
أقصبي: استوردنا أسئلة لا تخصنا وفقدنا السيادة البحثية.. وتقديس الرياضيات في الاقتصاد قادنا إلى نتائج عبثية
قال الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، إن 'الاهتمام اليوم لا ينبغي أن يكون بمسار شخصي معين، بل بالمضامين التي يمكن أن تنفع الأجيال القادمة'. وانطلاقا من هذا التصور، حرص أقصبي، الذي تحدث بحس مرهف يحمل نَفَسا بيداغوجيا ونقدا ذاتيا لاذعا، على تقاسم أفكار مستمدة من التجربة، في مداخلته خلال حفل تكريمه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بالرباط مساء يوم الجمعة 16 ماي 2025.
وأوضح نجيب أقصبي، وهو أستاذ باحث في الاقتصاد، أن تجربته الأكاديمية تستند إلى مسارين متداخلين، وهما مسار التعليم ومسار البحث. وقال بالحرف: 'أنا أستاذ قبل أن أكون اقتصاديا'. وقد أضفى على حديثه طابعا إنسانيا قويا حين تحدث عن التعليم بوصفه 'أكثر من مجرد مهنة، بل هو شغف، وفلسفة حياة، واحتياج داخلي يدفع إلى نقل المعرفة'. وأردف أن جيله، الذي اختار التعليم في سبعينيات القرن الماضي، اعتبر أن الانخراط في التدريس 'كان فعلا نضاليا'، وأضاف: 'كان لدينا ذلك الحلم بأن نُكوِّن أجيالا تخدم هذا البلد، وتكون محرّكه نحو المستقبل'.
ولفت المتحدث إلى أن التدريس لا يكتمل من دون شعور عميق بالمسؤولية العامة، وبأن يكون جزءا من مشروع مجتمعي، 'لأن التعليم لا يمكن أن يكون فعلا معزولا عن هاجس خدمة الصالح العام'. وأكد أقصبي أن التعليم الجيد يتطلب إرادة تتجاوز الشغف، إرادة تُكرّس الانضباط والعمل الجاد لتقديم الأفضل دائما، واستشهد في هذا الصدد بقول للاقتصادية البريطانية جون روبنسون: 'درّست طيلة حياتي، وآمل أن أكون قد كسبت عيشي بصدق'.
في سياق حديثه عن مهنة تدريس الاقتصاد، أضفى أقصبي بُعدا فكاهيا عندما نقل عن زميل له من جامعة بفرنسا قوله: 'أنا اقتصادي، لكنني أتعالج'، أي هو يشبّه اشتغاله بالاقتصاد بشيء يُعاني منه. وقد استثمر أقصبي هذا المزاح للدخول في لبّ الموضوع، وهو ما سماه 'معضلة تدريس الاقتصاد'، وطرح السؤال الجوهري الذي يواجهه كل أستاذ اقتصاد: 'أي اقتصاد نُعلم؟ هل هو اقتصاد الآباء المؤسسين من سميث إلى ماركس؟ أم هو الاقتصاد النيوكلاسيكي الذي يختزل السلوك الإنساني في معادلات رياضية؟'.
وقال إن هناك انزلاقا خطيرا شهدته حقل الاقتصاد في العقود الأخيرة، يتجلى في 'تقديس مفرط للرياضيات' إلى درجة أن المقالات لم يكن يُمكن نشرها في مجلات أكاديمية دون أن تكون مشحونة بالمعادلات، بغض النظر عن مضمونها أو فائدتها.
وأشار أقصبي إلى أن هذا الهوس الرياضي في الاقتصاد أدى إلى نتائج عبثية، ليس فقط عالميا بل حتى في المغرب، حيث أصبح من الصعب تمييز جوهر الفكرة الاقتصادية من وسط الزخم الشكلي للمعادلات. وعبّر عن رأيه بوضوح قائلا: 'نحن هنا لم نرفض النهج الكمي، ولكننا كنا من القلة التي حاولت أن تضع كل أداة في مكانها الصحيح'. وأكد أن أدوات الفهم الاقتصادي لا تقتصر على الرياضيات، بل ينبغي أن تشمل التاريخ، السوسيولوجيا، علم النفس، الأنثروبولوجيا، القانون، والعلوم السياسية.
وفي معرض تطرقه للبحث العلمي، وهو الشق الثاني من مداخلته، تساءل أقصبي بصوت صريح: 'هل كنا باحثين حقا؟ وهل كنا باحثين جيدين؟ وهل كنا باحثين ذوي فائدة؟'. وقال إن الانتماء إلى صفة أستاذ باحث، والتمتع بما يسمى 'منحة البحث'، لا تكفي لتحديد الجدوى أو القيمة الحقيقية لما نقوم به. وأضاف بسخرية واقعية: 'هناك مقولة تقول: الباحثون الذين يبحثون موجودون، أما الباحثون الذين يجدون فنحن ما نزال نبحث عنهم'.
ولم يكن أقصبي ليكتفي بالتوصيف، بل ذهب إلى نقد تموضع الجامعة المغربية داخل منظومة البحث الدولي، موضحا أن أغلب مشاريع البحث التي شارك فيها الباحثون المغاربة كانت مُمولة من الخارج، وتحديدا من جامعات ومؤسسات في الشمال، والتي كانت تُملي برامج بحثية تنبع من إشكالات لا تخص دائما الواقع المغربي. وقال: 'كان ذلك أحيانا هو السبيل الوحيد للحصول على التمويل، وضمان النشر، وحضور الندوات'. ومع ذلك، أقرّ بأن هذا التبعية البحثية كانت على حساب السيادة المعرفية المحلية، لأن الإشكالات لم تكن دائما نابعة من السياق المغربي، بل كانت تُستورد من الخارج.
وأشار إلى أن هذه الوضعية أدّت إلى تحول الباحث إلى خبير، أو حتى إلى مستشار، مع ما يعنيه ذلك من تغير في الوظائف والأدوار. لكنه حرص على التوضيح أن ذلك لا يحمل حكما قيميا، وقال صراحة: 'المهنة ليست فيها تفاضل أخلاقي، فالباحث ليس أسمى من الخبير'. لكنه نبّه إلى خطر أن تطغى وظيفة الخبير على وظيفة الباحث، لأن في ذلك تضييقا لدور المعرفة في تغيير المجتمع. وأضاف: 'هذا ليس جلدا للذات، بل دعوة صادقة نحو الإصلاح والتفكير في المستقبل'.
وفي نبرة خطابية تستهدف الأجيال القادمة، وجه أقصبي رسالة واضحة إلى الشباب قائلا: 'افعلوا الأفضل، الأفعلوا أفضل'، مستلهما عنوان كتاب للفرنسي جان-لوك ميلونشون. وشدّد على أهمية النضال من أجل 'الحصول على ميزانيات حقيقية للبحث العلمي'، داعيا الشباب إلى 'تأسيس بنياتهم الخاصة، وتحديد أولوياتهم البحثية، واختيار مناهجهم بحرية أكاديمية تامة'، مؤكدا أن الغاية القصوى من كل هذا ينبغي أن تكون 'فائدة الوطن والشعب'.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 دقائق
- الجزيرة
ترامب يهدد آبل برسم جمركي 25% ما لم تصنع هواتفها بأميركا
هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم الجمعة شركة آبل بفرض رسم جمركي قدره 25% ما لم تقم بتصنيع هواتف آيفون في الولايات المتحدة. وقال ترامب في منشور على منصته تروث سوشيال "لقد أبلغت تيم كوك منذ فترة طويلة أنني أتوقع أن يتم تصنيع هواتف آيفون.. في الولايات المتحدة ، وليس في الهند أو في أي مكان آخر. وإذا لم يحصل ذلك، سيتوجب على آبل دفع رسم جمركي قدره 25% على الأقل للولايات المتحدة". وانخفضت أسهم آبل 2.5% في تعاملات ما قبل فتح السوق على خلفية تحذير ترامب، مما أدى إلى انخفاض العقود الآجلة لمؤشر الأسهم الأميركية. وأثارت الرسوم الجمركية واسعة النطاق، التي فرضها ترامب على كبار الشركاء التجاريين للولايات المتحدة فوضى في التجارة والأسواق العالمية. وتتوافق تصريحاته الجمعة مع تلك التي أدلى بها الأسبوع الماضي أثناء زيارته للخليج عندما حض آبل على نقل تصنيع هواتف آيفون إلى الولايات المتحدة. وقال ترامب في 15 مايو/أيار "كانت لدي مشكلة صغيرة مع تيم كوك"، وأكد أنه قال للرئيس التنفيذي لآبل "لسنا مهتمين بأن تقوموا بالتصنيع في الهند.. نريدكم أن تصنّعوا هنا وسوف يقومون بزيادة إنتاجهم في الولايات المتحدة". ولدى عرض أرباح الشركة للربع الأول من العام في مطلع مايو/أيار الحالي، قال كوك إنه يتوقع أن تكون "الهند بلد المنشأ لغالبية أجهزة آيفون التي يتم بيعها في الولايات المتحدة". وحذّر من الآثار غير الواضحة للرسوم الجمركية الأميركية البالغة 145% على السلع المستوردة من الصين رغم الإعفاء المؤقت لسلع عالية التقنية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب. ورغم أن الهواتف الذكية المكتملة البناء معفاة من الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، فإن المكونات التي تدخل في تركيب أجهزة آبل ليست كلها مستثناة من الرسوم. وتتوقع شركة آبل أن تبلغ تكلفة الرسوم الجمركية الأميركية 900 مليون دولار في الربع الحالي من العام، رغم أن تأثيرها كان "محدودا" في مطلع هذا العام، وفقا لكوك. ويحاول ترامب عبر فرض رسوم جمركية على الواردات دعم الإنتاج المحلي ودفع الشركات الأميركية إلى العودة إلى البلاد لتوفير الوظائف. لكن تقريرا وول ستريت جورنال قال إن التحدي اليوم لا يكمن في إنشاء مصانع، بل في العثور على من يرغب بالعمل فيها، فإعادة الوظائف لا تعني بالضرورة إعادة العمال. ويضيف التقرير أنه في وقت تُدفع فيه السياسة الاقتصادية الأميركية مجددا نحو إعادة "عصر الصناعة"، وتُفرض الرسوم الجمركية على الواردات من أجل تشجيع الإنتاج المحلي، تبرز معضلة جوهرية: هل هناك ما يكفي من الأميركيين الراغبين في العمل داخل المصانع؟


الجزيرة
منذ 11 دقائق
- الجزيرة
خريطة تفاعلية تستعرض هجمات المستوطنين في قرى الضفة الغربية
تستعرض الخريطة التفاعلية أبرز البلدات والقرى التي تتعرض بشكل شبه يومي لهجمات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة. اقرأ المزيد المصدر : الجزيرة


القدس العربي
منذ 12 دقائق
- القدس العربي
هارفارد تقاضي إدارة ترامب بعد منعها من قبول الطلاب الأجانب
رفعت جامعة هارفارد دعوى قضائية ضد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليوم الجمعة بعد قرار الرئيس منعها من قبول الطلاب الأجانب. ووصفت هارفارد في شكوى قدمتها إلى المحكمة الاتحادية في بوسطن هذا الإجراء بأنه 'انتهاك صارخ' للتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة والقوانين الاتحادية الأخرى. وأشارت إلى أن قرار ترامب كان له 'تأثير فوري ووخيم' على الجامعة وأكثر من 7 آلاف من حاملي التأشيرات. (رويترز)