
"انهيار دالة الموجة".. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي؟
مقدمة الترجمة
في العالم الكمومي، حيث تتراقص الجسيمات في بحر من الغموض والاحتمال، يبرز سؤال قديم: ما هو الواقع؟ هل هو ثابت كما نراه بأعيننا، أم أنه متغير، يتشكل ويتلون بحسب ملاحظاتنا له؟ في هذا العالم الكمومي المليء بالشكوك، تقف مشكلة القياس كعائق رئيسي، تسأل عن كيفية تأثيرنا في ما نراه من حولنا. تفسيرات متعددة تتقاطع وتتنافر، كل واحدة تحمل مفتاحًا لفهم ما وراء الستار، وتفتح أمامنا أبوابًا من التساؤلات التي تتعلق بمفهومنا عن الواقع وهل هو مستقل عن ملاحظاتنا أم متشابك معها.
نص الترجمة
لا تكمن المعضلة الحقيقية لميكانيكا الكم، أو السبب في أن يقف حتى الفيزيائيون أمامها حائرين؛ في أنها ترسم لنا واقعًا غريبًا وغير مألوف، فليس من الصعب أن نتقبل أن عالم الجسيمات الأولية، ذاك العالم الخفي الذي يتعذر علينا أن نراه أو نلمسه، يختلف كليًا عن عالمنا الذي نعيشه ونُدركه بحواسنا.
فما إن نتساءل عما يحدث فعليًا للجسيم قبل إجراء القياس عليه، حتى نلاحظ أن نظرية الكم لا تُجيب عن هذا التساؤل، إذ لا تكمن المشكلة الحقيقية في أن ميكانيكا الكم ترسم عالمين مختلفين، بل في أنها تترك المساحات الرمادية بينهما دون تفسير. بمعنى أنها لا ترسم لنا الطريق الذي يعبر من عالم الجسيمات الغامض إلى واقعنا الملموس. ونتيجة لذلك، وبعد قرنٍ من نقشها على جدار العلم بوصفها تحفة علمية، لم تكشف لنا بعدُ عن جوهرها في تفسير الواقع.
لسنا في عوزٍ من الأفكار، بل العكس من ذلك، فالتفسيرات تتكاثر، والمفاضلة بينها ليست مسألة دليلٍ علمي حاسم، بل أقرب إلى الذوق الشخصي أو إلى اعتبارات فلسفية، إذ إن معظمها عصيّ على التجربة ولا يخضع للاختبار. وكما قال الفيزيائي ن. ديفيد ميرمين مازحًا ذات مرة: "تتوالى التفسيرات الجديدة عامًا تلو آخر، ولا يكاد يختفي منها شيء".
هل ما نراه هو الواقع حقًا؟
غير أنه في العقد الأخير، بدأت الأمور تأخذ منحًى مختلفًا، فمثلًا، أحد التوجهات الجديدة في النظرية هي أنها أصبحت تقدِّم توقعات قابلة للرصد تجريبيًا، مما أيقظ الأمل بإمكانية تحقيق تقدم علمي حقيقي يُضيء فهمنا لهذه النظرية.
وفي الوقت نفسه، اكتسب توجه آخر في نظرية الكم زخمًا قويًا لأنه يبدو قادرًا على حل العديد من الألغاز المُحيِّرة في نظرية الكم دفعة واحدة. ولكن هذا التوجه يُثير تساؤلًا كبيرًا، حيث يفترض أنه لا يوجد شيء يُسمى "الواقع الموضوعي".
وما قد يبعث على التفاؤل أكثر في مجال نظرية الكم، هو أن الفيزيائيين بدؤوا استكشاف طرق جديدة لاختبار صحة الافتراضات التي تقوم عليها النظرية. تتمثل هذه الخطوة في تحويل التجارب الذهنية المعقدة إلى اختبارات حقيقية على أرض الواقع، وهو ما سيفسح المجال لإحراز تقدم حقيقي في فهم ما تحاول نظرية الكم أن تشرحه أو تكشفه.
وتعليقًا على ذلك، يقول إريك كافالكاني، عالم الفيزياء الكمية في جامعة غريفيث في كوينزلاند بأستراليا: "نحن الآن قادرون على تقليص الاحتمالات".
زعزع تطور ميكانيكا الكم في منتصف عشرينيات القرن العشرين الأفكار الراسخة حول آلية عمل الكون، فمنذ أن صاغ إسحاق نيوتن قوانينه للحركة والجاذبية في القرن 17، بنى الفيزيائيون نظرياتهم بطريقة معينة تتضمن نظاما فيزيائيا (مثل حركة الأجسام)، ومعادلات رياضية تحدد كيف سيتغير هذا النظام مع مرور الوقت.
لكن الميكانيكا الكلاسيكية تعجز عن تفسير سلوك الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات. وتشير التجارب إلى أن هذه الجسيمات تتصرف بطرق غريبة جدًا لا تتوافق مع المنطق الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، نجدها تتصرف أحيانا كموجات ويبدو أنها توجد في حالة "تراكب"، أي أنها تكون في عدة حالات أو أماكن في الوقت نفسه، بدلًا من أن تكون في حالة واحدة محددة. لكن هذا التراكب لا يستمر إلى الأبد، فعند قياس الجسيم، سرعان ما يكتسب خصائص مُحددة.
تُجسّد معادلة شرودنغر هذا الغموض العميق، إذ تحتضن في طياتها مفهومًا رياضيًا يُعرف بدالة الموجة، تلك التي تضم في نسيجها كل الاحتمالات الممكنة لما قد نرصده. ومن خلالها يمكننا حساب احتمال ظهور الجسيم في مكان معين لحظة القياس، وهي اللحظة التي يُقال فيها إن دالة الموجة قد "انهارت" إلى واقع محدد. لكن، حتى في أفضل أحوالها، لا تملك هذه المعادلة أن تمنحنا يقينًا بنتيجة واحدة، فما قبل القياس ليس إلا عالمًا من الاحتمالات، لا من الحقائق.
مجهولات الكون المهيبة
ما الذي يحدث قبل لحظة القياس؟ الحقيقة أن نظرية الكم لا تُجيب على هذا السؤال، بل إنها لا توضح حتى ما الذي يُعَدُّ "قياسًا" من الأساس. ولا تُخبرنا إن كانت دالة الموجة -التي تُعرف غالبًا بالحالة الكمومية- تمثل واقعًا ماديًا فعليًا.
وهنا تبرز المفارقة، فنظرية بهذا المستوى من القوة والنجاح العلمي، تحمل بين طياتها كمًّا كبيرًا من الغموض. لكن جميع هذه الأسئلة ينتهي بها الحال إلى سؤال جوهري واحد: كيف ينبثق هذا العالم المنظم، الواضح، والقابل للتنبؤ (عالمنا اليومي المصنوع من ذرات وجسيمات*) من عالم كمومي ضبابي وغير مرئي؟ هذا ما يُعرف في أوساط الفيزيائيين بمشكلة القياس التي لا تزال إلى يومنا هذا أعقد أسرار ميكانيكا الكم وأكثرها إرباكًا.
إن التفسير التقليدي والأكثر شيوعًا لميكانيكا الكم يُعرف باسم "تفسير كوبنهاغن"، وقد سُمي كذلك نسبة إلى المدينة الدنماركية التي نشأ فيها هذا التوجه. ووفقًا لهذا التفسير، لا يمكننا معرفة أو قول أي شيء عن حالة الجسيم قبل قياسه، (بعبارة أخرى، الواقع لا يتحدد إلا في لحظة القياس*).
ورغم غرابة هذا الطرح، فإن الرياضيات التي تستند إليها النظرية تعطي نتائج صحيحة، ولهذا أصبح شعار بعض الفيزيائيين كما قال الفيزيائي ميرمن ساخرًا: "اصمت واحسب!".
لكن هذا التفسير لم يكن مقبولًا لدى الجميع، فقد كان آينشتاين نفسه من أبرز المعارضين، ورفض فكرة أن الكون يعمل على أساس الاحتمالات، وآمن بأن هناك قوانين حتمية تحكم الطبيعة، وعبّر عن رفضه الشهير لتفسير كوبنهاغن بقوله: "الله لا يلعب النرد مع الكون".
لا يزال الكثير من الفيزيائيين يرون في تفسير كوبنهاغن نوعًا من التهرّب الفكري في مواجهة الأسئلة العميقة حول طبيعة الواقع. وعن ذلك، يقول الفيزيائي النظري رودريش تومولكا من جامعة توبنغن في ألمانيا، إن هذا التفسير لا يقدِّم إجابة جادة على سؤال جوهري: "ما الذي يوجد فعليًا في هذا الكون؟"، مشيرًا إلى أن ما يريده العلماء هو فهم حقيقي لطبيعة الواقع ذاته، لا مجرد أدوات رياضية تعطي نتائج صحيحة.
وما يزيد من غرابة هذا التفسير أنه يترك الباب مواربًا أمام فكرة تبدو عبثية للوهلة الأولى، وهي أن الإنسان الواعي، المُراقِب، هو من يتسبب في انهيار دالة الموجة، وكأن الواقع لا يتبلور إلا حين ننظر إليه.
ينتمي الفيزيائي رودريش تومولكا إلى المدرسة التي تُفضل تفسيرًا لميكانيكا الكم، التي ترى في دالة الموجة شيئًا حقيقيًا ماديًا، أي أنها تمثل العالم كما هو، سواء كنا نراقبه أم لا. هذا النوع من التفسيرات لا يربط وجود الواقع الفيزيائي بوعي الإنسان أو عملية القياس.
ومن أشهر هذه التفسيرات يأتي "تفسير العوالم المتعددة"، الذي يفترض أن جميع النتائج المحتملة التي تحتويها دالة الموجة تحدث فعليًا، لكن في أكوان متعددة تتفرع عن عالمنا، ويشهد كل منها حدوث واحدة من هذه النتائج، ليشكل بذلك سلسلة من الأكوان المنفصلة التي تتوالد من تجربتنا الكونية.
لكنّ ثمة اتجاهًا آخر يُعرف باسم "الانهيار الموضوعي"، يضم مجموعة من النماذج التي ترى أن ميكانيكا الكم ليست مكتملة، وأن شيئًا ما لا بد أن يُضاف إلى معادلة شرودنغر كي يُفسّر ظاهرة انهيار دالة الموجة.
وتأكيدًا على ذلك، يقول أنجيلو باسي، الفيزيائي النظري في جامعة ترييستي الإيطالية: "الفرق الجوهري بين هذا التفسير والتفسير التقليدي هو أن انهيار دالة الموجة لا يحدث كأنه تعويذة سحرية تُلقى عند نهاية القياس، بل هو ببساطة جزء طبيعي من الديناميكا التي تحكم النظام".
في السنوات الأخيرة، حظيت نماذج الانهيار باهتمام أكبر من معظم التفسيرات الأخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تقدّم تفسيرًا معقولًا لكيفية نشوء الواقع الكلاسيكي دون الحاجة للرجوع إلى المراقب البشري. فوفقًا لهذا الطرح، فإننا لا نرى الأجسام الكبيرة مثل إطارات الصور أو فرش الرسم في حالة تراكب كمومي (أي في حالتين أو أكثر في آنٍ واحد)، لأن عملية الانهيار تعمل بطريقة طبيعية كلما زاد عدد الجسيمات المتفاعلة في النظام.
بمعنى آخر، كلما زاد تعقيد الجسم وحجمه، زادت سرعة انهيار حالته الكمومية إلى حالة واحدة محددة، مما يجعل الواقع الذي نراه مستقرًا وموحدًا دون تدخل أو ملاحظة من الإنسان.
لكن، ما الذي يُشعل فتيل هذا الانهيار المتواصل؟ الحقيقة أن الغموض ما زال يحيط بالإجابة. بعض النماذج تصمت تمامًا، وأخرى تهمس بأن الجاذبية هي السبب. لكن أنجيلو باسي يرى أن السر قد لا يُجاب عليه بجواب قاطع، بل ربما يكون الانهيار سِمة أصيلة من سمات الطبيعة، لا تفسير لها سوى أنها كذلك.
ويقول: "لهذا أحب نماذج الانهيار، لأنها لا تغلق الباب على ما نجهله، بل تفتحه على مصراعيه أمام عالم جديد لم تُسبر أغواره بعد.. شيء يتجاوز حدود ميكانيكا الكم، ويقبع خارج مدى فهمنا الراهن".
أما الفرق الحقيقي الذي يميز نماذج الانهيار عن غيرها هو أنها قابلة للاختبار. فعلى عكس العديد من تفسيرات ميكانيكا الكم التقليدية، فإنها تُقدِّم تنبؤات تجريبية واضحة يمكن قياسها عمليًا.
تكمن الفكرة الأساسية وراء هذه النماذج في أن عملية الانهيار العفوي المستمرة للأجسام الكمومية يجب أن تؤدي إلى اهتزاز مستمر للجسيمات، وهو ما يؤدي بدوره إلى إصدار طاقة زائدة من هذه الجسيمات. ويجب أن تكون هذه الطاقة الزائدة قابلة للرصد، حتى وإن كانت الإشارة الناتجة عنها في غاية الضعف.
على مدار العقد الماضي، انخرط باسي وزملاؤه من مختلف أنحاء العالم في برنامج تجريبي طموح، بحثًا عن إشارة قد تكشف السر وراء الانهيار الكمومي. وقد استعانوا بشكل أساسي بأجهزة الكشف التي كانت مُصمَمة للكشف عن آثار المادة المظلمة أو جزيئات النيوترينو المراوغة، مثل الأدوات فائقة الحساسية المدفونة في أعماق الأرض تحت جبال غراند ساسو في إيطاليا.
وبمرور الوقت، بدأت نتائج تلك الجهود تظهر تدريجيا. ففي عام 2020، على سبيل المثال، استطاع فريق يضم باسي وكاتالينا كورسيانو، الباحثة في المعهد الوطني الإيطالي للفيزياء النووية، أن يستبعد أبسط أشكال أحد النماذج التي افترضت أن الجاذبية هي المسؤولة عن الانهيار الكمومي.
ما زالت التجارب المماثلة جارية، ومع كل تحليل جديد نواجه قيودًا إضافية تحدد أيا من هذه النماذج قد يكون قابلا للتطبيق. ورغم أن فرصة استبعاد الانهيار الموضوعي باستخدام التجارب تُعد تقدمًا في حد ذاتها، فإن عملية تحقيق ذلك ما تزال بطيئة جدًا. ومن جانبه، يعلِّق باسي قائلًا: "حتى الآن، لم نرَ أي إشارة، لكن هذه مجرد البداية".
لو تمكّنا من رصد إشارة يتفق الجميع على أنها تدعم فرضية الانهيار الموضوعي، فستكون بلا شك جديرة بجائزة نوبل. لكن، بحسب ما تشير إليه ماغدالينا زيخ، من جامعة ستوكهولم في السويد، فإن هذا لا يعني بالضرورة أننا سنفهم فورًا ما تعنيه نظرية الكم، إذ لا يزال علينا أن نكتشف ما هو العامل في البيئة الذي يسبب هذا الانهيار في المقام الأول.
في السياق ذاته، تقول زيخ إن الكشف عن إشارة تدعم الانهيار الموضوعي سيكون بمثابة حل لمشكلة القياس، بمعنى إذا كنتَ تؤمن بأن نظرية الكم تفتقر إلى عنصر مفقود، فإن هذا هو العنصر المقصود.
لكنها تضيف أن هذا لا يعني أننا سنفهم بالضرورة ما الذي تحاول نظرية الكم أن تخبرنا به عن طبيعة الواقع، إذ ما زال علينا أن نمنحها معنى، أن نُسمي ذلك الهمس الغامض في البيئة، ذلك "الضجيج" الذي يتسبب في انهيار دالة الموجة.
وما هو أعمق من كل ما سبق -كما تقول زيخ- هو أننا حتى لو نجحنا في حل لغز "الانهيار الكمومي"، فلن نقترب كثيرًا من فهم لماذا تظهر خصائص الجسيمات عند القياس بطريقة احتمالية لا تخضع لقانون صارم. إننا رغم شغفنا باليقين مضطرون إلى الحديث عن الاحتمالات. وتتابع زيخ: لا يوجد سبب بديهي يمنع الجسيمات من أن تسلك سلوكًا حتميًّا، تحكمه قوانين لا تحتمل الشك. لكن حقيقة أنها لا تتبع مثل هذه القوانين تستدعي تفسيراً.
عندما يتحكم الوعي في الواقع
بالنسبة للباحثة زيخ، فإن النظرة إلى ميكانيكا الكم التي تتعامل مع هذا التحدي مباشرة تنتمي إلى فئة مختلفة تمامًا من التفسيرات. فبينما يُصر علماء مثل باسي وتومولكا على أن الحالات الكمومية تمثل واقعًا حقيقيًا ومستقلًا، يتخذ بعض الفيزيائيين موقفًا مغايرًا تمامًا: فهم يرون أن هذه الحالات لا تعبّر عن واقع مستقل على الإطلاق.
يُعدُّ أبرز مثال على هذا التوجه هو تفسير "كيوبيزم"، الذي عُرف في البداية باسم "النظرية الكمية الكيوبية البانيزيانية". هذا التفسير يستند إلى إطار فكري لتأويل الاحتمالات، ووُضع في الأصل على يد الوزير توماس بايز في القرن 18.
في التفسير التقليدي المعروف بالنهج "التكراري"، تُفهَم الاحتمالات على أنها نسب عددية تُستخلص من تكرار التجربة. فمثلاً، من خلال تكرار رمي العملة المعدنية مرات كثيرة، يمكن استنتاج أن احتمال الحصول على صورة أو كتابة هو 50/50.
وبالمثل، فإن إجراء العديد من القياسات لجسيم كمومي يتيح لنا حساب احتمال وجوده في حالة معينة عند قياسه. أما النهج البايزي، فينظر إلى الاحتمال بطريقة مختلفة تمامًا، إذ يعتبره قيمة ذات طابع ذاتي (شخصي)، تمثل مستوى ثقتك أو اعتقادك بنتيجة معينة، وتُحَدَّث هذه القيمة مع توفر معلومات جديدة.
تنطلق فلسفة "كيوبيزم" من رؤية بايزية للكون، تُحيل الاحتمالات إلى انعكاسٍ شخصي للتجربة لا إلى حقيقة موضوعية. وفق هذا المنظور، لا تُقدِّم ميكانيكا الكم وصفًا مطلقًا للواقع، بل توصيات لما ينبغي أن يعتقده الراصد حيال ما قد يراه عند القياس.
هذا يعني أن ميكانيكا الكم، بحسب تفسير كيوبيزم، لا تصف حالة الجسيمات ذاتها، بل تساعد كل مراقب على توقع النتائج اعتمادًا على تجاربه السابقة، وتحديث توقعاته بناءً على التجارب الجديدة. يصف روديغير شاك، أحد مطوري هذا التوجه من جامعة ماساتشوستس في بوسطن، الأمر ببساطة: "إنها نظرية للذات الواعية، لتشقّ سبيلها في هذا الكون"، (أي أنها وسيلة لفهم وتوقع ما قد يحدث، وليست مرآة حقيقية لطبيعة الواقع المادي نفسه*).
تكمن جاذبية هذا التفسير في قدرته على التعامل مع عدة ألغاز كمومية في آنٍ واحد، فهو يعالج مشكلة القياس من خلال إسناد دور محوري وأساسي للتجربة الذاتية للراصد، وبدلًا من اعتبار انهيار دالة الموجة حدثًا غامضًا أو فيزيائيًا، يرى روديغير شاك أن هذا الانهيار لا يعدو كونه مجرد عملية تحديث يقوم بها الراصد لمعتقداته بعد إجراء القياس.
يرى تفسير "كيوبيزم" أن الواقع الكلاسيكي الذي نعيشه ليس شيئًا ينشأ تلقائيًا من عالم الكم الغامض، بل هو نتيجة تفاعلاتنا المستمرة مع العالم من حولنا، وانعكاس لتحديثنا المتواصل لمعتقداتنا عنه.
تقدِّم هذه النظرة حلاً بسيطًا لما يُعرف بمفارقة "صديق فيغنر"، وهي تجربة فكرية شهيرة طرحها الفيزيائي يوجين فيغنر في خمسينيات القرن الماضي، تُظهر كيف يمكن لراصدين مختلفين (فيغنر وصديقه) أن يختبرا واقعين متناقضين عند مراقبة نظام كمومي.
بالنسبة لمؤيدي هذه النظرية، لا توجد مفارقة في تجارب مثل مفارقة "صديق فيغنر"، لأن نتيجة أي قياس كمومي تُعتبر دائمًا تجربة شخصية ترتبط بالراصد نفسه فقط. وبهذا، يرفض تفسير "كيوبيزم" رفضًا قاطعًا الفكرة التي تشير إلى إمكانية الوصول إلى رؤية موضوعية شاملة للكون، أي نظرة "من منظور الطرف الثالث" المجرد.
لكن هذا الرفض ليس عيبًا في النظرية، بل هو جوهرها، كما يؤكد روديغير شاك. فبرأيه، هذه هي الرسالة العميقة التي تحملها ميكانيكا الكم: أن الواقع أكبر من أن يُختزل في منظور خارجي محايد، إنه تجربة ذاتية في جوهره. وبالتالي تقدِّم لنا هذه النظرية طريقة جذرية ومختلفة تمامًا لفهم العالم.
على الجانب الآخر، يجد بعض الأشخاص تفسير "كيوبيزم" صعبًا للغاية إلى الحد الذي قد يصعب هضمه. فمثلًا، يُصرّ "باسي" على أن الاعتراف بالواقع الموضوعي له ثمن باهظ لا يمكن دفعه، وذلك بقوله: "ما تهدف إليه الفيزياء هو وصف الطبيعة بأسلوب موضوعي".
وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن هذه النظرية لا تبدو أنها تقدِّم تنبؤات يمكن ملاحظتها قد تختلف عن تلك التي تُقدِّمها ميكانيكا الكم التقليدية. وفي هذا الصدد، يعلِّق شاك قائلًا: "إقناع الناس قد يتطلب الإشارة إلى عيوب البدائل الأخرى".
يبدو إذن أننا ندور في حلقة مفرغة، نعود فيها إلى نقطة البداية، فإن كان أملنا الأكبر في حلٍّ تجريبي لمعضلة القياس سيُخلّف وراءه أبوابًا مواربة من الأسئلة حتى وإن ثبتت صحته. وإذا كان البديل القادر على فتح تلك الأبواب عصيًّا على التجربة والاختبار، فإلى أين تمضي خُطانا من هنا!؟
ما زال في الأفق بصيص أمل، ففي الأعوام القليلة الماضية، بدأ بعض الفيزيائيين يشقّون طريقاً جريئاً في ميدان طالما ظُنّ أنه حكرٌ على التأمل الفلسفي لا على التجريب العلمي، حيث أظهروا أن الأسس التي تقوم عليها تصوراتنا لمعنى نظرية الكم -تلك التي بدت أقرب إلى ميتافيزيقا غامضة- قد تخضع هي الأخرى لمجهر الاختبار والتحقق.
يُطلقون على هذا التوجه اسم "الميتافيزيقا التجريبية"، ويوضح الفيزيائي كافالكانتي، أحد روّاد هذا المسار، أن الهدف هو كشف الفرضيات الميتافيزيقية الكامنة خلف تفسيرات ميكانيكا الكم المختلفة، ثم إخضاعها لما يُمكن التحقق منه تجريبيًا.
من بين هذه الفرضيات: أن تكون نتائج القياس واحدة في نظر كل من يراها، وأن يكون لدينا بالفعل حرية في اختيار طريقة القياس دون تدخل خفي، وألا يؤثر قرار ما في تجربة بعيدة أو حتى في الماضي. في السياق ذاته، يضيف كافالكانتي: "على الرغم من أن كل فرضية على حدة قد تبدو عصيّة على الاختبار، فإن جمعها في إطار متكامل قد يمنحنا القدرة على نفي بعض التفسيرات الكمّية بالكامل، أو على الأقل، إقصاء ما لا يتماشى مع الواقع".
كان كافالكانتي جزءًا من الفريق الذي قدّم في عام 2020 أقوى برهان عملي حتى الآن لنهج "الميتافيزيقا التجريبية". في هذه التجربة، استعانوا بفوتونات لتنفيذ نسخة موسّعة من تجربة "صديق فيغنر" الفكرية، مضيفين إليها ظاهرة "التشابك الكمومي"، وهي خاصية غريبة تجعل الجسيمات مترابطة بشكل عجيب حتى لو فُصلت بمسافات شاسعة.
ما توصلوا إليه كان مثيرًا: إذا كانت ميكانيكا الكم بصيغتها التقليدية صحيحة -أي إذا لم نجد أي إشارة لانهيار موضوعي للدالة الموجية- فإننا مضطرون للتخلي عن أحد المبادئ الثلاثة التالية: مبدأ "المحلية" (أن ما يحدث هنا لا يمكن أن يتأثر بما يحدث بعيدًا بشكل فوري)، أو "حرية الاختيار" (أن خياراتنا في القياس لا تخضع لعوامل خفية)، أو "ثبات الأحداث المرصودة" (أن نتيجة القياس يجب أن تكون واحدة في نظر الجميع.
استخدم كافالكانتي وفريقه تجربة متطورة لتقييد افتراضات الواقع الفيزيائي. توصل الفريق إلى أنه إذا أردنا الحفاظ على مبدأ حرية الاختيار مع مبدأ المحلية، يجب أن نتخلى عن فكرة أن الأحداث المرصودة ثابتة لجميع المراقبين. وعلى الرغم من أننا لم نصل بعدُ إلى مرحلة يمكننا فيها القول بأن أي تفسير آخر هو التفسير الصحيح لما تعنيه ميكانيكا الكم، فإننا من خلال التجارب والاختبارات الحالية، أصبحنا قادرين على تقليص الاحتمالات والتوجه نحو التفسير الأنسب.
عوالم معلّقة على خيط من الهشاشة
على الجانب الآخر، يسعى كافالكانتي وزملاؤه للتقدم في التجربة إلى أبعد من ذلك. ففي تلك التجربة، استخدموا كواشف للفوتونات بدلاً من فيغنر، واستخدموا الفوتونات نفسها كبديل لصديقه.
ومع ذلك، من الواضح أن الفوتونات تختلف جذريًا عن المراقبين البشريين الذين تخيلهم فيغنر في الخمسينيات. فالفوتونات لا تعتبر من المراقبين بالمعنى التقليدي. كما أنه يصعب الحفاظ على جزيء يحتوي على عدة آلاف من الذرات في حالة تراكب كمومي بسبب هشاشة الحالات الكمومية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتعقيد إنسان!
غير أن كافالكانتي وزملاءه اقترحوا أن الذكاء الاصطناعي المتقدِّم في المستقبل قد يكون قادرًا على إجراء تجربة مماثلة باستخدام حاسوب كمومي كبير، حيث يمكنه إجراء تجربة محاكاة في المختبر.
ويعتقد الفريق أن هذا النوع من التجارب قد يُظهر ما إذا كان علينا فعلاً التخلي عن فكرة الموضوعية التي نتمسك بها، حتى وإن كنا بعيدين عن القدرة على إجراء مثل هذا النوع من التجارب حاليًا.
إذن، هل نحن قريبون من الوصول إلى تفسير نهائي لما تقوله ميكانيكا الكم عن طبيعة الواقع؟ الحقيقة أننا في كثير من النواحي لم نتقدم كثيرًا عن زمن العلماء الأوائل الذين أسّسوا ميكانيكا الكم واختلفوا حول معناها.
يقول الفيزيائي كافالكانتي إن الشيء الوحيد الذي نعرفه بيقين هو أن الطريقة الكلاسيكية في فهم العالم لم تعد صالحة لفهم الظواهر الكمومية. وقد أثبتنا فشل هذا المنظور التقليدي من خلال الرياضيات والتجارب العلمية بدرجة من اليقين تُضاهي أقصى ما يمكن أن نصل إليه في أي علم.
في الوقت الراهن، علينا أن نقرر بأنفسنا أيا من التفسيرات المختلفة لمعنى ميكانيكا الكم يبدو لنا أكثر إقناعًا من الناحية النظرية، أي أن نختار ما إذا كنا مستعدين للتخلي عن فرضية معينة، وما الثمن الذي نحن على استعداد لدفعه مقابل التمسك بالمبادئ أو الفرضيات التي نعتبرها الأهم والأكثر قيمة بالنسبة لنا؟
ويضيف كافالكانتي أن بوصلة الفهم قد تهتدي إلى الاتجاه الصحيح إذا ما بحثنا في العلاقة بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لآينشتاين، تلك التي ترى في الجاذبية انحناءً في نسيج الزمكان تُحدثه الكتلة. فإن استطاع أحد التفسيرات الكمومية أن يفتح لنا بابًا لفهم هذه العلاقة الغامضة، فربما يكون ذلك هو الخيط الذي يقودنا إلى الحقيقة. ويتابع: "أرى أن التجارب التي تخوض في أساسيات النظرية ليست عبثًا، بل لعلها المفتاح، فمسألةُ هل الأحداث في الكون مطلقة أم لا، ليست مجرد تأملات فلسفية، بل هي أساس لا غنى عنه لبناء نظرية كمومية متماسكة للجاذبية".
في هذه الأثناء، بدأنا نخوض أولى خطوات الفهم، من خلال إعادة صياغة ألغاز ميكانيكا الكم بلغة أقرب إلى عقولنا، وتصميم تجارب تسهم في تضييق هوّة الاحتمالات. وكل ما بوسعنا فعله هو المضيّ قُدماً في ابتكار أدوات أعمق وأكثر دقة لفهم هذا العالم المتشابك. وكما يقول كافالكانتي: "لا يمكن أن يتضاءل فهمك للعالم حين تنظر إليه من أكثر من زاوية، بل تتّسع رؤيتك كلما تعددت سُبُل التأمل".
____________
* إضافة المترجم

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
"انهيار دالة الموجة".. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي؟
مقدمة الترجمة في العالم الكمومي، حيث تتراقص الجسيمات في بحر من الغموض والاحتمال، يبرز سؤال قديم: ما هو الواقع؟ هل هو ثابت كما نراه بأعيننا، أم أنه متغير، يتشكل ويتلون بحسب ملاحظاتنا له؟ في هذا العالم الكمومي المليء بالشكوك، تقف مشكلة القياس كعائق رئيسي، تسأل عن كيفية تأثيرنا في ما نراه من حولنا. تفسيرات متعددة تتقاطع وتتنافر، كل واحدة تحمل مفتاحًا لفهم ما وراء الستار، وتفتح أمامنا أبوابًا من التساؤلات التي تتعلق بمفهومنا عن الواقع وهل هو مستقل عن ملاحظاتنا أم متشابك معها. نص الترجمة لا تكمن المعضلة الحقيقية لميكانيكا الكم، أو السبب في أن يقف حتى الفيزيائيون أمامها حائرين؛ في أنها ترسم لنا واقعًا غريبًا وغير مألوف، فليس من الصعب أن نتقبل أن عالم الجسيمات الأولية، ذاك العالم الخفي الذي يتعذر علينا أن نراه أو نلمسه، يختلف كليًا عن عالمنا الذي نعيشه ونُدركه بحواسنا. فما إن نتساءل عما يحدث فعليًا للجسيم قبل إجراء القياس عليه، حتى نلاحظ أن نظرية الكم لا تُجيب عن هذا التساؤل، إذ لا تكمن المشكلة الحقيقية في أن ميكانيكا الكم ترسم عالمين مختلفين، بل في أنها تترك المساحات الرمادية بينهما دون تفسير. بمعنى أنها لا ترسم لنا الطريق الذي يعبر من عالم الجسيمات الغامض إلى واقعنا الملموس. ونتيجة لذلك، وبعد قرنٍ من نقشها على جدار العلم بوصفها تحفة علمية، لم تكشف لنا بعدُ عن جوهرها في تفسير الواقع. لسنا في عوزٍ من الأفكار، بل العكس من ذلك، فالتفسيرات تتكاثر، والمفاضلة بينها ليست مسألة دليلٍ علمي حاسم، بل أقرب إلى الذوق الشخصي أو إلى اعتبارات فلسفية، إذ إن معظمها عصيّ على التجربة ولا يخضع للاختبار. وكما قال الفيزيائي ن. ديفيد ميرمين مازحًا ذات مرة: "تتوالى التفسيرات الجديدة عامًا تلو آخر، ولا يكاد يختفي منها شيء". هل ما نراه هو الواقع حقًا؟ غير أنه في العقد الأخير، بدأت الأمور تأخذ منحًى مختلفًا، فمثلًا، أحد التوجهات الجديدة في النظرية هي أنها أصبحت تقدِّم توقعات قابلة للرصد تجريبيًا، مما أيقظ الأمل بإمكانية تحقيق تقدم علمي حقيقي يُضيء فهمنا لهذه النظرية. وفي الوقت نفسه، اكتسب توجه آخر في نظرية الكم زخمًا قويًا لأنه يبدو قادرًا على حل العديد من الألغاز المُحيِّرة في نظرية الكم دفعة واحدة. ولكن هذا التوجه يُثير تساؤلًا كبيرًا، حيث يفترض أنه لا يوجد شيء يُسمى "الواقع الموضوعي". وما قد يبعث على التفاؤل أكثر في مجال نظرية الكم، هو أن الفيزيائيين بدؤوا استكشاف طرق جديدة لاختبار صحة الافتراضات التي تقوم عليها النظرية. تتمثل هذه الخطوة في تحويل التجارب الذهنية المعقدة إلى اختبارات حقيقية على أرض الواقع، وهو ما سيفسح المجال لإحراز تقدم حقيقي في فهم ما تحاول نظرية الكم أن تشرحه أو تكشفه. وتعليقًا على ذلك، يقول إريك كافالكاني، عالم الفيزياء الكمية في جامعة غريفيث في كوينزلاند بأستراليا: "نحن الآن قادرون على تقليص الاحتمالات". زعزع تطور ميكانيكا الكم في منتصف عشرينيات القرن العشرين الأفكار الراسخة حول آلية عمل الكون، فمنذ أن صاغ إسحاق نيوتن قوانينه للحركة والجاذبية في القرن 17، بنى الفيزيائيون نظرياتهم بطريقة معينة تتضمن نظاما فيزيائيا (مثل حركة الأجسام)، ومعادلات رياضية تحدد كيف سيتغير هذا النظام مع مرور الوقت. لكن الميكانيكا الكلاسيكية تعجز عن تفسير سلوك الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات. وتشير التجارب إلى أن هذه الجسيمات تتصرف بطرق غريبة جدًا لا تتوافق مع المنطق الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، نجدها تتصرف أحيانا كموجات ويبدو أنها توجد في حالة "تراكب"، أي أنها تكون في عدة حالات أو أماكن في الوقت نفسه، بدلًا من أن تكون في حالة واحدة محددة. لكن هذا التراكب لا يستمر إلى الأبد، فعند قياس الجسيم، سرعان ما يكتسب خصائص مُحددة. تُجسّد معادلة شرودنغر هذا الغموض العميق، إذ تحتضن في طياتها مفهومًا رياضيًا يُعرف بدالة الموجة، تلك التي تضم في نسيجها كل الاحتمالات الممكنة لما قد نرصده. ومن خلالها يمكننا حساب احتمال ظهور الجسيم في مكان معين لحظة القياس، وهي اللحظة التي يُقال فيها إن دالة الموجة قد "انهارت" إلى واقع محدد. لكن، حتى في أفضل أحوالها، لا تملك هذه المعادلة أن تمنحنا يقينًا بنتيجة واحدة، فما قبل القياس ليس إلا عالمًا من الاحتمالات، لا من الحقائق. مجهولات الكون المهيبة ما الذي يحدث قبل لحظة القياس؟ الحقيقة أن نظرية الكم لا تُجيب على هذا السؤال، بل إنها لا توضح حتى ما الذي يُعَدُّ "قياسًا" من الأساس. ولا تُخبرنا إن كانت دالة الموجة -التي تُعرف غالبًا بالحالة الكمومية- تمثل واقعًا ماديًا فعليًا. وهنا تبرز المفارقة، فنظرية بهذا المستوى من القوة والنجاح العلمي، تحمل بين طياتها كمًّا كبيرًا من الغموض. لكن جميع هذه الأسئلة ينتهي بها الحال إلى سؤال جوهري واحد: كيف ينبثق هذا العالم المنظم، الواضح، والقابل للتنبؤ (عالمنا اليومي المصنوع من ذرات وجسيمات*) من عالم كمومي ضبابي وغير مرئي؟ هذا ما يُعرف في أوساط الفيزيائيين بمشكلة القياس التي لا تزال إلى يومنا هذا أعقد أسرار ميكانيكا الكم وأكثرها إرباكًا. إن التفسير التقليدي والأكثر شيوعًا لميكانيكا الكم يُعرف باسم "تفسير كوبنهاغن"، وقد سُمي كذلك نسبة إلى المدينة الدنماركية التي نشأ فيها هذا التوجه. ووفقًا لهذا التفسير، لا يمكننا معرفة أو قول أي شيء عن حالة الجسيم قبل قياسه، (بعبارة أخرى، الواقع لا يتحدد إلا في لحظة القياس*). ورغم غرابة هذا الطرح، فإن الرياضيات التي تستند إليها النظرية تعطي نتائج صحيحة، ولهذا أصبح شعار بعض الفيزيائيين كما قال الفيزيائي ميرمن ساخرًا: "اصمت واحسب!". لكن هذا التفسير لم يكن مقبولًا لدى الجميع، فقد كان آينشتاين نفسه من أبرز المعارضين، ورفض فكرة أن الكون يعمل على أساس الاحتمالات، وآمن بأن هناك قوانين حتمية تحكم الطبيعة، وعبّر عن رفضه الشهير لتفسير كوبنهاغن بقوله: "الله لا يلعب النرد مع الكون". لا يزال الكثير من الفيزيائيين يرون في تفسير كوبنهاغن نوعًا من التهرّب الفكري في مواجهة الأسئلة العميقة حول طبيعة الواقع. وعن ذلك، يقول الفيزيائي النظري رودريش تومولكا من جامعة توبنغن في ألمانيا، إن هذا التفسير لا يقدِّم إجابة جادة على سؤال جوهري: "ما الذي يوجد فعليًا في هذا الكون؟"، مشيرًا إلى أن ما يريده العلماء هو فهم حقيقي لطبيعة الواقع ذاته، لا مجرد أدوات رياضية تعطي نتائج صحيحة. وما يزيد من غرابة هذا التفسير أنه يترك الباب مواربًا أمام فكرة تبدو عبثية للوهلة الأولى، وهي أن الإنسان الواعي، المُراقِب، هو من يتسبب في انهيار دالة الموجة، وكأن الواقع لا يتبلور إلا حين ننظر إليه. ينتمي الفيزيائي رودريش تومولكا إلى المدرسة التي تُفضل تفسيرًا لميكانيكا الكم، التي ترى في دالة الموجة شيئًا حقيقيًا ماديًا، أي أنها تمثل العالم كما هو، سواء كنا نراقبه أم لا. هذا النوع من التفسيرات لا يربط وجود الواقع الفيزيائي بوعي الإنسان أو عملية القياس. ومن أشهر هذه التفسيرات يأتي "تفسير العوالم المتعددة"، الذي يفترض أن جميع النتائج المحتملة التي تحتويها دالة الموجة تحدث فعليًا، لكن في أكوان متعددة تتفرع عن عالمنا، ويشهد كل منها حدوث واحدة من هذه النتائج، ليشكل بذلك سلسلة من الأكوان المنفصلة التي تتوالد من تجربتنا الكونية. لكنّ ثمة اتجاهًا آخر يُعرف باسم "الانهيار الموضوعي"، يضم مجموعة من النماذج التي ترى أن ميكانيكا الكم ليست مكتملة، وأن شيئًا ما لا بد أن يُضاف إلى معادلة شرودنغر كي يُفسّر ظاهرة انهيار دالة الموجة. وتأكيدًا على ذلك، يقول أنجيلو باسي، الفيزيائي النظري في جامعة ترييستي الإيطالية: "الفرق الجوهري بين هذا التفسير والتفسير التقليدي هو أن انهيار دالة الموجة لا يحدث كأنه تعويذة سحرية تُلقى عند نهاية القياس، بل هو ببساطة جزء طبيعي من الديناميكا التي تحكم النظام". في السنوات الأخيرة، حظيت نماذج الانهيار باهتمام أكبر من معظم التفسيرات الأخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تقدّم تفسيرًا معقولًا لكيفية نشوء الواقع الكلاسيكي دون الحاجة للرجوع إلى المراقب البشري. فوفقًا لهذا الطرح، فإننا لا نرى الأجسام الكبيرة مثل إطارات الصور أو فرش الرسم في حالة تراكب كمومي (أي في حالتين أو أكثر في آنٍ واحد)، لأن عملية الانهيار تعمل بطريقة طبيعية كلما زاد عدد الجسيمات المتفاعلة في النظام. بمعنى آخر، كلما زاد تعقيد الجسم وحجمه، زادت سرعة انهيار حالته الكمومية إلى حالة واحدة محددة، مما يجعل الواقع الذي نراه مستقرًا وموحدًا دون تدخل أو ملاحظة من الإنسان. لكن، ما الذي يُشعل فتيل هذا الانهيار المتواصل؟ الحقيقة أن الغموض ما زال يحيط بالإجابة. بعض النماذج تصمت تمامًا، وأخرى تهمس بأن الجاذبية هي السبب. لكن أنجيلو باسي يرى أن السر قد لا يُجاب عليه بجواب قاطع، بل ربما يكون الانهيار سِمة أصيلة من سمات الطبيعة، لا تفسير لها سوى أنها كذلك. ويقول: "لهذا أحب نماذج الانهيار، لأنها لا تغلق الباب على ما نجهله، بل تفتحه على مصراعيه أمام عالم جديد لم تُسبر أغواره بعد.. شيء يتجاوز حدود ميكانيكا الكم، ويقبع خارج مدى فهمنا الراهن". أما الفرق الحقيقي الذي يميز نماذج الانهيار عن غيرها هو أنها قابلة للاختبار. فعلى عكس العديد من تفسيرات ميكانيكا الكم التقليدية، فإنها تُقدِّم تنبؤات تجريبية واضحة يمكن قياسها عمليًا. تكمن الفكرة الأساسية وراء هذه النماذج في أن عملية الانهيار العفوي المستمرة للأجسام الكمومية يجب أن تؤدي إلى اهتزاز مستمر للجسيمات، وهو ما يؤدي بدوره إلى إصدار طاقة زائدة من هذه الجسيمات. ويجب أن تكون هذه الطاقة الزائدة قابلة للرصد، حتى وإن كانت الإشارة الناتجة عنها في غاية الضعف. على مدار العقد الماضي، انخرط باسي وزملاؤه من مختلف أنحاء العالم في برنامج تجريبي طموح، بحثًا عن إشارة قد تكشف السر وراء الانهيار الكمومي. وقد استعانوا بشكل أساسي بأجهزة الكشف التي كانت مُصمَمة للكشف عن آثار المادة المظلمة أو جزيئات النيوترينو المراوغة، مثل الأدوات فائقة الحساسية المدفونة في أعماق الأرض تحت جبال غراند ساسو في إيطاليا. وبمرور الوقت، بدأت نتائج تلك الجهود تظهر تدريجيا. ففي عام 2020، على سبيل المثال، استطاع فريق يضم باسي وكاتالينا كورسيانو، الباحثة في المعهد الوطني الإيطالي للفيزياء النووية، أن يستبعد أبسط أشكال أحد النماذج التي افترضت أن الجاذبية هي المسؤولة عن الانهيار الكمومي. ما زالت التجارب المماثلة جارية، ومع كل تحليل جديد نواجه قيودًا إضافية تحدد أيا من هذه النماذج قد يكون قابلا للتطبيق. ورغم أن فرصة استبعاد الانهيار الموضوعي باستخدام التجارب تُعد تقدمًا في حد ذاتها، فإن عملية تحقيق ذلك ما تزال بطيئة جدًا. ومن جانبه، يعلِّق باسي قائلًا: "حتى الآن، لم نرَ أي إشارة، لكن هذه مجرد البداية". لو تمكّنا من رصد إشارة يتفق الجميع على أنها تدعم فرضية الانهيار الموضوعي، فستكون بلا شك جديرة بجائزة نوبل. لكن، بحسب ما تشير إليه ماغدالينا زيخ، من جامعة ستوكهولم في السويد، فإن هذا لا يعني بالضرورة أننا سنفهم فورًا ما تعنيه نظرية الكم، إذ لا يزال علينا أن نكتشف ما هو العامل في البيئة الذي يسبب هذا الانهيار في المقام الأول. في السياق ذاته، تقول زيخ إن الكشف عن إشارة تدعم الانهيار الموضوعي سيكون بمثابة حل لمشكلة القياس، بمعنى إذا كنتَ تؤمن بأن نظرية الكم تفتقر إلى عنصر مفقود، فإن هذا هو العنصر المقصود. لكنها تضيف أن هذا لا يعني أننا سنفهم بالضرورة ما الذي تحاول نظرية الكم أن تخبرنا به عن طبيعة الواقع، إذ ما زال علينا أن نمنحها معنى، أن نُسمي ذلك الهمس الغامض في البيئة، ذلك "الضجيج" الذي يتسبب في انهيار دالة الموجة. وما هو أعمق من كل ما سبق -كما تقول زيخ- هو أننا حتى لو نجحنا في حل لغز "الانهيار الكمومي"، فلن نقترب كثيرًا من فهم لماذا تظهر خصائص الجسيمات عند القياس بطريقة احتمالية لا تخضع لقانون صارم. إننا رغم شغفنا باليقين مضطرون إلى الحديث عن الاحتمالات. وتتابع زيخ: لا يوجد سبب بديهي يمنع الجسيمات من أن تسلك سلوكًا حتميًّا، تحكمه قوانين لا تحتمل الشك. لكن حقيقة أنها لا تتبع مثل هذه القوانين تستدعي تفسيراً. عندما يتحكم الوعي في الواقع بالنسبة للباحثة زيخ، فإن النظرة إلى ميكانيكا الكم التي تتعامل مع هذا التحدي مباشرة تنتمي إلى فئة مختلفة تمامًا من التفسيرات. فبينما يُصر علماء مثل باسي وتومولكا على أن الحالات الكمومية تمثل واقعًا حقيقيًا ومستقلًا، يتخذ بعض الفيزيائيين موقفًا مغايرًا تمامًا: فهم يرون أن هذه الحالات لا تعبّر عن واقع مستقل على الإطلاق. يُعدُّ أبرز مثال على هذا التوجه هو تفسير "كيوبيزم"، الذي عُرف في البداية باسم "النظرية الكمية الكيوبية البانيزيانية". هذا التفسير يستند إلى إطار فكري لتأويل الاحتمالات، ووُضع في الأصل على يد الوزير توماس بايز في القرن 18. في التفسير التقليدي المعروف بالنهج "التكراري"، تُفهَم الاحتمالات على أنها نسب عددية تُستخلص من تكرار التجربة. فمثلاً، من خلال تكرار رمي العملة المعدنية مرات كثيرة، يمكن استنتاج أن احتمال الحصول على صورة أو كتابة هو 50/50. وبالمثل، فإن إجراء العديد من القياسات لجسيم كمومي يتيح لنا حساب احتمال وجوده في حالة معينة عند قياسه. أما النهج البايزي، فينظر إلى الاحتمال بطريقة مختلفة تمامًا، إذ يعتبره قيمة ذات طابع ذاتي (شخصي)، تمثل مستوى ثقتك أو اعتقادك بنتيجة معينة، وتُحَدَّث هذه القيمة مع توفر معلومات جديدة. تنطلق فلسفة "كيوبيزم" من رؤية بايزية للكون، تُحيل الاحتمالات إلى انعكاسٍ شخصي للتجربة لا إلى حقيقة موضوعية. وفق هذا المنظور، لا تُقدِّم ميكانيكا الكم وصفًا مطلقًا للواقع، بل توصيات لما ينبغي أن يعتقده الراصد حيال ما قد يراه عند القياس. هذا يعني أن ميكانيكا الكم، بحسب تفسير كيوبيزم، لا تصف حالة الجسيمات ذاتها، بل تساعد كل مراقب على توقع النتائج اعتمادًا على تجاربه السابقة، وتحديث توقعاته بناءً على التجارب الجديدة. يصف روديغير شاك، أحد مطوري هذا التوجه من جامعة ماساتشوستس في بوسطن، الأمر ببساطة: "إنها نظرية للذات الواعية، لتشقّ سبيلها في هذا الكون"، (أي أنها وسيلة لفهم وتوقع ما قد يحدث، وليست مرآة حقيقية لطبيعة الواقع المادي نفسه*). تكمن جاذبية هذا التفسير في قدرته على التعامل مع عدة ألغاز كمومية في آنٍ واحد، فهو يعالج مشكلة القياس من خلال إسناد دور محوري وأساسي للتجربة الذاتية للراصد، وبدلًا من اعتبار انهيار دالة الموجة حدثًا غامضًا أو فيزيائيًا، يرى روديغير شاك أن هذا الانهيار لا يعدو كونه مجرد عملية تحديث يقوم بها الراصد لمعتقداته بعد إجراء القياس. يرى تفسير "كيوبيزم" أن الواقع الكلاسيكي الذي نعيشه ليس شيئًا ينشأ تلقائيًا من عالم الكم الغامض، بل هو نتيجة تفاعلاتنا المستمرة مع العالم من حولنا، وانعكاس لتحديثنا المتواصل لمعتقداتنا عنه. تقدِّم هذه النظرة حلاً بسيطًا لما يُعرف بمفارقة "صديق فيغنر"، وهي تجربة فكرية شهيرة طرحها الفيزيائي يوجين فيغنر في خمسينيات القرن الماضي، تُظهر كيف يمكن لراصدين مختلفين (فيغنر وصديقه) أن يختبرا واقعين متناقضين عند مراقبة نظام كمومي. بالنسبة لمؤيدي هذه النظرية، لا توجد مفارقة في تجارب مثل مفارقة "صديق فيغنر"، لأن نتيجة أي قياس كمومي تُعتبر دائمًا تجربة شخصية ترتبط بالراصد نفسه فقط. وبهذا، يرفض تفسير "كيوبيزم" رفضًا قاطعًا الفكرة التي تشير إلى إمكانية الوصول إلى رؤية موضوعية شاملة للكون، أي نظرة "من منظور الطرف الثالث" المجرد. لكن هذا الرفض ليس عيبًا في النظرية، بل هو جوهرها، كما يؤكد روديغير شاك. فبرأيه، هذه هي الرسالة العميقة التي تحملها ميكانيكا الكم: أن الواقع أكبر من أن يُختزل في منظور خارجي محايد، إنه تجربة ذاتية في جوهره. وبالتالي تقدِّم لنا هذه النظرية طريقة جذرية ومختلفة تمامًا لفهم العالم. على الجانب الآخر، يجد بعض الأشخاص تفسير "كيوبيزم" صعبًا للغاية إلى الحد الذي قد يصعب هضمه. فمثلًا، يُصرّ "باسي" على أن الاعتراف بالواقع الموضوعي له ثمن باهظ لا يمكن دفعه، وذلك بقوله: "ما تهدف إليه الفيزياء هو وصف الطبيعة بأسلوب موضوعي". وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن هذه النظرية لا تبدو أنها تقدِّم تنبؤات يمكن ملاحظتها قد تختلف عن تلك التي تُقدِّمها ميكانيكا الكم التقليدية. وفي هذا الصدد، يعلِّق شاك قائلًا: "إقناع الناس قد يتطلب الإشارة إلى عيوب البدائل الأخرى". يبدو إذن أننا ندور في حلقة مفرغة، نعود فيها إلى نقطة البداية، فإن كان أملنا الأكبر في حلٍّ تجريبي لمعضلة القياس سيُخلّف وراءه أبوابًا مواربة من الأسئلة حتى وإن ثبتت صحته. وإذا كان البديل القادر على فتح تلك الأبواب عصيًّا على التجربة والاختبار، فإلى أين تمضي خُطانا من هنا!؟ ما زال في الأفق بصيص أمل، ففي الأعوام القليلة الماضية، بدأ بعض الفيزيائيين يشقّون طريقاً جريئاً في ميدان طالما ظُنّ أنه حكرٌ على التأمل الفلسفي لا على التجريب العلمي، حيث أظهروا أن الأسس التي تقوم عليها تصوراتنا لمعنى نظرية الكم -تلك التي بدت أقرب إلى ميتافيزيقا غامضة- قد تخضع هي الأخرى لمجهر الاختبار والتحقق. يُطلقون على هذا التوجه اسم "الميتافيزيقا التجريبية"، ويوضح الفيزيائي كافالكانتي، أحد روّاد هذا المسار، أن الهدف هو كشف الفرضيات الميتافيزيقية الكامنة خلف تفسيرات ميكانيكا الكم المختلفة، ثم إخضاعها لما يُمكن التحقق منه تجريبيًا. من بين هذه الفرضيات: أن تكون نتائج القياس واحدة في نظر كل من يراها، وأن يكون لدينا بالفعل حرية في اختيار طريقة القياس دون تدخل خفي، وألا يؤثر قرار ما في تجربة بعيدة أو حتى في الماضي. في السياق ذاته، يضيف كافالكانتي: "على الرغم من أن كل فرضية على حدة قد تبدو عصيّة على الاختبار، فإن جمعها في إطار متكامل قد يمنحنا القدرة على نفي بعض التفسيرات الكمّية بالكامل، أو على الأقل، إقصاء ما لا يتماشى مع الواقع". كان كافالكانتي جزءًا من الفريق الذي قدّم في عام 2020 أقوى برهان عملي حتى الآن لنهج "الميتافيزيقا التجريبية". في هذه التجربة، استعانوا بفوتونات لتنفيذ نسخة موسّعة من تجربة "صديق فيغنر" الفكرية، مضيفين إليها ظاهرة "التشابك الكمومي"، وهي خاصية غريبة تجعل الجسيمات مترابطة بشكل عجيب حتى لو فُصلت بمسافات شاسعة. ما توصلوا إليه كان مثيرًا: إذا كانت ميكانيكا الكم بصيغتها التقليدية صحيحة -أي إذا لم نجد أي إشارة لانهيار موضوعي للدالة الموجية- فإننا مضطرون للتخلي عن أحد المبادئ الثلاثة التالية: مبدأ "المحلية" (أن ما يحدث هنا لا يمكن أن يتأثر بما يحدث بعيدًا بشكل فوري)، أو "حرية الاختيار" (أن خياراتنا في القياس لا تخضع لعوامل خفية)، أو "ثبات الأحداث المرصودة" (أن نتيجة القياس يجب أن تكون واحدة في نظر الجميع. استخدم كافالكانتي وفريقه تجربة متطورة لتقييد افتراضات الواقع الفيزيائي. توصل الفريق إلى أنه إذا أردنا الحفاظ على مبدأ حرية الاختيار مع مبدأ المحلية، يجب أن نتخلى عن فكرة أن الأحداث المرصودة ثابتة لجميع المراقبين. وعلى الرغم من أننا لم نصل بعدُ إلى مرحلة يمكننا فيها القول بأن أي تفسير آخر هو التفسير الصحيح لما تعنيه ميكانيكا الكم، فإننا من خلال التجارب والاختبارات الحالية، أصبحنا قادرين على تقليص الاحتمالات والتوجه نحو التفسير الأنسب. عوالم معلّقة على خيط من الهشاشة على الجانب الآخر، يسعى كافالكانتي وزملاؤه للتقدم في التجربة إلى أبعد من ذلك. ففي تلك التجربة، استخدموا كواشف للفوتونات بدلاً من فيغنر، واستخدموا الفوتونات نفسها كبديل لصديقه. ومع ذلك، من الواضح أن الفوتونات تختلف جذريًا عن المراقبين البشريين الذين تخيلهم فيغنر في الخمسينيات. فالفوتونات لا تعتبر من المراقبين بالمعنى التقليدي. كما أنه يصعب الحفاظ على جزيء يحتوي على عدة آلاف من الذرات في حالة تراكب كمومي بسبب هشاشة الحالات الكمومية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتعقيد إنسان! غير أن كافالكانتي وزملاءه اقترحوا أن الذكاء الاصطناعي المتقدِّم في المستقبل قد يكون قادرًا على إجراء تجربة مماثلة باستخدام حاسوب كمومي كبير، حيث يمكنه إجراء تجربة محاكاة في المختبر. ويعتقد الفريق أن هذا النوع من التجارب قد يُظهر ما إذا كان علينا فعلاً التخلي عن فكرة الموضوعية التي نتمسك بها، حتى وإن كنا بعيدين عن القدرة على إجراء مثل هذا النوع من التجارب حاليًا. إذن، هل نحن قريبون من الوصول إلى تفسير نهائي لما تقوله ميكانيكا الكم عن طبيعة الواقع؟ الحقيقة أننا في كثير من النواحي لم نتقدم كثيرًا عن زمن العلماء الأوائل الذين أسّسوا ميكانيكا الكم واختلفوا حول معناها. يقول الفيزيائي كافالكانتي إن الشيء الوحيد الذي نعرفه بيقين هو أن الطريقة الكلاسيكية في فهم العالم لم تعد صالحة لفهم الظواهر الكمومية. وقد أثبتنا فشل هذا المنظور التقليدي من خلال الرياضيات والتجارب العلمية بدرجة من اليقين تُضاهي أقصى ما يمكن أن نصل إليه في أي علم. في الوقت الراهن، علينا أن نقرر بأنفسنا أيا من التفسيرات المختلفة لمعنى ميكانيكا الكم يبدو لنا أكثر إقناعًا من الناحية النظرية، أي أن نختار ما إذا كنا مستعدين للتخلي عن فرضية معينة، وما الثمن الذي نحن على استعداد لدفعه مقابل التمسك بالمبادئ أو الفرضيات التي نعتبرها الأهم والأكثر قيمة بالنسبة لنا؟ ويضيف كافالكانتي أن بوصلة الفهم قد تهتدي إلى الاتجاه الصحيح إذا ما بحثنا في العلاقة بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لآينشتاين، تلك التي ترى في الجاذبية انحناءً في نسيج الزمكان تُحدثه الكتلة. فإن استطاع أحد التفسيرات الكمومية أن يفتح لنا بابًا لفهم هذه العلاقة الغامضة، فربما يكون ذلك هو الخيط الذي يقودنا إلى الحقيقة. ويتابع: "أرى أن التجارب التي تخوض في أساسيات النظرية ليست عبثًا، بل لعلها المفتاح، فمسألةُ هل الأحداث في الكون مطلقة أم لا، ليست مجرد تأملات فلسفية، بل هي أساس لا غنى عنه لبناء نظرية كمومية متماسكة للجاذبية". في هذه الأثناء، بدأنا نخوض أولى خطوات الفهم، من خلال إعادة صياغة ألغاز ميكانيكا الكم بلغة أقرب إلى عقولنا، وتصميم تجارب تسهم في تضييق هوّة الاحتمالات. وكل ما بوسعنا فعله هو المضيّ قُدماً في ابتكار أدوات أعمق وأكثر دقة لفهم هذا العالم المتشابك. وكما يقول كافالكانتي: "لا يمكن أن يتضاءل فهمك للعالم حين تنظر إليه من أكثر من زاوية، بل تتّسع رؤيتك كلما تعددت سُبُل التأمل". ____________ * إضافة المترجم


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
التنوع البيولوجي بين مخاطر التغير المناخي والأنشطة البشرية
على مدى العقود القليلة الماضية، عانى التنوع البيولوجي العالمي من أزمة، وبينما يحتفل العالم باليوم الدولي للتنوع البيولوجي في 22 مايو/أيار تحت شعار "الانسجام مع الطبيعة والتنمية المستدامة"، تبرز تحذيرات من فقدان نظم بيئية كثيرة فاقم من المخاطر على الكوكب. وتشير منظمة الأمم المتحدة إلى أن الاتجاهات الراهنة السلبية في ما يتصل بالتنوع البيولوجي والنُظُم البيئية تُقوّض التقدم المُحرز في نحو 80% من الأهداف التي تم تقييمها ضمن 8 من أهداف التنمية المستدامة. وتؤكد تقارير المنظمة، أن ثلاثة أرباع النُظُم البيئية الأرضية ونحو 66% من النُظُم البحرية طالها التغيير الجسيم بفعل النشاط البشري، كما أن ما يقارب مليون نوع من الحيوانات والنباتات يواجه خطر الانقراض. ويُظهر تقرير الكوكب الحي الصادر عن الصندوق العالمي للحياة البريّة، أن أعداد الحيوانات البرية تراجعت بمعدل 69% منذ العام 1970، وخصوصا في المناطق الاستوائية. وأدرج الصندوق العالمي للحياة البرية أكثر من 150 ألف نوع على القائمة الحمراء للأنواع المهدّدة بالانقراض، منها أكثر من 42 ألفا معرضة لخطر الانقراض في البريّة. كما يؤكد تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة، أن ما يقارب من ثلث مخزونات الأسماك يتعرض للصيد الجائر، وأن ثلث أنواع الأسماك في المياه العذبة التي تم تقييمها تعتبر مهددة بالانقراض. ويشمل ذلك أيضا 26% من سلالات الماشية. نظام حيوي غالبا ما يُفهم التنوع البيولوجي بوصفه تنوعا في الكائنات النباتية والحيوانية والكائنات الدقيقة، من العوالق إلى الشعاب المرجانية، لكنه يشمل أيضا الفروق الجينية داخل كل نوع، كما هو الحال بين أصناف المحاصيل وسلالات الماشية، إضافة إلى تنوع النُظُم البيئية من البحيرات والغابات والصحارى والأراضي الزراعية، حيث تتشابك أنماط الحياة وتتفاعل بين الإنسان والنبات والحيوان. يؤثر التغير المناخي بشكل كبير على التنوع البيولوجي، لكن الأنشطة البشرية التي يعمقها النمو السكاني وطغيان النزعة الاستهلاكية والتنافس على الموارد على حساب الطبيعة النمو السكاني فاقمت التعدي على النظم البيئية، ما تسبب في تدهور تنوعها البيولوجي الغني وتوازنها الدقيق، مما حد بدوره من قدرتها على تقديم خدمات حيوية للبشرية. يعتمد كل جزء في النظام البيئي على الآخرين مثل لعبة تركيب الصور المقطوعة، ويعتمد أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بشكل معتدل أو كبير، على الطبيعة وخدماتها وتنوعها. من الغابات إلى المحيطات، فالتنوع البيولوجي هو أساس وجود الإنسان واستمراره. كما تعتمد أنظمتنا الغذائية على غنى الطبيعة. يعتمد أكثر من 75% من المحاصيل الغذائية العالمية على الملقحات، مما يُسهم بمئات المليارات في الإنتاج الزراعي سنويًا، وسيكون للتغيير في درجة حرارة النظام البيئي تأثيرات قاسية على أشياء أخرى، مثل النباتات والحيوانات التي يمكن أن تنمو وتعيش هناك. مخاطر وتحديات ويعاني التنوع البيولوجي من عدة مخاطر رئيسية، محكومة بالأنشطة البشرية ومنها استخراج الوقود الأحفوريّ واستخدامه و بالتغيرات المناخية الناجمة أيضا عن الغازات الدفيئة التي تطلق في الغلاف الجوي وأدت إلى الاحترار العالمي، ومن أبرز هذه المخاطر: ارتفاع درجة حرارة الأرض وتغير أنماط هطول الأمطار وارتفاع مستوى سطح البحر والتصحر والجفاف. الاستغلال المفرط لموارد الطبيعة وتدمير الموائل وقطع الغابات التي تضم تنوعا بيئيا فريدا ومتشابكا. التلوث البيئي بما يشمل التلوث الكيميائي وانتشار البلاستيك والتلوث الضوضائي. الصيد الجائر والتجارة غير المشروعة في الأنواع. الأنواع الغازية بسبب التغيرات المناخية أو الأنشطة البشرية والتي تقضي على الأنواع الأصلية. ورغم أن التغير المناخي يفاقم التدهور البيئي ويقضي على الأنواع. يعتبر التنوع البيولوجي ضروريا للحد من تغير المناخ، فعندما تنتج الأنشطة البشرية غازات الدفيئة، يبقى نحو نصف الانبعاثات في الغلاف الجوي، بينما تمتص الأرض والمحيطات النصف الآخر، وتصبح هذه النظم البيئية، والتنوع البيولوجي الذي تحتويه، بالوعة طبيعية للكربون توفر ما يسمى بالحلول القائمة على الطبيعة لتغير المناخ. وفي إطار الحد من التدهور في الأنواع والحفاظ على التنوع البيولوجي وضعت الأمم المتحدة في ديسمبر /كانون الأول 2022، خطة عالمية تعيد صياغة علاقة البشر بالطبيعة، باعتماد "إطار كونمينغ – مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي" الذي وضع 23 هدفا لعام 2030 و5 أهداف عالمية لعام 2050 من أجل وقف التدهور البيئي وعكس مساره خلال 25 عاما. ومن هذه الأهداف التي يتعين تحقيقها في إطار العمل العالمي، استعادة 20% من النظم البيئية المتدهورة، والحد من دخول أو استقرار الأنواع الغريبة الغازية بنسبة 50%. ورغم عوامل القلق من تدهور التنوع البيولوجي تبرز نقاط إيجابية، منها العمل الدولي المشترك والاستغلال الواسع للتكنولوجيا في كشف مواطن الضرر وتلافيها.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
ملامح المعركة القادمة بين المثقف والذكاء الاصطناعي
ما تشهدُه الحركة العلميّة والمعرفية ببعدها التقني التكنولوجي من تحوّلات كبرى ومهولة في وسائل ووسائط التعليم والوظائف والأدوات، يجعل مسألة الحديث عن الثقافة والمثقف ببعده المعرفي، حديثًا ذا شجون ومثيرًا للنقاش وجالبًا للأسئلة، لما باتت تمثّله التقنية من تحدٍّ كبير للبعد المعرفي، في شخصية المثقف، باعتباره – أي المثقف- رجل المعرفة الأوحد هنا، وباعتبار العمليّة المعرفية عملية ثقافية أيضًا. ولكن قبل هذا مَن هو المثقّف أصلًا، وأين موقعه في زمن الذكاء الاصطناعي؟ صحيح أنَّ مثل هذا الطرح حول تعريف المثقف وأنماطه هو طرح جدلي دائم، لكني أزعم أنَّ ثمة تجاوزًا كبيرًا لهذه النقطة من الحديث بهذا الخصوص حول المثقف وتعريفاته المختلفة، وأن المقاربة الأهم اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك المقاربة التقليدية للمثقف القارئ للكتب والحاوي لصنوف المعرفة؛ لأنّ مثل هذه الوظيفة اليوم لم تعد حكرًا على صاحبنا المثقّف في زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، والذي أصبحت فيه المعرفة متاحة، وفي متناول الجميع، ولم يعد المثقف ناقل المعرفة وحاملها الوحيد، وإنما المثقف، اليوم، هو موقف نقدي من كل ما يمسّ الإنسان والمجتمعات وحقوقها وكرامتها وحرياتها. وإذا كانت هذه المقاربة هي اليوم الأكثر حضورًا، أو المفترض أن تكون كذلك، وحاضرة في فهم طبيعة ووظيفة المثقّف الحقيقي، وهو الموقف النقدي، فإننا نكون بذلك قد فصلنا بين الجزء الآلي الأدائي، وبين ما يفترض أن تشكّله المعرفة في شخصية المثقف من بُعد روحيّ وأخلاقيّ ورساليّ يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت تؤدّيه اليوم التقنية باقتدار، ولم يعد حكرًا على العقل البشري فحسب. ففي الزمن الرقْمي لم يعد لفكرة المثقف التقليدي أي معنى؛ لأنه لا يمكنه أن يتماشى أو يداني أو ينافس برامج الذكاء الاصطناعي اليوم بأنواعها، وما باتت تقدّمه من خدمة معلوماتية سريعة وبجودة عالية، وكأنها صادرة عن عقل بشري مجرد، مع فارق الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح اليوم الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومة وبطريقة مدهشة، ما يجعل اليوم فكرة الذكاء الاصطناعي تحتلّ تدريجيًا، ويومًا بعد آخر، مجالات العقل البشريّ الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعيّ ذاتها. لذلك، فاليوم، الحديث عن فكرة المثقّف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي تحديدًا، فإنه على وشْك فقدان وظيفته، وهي تلك الوظيفة التي يقوم بها مقابل ما لديه من معارف وعلوم تطبيقيّة أو حتّى إنسانيّة، وهي وظيفة ما يُسمّى بالتكنوقراط، وهو الشخص الذي يسخّر ما لديه من معارف وقدرات لأداء وظيفة معينة يتمكن من خلالها من القيام بما يُراد منه القيام به، لما لديه من المعارف والمعلومات والمهارات والخبرات أيضًا . فهذا النوع من المثقّفين اليوم باتوا أكثر عرضة للاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذه الحياة، في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعيّ التي باتت اليوم تقتحم كلّ المجالات، وتتدخل في كل التخصصات، وهي بالمناسبة ثورة ربما سيكون لها وجه إيجابي كبير، حيث ستعيد الاعتبار كثيرًا لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يعني الموقف النقدي والرساليّ وضمير أمّته، بحسب التعريف البيغوفيتشي (نسبة للمفكّر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش)، وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمّته، جامعًا بين المعرفة والقيم. أمّا المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيقع في مأزِق توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شكّ فيه أنه سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهو توفير المعلومة، ودقتها وسرعة جلبها، على عكس روتينية المثقف الوظيفي، التي تتسم بالبطء الشديد والرتابة أيضًا. ولهذا، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي اليوم سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع عريض من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميتُه بالمثقف الوظيفي، كالإداريين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمترجمين والمحرّرين والمراجعين، وغيرهم الكثير. بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فلا شك أنّ المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس مرحليًا لصالح إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أنه سيستفيد من هذا التحوّل لصالح دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتَين؛ وهما الثقافة التقنية والموقف النقدي معًا، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي، والمثقف الوظيفي. ثمة الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات، التي يجب أن تسجل في مقام الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف، بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة عبقرية، لكنه بلا جسد، بلا ذاكرة حقيقية، وبلا رغبة في الحرية، بعكس المثقف الذي يظلّ ذلك الكائن الهشّ الذي يطرح الأسئلة المحرجة، يعانق التناقضات، ويصرّ على أن الحياة أكثر من مجرد معادلة خوارزميّة رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلّى فيها سرّ الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنّا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسرّ أو نُساء؛ أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن ما كان يحذّر منه ألبير كامو في رفضه فكرة التكنولوجيا التي تسحق الإنسان. في نفس هذا السياق، ربما تأتي فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات التي تشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري؛ لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر لما يسمّيه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحلّ محلّ الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة. لهذا كله يرى هابرماس أنّ المثقف ليس خَصمًا للذكاء الاصطناعي، لكنه حارسٌ ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية، وإذا تخلّى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مُدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق. وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمّى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عمّا يجري هناك. وختامًا؛ فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق حالة من الكسل الذهني. وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال؛ لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف. وبالتالي يمكن أن تكون ثمة علاقة تحالف بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحلّ محلّ البصيرة الإنسانية المتجلّية بالموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، وامتلاك القدرة على قول "لا"، فضلًا عن رفض فكرة تشيئة الإنسان واختزاله كمجرد رقْم في معادلة خوارزميّة رياضيّة.