
محمد الحجيري يكتب رواية فشل الحياة على هامش المدينة
يختار محمد الحجيري أن يتناول في روايته التي تناهز 157 صفحة منطقة رأس بيروت، وهي منطقة سكنية راقية في بيروت عرفت بتنوع سكانها الطائفي والفكري والثقافي طوال القرن الماضي، وبخاصة قبيل الحرب اللبنانية وحتى ثمانينيات القرن الـ20. واشتهرت هذه المنطقة بمقاهيها ومتاجرها وصالات السينما والمسرح الموجودة فيها، كما اشتهرت بالشخصيات المرموقة التي زارتها وأقامت فيها، وهو ما لا يتوانى الحجيري عن الإشارة إليه في سرده. رجال فن وتمثيل وسياسة عرفوا رأس بيروت، سيدات أنيقات ذهبيات مررن بها أو أقمن بها، لكن ما بقي هو رجل حزين يسير في الشوارع باحثاً عن المقاهي التي عرفها، والوجوه التي عاش معها، وقصة الحب الوحيدة التي لم يستطع أن يكملها ولا أن يكتبها.
بطل عالق في أنصاف قصص
يكتشف قارئ رواية "أطلال رأس بيروت" أن بطل محمد الحجيري، سمير عواد، رجل يشبه رأس بيروت بانهزاماته ووحدته وعزلته. هو رجل يشبه ما أصبحت عليه شوارع منطقة رأس بيروت ومقاهيها بعد الحروب الكثيرة والانهيارات الكثيرة والخسارات الكثيرة، فشارع بليس لم يعد نفسه، ولا شارع كليمنصو ولا شارع الحمرا. المقاهي أقفلت، المثقفون تناثروا وتشظوا، أما سمير فعالق في الماضي، في أنصاف القصص، ليس سعيداً بماضيه ولا يعيش حاضره ويبدو كطيف رجل لا يعرف القارئ عن حاضره الكثير.
محمد الحجيري وروايته (دار رياض الريس)
يصف الكاتب بطله منذ الصفحة الأولى للسرد بأنه: "سمير المشاء والمتسكع البوهيمي، هاوي جمع الكتب على رفوف المكتبة وشراء الفواكه على أنواعها وفي مواسمها، وعاشق تصوير البيوت القديمة". وكما بقيت البيوت القديمة "الأطلال" عالقة تحت غبار الماضي، هكذا حصل مع البطل، فبدلاً من أن يرافقه السرد في واقعه وحاضره ومجريات حياته اليوم، يعود به وبنا للماضي في رجعات إلى الوراء كثيرة وطويلة تسيطر على ما يربو على نصف الرواية. إنما ماضي سمير عواد ليس بأفضل من حاضره، فهذا الرجل "بقي غريباً على رغم معرفته بمئات الأشخاص" (ص: 61). يلتصق بطل "أطلال رأس بيروت" بالمدينة من دون أن يستطيع اختراقها، تماماً كما هي حاله مع الحب. يأتي سمير عواد المدينة من الريف من دون أن ينزع عن نفسه غربته الأولى، يغرم بسارة عواد مصممة الغرافيك ديزاين التي يشعر بالإلفة معها لكونها تحمل الكنية نفسها مثله، لكنه على ذلك يعجز عن بلوغها ويبقى حبه من طرف واحد.
تتجلى قصص بطل محمد الحجيري كلها قصصاً ناقصة، حتى قصته مع الكتابة ناقصة ولا تكتمل هو الذي يحاول طوال الوقت أن يكتب رواية، وبدلاً من أن يكتب رواية المدينة يكتب رواية سارة معشوقته بنزقها وتصرفاتها الرعناء وشخصيتها اللعوب. ليذكر العنوان والسرد القائم على العودة للوراء، بتقنية الشعر العربي الكلاسيكي الذي يفتتح فيه الشاعر قصيدته بالبكاء على الأطلال وعلى الآثار الدارسة لديار الحبيبة. وكأن البطل يبكي أطلال رأس بيروت، ويحاول أن يبني نفسه بإعادة بنائها.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلاحظ القارئ أن السرد يرافق سمير عواد لغاية الصفحة 90 أي نصف الرواية تقريباً، ثم ينتقل ليرافق سارة عواد المرأة التي يحبها سمير وهي متمنعة عنه، ليعود السرد في الفصل الأخير لينهي بسمير. وكأن سميراً مؤطر لقصة سارة وراويها وكأن قصتها هي تحولت إلى جوهر النص وقلبه ومحوره. ينقسم السرد قسمين متساويين تقريباً بين "هو" و"هي" من دون أن يعرف القارئ فعلاً أي من الاثنين هو البطل، أو إن كان أي منهما بطلاً حتى، فسارة نفسها فتاة مصابة باضطرابات داخلية وبتزعزع عاطفي وبحيرة وجودية هي التي تبحث في حبيبها عن طيف والدها المتوفى، هي التي ترفض سمير وملحم وكل شاب يتقرب منها، فيصفها السرد بالقول: "كان صعباً أن تكون سارة امرأة واحدة، أو امرأة بظل واحد أو بمرآة واحدة" (ص: 87)، ثم يقول عنها لاحقاً: "في كل شيء تريد إثبات نفسها على رغم شعورها المر بالفشل، انغماسها في الحيرة والتردد والازدواج" (ص: 108).
بين الداخل والخارج
يلاحظ القارئ صلابة علاقة البطل سمير عواد بمفهوم "المقهى" كمكان اجتماعي وفضاء لشخصيات كثيرة يتحدث عنها ويخلق منها نماذج بشرية، فيقع القارئ على الرسام "شمس"، والشاعر محمد أبو معن، وأيمن الصوانة، وموسى الأستاذ الجامعي، والشاعر داوود الأبيض، وفادي أبي اللمع، وعلي بلس، وغيرهم كثر. يتحول هذا المكان المغلق الداخلي إلى مرآة للعالم، فيقول عنه سمير: المقهى صار "جزءاً من دفتر يومياته وصمته الحزين وبؤسه السعيد" (ص: 25)، ثم يكمل قائلاً: "في المقهى يتضح العالم أمامه، وتظهر تناقضاته كأمر عابر" (ص: 28).
يحتل المقهى في هذه الرواية الفضاء الأكبر من السرد، فمعظم الذين يلتقيهم سمير هم في المقهى، ومعظم مجريات قصته تحدث هناك، وحدها سارة عندما يتحول السرد إليها يخرج من فضاء المقهى ليرافقها في مجريات حياتها. يحتل المقهى حيزاً كبيراً من السرد، فيحوله الراوي إلى مصغر عن المجتمع والمدينة، حتى أن البطل أراد أن يكتب رواية قائمة على المقهى وأخباره، فيقول: "كان مقهى الحياة ومقهى الموت، مقهى المدينة ومقهى القرية، مقهى الشبان ومقهى العجائز، مقهى البوهيمية ومقهى النخبة، مقهى الأمن ومقهى السياسة، مقهى الشعر ومقهى التفاهة، مقهى الاعتراف ومقهى الخيانة، مقهى الرثاثة ومقهى الاستعراض، وكان الشارع سجن سمير الاختياري" (ص: 27).
تنعكس الآية مع سمير، ليصبح الشارع مكاناً مقفلاً بالنسبة إليه والمقهى المكان المفتوح الواسع الأفق. وكما يفتتح سمير عواد والمقهى السرد، ينتهي السرد بهما بجملة قد تلخص حياة بأسرها، فيقول الراوي في الصفحة الأخيرة: "كان سمير يريد أن يكتب سيرة المقهى، لكنه كتب حكاية سارة والغيرة، وعاش سمير ميله المفرط والمتشائم إلى الرومنطقية والعزلة والقدر، سواء في الحب أو في الكتابة" (ص: 156).
"أطلال رأس بيروت" رواية تدخل ضمن سلسلة الروايات اللبنانية المعاصرة التي تروي أبطالاً مهزومين عاجزين عن الإمساك بالحب والمدينة والحياة، أنصاف أبطال، يشعرون بالخواء والوحدة وعدم الرغبة بالمقاومة. قصص الرواية كلها تفضح اليأس والحزن والملل، سواء أكانت قصص حب أو صداقة أو زواج أو طموح، حتى الرغبة بكتابة رواية تفشل، فلا أصدق مما يقوله الراوي بنفسه عن حياته بكل قتامة وسوداورية وميلانكولية: "الحياة حكاية ربما كانت تافهة" (ص: 49).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
٠٢-٠٥-٢٠٢٥
- Independent عربية
محمد الحجيري يكتب رواية فشل الحياة على هامش المدينة
يختار محمد الحجيري أن يتناول في روايته التي تناهز 157 صفحة منطقة رأس بيروت، وهي منطقة سكنية راقية في بيروت عرفت بتنوع سكانها الطائفي والفكري والثقافي طوال القرن الماضي، وبخاصة قبيل الحرب اللبنانية وحتى ثمانينيات القرن الـ20. واشتهرت هذه المنطقة بمقاهيها ومتاجرها وصالات السينما والمسرح الموجودة فيها، كما اشتهرت بالشخصيات المرموقة التي زارتها وأقامت فيها، وهو ما لا يتوانى الحجيري عن الإشارة إليه في سرده. رجال فن وتمثيل وسياسة عرفوا رأس بيروت، سيدات أنيقات ذهبيات مررن بها أو أقمن بها، لكن ما بقي هو رجل حزين يسير في الشوارع باحثاً عن المقاهي التي عرفها، والوجوه التي عاش معها، وقصة الحب الوحيدة التي لم يستطع أن يكملها ولا أن يكتبها. بطل عالق في أنصاف قصص يكتشف قارئ رواية "أطلال رأس بيروت" أن بطل محمد الحجيري، سمير عواد، رجل يشبه رأس بيروت بانهزاماته ووحدته وعزلته. هو رجل يشبه ما أصبحت عليه شوارع منطقة رأس بيروت ومقاهيها بعد الحروب الكثيرة والانهيارات الكثيرة والخسارات الكثيرة، فشارع بليس لم يعد نفسه، ولا شارع كليمنصو ولا شارع الحمرا. المقاهي أقفلت، المثقفون تناثروا وتشظوا، أما سمير فعالق في الماضي، في أنصاف القصص، ليس سعيداً بماضيه ولا يعيش حاضره ويبدو كطيف رجل لا يعرف القارئ عن حاضره الكثير. محمد الحجيري وروايته (دار رياض الريس) يصف الكاتب بطله منذ الصفحة الأولى للسرد بأنه: "سمير المشاء والمتسكع البوهيمي، هاوي جمع الكتب على رفوف المكتبة وشراء الفواكه على أنواعها وفي مواسمها، وعاشق تصوير البيوت القديمة". وكما بقيت البيوت القديمة "الأطلال" عالقة تحت غبار الماضي، هكذا حصل مع البطل، فبدلاً من أن يرافقه السرد في واقعه وحاضره ومجريات حياته اليوم، يعود به وبنا للماضي في رجعات إلى الوراء كثيرة وطويلة تسيطر على ما يربو على نصف الرواية. إنما ماضي سمير عواد ليس بأفضل من حاضره، فهذا الرجل "بقي غريباً على رغم معرفته بمئات الأشخاص" (ص: 61). يلتصق بطل "أطلال رأس بيروت" بالمدينة من دون أن يستطيع اختراقها، تماماً كما هي حاله مع الحب. يأتي سمير عواد المدينة من الريف من دون أن ينزع عن نفسه غربته الأولى، يغرم بسارة عواد مصممة الغرافيك ديزاين التي يشعر بالإلفة معها لكونها تحمل الكنية نفسها مثله، لكنه على ذلك يعجز عن بلوغها ويبقى حبه من طرف واحد. تتجلى قصص بطل محمد الحجيري كلها قصصاً ناقصة، حتى قصته مع الكتابة ناقصة ولا تكتمل هو الذي يحاول طوال الوقت أن يكتب رواية، وبدلاً من أن يكتب رواية المدينة يكتب رواية سارة معشوقته بنزقها وتصرفاتها الرعناء وشخصيتها اللعوب. ليذكر العنوان والسرد القائم على العودة للوراء، بتقنية الشعر العربي الكلاسيكي الذي يفتتح فيه الشاعر قصيدته بالبكاء على الأطلال وعلى الآثار الدارسة لديار الحبيبة. وكأن البطل يبكي أطلال رأس بيروت، ويحاول أن يبني نفسه بإعادة بنائها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ويلاحظ القارئ أن السرد يرافق سمير عواد لغاية الصفحة 90 أي نصف الرواية تقريباً، ثم ينتقل ليرافق سارة عواد المرأة التي يحبها سمير وهي متمنعة عنه، ليعود السرد في الفصل الأخير لينهي بسمير. وكأن سميراً مؤطر لقصة سارة وراويها وكأن قصتها هي تحولت إلى جوهر النص وقلبه ومحوره. ينقسم السرد قسمين متساويين تقريباً بين "هو" و"هي" من دون أن يعرف القارئ فعلاً أي من الاثنين هو البطل، أو إن كان أي منهما بطلاً حتى، فسارة نفسها فتاة مصابة باضطرابات داخلية وبتزعزع عاطفي وبحيرة وجودية هي التي تبحث في حبيبها عن طيف والدها المتوفى، هي التي ترفض سمير وملحم وكل شاب يتقرب منها، فيصفها السرد بالقول: "كان صعباً أن تكون سارة امرأة واحدة، أو امرأة بظل واحد أو بمرآة واحدة" (ص: 87)، ثم يقول عنها لاحقاً: "في كل شيء تريد إثبات نفسها على رغم شعورها المر بالفشل، انغماسها في الحيرة والتردد والازدواج" (ص: 108). بين الداخل والخارج يلاحظ القارئ صلابة علاقة البطل سمير عواد بمفهوم "المقهى" كمكان اجتماعي وفضاء لشخصيات كثيرة يتحدث عنها ويخلق منها نماذج بشرية، فيقع القارئ على الرسام "شمس"، والشاعر محمد أبو معن، وأيمن الصوانة، وموسى الأستاذ الجامعي، والشاعر داوود الأبيض، وفادي أبي اللمع، وعلي بلس، وغيرهم كثر. يتحول هذا المكان المغلق الداخلي إلى مرآة للعالم، فيقول عنه سمير: المقهى صار "جزءاً من دفتر يومياته وصمته الحزين وبؤسه السعيد" (ص: 25)، ثم يكمل قائلاً: "في المقهى يتضح العالم أمامه، وتظهر تناقضاته كأمر عابر" (ص: 28). يحتل المقهى في هذه الرواية الفضاء الأكبر من السرد، فمعظم الذين يلتقيهم سمير هم في المقهى، ومعظم مجريات قصته تحدث هناك، وحدها سارة عندما يتحول السرد إليها يخرج من فضاء المقهى ليرافقها في مجريات حياتها. يحتل المقهى حيزاً كبيراً من السرد، فيحوله الراوي إلى مصغر عن المجتمع والمدينة، حتى أن البطل أراد أن يكتب رواية قائمة على المقهى وأخباره، فيقول: "كان مقهى الحياة ومقهى الموت، مقهى المدينة ومقهى القرية، مقهى الشبان ومقهى العجائز، مقهى البوهيمية ومقهى النخبة، مقهى الأمن ومقهى السياسة، مقهى الشعر ومقهى التفاهة، مقهى الاعتراف ومقهى الخيانة، مقهى الرثاثة ومقهى الاستعراض، وكان الشارع سجن سمير الاختياري" (ص: 27). تنعكس الآية مع سمير، ليصبح الشارع مكاناً مقفلاً بالنسبة إليه والمقهى المكان المفتوح الواسع الأفق. وكما يفتتح سمير عواد والمقهى السرد، ينتهي السرد بهما بجملة قد تلخص حياة بأسرها، فيقول الراوي في الصفحة الأخيرة: "كان سمير يريد أن يكتب سيرة المقهى، لكنه كتب حكاية سارة والغيرة، وعاش سمير ميله المفرط والمتشائم إلى الرومنطقية والعزلة والقدر، سواء في الحب أو في الكتابة" (ص: 156). "أطلال رأس بيروت" رواية تدخل ضمن سلسلة الروايات اللبنانية المعاصرة التي تروي أبطالاً مهزومين عاجزين عن الإمساك بالحب والمدينة والحياة، أنصاف أبطال، يشعرون بالخواء والوحدة وعدم الرغبة بالمقاومة. قصص الرواية كلها تفضح اليأس والحزن والملل، سواء أكانت قصص حب أو صداقة أو زواج أو طموح، حتى الرغبة بكتابة رواية تفشل، فلا أصدق مما يقوله الراوي بنفسه عن حياته بكل قتامة وسوداورية وميلانكولية: "الحياة حكاية ربما كانت تافهة" (ص: 49).


المدينة
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- المدينة
«نجوم السَّاحل»
تعرضُ «جراند سينما»، الفيلمَ الكوميديَّ المصريَّ الجديدَ «نجوم السَّاحل»، حيث حمزة، مبرمج شاب موهوب من أحد أحياء الطبقة العاملة، وصديقه سمير يسافران إلى السَّاحل الشَّمالي؛ لحضور حفلة عيد ميلاد، وبعد اشتباك مع مروِّج الحفلة، يقررِّان تخريبها عن طريق إقامة حفلة أكبر، بمساعدة أبناء عمومة حمزة، مع العديد من المفارقات الكوميديَّة غير المتوقَّعة.الفيلم بطولة: سلوى عثمان، أحمد صيام، أحمد داش، ومايان السيد، وعلي صبحي، ومالك عماد، وعلي السبع. إخراج: رؤوف السيد.


Independent عربية
١٤-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
سمير قسيمي يجعل من السلحفاة بطلة نسائية
يجد قارئ رواية "إحذر دائماً من الكلاب" نفسه مضطراً إلى إعادة تتبع الأحداث وربط خيوط الشخصيات بعضها ببعض، مع استكشاف التفاصيل والإشارات الرمزية التي تحمل في طياتها رسائل مبطنة. فهذه الرواية التي لا تعنى بالسرد المباشر على الإطلاق، اعتمد فيها صاحب "يوم رائع للموت" بصورة رئيسة على الإيحاء أكثر من التصريح. إنها في هذا المعنى ليست رواية سلسة بأحداث واضحة المعالم، على رغم صغر حجمها وعدد صفحاتها الــ151. لعلها تحتاج إلى تركيز، فهي لا تسير وفق خط مستقيم، بل تتشابك مساراتها في بنية معّدة مليئة بالألاعيب اللغوية والمعاني المضمرة التي يسعى قسيمي إلى إيصالها. الرواية الجديدة (أبجد) لعل هذا ما يجعل القراءة في هذه الرواية لعبة ممتعة وتحدياً مشوقاً بين القارئ والكاتب. فكما يطمح القارئ إلى أن يكون كاتبه المفضل عند مستوى توقعاته، فإن الكاتب بدوره يتمنى قارئاً قادراً على تفكيك رموزه اللغوية والتقاط إشاراته الذكية. وهنا تتجلى براعة قسيمي، إذ أتقن في هذه الرواية فن الألاعيب اللغوية، بدءاً من التكثيف والاختزال الحاد، كأن يضع أمامك معلومات مكثفة في فقرة صغيرة، مما يجعلك تقرأ ببطء أثناء التعرف إلى الشخصيات الجديدة، وصولاً إلى التلاعب بالإيهام. خدع سردية هذا ما يبدو في إحدى أبرز خدعه السردية حين يقدم شخصية تبدو في البداية وكأنها امرأة مسنة مريضة تنتظر الموت، ثم نكتشف بعد فصول عدة أن هذه الشخصية ليست بشرية أصلاً، بل سلحفاة! حتى عندما يصرّح الكاتب على لسان الشخصية بوضوح "اسمي تيموثي، رجاء لا تقلقوني، فأنا لست سوى سلحفاة مسنة جدًا". يظن القارئ للوهلة الأولى أن العبارة مجازية، ليفاجأ في الفصل التالي بأنها سلحفاة بالفعل، حينها يعود للخلف باحثاً عن أي إشارة سابقة تكشف عن طبيعتها. لكنه لن يجد شيئاً لأن الكاتب بحنكة ذكية لم يذكر ما يدل على أنها امرأة، لكنه في الوقت ذاته لم يذكر ما ينفي ذلك، مما يجعل القارئ يقع في فخ التوقعات حتى يكتشف الحقيقة بنفسه. فالرواية تنطلق بشخصيات بشرية من لحم ودم، يروي فيها سمير بصوت الراوي العليم عن رحلة "عبد المؤمن" الذي يسافر إلى مدينة مارسيليا لإجراء حوار مع "نسرين نايت خوجة"، السيدة المسنة التي يرغب في الحصول منها على معلومات تاريخية، تهمه وتهم عائلته. الروائي سمير قسيمي (صفحة فيسبوك) ولذا حين ينتقل السرد إلى "تيموثي القديمة" لن نشك في أن الكاتب يتحدث عن سلحفاة لأن العقل يميل إلى افتراض أن الشخصيات جميعها بشرية، مما يجعل لحظة الكشف غير متوقعة، لنجد أنفسنا، مع حكاية سلحفاة عمّرت أكثر من 170 سنة، ولديها حكاية ترويها، حتى إنها تعد في نظر نسرين قرينتها في عالم الحيوان، نظراً إلى ما يجمع بينهما من أقدار متشابهة. وهذه اللعبة اللغوية كانت من أقوى عناصر الرواية لأنها تزيد من عنصر التشويق وتدفع إلى التمسك بالنص حتى النهاية. مساران سرديان اعتمد قسيمي مسارين رئيسين للسرد، يتنقل بينهما بالتناوب بين عالم الإنسان وعالم الحيوان في حبكة متشابكة. فمن جهة يروي لنا قصة الجدة نسرين، بطلة لوحة "فاتنة الميناء" التي رسمها الرسام الهولندي آري فيشر. ومن جهة أخرى يأخذنا إلى حكاية السلحفاة تيموثي القديمة والغيلم الصغير الذي رافقها في لحظات احتضارها، فمنحته اسم "تيموثاوس"، وهي تخبره بأنه من كان ينبغي أن يحمله، والاسم يعود في الأصل، للقديس تيموثاوس، مما يضفي على شخصية تيموثاوس الغيلم أبعاداً رمزية، إذ يقدر له أن يحمل رسالة عظيمة لبقية الحيوانات في العالم، شرط أن يتعلم القراءة والكتابة من البشر الذين يقيم معهم في البيت. وتسرد السلحفاة للصغير وقائع ثورة الحيوانات التي انتهت بهزيمتهم، مما يحيلنا إلى رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، وتشرح له باقتضاب رسالته التي وصفتها بالبشارة الجديدة. ويواصل قسيمي توظيف هذا المفهوم في السرد من خلال عبارات مثل البشارة العظيمة أو الرسالة، الدعوة، من دون أن يستخدم مصطلح الدين الجديد، بل هو ينفي هذه الفكرة في مواضع عدة على لسان تيموثاوس، "كلا، أنا لا أبشر بدين جديد"، ومع ذلك ينتهي الأمر بالحيوانات إلى التعامل معه وكأنه كذلك في مفارقة تعكس كيف تؤوّل الأفكار والمفاهيم خارج سياقها الأصلي. يجد القارئ نفسه أمام مقاطع وأوصاف تتقاطع بوضوح مع شخصيات رمزية في الواقع، ويبرز صراع محتدم بين طائفتين في هذا العالم كأن يرد في السرد "ومثلما يحدث دائماً بين طائفتين تدينان بالوهم، نشب الخلاف بين المؤمنين بأن تيموثاوس الصغير هو الجاثوم الذي نصت الأحاديث على وجوب قتله". بهذا يستخدم قسيمي الرمزية موحياً بأن النزاعات العقائدية قد لا تكون سوى انعكاسات لصراعات فكرية تدور حول تأويلات وتصورات مختلفة للحقيقة. وتظهر في الرواية شخصية الجرذ ذي الرقبة الصفراء الذي يطلق عليه اسم "الأصفر ابن أبيه"، إذ يتولى جمع شهادات الجرذ يحيي صديق تيموثاوس وينشر دعوته. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) كل هذه التلميحات تبدو وكأنها مقصودة وكأن الروائي يسعى من خلالها إلى إيصال رسائل محددة. كان بإمكانه، كما أشار في النص، أن يبتكر داعياً جديداً للحيوانات ببشارة جديدة ومستقلة، وربما كان ذلك ليكون خياراً أكثر ابتكاراً، متناسباً مع الأجواء الفانتازية القوية التي بدأ بها روايته، إلا أن القارئ قد يشعر، في بعض المواضع، وكأنه أمام إسقاط مباشر للروايات الدينية،بأسماء مستعارة تحملها حيوانات لطالما ارتبطت بالذم في الوعي الجمعي، خصوصاً الجرذان. ومع ذلك، فإن الكاتب لم يلجأ إلى هذا الإسقاط عبثاً، بل امتلك رؤية واضحة في استعاراته، فنجد أن الفوضى والصراعات في عالم الرواية تحدث بينما لا يزال تيموثاوس حياً، يشهد بأم عينيه كيف تُشوّه دعوته وتُحرف عن مسارها. في هذا السياق يبدو السرد وكأنه يحمل رسائل مشفرة، محاولاً عبر عالم الحيوان نقد عالم الإنسان، تماماً كما فعلت أعمال كلاسيكية مثل "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل و"كليلة ودمنة" لابن المقفع، فتتحول الحكاية الرمزية إلى مرآة تعكس الواقع الإنساني بتناقضاته وصراعاته الدينية والفكرية. صوت الكاتب لا يغيب الكاتب عن أحداث الرواية، خلافاً لما هو شائع في الأعمال التي تُسرد بأصوات الشخصيات أو صوت الراوي العليم. ففي البداية يأخذ السرد طابعاً أقرب إلى المقالة الوثائقية منه إلى السرد الروائي، ولكن الأمر يتحسن تدريجاً مع تقدم الفصول. ثم يتدخل صوت الكاتب بصورة مفاجئة مستخدماً أسلوباً يكسر الجدار الرابع كما في الهامش الذي كتب فيه "هنا لا بد للكاتب من أن يؤكد للقارئ، بخاصة أنه رجل لا يملك من الشجاعة إلا ما يدعيه، أن خطأ ما قد أصاب لوحة مفاتيح الحاسوب". وفي الواقع فما نقرأه يعاكس هذا التصريح المتواضع، إذ يتناول الكاتب بجرأة مواضيع تعد من "التابوات" ويعالجها بشجاعة تفوق ما يدعيه، مستعيناً بعالم الحيوان لتمرير أفكاره الجريئة.