
«ميلان كونديرا».. الحياة مسرح الرواية
لم تقتصر إسهامات الروائي الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا «1929 ـ 2023»، على حقل السرد والرواية فقط، بل كان مفكراً وباحثاً، ومن خلال ذلك استطاع أن ينظّر للرواية نفسها، ويدرس كيف تبنى وما هي مضامينها، ويلاحظ القارئ، أن المضامين والمعاني ذات الحمولة الفلسفية تتجول في أعمال هذا المؤلف الذي أراد أن يكون للسرد معنى ورسالة إضافة إلى الأبعاد الجمالية التي استقاها من عدة حقول إبداعية، حيث كان موسيقياً وشاعراً وسينمائياً ومؤلفاً مسرحياً، فقد اجتمعت كل تلك المجالات في مؤلفاته السردية فأضافت إليها الكثير.
كتاب «ميلان كونديرا والعالم بوصفه شركاً»، للكاتب والسينمائي أمين صالح، الصادر في طبعته الأولى، عن دار «روايات»، عام 2022، يعد من المؤلفات التي تكتسب أهميتها، لكونها تنقب في زوايا وجوانب غير مرئية في حياة كونديرا، وكأن المؤلف يعمل على إعادة تعريف هذا الروائي من منظور جديد أو من زاوية مختلفة، وربما ليست مصادفة أن يشترك مؤلف الكتاب مع كونديرا في واحد من الحقول الإبداعية التي أثرت مؤلفات الروائي التشيكي وهو مجال السينما، إضافة إلى الشعر والرواية والمسرح، وذلك له أهميته في التعرف إلى عوالم الكتاب، فالبعد «السينمائي»، يحضر بقوة في أعمال كونديرا من خلال الصور والمشهديات والعديد من التقنيات، إضافة إلى الاهتمام برسم الشخوص ودقة تكوينها بحيث تصبح في بعض الأحيان «كاركترات»، راسخة تعبر عن أفكار وأيديولوجيات، وربما يبدو ذلك أكثر وضوحاً في واحدة من أهم روايات كونديرا وهي «حفلة التفاهة»، حيث لن يستطيع القارئ مهما حاول أن ينسى شخصيات مثل ستالين والقيادات التي معه، إذ نجحت الرواية في تقديمهم بشكل ساخر وفكاهي، وتلك؛ أي الكوميديا إحدى التقنيات التي يجيد كونديرا توظيفها، حيث تسكن أعماله روح السخرية اللاذعة الناقدة.
*قراءات مستفيضة
وتقول مقدمة دار روايات للتعريف بعوالم الكتاب: «قدّم الأديب والمترجم الكبير أمين صالح مادّة شاملة حول ميلان كونديرا، إذ ينقلنا معه في قراءات مستفيضة لسيرة كونديرا وأعماله وآراءه، وصولًا إلى مقالاته وأهمّ الحوارات التي أُجريت معه. كونديرا من أكثر كتّاب أوروبا المعاصرين أهميةً وشهرةً، ومن القلائل الذين أحرزوا اعترافاً عالمياً واسعاً، إذ صار يُعد أيقونة أدبية عالمية. ففي الثمانينيات، من القرن الماضي، وضَع أدب أوروبا الشرقية على الخريطة الأدبية العالمية عبر نصوصه الجديدة والجريئة، ودعوته إلى الحرية الداخلية في بلاده، يُنظر إليه ككاتب ومفكّر مهم، كما يُعتبر من أكثر الكتّاب تأثيراً في الروائيين التشيك المعاصرين، وفي غيرهم من كتّاب العالم. كل كتاب يصدره كان يعدّ حدثاً ثقافياً بارزاً، وكل مساهماته في المحادثات الثقافية والسياسية العامة كانت تثير الكثير من الاهتمام والجدل والنقاش الحيوي».
*رصد
ويكاد الكتاب أن يقدم رصداً عميقاً ودقيقاً للفضاءات التي تحرك فيها كونديرا الروائي والفيلسوف، حيث قسم الكاتب هذا المؤلف إلى فصول عنونها بـ: «الذهاب إلى قلب الأشياء»، «كونديرا وعناصره المدهشة»، «الرواية جوهر الوجود»، «حوارات من مقالات كونديرا»، و قدم الكتاب تطوافاً بديعاً في جوانب من إبداعات كونديرا السردية مستصحباً تلك التقنيات التي برع في استخدامها ومتعمقاً في جوهر رواياته والغرض منها، ولم يترك حتى المقابلات التي أجريت مع كونديرا، فرصد العديد منها وقام بتحليل مضامين المقولات التي احتوتها، بما يخدم فكرة تفسير فلسفة كونديرا التي تحملها تلك الأعمال السردية من خلال نظرته للحياة والواقع والوجود، وكيف تسربت تلك النظرة إلى النصوص السردية النابضة بالحياة والمشاهد وسير الشخوص والأمكنة وقوة الوصف السينمائي وبعض تقنيات عالم الأفلام مثل«الفلاش باك»، والتداعي والحركة، ما جعل الكتاب يحيط بالكثير من أفكار كونديرا وعوالمه الجمالية الإبداعية.
*سير ومواقف
يتناول الكتاب جانباً مهماً من سيرة كونديرا ومواقفه الحياتية، حيث يشير إلى أن هذا الروائي يعد من أكثر كتاب أوروبا المعاصرين أهمية وشهرة، ومن القلائل الذين أحرزوا اعترافاً عالمياً واسعاً، إذ صار يعد أيقونة أدبية عالمية، وكل مساهماته في المحادثات الثقافية والسياسية العامة كانت تثير الكثير من الاهتمام والجدل والنقاش الحيوي، ورواياته في أغلبها، مثار خلاف وجدل، وتلقى الإطراء لما تطرحه من أشكال سردية غير تقليدية، واستقصاءات فلسفية في التواريخ العامة والخاصة للشخصية الإنسانية، لقد اشتهرت أعماله بمزجها التأمل الفلسفي والنقد السياسي والدعابة السوداء والحس التشاؤمي واللمسات العبثية اللامعقولة، وكان يسعى إلى صياغة صلات بين الوعي الفردي والمجريات المتغيرة للتاريخ والسياسة.
*غموض الإنسان
يتعمق الكتاب في تناول مضامين وأساليب كونديرا السردية، حيث يشير إلى أن روايته تحمل ذلك الانتقال السريع والمفاجئ من حدث إلى آخر مستكشفا مراحل تاريخية مختلفة، ومتحولاً من حكاية أو نادرة ما إلى مقطوعة هجائية، ويعمل على تناول شذرات من السيرة الذاتية، والسرد التاريخي، والتأمل الوجودي والفلسفي، ويلج إلى عالم النقد، ويقوم بتوظيف تقنية تعدد الرواة، من الراوي مع تدخل الأنا الذي يمثل الكاتب نفسه، كما أن كونديرا ينظر إلى الرواية بوصفها الشكل الفني الاسمي، ويراها باعتبارها استقصاء للحياة الإنسانية في عالم تحول إلى شرك، وبكونها تأملاً شعرياً في الوجود، كما يعرف الرواية بوصفها الشكل النثري العظيم الذي فيه المؤلف يستكشف على نحو شامل، بواسطة ذوات« شخصيات» تجريبية، وهو يرى أن الإنسان قد أصبح غامضاً، ملغزاً، وربما هذا اللغز الذي أشار إليه الكتاب يقود بصورة غير مباشرة إلى كونديرا الفيلسوف الذي جعل من الرواية مسرحاً تتجول فيه كلماته ومفاهيمه وأفكاره المصنوعة من مادة الفلسفة، فذلك اللغز هو غموض العالم نفسه الذي ينتصب كشرك وفخ كبير.
*تحولات
لا يخلو الكتاب من التوغل في الجانب الأيديولوجي صاحب التأثير الكبير في حياة كونديرا ومسيرته الأدبية والفكرية، خاصة تلك التحولات الكبيرة التي طرأت عليه كيساري، فعلى الرغم من أن الروائي الكبير يحذر من أن تصبح الرواية مطية أيديولوجية، إلا أنه كان يشيد من خلال هذا التحذير أيديولوجيته الخاصة به، تلك التي يوظفها في تعرية الأفكار الشمولية، ويرصد أثرها في حياة البشر من خلال تجربته الخاصة، حيث كان قد التحق بالحزب الشيوعي في عام 1948، وتعرض للفصل عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليه، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970، وفقد وظيفته عام 1968 بعد دخول الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا. وبعد انخراطه فيما سُمّي ربيع براغ، اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975، وكل تلك المواقف كان لها أثرها في تكوين الاتجاه الأدبي لدى كونديرا والذي لم يكن بريئاً من الروح الأيديولوجية التي تسربت إلى أهم أعماله السردية مثل:«كائن لا تحتمل خفته»، والتي تدور أحداثها عام 1986، خلال الغزو السوفييتي للعاصمة التشيكية براغ، وكذلك رواية«الخلود»، و«كتاب الضحك والنسيان»، والعديد من الأعمال الأخرى.
*اقتباسات
«التسلية يحن لها أي روائي حقيقي».
«كان طموحي أن أوحد بين الأسئلة الجادة بأكثر الأشكال خفة».
«لا نصبح واعين لأعمارنا، إلا في لحظات استثنائية».
«نحن نجرب الخفة التي لا تحتمل وجودنا».
«الرواية لا تولد من الروح النظرية بل من روح الدعابة».
«في أغلب الأوقات نكون بلا أعمار».
«أردنا أن ننقذ العالم لكن أوشكنا على تدميره».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة الخليج
١٦-٠٢-٢٠٢٥
- صحيفة الخليج
«ميلان كونديرا».. الحياة مسرح الرواية
لم تقتصر إسهامات الروائي الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا «1929 ـ 2023»، على حقل السرد والرواية فقط، بل كان مفكراً وباحثاً، ومن خلال ذلك استطاع أن ينظّر للرواية نفسها، ويدرس كيف تبنى وما هي مضامينها، ويلاحظ القارئ، أن المضامين والمعاني ذات الحمولة الفلسفية تتجول في أعمال هذا المؤلف الذي أراد أن يكون للسرد معنى ورسالة إضافة إلى الأبعاد الجمالية التي استقاها من عدة حقول إبداعية، حيث كان موسيقياً وشاعراً وسينمائياً ومؤلفاً مسرحياً، فقد اجتمعت كل تلك المجالات في مؤلفاته السردية فأضافت إليها الكثير. كتاب «ميلان كونديرا والعالم بوصفه شركاً»، للكاتب والسينمائي أمين صالح، الصادر في طبعته الأولى، عن دار «روايات»، عام 2022، يعد من المؤلفات التي تكتسب أهميتها، لكونها تنقب في زوايا وجوانب غير مرئية في حياة كونديرا، وكأن المؤلف يعمل على إعادة تعريف هذا الروائي من منظور جديد أو من زاوية مختلفة، وربما ليست مصادفة أن يشترك مؤلف الكتاب مع كونديرا في واحد من الحقول الإبداعية التي أثرت مؤلفات الروائي التشيكي وهو مجال السينما، إضافة إلى الشعر والرواية والمسرح، وذلك له أهميته في التعرف إلى عوالم الكتاب، فالبعد «السينمائي»، يحضر بقوة في أعمال كونديرا من خلال الصور والمشهديات والعديد من التقنيات، إضافة إلى الاهتمام برسم الشخوص ودقة تكوينها بحيث تصبح في بعض الأحيان «كاركترات»، راسخة تعبر عن أفكار وأيديولوجيات، وربما يبدو ذلك أكثر وضوحاً في واحدة من أهم روايات كونديرا وهي «حفلة التفاهة»، حيث لن يستطيع القارئ مهما حاول أن ينسى شخصيات مثل ستالين والقيادات التي معه، إذ نجحت الرواية في تقديمهم بشكل ساخر وفكاهي، وتلك؛ أي الكوميديا إحدى التقنيات التي يجيد كونديرا توظيفها، حيث تسكن أعماله روح السخرية اللاذعة الناقدة. *قراءات مستفيضة وتقول مقدمة دار روايات للتعريف بعوالم الكتاب: «قدّم الأديب والمترجم الكبير أمين صالح مادّة شاملة حول ميلان كونديرا، إذ ينقلنا معه في قراءات مستفيضة لسيرة كونديرا وأعماله وآراءه، وصولًا إلى مقالاته وأهمّ الحوارات التي أُجريت معه. كونديرا من أكثر كتّاب أوروبا المعاصرين أهميةً وشهرةً، ومن القلائل الذين أحرزوا اعترافاً عالمياً واسعاً، إذ صار يُعد أيقونة أدبية عالمية. ففي الثمانينيات، من القرن الماضي، وضَع أدب أوروبا الشرقية على الخريطة الأدبية العالمية عبر نصوصه الجديدة والجريئة، ودعوته إلى الحرية الداخلية في بلاده، يُنظر إليه ككاتب ومفكّر مهم، كما يُعتبر من أكثر الكتّاب تأثيراً في الروائيين التشيك المعاصرين، وفي غيرهم من كتّاب العالم. كل كتاب يصدره كان يعدّ حدثاً ثقافياً بارزاً، وكل مساهماته في المحادثات الثقافية والسياسية العامة كانت تثير الكثير من الاهتمام والجدل والنقاش الحيوي». *رصد ويكاد الكتاب أن يقدم رصداً عميقاً ودقيقاً للفضاءات التي تحرك فيها كونديرا الروائي والفيلسوف، حيث قسم الكاتب هذا المؤلف إلى فصول عنونها بـ: «الذهاب إلى قلب الأشياء»، «كونديرا وعناصره المدهشة»، «الرواية جوهر الوجود»، «حوارات من مقالات كونديرا»، و قدم الكتاب تطوافاً بديعاً في جوانب من إبداعات كونديرا السردية مستصحباً تلك التقنيات التي برع في استخدامها ومتعمقاً في جوهر رواياته والغرض منها، ولم يترك حتى المقابلات التي أجريت مع كونديرا، فرصد العديد منها وقام بتحليل مضامين المقولات التي احتوتها، بما يخدم فكرة تفسير فلسفة كونديرا التي تحملها تلك الأعمال السردية من خلال نظرته للحياة والواقع والوجود، وكيف تسربت تلك النظرة إلى النصوص السردية النابضة بالحياة والمشاهد وسير الشخوص والأمكنة وقوة الوصف السينمائي وبعض تقنيات عالم الأفلام مثل«الفلاش باك»، والتداعي والحركة، ما جعل الكتاب يحيط بالكثير من أفكار كونديرا وعوالمه الجمالية الإبداعية. *سير ومواقف يتناول الكتاب جانباً مهماً من سيرة كونديرا ومواقفه الحياتية، حيث يشير إلى أن هذا الروائي يعد من أكثر كتاب أوروبا المعاصرين أهمية وشهرة، ومن القلائل الذين أحرزوا اعترافاً عالمياً واسعاً، إذ صار يعد أيقونة أدبية عالمية، وكل مساهماته في المحادثات الثقافية والسياسية العامة كانت تثير الكثير من الاهتمام والجدل والنقاش الحيوي، ورواياته في أغلبها، مثار خلاف وجدل، وتلقى الإطراء لما تطرحه من أشكال سردية غير تقليدية، واستقصاءات فلسفية في التواريخ العامة والخاصة للشخصية الإنسانية، لقد اشتهرت أعماله بمزجها التأمل الفلسفي والنقد السياسي والدعابة السوداء والحس التشاؤمي واللمسات العبثية اللامعقولة، وكان يسعى إلى صياغة صلات بين الوعي الفردي والمجريات المتغيرة للتاريخ والسياسة. *غموض الإنسان يتعمق الكتاب في تناول مضامين وأساليب كونديرا السردية، حيث يشير إلى أن روايته تحمل ذلك الانتقال السريع والمفاجئ من حدث إلى آخر مستكشفا مراحل تاريخية مختلفة، ومتحولاً من حكاية أو نادرة ما إلى مقطوعة هجائية، ويعمل على تناول شذرات من السيرة الذاتية، والسرد التاريخي، والتأمل الوجودي والفلسفي، ويلج إلى عالم النقد، ويقوم بتوظيف تقنية تعدد الرواة، من الراوي مع تدخل الأنا الذي يمثل الكاتب نفسه، كما أن كونديرا ينظر إلى الرواية بوصفها الشكل الفني الاسمي، ويراها باعتبارها استقصاء للحياة الإنسانية في عالم تحول إلى شرك، وبكونها تأملاً شعرياً في الوجود، كما يعرف الرواية بوصفها الشكل النثري العظيم الذي فيه المؤلف يستكشف على نحو شامل، بواسطة ذوات« شخصيات» تجريبية، وهو يرى أن الإنسان قد أصبح غامضاً، ملغزاً، وربما هذا اللغز الذي أشار إليه الكتاب يقود بصورة غير مباشرة إلى كونديرا الفيلسوف الذي جعل من الرواية مسرحاً تتجول فيه كلماته ومفاهيمه وأفكاره المصنوعة من مادة الفلسفة، فذلك اللغز هو غموض العالم نفسه الذي ينتصب كشرك وفخ كبير. *تحولات لا يخلو الكتاب من التوغل في الجانب الأيديولوجي صاحب التأثير الكبير في حياة كونديرا ومسيرته الأدبية والفكرية، خاصة تلك التحولات الكبيرة التي طرأت عليه كيساري، فعلى الرغم من أن الروائي الكبير يحذر من أن تصبح الرواية مطية أيديولوجية، إلا أنه كان يشيد من خلال هذا التحذير أيديولوجيته الخاصة به، تلك التي يوظفها في تعرية الأفكار الشمولية، ويرصد أثرها في حياة البشر من خلال تجربته الخاصة، حيث كان قد التحق بالحزب الشيوعي في عام 1948، وتعرض للفصل عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليه، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970، وفقد وظيفته عام 1968 بعد دخول الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا. وبعد انخراطه فيما سُمّي ربيع براغ، اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975، وكل تلك المواقف كان لها أثرها في تكوين الاتجاه الأدبي لدى كونديرا والذي لم يكن بريئاً من الروح الأيديولوجية التي تسربت إلى أهم أعماله السردية مثل:«كائن لا تحتمل خفته»، والتي تدور أحداثها عام 1986، خلال الغزو السوفييتي للعاصمة التشيكية براغ، وكذلك رواية«الخلود»، و«كتاب الضحك والنسيان»، والعديد من الأعمال الأخرى. *اقتباسات «التسلية يحن لها أي روائي حقيقي». «كان طموحي أن أوحد بين الأسئلة الجادة بأكثر الأشكال خفة». «لا نصبح واعين لأعمارنا، إلا في لحظات استثنائية». «نحن نجرب الخفة التي لا تحتمل وجودنا». «الرواية لا تولد من الروح النظرية بل من روح الدعابة». «في أغلب الأوقات نكون بلا أعمار». «أردنا أن ننقذ العالم لكن أوشكنا على تدميره».


صحيفة الخليج
١٠-٠١-٢٠٢٥
- صحيفة الخليج
مَن في الصدارة الأدبية؟
نقل الأديب التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا عن أستاذ جامعي فرنسي قوله، إن التاريخ الثقافي والأدبي في بلاده، فرنسا، يفتقد إلى شخصية مؤسس متميز يتكافأ مع دانتي بالنسبة للإيطاليين وشكسبير بالنسبة للإنجليز. قول أثار دهشة كونديرا، فكيف تغيب عن أذهان الفرنسيين هالة الشخص المؤسس لكاتبهم العظيم فرانسو رابليه، الذي هو في أعين كل روائي عظيم في عصرنا، مؤسس لفن الرواية إلى جانب سرفانتس؟ بدأ رابليه حياته راهباً، ثم درس الطب ومارسه في مدينة ليون، وخلالها كتب روايتين، هما «حياة غارغانتوا» و«بانتاغرويل»، اللتين ستعدان أهم رواياته، ورغم أنه، ولأمرٍ ما، نشرهما باسم مستعار، لكنهما حققتا نجاحاً كبيراً لما زخرتا به من سخرية وعمق، ليصبح واحداً من أهم أدباء العالم، فكيف لفرنسا ألا تضعه في المقام الذي يضع فيه الإسبان سرفانتس، والإيطاليون دانتي، والإنجليز شكسبير؟ ما حمل كونديرا على طرح هذا السؤال، قيام جريدة فرنسية، في نهاية القرن العشرين، باستطلاع رأي ثلاثين شخصية بارزة تنتمي إلى الصفوة المثقفة آنذاك من صحفيين ومؤرخين وعلماء اجتماع ونقّاد وناشرين وعدد قليل من الكتاب، حول أهم عشرة كتب وأكثرها مكانة وشهرة في تاريخ فرنسا، ومن مجموع الشهادات الثلاثين التي قدمها من استُطلعت آراؤهم، قامت الجريدة بجمع قائمة «أفضل مئة عمل أدبي» في فرنسا، فجاءت رواية فيكتور هيجو «البؤساء» في المرتبة الأولى، وهو ما بدا صادماً لكونديرا وربما لغيره من أدباء العالم، الذين لا يعتبرون هذه الرواية مهمة في تاريخ الأدب، ليفاجؤوا بأن ما كانوا يوقّرونه من أدب فرنسي، يختلف تماماً عما يراه الفرنسيون أنفسهم. حلت مذكرات الجنرال شارل ديغول في المرتبة 11، رغم أنها، من وجهة نظر كونديرا أيضاً، لن تحصل على القيمة والأهمية الأدبية ذاتها من قبل أي رجل دولة أو حتى جندي خارج فرنسا، متقدمة على رابليه الذي جاء في المرتبة 14، فيما حلت «الغريب» لألبير كامو في المرتبة 22، أما الرواية الشهيرة «مدام بوفاري» فأتت في المرتبة 25، وجاءت «الملهاة الإنسانية» لبلزاك في المرتبة 35، وهي الرواية التي لا يمكن بدونها تصور وجود أدب أوروبي، وغاب عن القائمة نهائياً صمويل بيكيت. هذا بعض ما أتى عليه كونديرا في مقاله الذي حواه كتاب ترجمهُ وأعدّه أمين صالح وصدر عن دار «روايات» بعنوان: «ميلان كونديرا والعالم بوصفه شرَكاً»، وهو ينبهنا إلى أن الانطباعات المكوّنة عن الأعمال الأدبية لا تخضع، بالضرورة، للمعايير النقدية المستقرة، حتى لو كانت هذه الانطباعات آتية من نخب ثقافية مهتمة، وهي ظاهرة لا تخصّ فرنسا وحدها، ولا أوروبا وحدها، بل تشمل الساحات الثقافية في مختلف بلدان العالم.


صحيفة الخليج
١١-١٢-٢٠٢٤
- صحيفة الخليج
الرواية وخصوصية الأفراد
نفى الروائي التشيكي – الفرنسي ميلان كونديرا أن تكون أياً من رواياته تعكس صورته الذاتية. ليس ذلك فقط. نفى أيضاً وجود أي شخصية في أي من أعماله تعكس صورة شخص حي أو أي شخصية واقعية. قال إنه لا يحب «السير الذاتية المتقنعة»، «وأي شخص يفشي الحياة الخصوصية الحميمة للأفراد يستحق الجلد». أعادتنا إلى أقوال كونديرا هذه، الضجة التي أثارها فوز رواية «حوريات» للكاتب الفرنسي من أصول جزائرية كمال داود، بجائزة «غونكور» الأدبية، حيث اتهمت سيدة الكاتب بسرقة قصة حياتها واستخدامها في عمله الأدبي من دون إذنها، بعد أن أفشت له زوجته الطبيبة النفسانية أسرار مرضها وتفاصيل حياتها الشخصية التي عاشتها في التسعينات خلال الفترة التي سميت «العشرية السوداء» بالجزائر، وهو ما قالته، في مؤتمر صحفي، المحامية التي وكلتها المرأة صاحبة الدعوى، مشيرة إلى أن الروائي داوود وزوجته الأخصائية النفسانية التي كانت المرأة تتلقى عندها علاجاً نفسياً استغلا قصتها وحالتها المرضية لكتابة «الحوريات» من دون إذن منها. وعرضت المحامية أدلة تُثبت ما قالته؛ حيث أظهرت وشمأً موجوداً أعلى ظهر المرأة، مؤكدة أنه نفسه الذي ورد في الرواية، التي تضمنت، أيضاً، أحداثاً أخرى عاشتها موكلتها، بينها فقدانها القدرة على الكلام بعد تعرضها لمحاولة قتل، مُظهرة بعض الشهادات الطبية التي تمكنت من استرجاعها. انطلق كونديرا في رفضه إقحام الحياة الشخصية للأفراد في الأدب والرواية خاصة، من حقيقة أننا نعيش في عصر تعرضت فيه حيوات الأفراد إلى الاختراق والتدمير، وبنتيجة ذلك باتوا «يفقدون ميلهم إلى الحياة الخاصة والإحساس بها». وليس هذا قولاً جديداً لكونديرا، فقد سبق له في كتابه «فن الرواية» أن أزاح الدثار عن المفردة، أو المفهوم الملتبس: الشفافية؛ حيث باتت الرغبة في انتهاك حميمية الآخرين شكلاً من أشكال العدوانية، تمارسه الكثير من المؤسسات عبر البطاقات والاستمارات التي يملؤها الأفراد بالبيانات التفصيلية في البنك والمستشفى ومكان العمل أو عند إنجاز أي معاملة ذات شأن أو غير ذات شأن. ربما لم تكن لوسائط التواصل الاجتماعي سطوتها الراهنة حين قال كونديرا قوله هذا، لذا لم يأت على ذكرها كأحد أخطر طرق انتهاك الخصوصية الذي بات مبرراً، لا بل وحتى شاعرياً تحت وقع الكلمة الجميلة: الشفافية. أما الدولة من حيث هي مؤسسات وهيئات وأساليب إدارة، فإنها تظل مُحاطة بالحماية المكينة التي ليس بوسع أية آلية من آليات الشفافية اختراقها. وفي حوار معه، قال كونديرا إن الحياة تصبح جحيماً عندما يعجز المرء عن إخفاء خصوصيته عن أعين الآخرين، ويجد نفسه تحت عدسة مكبرة، فتنتهك أسراره ويغيب احترام تفاصيل حياته الشخصية.