logo
انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا

انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا

الجزيرةمنذ يوم واحد
في سهول السافانا في أفريقيا، يتجه أطول حيوان ثديي في العالم بهدوء نحو الانقراض، ليس بسبب فقدان موائله فقط، بل بسبب الشهية التي لا تشبع للجوائز التي تحول جلود تلك العمالقة اللطيفة إلى سجاد وذيولها إلى طارد للذباب.
لا يتسللون إليك. لا يهربون أو يفزعون. في الواقع، عندما تنعطف عند زاوية وتجد زرافة تسد الطريق، تميل الزرافة إلى الوقوف هناك، وتنظر إليك ببرود وخيلاء.
بأرجل تشبه العصي والرموش التي تنتمي إلى دروس فن المكياج، يبدو أن الزرافة جاءت من عصر آخر تماما، مثل بعض عروض ما قبل التاريخ الغريبة التي تعكس الأناقة والغرابة، ورغم ضخامتها، تكاد تطأ بصمت، أقدامها مُريحة وخطواتها مُتأنية، تطفو في الأدغال كمراقب صامت.
ووفقا للاستطلاعات، تُعدّ الزرافات أكثر الحيوانات تصويرا من قبل الزوار في حديقة كروغر في جنوب أفريقيا، متفوقة حتى على الأسد. ويبدو أن الحيوانات الأخرى تُدرك طبيعتها الهادئة، فالحمر الوحشية والحيوانات البرية غالبا ما ترعى برفقتها.
يبدو صيد مثل هذا المخلوق الرائع غريبا. فما الفائدة من اصطياد أحد أكثر الحيوانات البرية ودا في أفريقيا؟ لكن الأمر أنه لا يُقاوم بالنسبة للبعض من صائدي الجوائز والتجار الشرهين للكسب غير المشروع.
في يونيو/حزيران الماضي، نشرت مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أرقاما جديدة تكشف عن حقيقة صارخة، ففي عام 2023 وحده، تم شحن ما يقرب من 1800 "جائزة" زرافة حول العالم، مما أدى إلى تغذية سوق عالمية مستترة، باتت تشكل تهديدا خطيرا لبقاء الأنواع.
وفي هذا السياق، أصدر البروفيسور فريد بيركوفيتش، الخبير الرائد في مجال دراسة الزرافات والمدير التنفيذي السابق لمنظمة "أنقذوا الزرافات" تحذيرا صارخا، حيث يقول "لقد شهدنا انخفاضا بنسبة 40% في أعداد الزرافات خلال العقود الثلاثة الماضية، إذا استمر هذا المعدل من الانخفاض، فستنقرض الزرافات قريبا".
انقراض صامت
لم يتبقَّ اليوم سوى أقل من 100 ألف زرافة في جميع أنحاء أفريقيا، وهي نسبة ضئيلة من إجمالي عدد الفيلة التي تُقدَّر بنحو 450 ألف فيل تتشارك البيئات نفسها. ولكن بينما يُثير اصطياد الفيلة من أجل العاج استنكارا عالميا، لا ينطبق الأمر على الزرافات، التي تُربَّى أحيانا في الأسر فقط لإطلاق النار عليها وشحنها كغنائم.
في أوائل القرن الـ20 كانت الزرافات تُصاد بلا هوادة في لوفيلد بجنوب أفريقيا. لم تكن تُقدّر من أجل لحمها أو عاجها، بل من أجل ذيولها، التي كانت تُستخدم لهش الذباب وصنع زينة احتفالية، وجلودها التي كانت تُصنع منها سياطا وعصيا (غالبا لضرب العبيد). أما عظامها فكانت تُسحق لاستخدامها سمادا.
وتعد أرقام الصيد الحالية صادمة. فوفقا لبيانات التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض (CITES)، استوردت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ألف "جائزة" زرافة في عام 2023، وهو ما يمثل 60% من الإجمالي العالمي.
كما أن الدول الأوروبية منخرطة بقوة في هذه التجارة، حيث سُجلت واردات في المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى. وحتى في أماكن بعيدة كالصين والإمارات العربية المتحدة وكندا، تجد أجزاء الزرافة -جلودها وجماجمها وعظامها، بل أقدامها وذيولها- طريقها إلى المنازل كرمز للمكانة الاجتماعية.
بالنسبة لبيركوفيتش، الذي أمضى عقدين من الزمن في دراسة الزرافات في البرية، لا تقتصر المشكلة على الصيد غير القانوني فحسب، بل تشمل أيضا غسل الأموال الناتجة عن عمليات الصيد غير القانونية من خلال التجارة المشروعة في الجوائز. رسميا، تزعم صناعة صيد الجوائز أن حوالي 300 زرافة تُقتل بشكل قانوني كل عام.
وفي المقابل، تشير بيانات الحكومة الأميركية إلى أن ما يقارب 400 جائزة تدخل البلاد سنويا. ويوضح بيركوفيتش: "إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فهذا يعني أن 25% منها على الأقل تأتي من الزرافات التي تُقتل بشكل غير قانوني. إذ يُتيح صيد الجوائز فرصة للتجارة غير المشروعة".
وتُظهر البيانات أن أعداد الزرافات تتزايد فقط في المتنزهات الوطنية والمحميات، وهي الأماكن التي يُحظر فيها صيد الجوائز، ففي منتزه شلالات مورشيسون الوطني بأوغندا، ارتفعت أعداد الزرافات من حوالي 200 إلى 1200 زرافة خلال العقدين الماضيين. وفي منتزه إيتوشا الوطني في ناميبيا ومنتزه كروغر، استقرت الأعداد ثم ازدادت.
إرث استعماري
تشير بعض الادعاءات إلى أن صيد الجوائز يُغذي الاقتصادات المحلية، ويُحسّن المجتمعات الريفية في أفريقيا، وهي مجرد ذريعة، فبينما يدرّ صيد الجوائز دخلا على التجار والصيادين، تشير دراسات مستقلة إلى أن 3% فقط من إيرادات صيد الجوائز تصل إلى الأسر التي تعيش بالقرب من امتيازات الصيد.
وفي هذا السياق، يقول بيركوفيتش لـ"موقع دايلي مافريك" "إذا بلغت إيرادات صيد الزرافات مليون دولار، فقد يذهب ما يصل إلى 99% منها إلى المسؤولين الحكوميين وملاك الأراضي، بينما يُترك الباقي للمجتمع المحلي".
ويشير تقرير مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها إلى أن المستفيدين الحقيقيين ليسوا القرويين الذين يُعانون من الفقر، بل الصيادون الأجانب الأثرياء، وغالبيتهم من الرجال البيض المسنين من الولايات المتحدة وأوروبا، والمشغلون الذين يُرشدونهم إلى آخر معقل للزرافات تحت شمس أفريقيا.
وتُظهر الصور المنشورة حتى على وسائل التواصل الاجتماعي هؤلاء الصيادين وهم يبتسمون بجانب جثث زرافات ضخمة مُمتدة، بعضها رُبّي في حظائر مُسيّجة فقط ليتم إطلاق النار عليه من مسافة قريبة.
ويقول بيركوفيتش: "عندما يقتل مواطن محلي فقير حيوانا للحصول على لحومه لإطعام عائلته، يُمكن أن يُزج به في السجن. لكن يُمكن لصياد ثري أن يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لإطلاق النار على الحيوان نفسه، ويأخذ رأسه إلى وطنه. هذا هو الاستعمار الحقيقي".
وتدعو منظمات الحفاظ على البيئة إلى الإمكانات الهائلة للسياحة البيئية لمقاومة الصيد الجائر، مشيرة إلى أن سياحة الحياة البرية تدر دخلا أكبر بكثير، وتخلق فرص عمل أكثر، وتمنح المجتمعات المحلية دافعا لحماية الحيوانات الحية. ومع ذلك، لا تزال فكرة أن بعض المناطق النائية "متاحة للصيادين فقط".
تُقدّم السوابق التاريخية أيضا تذكيرا قاتما بما يحدث عندما يُبيد البشر الأنواع حتى النسيان. ويقول بيركوفيتش: "طائر الدودو، والكواغا، وبقرة البحر ستيلر، جميعها تُدفع إلى الانقراض بفعل البشر. لا يُمكننا تعويض الأنواع بعد انقراضها".
من جهتها، تؤكد مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أن حظر استيراد جوائز الزرافات سيسد ثغرة قانونية بالغة الأهمية في عمليات الصيد غير المشروعة، وتشير إلى أن حياة الزرافات التي جابت أفريقيا لملايين السنين أثمن من أن تكون سجادا ناعما يطأه الأثرياء، أو مكنسة، أو رأسا معلقا على حائط.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مثل البشر.. الأفيال يمكن أن "تومئ" لتحديد طلباتها
مثل البشر.. الأفيال يمكن أن "تومئ" لتحديد طلباتها

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

مثل البشر.. الأفيال يمكن أن "تومئ" لتحديد طلباتها

تمكن فريق بحثي بقيادة علماء من جامعة فيينا في النمسا من إثبات أن الأفيال تستخدم إيماءات بهدف واضح وهو إيصال طلباتها، مثل الرغبة في تفاحة، تماما كما يفعل البشر. وفي تجاربهم، قدم الباحثون صينية (وعاء لحمل الأطعمة) فيها تفاح (6 تفاحات) وأخرى فارغة، إلى 17 فيلا في زيمبابوي، وسجلوا استجابات الفيلة بـ3 حالات: عندما تحصل على كل التفاح، وعندما لا تُلبّى رغبتها مطلقا، وعندما تُعطى تفاحة واحدة فقط. إيماءات متعمدة وبحسب الدراسة ، التي نشرها الفريق في دورية رويال سوسايتي أوبن، فإن الأفيال قامت بإيماءات فقط تجاه شخص منتبه بصريا أو تجاه الصينية التي تحوي الطعام، ولم تبد أي حركة عشوائية تجاه أشياء أخرى، ما يعني أن الإيماءات متعمدة. وعندما لم تتحقق رغبتها، لم تكرر الأفيال نفس الإيماءة، بل اخترعت حركات جديدة للفت الانتباه، ولو حصلت على جزء فقط من الطعام، استمرت بالإيماء لتأكيد رغبتها بالكامل. وبحسب الدراسة، فقد رصد الباحثون 38 نوعا مختلفا من الإيماءات عبر 313 حالة إيمائية من 17 فيلا، مما يدل على تعقيد وتنوع لغة جسدهم. وبناء على تلك النتائج، يشير الباحثون إلى أن الأفيال تمتلك سمة ظن العلماء أنها سابقا كانت حصرية في الرئيسيات، وهي "القصدية من الدرجة الأولى"، والتي تعني أن يكون لدى الكائن الحي (إنسان أو حيوان) فكرة أو اعتقاد أو رغبة تجاه شيء في العالم الخارجي. قصدية من الدرجة الأولى يعني ذلك أن الكائن الحي يقوم بفعل معين وهو مدرك أنه يريد تغيير سلوك الطرف الآخر لتحقيق هدف محدد، أي أن الفعل ليس عشوائيا أو رد فعل غريزي، بل يحمل نية واعية تجاه شخص أو كائن آخر. ومثلا إذا أشرت لصديقك إلى كوب ماء وأنت عطشان، فأنت لا تتحرك بلا سبب، بل لتجعله يفهم أنك تريد الماء وتريد أن يقدمه لك. هذه إيماءة مع قصدية من الدرجة الأولى، وعندما ينظر قرد إلى موزة على الشجرة لأنه يريد أكلها، فهذه أيضا قصدية من الدرجة الأولى، لأنها تمثل رغبة في الموز. وتسمى هذه الحالة "قصدية من الدرجة الأولى" لأنها تعبر عن فكرة واحدة فقط تجاه شيء خارجي، ولا تتعلق بأفكار أو نوايا الآخرين، وإذا كان الكائن يفكر: "أنا أظن أن القرد الآخر يريد الموز" فهذه تسمى "قصدية من الدرجة الثانية". ووجود القصدية من الدرجة الأولى عند الأفيال يعني أن أدمغتها قادرة على تخطيط الفعل وإدراك الطرف الآخر كمستمع متفاعل، ظهر ذلك عبر سلوك واضح يتضمن التوجه نحو جمهور منتبه، واستمرار الإيماء حتى تتحقق الرغبة، واستخدام إيماءات مختلفة في حال فشل البعض منها.

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر
حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

الجزيرة

timeمنذ 10 ساعات

  • الجزيرة

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

أثبتت دراسة حديثة أن بعض أشجار التين في كينيا يمكنها تحويل كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة، مما يضمن بقاء الكربون في التربة لفترة طويلة بعد موتها، ويعني ذلك أن أشجار التين المزروعة بالغابات يمكن أن تقدم فوائد مناخية إضافية من خلال عملية عزل الكربون. وأشارت الدراسة إلى أن جميع الأشجار تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وينتهي معظم هذا الكربون عادة كجزيئات هيكلية تُستخدم لبناء النبات، مثل السليلوز، لكن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. وتُحوّل بعض الأشجار ثاني أكسيد الكربون إلى مركب بلوري يُسمى أوكسالات الكالسيوم، والذي يمكن للبكتيريا الموجودة في الشجرة والتربة تحويله إلى كربونات الكالسيوم، المكون الرئيسي للأحجار مثل الحجر الجيري أو الطباشير. يمكن أن يبقى الكربون في شكل معدني داخل التربة لفترة أطول بكثير مما يمكن أن يبقى في المادة العضوية للشجرة. وتشمل الأشجار المعروفة بتخزين الكربون بهذه الطريقة شجرة "إيروكو إكسيلسا" (Milicia excelsa)، التي تنمو في أفريقيا الاستوائية وتستخدم للأخشاب، ولكنها لا تنتج الثمار. ووجد الباحث الرئيسي مايك رولي في جامعة زيورخ في سويسرا وزملاؤه أن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. يقول رولي: "جزء كبير من الأشجار تصبح كربونات الكالسيوم فوق الأرض، لكننا نرى أيضا هياكل جذرية كاملة تحولت إلى حد كبير إلى كربونات الكالسيوم في التربة حيث لا ينبغي أن تكون، وبتركيزات عالية". وحدد فريق الدراسة لأول مرة أنواع أشجار التين التي تنتج كربونات الكالسيوم عن طريق رش حمض الهيدروكلوريك الضعيف على الأشجار والبحث عن الفقاعات، وهي علامة على إطلاق ثاني أكسيد الكربون من كربونات الكالسيوم. كما قام الباحثون بقياس المسافة التي تمكنوا من اكتشاف كربونات الكالسيوم في التربة المحيطة بها، وحلّلوا عينات من الأشجار لمعرفة أين يتم إنتاج كربونات الكالسيوم في جذوعها. ويقول رولي: "ما كان حقا مفاجأة كبيرة، هو أن كربونات الكالسيوم قد ذهبت حقا أعمق بكثير في الهياكل الخشبية مما توقعنا، فقد ظننا أن تكون العملية سطحية تشمل الشقوق ونقاط الضعف داخل الهيكل الخشبي فقط". وسيحتاج الباحثون إلى القيام بمزيد من العمل لحساب كمية الكربون التي تخزنها الأشجار، وكذلك كمية المياه التي يحتاجونها ومدى مرونتها في المناخات المختلفة. ولكن إذا كان من الممكن دمج أشجار التين في مشاريع إعادة التحريج المستقبلية، فيمكن أن تكون مصدرا للغذاء وحوض الكربون، كما يقول رولي. وكانت معظم الأبحاث العلمية السابقة قد ركزت على قدرة الأشجار على التقاط ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين من خلال عملية التركيب الضوئي، لكن هذه الدراسة ذهبت أبعد من ذلك. وقد يمثل امتلاك أشجار التين هذه القدرة الفريدة من نوعها على تخزين الكربون داخل التربة لفترات زمنية طويلة حلا مناسبا للأزمة المناخية المتفاقمة، في وقت يسعى الباحثون لتوسيع الدراسة لاكتشاف أنواع نباتية أخرى يمكنها تخزين الكربون.

انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا
انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا

في سهول السافانا في أفريقيا، يتجه أطول حيوان ثديي في العالم بهدوء نحو الانقراض، ليس بسبب فقدان موائله فقط، بل بسبب الشهية التي لا تشبع للجوائز التي تحول جلود تلك العمالقة اللطيفة إلى سجاد وذيولها إلى طارد للذباب. لا يتسللون إليك. لا يهربون أو يفزعون. في الواقع، عندما تنعطف عند زاوية وتجد زرافة تسد الطريق، تميل الزرافة إلى الوقوف هناك، وتنظر إليك ببرود وخيلاء. بأرجل تشبه العصي والرموش التي تنتمي إلى دروس فن المكياج، يبدو أن الزرافة جاءت من عصر آخر تماما، مثل بعض عروض ما قبل التاريخ الغريبة التي تعكس الأناقة والغرابة، ورغم ضخامتها، تكاد تطأ بصمت، أقدامها مُريحة وخطواتها مُتأنية، تطفو في الأدغال كمراقب صامت. ووفقا للاستطلاعات، تُعدّ الزرافات أكثر الحيوانات تصويرا من قبل الزوار في حديقة كروغر في جنوب أفريقيا، متفوقة حتى على الأسد. ويبدو أن الحيوانات الأخرى تُدرك طبيعتها الهادئة، فالحمر الوحشية والحيوانات البرية غالبا ما ترعى برفقتها. يبدو صيد مثل هذا المخلوق الرائع غريبا. فما الفائدة من اصطياد أحد أكثر الحيوانات البرية ودا في أفريقيا؟ لكن الأمر أنه لا يُقاوم بالنسبة للبعض من صائدي الجوائز والتجار الشرهين للكسب غير المشروع. في يونيو/حزيران الماضي، نشرت مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أرقاما جديدة تكشف عن حقيقة صارخة، ففي عام 2023 وحده، تم شحن ما يقرب من 1800 "جائزة" زرافة حول العالم، مما أدى إلى تغذية سوق عالمية مستترة، باتت تشكل تهديدا خطيرا لبقاء الأنواع. وفي هذا السياق، أصدر البروفيسور فريد بيركوفيتش، الخبير الرائد في مجال دراسة الزرافات والمدير التنفيذي السابق لمنظمة "أنقذوا الزرافات" تحذيرا صارخا، حيث يقول "لقد شهدنا انخفاضا بنسبة 40% في أعداد الزرافات خلال العقود الثلاثة الماضية، إذا استمر هذا المعدل من الانخفاض، فستنقرض الزرافات قريبا". انقراض صامت لم يتبقَّ اليوم سوى أقل من 100 ألف زرافة في جميع أنحاء أفريقيا، وهي نسبة ضئيلة من إجمالي عدد الفيلة التي تُقدَّر بنحو 450 ألف فيل تتشارك البيئات نفسها. ولكن بينما يُثير اصطياد الفيلة من أجل العاج استنكارا عالميا، لا ينطبق الأمر على الزرافات، التي تُربَّى أحيانا في الأسر فقط لإطلاق النار عليها وشحنها كغنائم. في أوائل القرن الـ20 كانت الزرافات تُصاد بلا هوادة في لوفيلد بجنوب أفريقيا. لم تكن تُقدّر من أجل لحمها أو عاجها، بل من أجل ذيولها، التي كانت تُستخدم لهش الذباب وصنع زينة احتفالية، وجلودها التي كانت تُصنع منها سياطا وعصيا (غالبا لضرب العبيد). أما عظامها فكانت تُسحق لاستخدامها سمادا. وتعد أرقام الصيد الحالية صادمة. فوفقا لبيانات التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض (CITES)، استوردت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ألف "جائزة" زرافة في عام 2023، وهو ما يمثل 60% من الإجمالي العالمي. كما أن الدول الأوروبية منخرطة بقوة في هذه التجارة، حيث سُجلت واردات في المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى. وحتى في أماكن بعيدة كالصين والإمارات العربية المتحدة وكندا، تجد أجزاء الزرافة -جلودها وجماجمها وعظامها، بل أقدامها وذيولها- طريقها إلى المنازل كرمز للمكانة الاجتماعية. بالنسبة لبيركوفيتش، الذي أمضى عقدين من الزمن في دراسة الزرافات في البرية، لا تقتصر المشكلة على الصيد غير القانوني فحسب، بل تشمل أيضا غسل الأموال الناتجة عن عمليات الصيد غير القانونية من خلال التجارة المشروعة في الجوائز. رسميا، تزعم صناعة صيد الجوائز أن حوالي 300 زرافة تُقتل بشكل قانوني كل عام. وفي المقابل، تشير بيانات الحكومة الأميركية إلى أن ما يقارب 400 جائزة تدخل البلاد سنويا. ويوضح بيركوفيتش: "إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فهذا يعني أن 25% منها على الأقل تأتي من الزرافات التي تُقتل بشكل غير قانوني. إذ يُتيح صيد الجوائز فرصة للتجارة غير المشروعة". وتُظهر البيانات أن أعداد الزرافات تتزايد فقط في المتنزهات الوطنية والمحميات، وهي الأماكن التي يُحظر فيها صيد الجوائز، ففي منتزه شلالات مورشيسون الوطني بأوغندا، ارتفعت أعداد الزرافات من حوالي 200 إلى 1200 زرافة خلال العقدين الماضيين. وفي منتزه إيتوشا الوطني في ناميبيا ومنتزه كروغر، استقرت الأعداد ثم ازدادت. إرث استعماري تشير بعض الادعاءات إلى أن صيد الجوائز يُغذي الاقتصادات المحلية، ويُحسّن المجتمعات الريفية في أفريقيا، وهي مجرد ذريعة، فبينما يدرّ صيد الجوائز دخلا على التجار والصيادين، تشير دراسات مستقلة إلى أن 3% فقط من إيرادات صيد الجوائز تصل إلى الأسر التي تعيش بالقرب من امتيازات الصيد. وفي هذا السياق، يقول بيركوفيتش لـ"موقع دايلي مافريك" "إذا بلغت إيرادات صيد الزرافات مليون دولار، فقد يذهب ما يصل إلى 99% منها إلى المسؤولين الحكوميين وملاك الأراضي، بينما يُترك الباقي للمجتمع المحلي". ويشير تقرير مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها إلى أن المستفيدين الحقيقيين ليسوا القرويين الذين يُعانون من الفقر، بل الصيادون الأجانب الأثرياء، وغالبيتهم من الرجال البيض المسنين من الولايات المتحدة وأوروبا، والمشغلون الذين يُرشدونهم إلى آخر معقل للزرافات تحت شمس أفريقيا. وتُظهر الصور المنشورة حتى على وسائل التواصل الاجتماعي هؤلاء الصيادين وهم يبتسمون بجانب جثث زرافات ضخمة مُمتدة، بعضها رُبّي في حظائر مُسيّجة فقط ليتم إطلاق النار عليه من مسافة قريبة. ويقول بيركوفيتش: "عندما يقتل مواطن محلي فقير حيوانا للحصول على لحومه لإطعام عائلته، يُمكن أن يُزج به في السجن. لكن يُمكن لصياد ثري أن يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لإطلاق النار على الحيوان نفسه، ويأخذ رأسه إلى وطنه. هذا هو الاستعمار الحقيقي". وتدعو منظمات الحفاظ على البيئة إلى الإمكانات الهائلة للسياحة البيئية لمقاومة الصيد الجائر، مشيرة إلى أن سياحة الحياة البرية تدر دخلا أكبر بكثير، وتخلق فرص عمل أكثر، وتمنح المجتمعات المحلية دافعا لحماية الحيوانات الحية. ومع ذلك، لا تزال فكرة أن بعض المناطق النائية "متاحة للصيادين فقط". تُقدّم السوابق التاريخية أيضا تذكيرا قاتما بما يحدث عندما يُبيد البشر الأنواع حتى النسيان. ويقول بيركوفيتش: "طائر الدودو، والكواغا، وبقرة البحر ستيلر، جميعها تُدفع إلى الانقراض بفعل البشر. لا يُمكننا تعويض الأنواع بعد انقراضها". من جهتها، تؤكد مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أن حظر استيراد جوائز الزرافات سيسد ثغرة قانونية بالغة الأهمية في عمليات الصيد غير المشروعة، وتشير إلى أن حياة الزرافات التي جابت أفريقيا لملايين السنين أثمن من أن تكون سجادا ناعما يطأه الأثرياء، أو مكنسة، أو رأسا معلقا على حائط.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store