلى أكل مال الغير بالباطل، وعلى رأسها الربا، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} البقرة:274، قال المقري: 'من مقاصد الشريعة صون الأموال عن الناس فمن ثم نهي عن إضاعتها وعن بيع المجهول'. واعلم أن أصل الحرمة في النفوس والأموال قد يرتفع ويزول بالأشياء الآتية: ردة المسلم، زنا المحصن، نقض المعاهد العهد، قتل النفس بغير حق، وجناية الإنسان على غيره جناية توجب قطع عضو وغيرها. وكذلك من استدان وأبى الوفاء بالدّيْن، سواء كان الدين لله، أو لخلقه، أو نفقة الأقارب، وكذا إذا ترتب عليه عقوبة في ماله وغيره.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store