
صنع الله.. الضمير الحى الذى ناضل ليكتب عن مصر الحقيقية
لم يكن «صنع الله» مجرد كاتب، بل كان ضميرًا حيًا، جسّد فى أعماله هموم الوطن وتناقضاته، وواجه السلطة بالكلمة الصادقة والموقف الثابت، وبرحيله، فقدت الساحة الأدبية أحد أبرز رموزها الذين جمعوا بين الالتزام السياسى والعمق الفنى، وظلوا أوفياء لقضايا الحرية والعدالة حتى اللحظة الأخيرة.
فى الملف التالى، تستعرض «الدستور» ملامح من حياة ذلك الروائى الكبير، من ناحية نشأته ونبوغه الأدبى وسيرته النضالية وأفكاره وتصوراته عن الحياة والعالم.
آية فى القرآن سر تسميته.. الانضمام للشيوعيين تسبب فى سجنه.. ويوسف إدريس أشاد بأول أعماله
وُلد صنع الله إبراهيم عام ١٩٣٧، وكان والده فى الستين من عمره ولم يُرزق بعده أى أبناء، حتى إنه وقع فى حيرة اختيار اسم له، فكان أن وضع يده على إحدى آيات القرآن الكريم، وكانت آية «صُنع الله الذى أتقن كل شىء».
ولم يكن «صنع الله» قد بلغ الثانية والعشرين من عمره بعد حتى ذاق تجربة السجن، حيث انضم خلال دراسته الجامعية إلى الحركة الوطنية للتحرر الوطنى «حدتو»، والحزب الشيوعى، فقبض عليه ضمن حملة لسجن الشيوعيين.
وعن هذه التجربة ذكر صنع الله إبراهيم فى إحدى ندواته العامة: «كانت هذه الفترة نقطة تحول فى حياتى بعدما انضممت إلى الحزب الشيوعى وحركة حدتو، واعتبرت أن الكتابة بلا أهمية، وما له أهمية وجدوى هو العمل السياسى من أجل تحقيق الديمقراطية».
ويحكى «صنع الله»: «كانت هذه فترة الزخم الثورى فى مصر، سواء فى تكوين الحكومة، وتأسيس الاتحاد الاشتراكى، وتكوين المقاومة الشعبية ضد الإنجليز، وأرسل الاتحاد الاشتراكى لنا صولًا كبيرًا فى السن ليدربنا على بعض الأعمال العسكرية لمقاومة الإنجليز، وقتها كنا فى حى الدقى، وهذا كان الجزء المتعلق بالنشاط فى تعاوننا مع الحكومة، بينما كان لنا نشاط آخر خاص بالحزب الشيوعى، فكنا نطبع المنشورات ونوزعها».
وبعد خروجه من السجن لأول مرة، كتب واحدة من أبرز رواياته «تلك الرائحة»، التى صُودرت بمجرد نشرها، ويكشف كيف أن يوسف إدريس الذى كان صديقًا له رغم فارق السن، عندما ذهب له بالرواية وكان عنوانها طويلًا، فما كان منه إلا أن نصحه بأن يختصر الاسم لـ«تلك الرائحة»، وهو ما يصفه «صنع الله» بأنه كان حذفًا بليغًا.
وعلى النقيض من المتداول والمتعارف عليه بين المبدعين، عن استحالة أن يكون الأدب والكتابة مصدرًا لكسب العيش والحياة، يرى «صنع الله» أن الكاتب يمكنه ذلك فقال: «أشكال الكتابة وألوانها متعددة ومختلفة، من تأليف الروايات لكتابة المقالات والترجمة، وقد كنت أتحرك بين هذه الألوان الكتابية كلها».
وبين رواياته العديدة، «القانون الفرنسى، وشرف، ونجمة أغسطس، والقبعة والعمامة، وبيروت.. بيروت، و١٩٧٠، وذات» تبقى رواية «اللجنة» علامة فارقة فى عالمه السردى، فضلًا عن روايته «نجمة أغسطس»، التى كان يكتبها بالتزامن مع تأليفه كتاب «إنسان السد العالى».
وعن العملين يقول صنع الله إبراهيم: «طوال الفترة التى وُجدت فيها بالسد العالى خلال بنائه، كنت أحمل مفكرة أسجل فيها كل ما تقع عليه عيناى، كل من أقابله، المشاهد التى أراها، الأغانى التى أسمعها فى الراديو، والكتب التى أقرأها قبل نومى، وكل هذه العناصر استعنت بها فى كتابة الرواية».
«شرف» غيرت عقل فتاة فى سن المراهقة.. وبقية أعماله كانت نافذة على ثقافات مختلفة
إذا ما كان يحق لى أن أروى تجربتى مع صنع الله إبراهيم، فعلىّ أن أعترف بفضله- الثقافى الإبداعى- على عقل فتاة ما كادت تفارق سنوات المراهقة، كل ما يصلها بالعالم هو الكتاب، نعم كنت شغوفة بالقراءة منذ السابعة من عمرى، وكان زادى/ زادنا من الكتاب فى الصعيد، باعة الجرائد، حيث تطرح لديهم كل ما تتمخض عنه المطابع، فكانت إصدارات هيئة الكتاب، وإصدارات هيئة قصور الثقافة، وإصدارات المؤسسات الصحفية وعلى رأسها روايات الهلال.
كنت فى عامى الجامعى الثانى، وفى طريقى لامتحان إحدى المواد الدراسية، توقفت عند بائع الجرائد الذى صارت تربطنا صداقة، يحتفظ لى بما أوصيه به من إصدارات حديثة، لم أكن بمزاج رائق لتصفح جديده، لكنه نادى علىّ: «عندى لك رواية بشوكها وعليها طلب حجزتهالك»، وتغلبت فى ثوانٍ على حالة «القرف» من امتحان العروض والصرف، وتلقفت منه «شرف» لصنع الله إبراهيم، ولم تعد الحياة بعدها مثلما كانت قبلها.
رجعت بيتى بكنزى الصغير، وبدأت رحلة معرفية لم تنته حتى كتابة هذه السطور، رحلة لاكتشاف العالم والحياة، من خلال «أشرف» أو «شرف» بطل الرواية/ الراوى، الذى لم يكن مجرد شخصية روائية بقدر ما كان رمزًا لجيل بأكمله.
ما إن بدأت فى تصفح الرواية حتى التهمتها لآخر صفحاتها التى ناهزت الـ٥٠٠، وسهرت معها لليوم الثانى حيث لجنة الامتحان، لكننى تركت أوراق الإجابة بيضاء بغير سوء.
خسرت العام الدراسى لكننى كسبت نفسى وعقلى ووعيى. فما أتاحه صنع الله إبراهيم- دون عمد- لى من آفاق نحو العالم والحياة والحقيقة كان أكبر وأجدى من أى مادة دراسية أو حتى عام بأكمله.
أحالتنى الرواية للمعرفة والمزيد منها، فنقبت عن «صناعة الجوع» وأعمال المفكر الاقتصادى رمزى زكى، من أول «الليبرالية المستبدة»، و«وداعًا للطبقة الوسطى»، لأعمال محمد حسنين هيكل والإسلام السياسى ومن يومها لم أتوقف عن البحث أو القراءة التى لم أشبع منها بعد.
سُجن أيام عبدالناصر ورواياته حاكمت عهده لكنها أشادت بتجربته
الرواية المعرفية، ربما أدق توصيف يمكن أن نطلقه على أغلبية روايات صنع الله إبراهيم، خاصة روايات: «شرف، ونجمة أغسطس، وبيروت بيروت، وذات» والتى هاجمها النقاد حتى إن منهم من ذهب إلى أنها لا يمكن أن تصنف كسرد روائى، لما تحمله من توثيق، مغفلين مصطلح الرواية المعرفية كمجال أدبى يجمع ما بين الحقيقة والتخييل، وما يقدمه هذا النوع الأدبى.
وهو ما يؤكده الروائى العراقى على بدر، عن رواية «بيروت بيروت»، قائلًا: «قرأت كل ما كتب وقد اقتربت من وهج تجربته عندما قرأت روايته (بيروت بيروت)، تلك التى جعلتنى أعيد اكتشاف المدينة، فأتماهى مع تفاصيلها كلما زرت لبنان: الصحف المترنحة، المقاهى المرهقة، الشوارع التى تحتفظ برائحة البارود والحنين، كنت أعتبرها نصًا وثائقيًا يدحر الوهم، مثلما يدحر صنع الله الخيال باللغة الصارمة المدهشة».
ورغم مرور «صنع الله» بتجربة السجن أكثر من مرة، كغيره من اليسار والشيوعيين تحديدًا، حتى إن الحزب حل نفسه على خلفية قرارات التأميم- فإن علاقته بـجمال عبدالناصر ظلت مربكة وتمثل علامة استفهام غير مفهومة وربما لها منطقها الخاص.
وحملت أعمال «صنع الله» محاكمة لعصر «عبدالناصر» خاصة روايتيه، «اللجنة» و«تلك الرائحة»، إلا أن هناك حالة إعجاب وتقدير كان يحملها للزعيم، وهو ما أكدته روايته الأخيرة «١٩٧٠»، والصادرة عام ٢٠١٩، وفيها روى عن العام الذى غاب فيه «عبدالناصر»، مستعيدًا حياته، ومستعينًا فيها بخطاب المخاطب، حيث يخاطبه ندًا لند، مسبغًا عليه ملامح تجعل المتلقى يتعاطف معه بل ويقع فى غرامه.
«النيل مآسى».. نفذ جولة بطول النهر ورصد جرائم الاستعمار وظُلم الأفارقة
اعتبر كثيرون أن التوثيقية التى يلجأ إليها صنع الله إبراهيم تضعف بنية السرد فى أعماله، لكنه خرج على قرائه عام ٢٠١٦ بكتابه «النيل مآسى»، وهو كتاب توثيقى من الألف إلى الياء، والكتاب يحمل بين دفتيه سيناريو فيلم تسجيلى عن نهر النيل.
واتصلت شركة «image» الفرنسية للإنتاج السينمائى، بصنع الله مطلع عام ١٩٩٤ للمشاركة فى مشروعها التوثيقى عبر الأفلام التسجيلية عن عشرة أنهار فى العالم من ضمنها نهر النيل.
رحب صنع الله بالفكرة، واتفق مع الشركة على أن يجرى جولة استكشافية للنيل والبلاد المطلة عليه. يقول الراحل: «عندما استفسرت عمن سيتولى الإخراج قالوا إنه أمر قيد البحث، ولم يلبث هذا البحث أن استقر على المخرجة المصرية أسماء البكرى، المعروفة بعلاقتها الوثيقة بالجالية الفرنسية فى القاهرة».
عكف صنع الله على قراءة المراجع الضرورية، وعلى رأسها مؤلفات محمد عوض ورشدى سعيد وإميل لودفيج وآلان مورهيد. وفى صيف ذلك العام نفذ صنع الله ومعه أسماء البكرى رحلة إلى منابع النيل، يحكى عنها: «كانت الرحلة حافلة بلحظات التوتر، خاصة عندما عبرنا مستنقعات الحدود الأوغندية وحطت جيوش ذباب التسى تسى الرهيبة فوق سيارتنا، وعندما انساب قاربنا على سطح بحيرة فيكتوريا، تحت بصر التماسيح وأشرفنا على شلالات ريبون، وكذلك عندما وقفنا فوق خط الاستواء، المرسوم على الأسفلت، وكنت أظنه خطًا افتراضيًا، وعندما شاهدنا التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق فى الخرطوم، وعندما أوشكنا على دخول السجن فى الخرطوم أيضًا».
فى ٢٥٠ صفحة من القطع المتوسط ملحق بملف للصور، يرصد صنع الله رحلة النيل التى أجراها، من منبعه، تحديدًا من قمة جبال رونزورى المتوجة بالجليد طوال العام، والواقعة فوق خط الاستواء مباشرة، على الحدود بين دولتى أوغندا وزائير، وعندما يذوب الجليد تندفع مياه الأمطار إلى أسفل فى شلالات صاخبة، لتغذى عدة بحيرات: هى إدوارد وألبرت وجورج، المصدر الرئيسى لمياه النيل.
يلخص عنوان الكتاب «النيل مآسى» الجغرافيا التاريخية للرحلة التى يقطعها النيل من منبعه حتى مصبه فى البحر المتوسط، ويوثق لتاريخ القارة السمراء الأسود مع الرجل الأبيض، ذلك الماضى الحافل بأحط أنواع الاستنزاف والنهب الممنهج والإفقار للقارة البكر من قبل الرجل الأبيض، بدءًا من أول حركة الكشوف الجغرافية التى تصدرتها كل من البرتغال وإسبانيا وهولندا وصولًا لفرنسا والمملكة المتحدة، الإمبراطورية التى لم تغب عنها الشمس.
فى البداية روّج الرجل الأبيض لمهام نبيلة عن تغيير العالم، وحمل الوثنيين الأفارقة على الإيمان وانتهاج طريق الرب، فكان التاجر والكاهن فى مقدمة تلك الحملات التى شنها الأوروبى الغربى على الأفارقة.
وبالرغم من أن الاستعمار العسكرى المباشر قد ولى عن القارة الإفريقية، فإنه ترك وراءه المئات من مسامير جحا.. ذيوله أو صنائعه أو وكلائه فى الحكم، من أول صندوق النقد الدولى مرورًا بجنرالات الماس الدموى وإجبار الصبية الصغار على الإدمان لتحويلهم إلى آلات قتل بشرية صماء لا تشعر أو تعى، وانتهاءً بالحدود المصطنعة التى خلفها الأوروبى من ورائه بين القبائل والشعوب الإفريقية.
وقال صنع الله: «فجأة نتوقف أمام تل صغير عليه لوحة تقول هنا دفن ٢٨٢٧ قتيلًا، ضحايا النزاع الرواندى فى أغسطس ١٩٩٤، كيف تراكم هذا القدر من الحقد داخل هذا البلد الصغير؟ الأوروبيون الذين دخلوا رواندا منذ قرن وجدوا بلدًا يحكمه أصحاب الماشية طوال القامة من التوتسى، بينما كان الهوتو الأكثر سوادًا وامتلاءً يفلحون الأرض، ولم يكن هناك عداء بين الاثنين إلا بعد أن جاء النظام الاستعمارى، فى البداية الألمان ثم البلجيك الذين احتضنوا التوتسى ودعموا سيطرتهم كعملاء لهم فى حكم الهوتو. كما يتعرض الكتاب إلى الانقلاب العسكرى على الرئيس السودانى جعفر النميرى، والذى وقع عام ١٩٨٥، ما أتاح للبلاد أربع سنوات من الحياة الديمقراطية الآمنة، وعادت الأحزاب والنقابات التى كان النميرى قد حرمها، بل وأضيفت إليها أحزاب ونقابات جديدة، وعلى رأسها أول نقابة من نوعها فى العالم٬ وهى نقابة للذين قطعت أيديهم فى ظل تطبيق النميرى شريعته الإسلامية.
يلفت صنع الله إلى ظهور الجبهة الإسلامية واستيلائها على الحكم، فأشعلت الحرب الأهلية من جديد، وكدأب صنع الله يستعين بأرشيفه السياسى الإخبارى، ويرصد اللافتات تحت عنوان «الشارع فى الخرطوم»، وتضمنت تلك اللافتات آيات قرآنية وإعلانات لكوكاكولا وبيبسى، ناهيك عن مظاهر الحجاب الإسلامى وشرطة الانضباط التى خصصت للقبض على السافرات ومن ترتدى بنطلونًا من النساء.
وتطرق صنع الله إلى يهود الفلاشا الإثيوبيين، الذين يجرى تهجيرهم إلى إسرائيل، فى عملية سُميت «عملية موسى»، وبلغ عدد من جرى نقلهم ٣٠ ألف يهودى، وذلك بعد أن تقلصت المعونات السوفيتية إلى الرئيس ميريام. «واكتشف يهود الفلاشا فجأة أن إله موسى أبيض اللون يفضل مؤمنين من نفس اللون»، حسب تعبير صنع الله، فى إشارة إلى التمييز العنصرى الذى يواجهه يهود الفلاشا فى إسرائيل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار المصرية
منذ 20 دقائق
- النهار المصرية
صُنع الله إبراهيم.. ضمير الرواية العربية وحارس الذاكرة
من زنازين الستينيات إلى منصات الجوائز المرفوضة.. حكاية الكاتب الذي جعل الكلمة سلاحاً والتاريخ مادة للحكاية "لا أكتب لأرضي أحداً، بل لأقول الحقيقة كما هي" بهذه الجملة الصادمة رسم صُنع الله إبراهيم ملامح مسيرته التي امتدت لأكثر من نصف قرن، بدأت عام 1937 حين وُلد في حي فقير بالقاهرة، مروراً بخمس سنوات في السجن بين 1965 و1970، وصولاً إلى منصة وزارة الثقافة عام 2003 حين رفض جائزة الدولة التقديرية قائلاً: "الحرية أثمن من أي جائزة." وُلد صُنع الله في زقاق ضيق من أحياء القاهرة الشعبية، لأسرة متواضعة، حيث كان والده موظفاً في وزارة الأوقاف وأمه ربة منزل، لم تكن الحياة سهلة لكن بيئته البسيطة لم تمنع عنه شغف المعرفة. كانت القاهرة آنذاك مدينة مزدوجة الملامح: عربات خيول وأصوات الباعة وروائح الخبز الطازج من جانب، وجنود بريطانيون ونقاشات سياسية ساخنة من جانب آخر. في هذا الخليط، بدأ الفتى النحيل يلتهم الصحف والروايات، ويصغي لأحاديث الكبار عن السياسة كما لو كانت فصولاً من رواية مفتوحة على كل الاحتمالات. عام 1955 التحق بكلية الحقوق في جامعة القاهرة، بعد التخرج وجد نفسه أكثر انجذاباً للعمل السياسي من مهنة المحاماة. انضم إلى الحركة اليسارية، وشارك في المظاهرات والنقاشات الفكرية، مؤمناً أن التغيير يبدأ من الوعي الشعبي ومواجهة الظلم. عام 1965 جاءت نقطة التحول الكبرى حين اعتُقل مع مجموعة من المثقفين والنشطاء في القضية المعروفة بـ "تنظيم الحزب الشيوعي المصري". خمس سنوات أمضاها خلف القضبان، لكنها لم تكن سنوات ضياع. هناك، في الزنزانة، تعلّم الصمت الطويل، وأتقن فن المراقبة، وجمع قصاصات الأخبار ودوّن يوميات على أوراق مهترئة، لم يكن يعلم أنها ستصبح لاحقاً نواة مشروعه الأدبي. خرج من السجن عام 1970، وفي العام التالي نشر روايته الأولى "تلك الرائحة" (1971)، نص قصير جافّ اللغة حادّ الزوايا، يعكس إحساس ما بعد الصدمة والاغتراب، الرواية أثارت ضجة واسعة؛ بعض القراء اعتبرها خرقاً لتقاليد السرد، وآخرون رأوا فيها ولادة صوت أدبي مختلف، لكن الجميع اتفق على أنها فتحت باباً جديداً في الرواية العربية. لم يكن صُنع الله إبراهيم من الكتّاب الذين يكررون أنفسهم؛ ففي عام 1981 أصدر رواية "اللجنة"، نصاً رمزياً ساخراً عن البيروقراطية والرقابة، بلغة مشحونة وإيقاع متوتر، وفي 1992 قدّم رواية "ذات"، التي التقطت التحولات الاجتماعية والسياسية لمصر عبر حياة امرأة عادية، مزجاً بين السرد الروائي والقصاصات الصحفية التي أصبحت علامته الفارقة. أما عام 1997، فقد أصدر "شرف"، التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها، كاشفاً عن عالم قاسٍ من الفساد والعنف، ومانحاً القراء صورة صادمة للواقع خلف الجدران. وبينما كانت أعماله تثير الجدل الأدبي، جاء عام 2003 ليضيف لمشواره موقفاً شخصياً أيقونياً؛ إذ صعد إلى منصة وزارة الثقافة لتسلم جائزة الدولة التقديرية، لكنه فاجأ الجميع برفضها علناً قائلاً: "لا أقبل جائزة من سلطة لا تحترم شعبها"، ثم غادر القاعة، كان ذلك المشهد خلاصة لشخصيته: فصُنع الله هو نموذج حي للكاتب والمفكر الذي يضع ضميره فوق أي تكريم. بعد ذلك بخمس أعوام، عاد إلى التاريخ البعيد في روايته "العمامة والقبعة " (2008)، التي استعاد فيها القرن التاسع عشر ليروي تداخل النفوذ الأجنبي مع الحياة المصرية، مؤكداً أن قراءة الماضي ضرورية لفهم الحاضر. أسلوب صُنع الله إبراهيم يجمع بين الدقة والاقتصاد في الجمل، والقدرة على بناء نص مشحون بالمعلومة دون أن يفقد الإحساس الإنساني، لغته بعيدة عن الزخرفة؛ لكنها مليئة بالدلالات، وتستفيد من التكرار المقصود للحقائق والإشارات التاريخية، والأهم أنه جعل من الوثائق والأخبار والإحصائيات جزءاً عضوياً من نسيج الرواية، فحوّل العمل الأدبي إلى شهادة على زمنه. على مدار أكثر من نصف قرن، أثّر صُنع الله إبراهيم في أجيال من الكتّاب الشباب، ليس بأسلوبه فحسب، بل بموقفه الأخلاقي من الكتابة. ألهم كثيرين أن يروا الأدب مساحة لمساءلة السلطة وكشف التزييف التاريخي، ليقف في مصاف الروائيين العالميين الذين جعلوا الكلمة أداة مقاومة، مثل جورج أورويل في فضح الاستبداد، وغابرييل ماركيز في تسجيل الذاكرة الشعبية، وألكسندر سولجنتسين في كشف قسوة السجون. اليوم، ما زال صُنع الله حارساً للذاكرة، شاهداً على زمنه، ومؤمناً أن الرواية ليست ترفاً، بل ضرورة لفهم التاريخ ومساءلته، وكما قال يوماً: "أنا أكتب كي لا يقال يوماً إننا لم نعرف"، فتكدست قصاصات الصحف كما كانت أيام السجن، وفي عينيه لمعة طفل يراقب العالم بعين ناقدة لا ترحم. تُعد مسيرة صنع الله إبراهيم ليست مجرد فصول من حياة كاتب، بل هي درس حيّ في معنى الالتزام الأخلاقي والفني في الأدب. فالرواية العربية، في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه الحقائق بالشائعات، تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى كتّاب يملكون شجاعة المواجهة، وقدرة التوثيق، وإرادة الصمود في وجه الضغوط. لقد أثبت صُنع الله أن الرواية يمكن أن تكون أكثر من حكاية ممتعة؛ بل يمكن أن تكون أرشيفاً مضاداً يحفظ ذاكرة الشعوب، وأن الكاتب ليس متفرجاً على التاريخ بل طرفاً فيه. فأسلوبه القائم على مزج الوثيقة بالخيال، وإصراره على كشف المستور، جعله نموذجاً للكاتب الذي يقف على مسافة واحدة من السلطة ومن الجماهير، فلا ينحاز إلا للحقيقة. حتى أصبحت تجربته للجيل الجديد من الروائيين رسالة واضحة، أن الكتابة الحقيقية لا تُقاس بعدد الجوائز أو حجم المبيعات، بل بمدى صدقها، وبقدرتها على البقاء شاهدة على عصرها، كما يقول هو نفسه "أنا أكتب كي لا يقال يوماً إننا لم نعرف." واليوم ننعي نبراس في سماء ثقافتنا، رحل عنا تاركاً فإن إرث سيظل يضيء عقولنا ليس فقط بكتبه وكتاباته بل بمواقفه التي اختارها منذ بداية الطريق؛ ليبقى ضمير الرواية العربية، وحارساً لذاكرة أمة لا تزال تبحث عن سرديتها الحقيقية.


الأسبوع
منذ 32 دقائق
- الأسبوع
ذكرى وفاة شويكار.. أبرز المحطات الفنية في حياة «حواء السينما المصرية»
الفنانة شويكار فرحة بكري دلوعة السينما شويكار.. لقبت الفنانة شويكار بـ دلوعة السينما المصرية، حيث كانت من أبرز نجمات السينما والمسرح المصري، التي تميزت بحضورها الطاغي وأدائها المميز الذي جعلها تحفر اسمها في قلوب محبي الفن. نشأة الفنانة شويكار ولدت شويكار إبراهيم في 4 نوفمبر 1938 بمدينة الإسكندرية، لأسرة مصرية من أصول تركية وشركسية، كان جدها ضابطًا في جيش محمد علي باشا، وحمل اللقب التركي «طوب ثقال». كانت شويكار متفوقة دراسيا وملتزمة بالنشاط المسرحي المدرسي، لكن لم تكن تحلم بأن تجعل التمثيل مهنتها، بل اعتبرته مجرد هواية، وبعد إتمام دراستها، تزوجت من حسن نافع المحاسب القانوني في سن مبكرة، وقد قدمها العالم الفني لأول مرة في فيلم المائدة المستديرة. بدأت الفنانة شويكار مسيرتها الفنية في أوائل الستينيات، واشتهرت بخفة ظلها وحضورها المميز، حيث استطاعت أن تحجز مكانة خاصة في قلوب الجمهور من خلال أدوارها الكوميدية الأنيقة، شكّلت مع النجم الكبير فؤاد المهندس ثنائيًا فنيًا لا يُنسى، وقدما معًا أعمالًا سينمائية ومسرحية من أبرزها: السكرتير الفني، أنا وهو وهي، العتبة تكاتك، شنبو في المصيدة، سيدتي الجميلة، أرض النفاق. واجهت شويكار الحياة مبكرا كأرملة وأم في عمر لا يتجاوز الـ 17 عاماً، حيث فتحت لنفسها طريق الاعتماد على الذات، فعملت في شركة شل لاحقا قبل أن تدخل عالم التمثيل جديا بدعم من محمود السباع، الذي شجعها على العمل في فرقة أنصار التمثيل، لتبدأ رحلتها في المسرح مع مسرحية "حبر على ورق". قدمت شويكار أكثر من 180 عملًا بين السينما والمسرح والتلفزيون، من أشهر أفلامها: مطاردة غرامية، أخطر رجل في العالم، السقا مات، الكرنك، فيفا زلاطا، أمريكا شيكا بيكا. وعلى شاشة التلفزيون، شاركت في أعمال بارزة مثل: امرأة من زمن الحب، هوانم جاردن سيتي، بنت من شبرا. في سنواتها الأخيرة، ابتعدت شويكار عن الساحة الفنية بهدوء، دون إعلان رسمي للاعتزال، مؤكدة أن المناخ الفني تغيّر بشكل لا يرضي طموحها، وأنها تفضل الغياب على المشاركة في عمل لا يليق بتاريخها. تعرضت لإصابة في الحوض أثرت على حركتها، ما جعل استمرارها في التمثيل صعبًا، وكان آخر أعمالها فيلم كلمني شكرا عام 2010. تزوجت أولًا من المحاسب حسن نافع وأنجبت منه ابنتها الوحيدة منة الله. وبعد وفاته، ارتبطت بالفنان فؤاد المهندس، وكونا معًا أحد أشهر الثنائيات الفنية، قبل أن ينفصلا، كما تزوجت لاحقًا من السيناريست مدحت حسن. من هي الفنانة شويكار؟ -ولدت شويكار لعائلة تتكون من أب مصري الجنسية تركي الأصل كان من كبار ملاك الأراضي ومن أعيان محافظة الشرقية، وأم شركسية وذلك في 4 مايو 1935. - اكتُشفت في نادي سبورتنج في الإسكندرية، وعملت في أدوار تراجيدية، ثم اكتشفها المخرج فطين عبد الوهاب إذ وجد فيها موهبة فنية خاصة في مجال الكوميديا. - التحقت بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، وقررت أن تبحث عن عمل وكان المخرج حسن رضا مقرّبا من أسرتها فرشحها للعمل بفرقة أنصار التمثيل، حيث شاركت في أكثر من مسرحية وقررت أن تتلقى دورس التمثيل على يد عبد الوارث عسر ومحمد توفيق. - بدأت مشوارها الفني مطلع الستينات في السينما بأدوار قصيرة مثل أفلام «حبي الوحيد» و«غرام الأسياد». - التقت لأول مرة بالفنان فؤاد المهندس في مسرحية «السكرتير الفني» التي أخرجها عبد المنعم مدبولي وشكلت بعد ذلك مع المهندس ثنائيا مسرحيا وسينمائيا شهيرا. -تزوجت شويكار من المحاسب حسن نافع، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة منة الله، وبعد موته تزوجت الفنان فؤاد المهندس، حيث قدّما أحد أبرز الثنائيات في تاريخ السينما المصرية. ثم انفصلا بعد ذلك. كما كانت قد تزوجت من السيناريست مدحت حسن. - في منتصف السبعينات انتقلت إلى مرحلة جديدة أبرزت فيها موهبتها بشكل أكبر، من خلال أدوار مركبة ومختلفة عن الصورة المأخوذة عنها. - في المسرح: «سيدتي الجميلة، أنا وهو وهي، حواء الساعة 12، إنها حقا عائلة محترمة، روحية إتخطفت، أنا فين وأنت فين، سك على بناتك». - في السينما: مطاردة غرامية، الزوجة 13، غرام في الطريق الزراعي، العتبة جزاز، شنبو في المصيدة، أخطر رجل في العالم، الكرنك. - مسلسلات تليفزيونية: ترويض الشرسة، امرأة من زمن الحب، بين القصرين، يوم عسل يوم بصل، سر علني. -قدمت شويكار أكثر من 180 عملًا بين السينما والمسرح والتلفزيون، من أشهر أفلامها: مطاردة غرامية، أخطر رجل في العالم، السقا مات، الكرنك، فيفا زلاطا، أمريكا شيكا بيكا. وعلى شاشة التلفزيون، شاركت في أعمال بارزة مثل: امرأة من زمن الحب، هوانم جاردن سيتي، بنت من شبرا. -رحلت شويكار في 14 أغسطس 2020، تاركة وراءها إرثًا فنيًا كبيرًا وذكريات لا تُنسى.


الأموال
منذ 32 دقائق
- الأموال
صور ورسالة دافئة... كارول سماحة تحتفل بعيد ميلاد ابنة زوجها
احتفلت النجمة اللبنانية كارول سماحة بعيد ميلاد أمينة، ابنة زوجها الراحل رجل الأعمال والمنتج وليد مصطفى، وسط أجواء عائلية دافئة، حيث شاركت جمهورها لحظات مميزة من هذه المناسبة عبر حسابها على منصة "إنستجرام". نشرت كارول مجموعة من الصور التي جمعتها بـ"أمينة"، ووجهت لها رسالة مليئة بالحب والامتنان، قالت فيها:"اليوم عيد ميلادك. التقيت بك وأنت في الحادية عشرة من عمرك فقط... كنت مهذبة، حساسة، وذكية. والآن، ها أنتِ تزدهرين لتصبحي الليدي الرائعة التي أنت عليها اليوم. بارك الله في رحلتك، وبارك في والديك اللذين رعياك حتى أصبحتِ الشخص الذي أنتِ عليه الآن. أنا متأكدة أن والدك ينظر إليك من السماء بفخر. أنا محظوظة لأنني أشهدك وأختك تالا تكبران في بيئة عائلية محبة وداعمة. سأكون دائمًا بجانبك عندما تحتاجينني. عيد ميلاد سعيد يا أموني!". وجاء هذا الاحتفال بعد أشهر من رحيل وليد مصطفى في 3 مايو/أيار 2025 عن عمر ناهز 53 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض بدأ منذ عام 2018. ورغم اختلاف الديانة، ارتبطت كارول ووليد بزواج مدني بسيط في ليماسول – قبرص عام 2013، وانتقلت بعدها للعيش معه في مصر، حيث جمعهما حب كبير وأنجبا ابنتهما الوحيدة تالا.