logo
نَغَم غير شرقي: هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟

نَغَم غير شرقي: هل تجاوزنا شعبوية زياد الرحباني المضادة؟

القدس العربي منذ 7 أيام
جدّدت وفاة الموسيقي اللبناني زياد الرحباني جدالات كثيرة، لم تنقطع يوماً، شديدة التسيُّس، حتى لو لم تلامس القضايا السياسية مباشرةً، واقتصرت على مسائل فنيّة وموسيقية. وهذا أمر متوقّع، إذ لم ينقطع الفنانون الناطقون بالعربية يوماً عن معالجة مسائل مثل الهوية والحداثة والوطنيّة، وكلها سياسية بالعمق، فما بالك بالرحباني الابن، ذي التصريحات السياسية النارية، الذي ارتبط اسمه باثنتين من أكثر القضايا إشكالية في الجدل السياسي العربي المعاصر: الحرب السورية والمقاومة اللبنانية. وقبلها ارتبط بأحداث وتواريخ لا تقلّ إشكالية، مثل الحرب الأهلية اللبنانية؛ الحركات الشيوعية؛ والتمرّد على ما سميّ «الصيغة اللبنانية»، سياسياً وثقافياً.
ترتفع دعوات كثيرة لعدم تسييس ذكرى الرحباني بعد وفاته، باعتبار أنه موسيقي أولاً وأخيراً، يُقيّم ويُستعاد على هذا الأساس، وما الإصرار على الجدل السياسي حوله إلا علامة غير صحيّة، على تسيُّس مفرط في الحيز العام العربي، يترافق عادةً مع صعود كل أنوع التطرّفات والشعبوية. إلا أن مثل هذه الدعوات لا تحترم رغبة الراحل نفسه، وطريقته في فهم وتقديم نفسه وأعماله، فهو دوماً رأى نفسه فناناً مُسيَّساً، يُضمِّن أعماله كثيراً من المحتوى السياسي، المباشر أو غير المباشر، حتى في أكثر الأغاني عاطفيةً، بل حتى في تعامله مع اللغة والطابع النَّغَمي. وهذا لا ينتقص بالتأكيد من قيمة أعماله، فالسياسة أحد المنظومات التي يتعامل معها الفن، تماماً مثل الدين والأخلاق وغيرها من أنظمة المجتمع، والمقياس هنا هو «اللغة الفنيّة» في التعامل مع تلك المنظومات، أي القدرة على تحويلها إلى شأن فني، وإعادة صياغتها ضمن ترميزات نظام الفن، المتعلّقة بالجماليات، لا أن يُعامل الفن وفق ترميزات أنظمة خارجة عنه. وكان الرحباني صاحب لغة فنيّة فريدة بكل المعايير، إلا أن بتر السياسة من أعماله، سيؤدي إلى قراءة وتلقٍّ فقير لها، يضيّع كثيراً من دلالاتها، وأيضاً جمالياتها.
المشكلة ليست في «التسييس» إذن، بل في «الفنيّة» المفرطة، والزائفة غالباً، في بعض محاولات التلقي، وهي بدورها ذات مغزى مُسيّس في العمق، إذ تحاول معارضة ونقد بيئة سياسية معيّنة، والتهرّب منها، نحو اختلاق أخرى، تعتبرها أكثر «صحيّة». وبالتأكيد، ليست جدالات الحيز العام العربي مَنْ سيّس فن الرحباني قسراً، بل ربما كان العكس صحيحاً، كان هو ممن ساهموا بشدة في تسييس جيل أو جيلين عبر الفن، وإدخالهما إلى جدالات الحيز العام وصراعاته، والتعامي عن ذلك خاطئ حتى من زاوية النقد الثقافي، الذي يجب أن يحقق، مبدئياً، نوعاً من الفهم الداخلي للظاهرة التي يعالجها.
يمكن تمييز عناصر متعددة في سياسيّة الرحباني، يجوز ردّ أغلبها إلى الشعبوية، وهي ليست تهمة أو شتيمة، بل هي تكتيك سياسي، لطالما كانت له تعبيراته الفنيّة عبر التاريخ، خاصة مع انتشار «الثقافة الجماهيرية»، بوصفها أحد أهم ظواهر التحديث، أياً كان الموقف الفلسفي منها. للراحل أعمال كثيرة، مثل ألبوم «أنا مش كافر»، يمكن تصنيفها ضمن البروباغندا، التي ليست بدورها شتيمة، وإنما شكل فنّي ساهم بشدة في تطوير الفنون المعاصرة، وصار جزءاً من الثقافة الجماهيرية في كل أنحاء العالم؛ فضلاً عن تخصص الرحباني بالسخرية السياسية والاجتماعية؛ أما الأعمال غير المباشرة سياسياً، فكانت تحوي مواقف واضحة، من مسائل مثل الهوية والتمدّن والطبقة ولغة التواصل. وفي أحيان كثيرة كان يقدّم توضيحات مبسّطة لغاياته الفنية/السياسية، كما في فيلم «هدوء نسبي»، الذي أنتجه بالتوازي مع ألبوم يحمل الاسم نفسه، يحوي «موسيقى صامتة»، وبعض الأغاني العاطفية، ليشرح أشياء كثيرة عن الهوية الموسيقية، وما سمّاه آنذاك «الجاز الشرقي» (تراجع عن التسمية في ما بعد)، وهوية لبنان (قرص فلافل على هيئة هامبرغر، حسب تعبيره)، والوضع السياسي والاجتماعي العام، وكأنه يريد القول: لا تظنوا أني تخلّيت عن القضية، حتى عندما لا أقدّم لكم كلاماً واضحاً، إلا أن تلك الشعبوية لم تكن تقليدية، أو حتى كلاسيكية (ربما ستصبح كذلك الآن)، بل يمكن وصفها بالمضادة، أي بالضد من الهوية السياسية والوطنية لبلده، ومفهومها عن «الشعب»، والتي ساهمت عائلته في صياغتها.
وصلت شعبوية الرحباني الابن المضادة إلى درجة التهكّم القاسي من «الشعب»، بل حتى تجريمه وإدانته والدعوة إلى محاسبته في بعض الأحيان، وخصص ثلاثة أعمال مسرحية بشكل كامل لهذا، وهي «فيلم أمريكي طويل»، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و»لولا فسحة الأمل». أراد زياد الرحباني أن يبني شعباً مضاداً لـ»الشعب»، وكلما أحسّ بعبثيّة ذلك ازداد سوداويةً وتهكماً، إلا أن شعبويته المضادة لم تذهب سدىً، فقد بات هناك كثير من «الزياديين»، شعب من الساخرين السوداويين، الذين يجمعون بين النقد الاجتماعي القاسي والالتزام الشديد بقضية ما، غالباً وطنية. ما يدلُّ بوضوح على أن نقد الرحباني للوطن والأخلاق والشعب، كان ينبع من موقف وطني وأخلاقي وشعبي مفرط. يمكن اعتبار محاولات وتجارب زياد الرحباني هذه من أفضل ما أنتجته المنطقة ثقافياً، في التعاطي مع أسئلة التحديث والهوية، إلا أنها تبدو، مثل سيرة حياة صانعها، عالقة في دائرة مفرغة، كلما تهكّمت ازدادت التزاماً؛ وكلما شتمت «الشعب العنيد» التصقت به أكثر؛ وكلما تمرّدت أخلاقياً وفكرياً عادت إلى أحضان «المقاومة الإسلامية» وطقوس الدفن الكنسي. فهل يمكن بالفعل تجاوز الزيادية؟ أم أن كل محاولة لنقد الشعب والوطن، بكل مآسيهما، ستنتهي إلى «شي فاشل»، مهما بلغت نجوميته وعبقريته؟
غير شرقي
توجد في التراثات الدينية والأسطورية الشعبية، خاصة المسيحية منها، وضعية «غير الميّت»، أي الضائع بين عالمي الفناء والخلود، دون أن ينال الخلاص. وقد ألهم هذا أدب الرعب المعاصر بشدة، وصار ثيمة متكررة، في قصص الأشباح ومصاصي الدماء والموتى الأحياء، بكل دلالاتها الاجتماعية والتاريخية والنفسيّة. هؤلاء لا يموتون، ولكنهم لا ينالون النعمة الإلهية، التي تشكّل جوهر الحياة. قد يشعر «غير الميت» بنشوة في البداية، نظراً لكونه لا يفنى مثل بقية البشر، ولكن سرعان ما يدرك أنه فاقد للحياة والخلاص. وربما يكون هذا الترميز الأسطوري مناسباً لإدراك مأساة وملهاة زياد الرحباني، بوصفه «غير شرقي».
نَظَّر زياد الرحباني، بأسلوب شعبوي، لفكرة النَفَس غير الشرقي في الموسيقى، والهوية عامةً، حتى عندما يتعامل مع مقامات ونغمات شديدة الشرقية. «المضمون» هنا قد يكون شرقياً خالصاً، أو مزيجاً من ثقافات متنوّعة؛ ولكن عبقرية الشكل تكمن في «العالمية»، أي في التوزيع والأداء والمزج المناسب للأذن المعاصرة، الأقرب لـ»الغربية»، ما يكشف، في نهاية المطاف، أن لا فارق جذرياً بين شرق وغرب، وكله ممتزج على أرضنا، ومتقارب بشكل حميم. بإمكان زياد أن يكون شرقياً جداً، ولكن شرقيته هذه أقرب لمحاكاة ساخرة، كما تبدّت في ألبوم «في الأفراح»، وكثير من الأعمال اللاحقة. وهذه المحاكاة الشرقية ترسّخ صورة مُنتج المحاكاة بوصفه غير شرقي تماماً، دون أن يكون غربياً.
اعتُبرت «غير الشرقية» هذه، من قبل زياد وكثيرين غيره، جوهر مشروع الرحابنة، بكل أطواره، وكذلك جوهر التمرّد عليه، باتجاه تعميقه وتجذيره؛ بل ربما جوهر الهوية اللبنانية. وكانت فكرة شديدة الجاذبية لكثير من المثقفين، إلا أنها تكشّفت في ما بعد عن ثغرات كبيرة، فالمزج الموسيقي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى الاستسهال والنمطيّة، نظراً لعمله على الإلصاق المفتعل لعناصر مألوفة ومترسّخة، لإظهار «المزج»، وهو ما بدا واضحاً لدى معظم تلاميذ زياد الرحباني والمتأثرين به؛ أما «العالمية» فليست أكثر من مفهوم غامض، انقلب، في حالات كثيرة، إلى تقديم رخيص للذات والثقافة، في مؤسسات غربية تُعنى بـ»التبادل الثقافي»، وتسجن مثقفي المنطقة وفنانيها وناشطيها بأدوار محدودة، تتسم بالدونيّة، ولا ترقى إلى مصاف «الثقافة الرفيعة»؛ والأهم أنه لا يوجد ما هو «غير شرقي»، فلبنان، بكل «عالميته» و»مزائجه»، كان مثل غيره، موطناً لكل أشكال التطرفات، والمظاهر العالمثالثية الرثّة، وأحياناً في طليعتها، بما فيها الميليشيات الدينية، والإمارات الإسلامية، والاعتداءات الشاملة على الحريات. زياد الرحباني فهم هذا أسرع من غيره، ما قاده إلى مزيد من التهكّم والسوداوية، من الذات قبل الآخرين. لقد صار عالقاً في وضعية «غير الشرقي»، الذي شهد انحطاط كل المشاريع التي آمن بها، على كل المستويات؛ والذي لا يستطيع أن يلبس عمامة المقاوم، ولا أن يتمرّد على قضيته، ما يوقعه في تناقضات بالجملة، دون أمل بالخلاص.
هذه المأساة/الملهاة أكثر عمقاً من موقفه من «الثورة السورية»، الذي لم يعد يدينه اليوم، بعد توضّح المآسي التي أنتجتها، إلا أنه يظهر تناقض «غير الشرقيين» بأغلبهم: لكل منهم تطرفاته الدينية المُحبَّذة، فيصبحون في قمة التنويرية والإنسانية، عندما يهاجمون متطرفي المعسكر الآخر؛ وينسون منطقهم، عندما يدعمون هذا الزعيم الميليشياوي أو ذاك؛ ويحملون ثقافة «عالمية»، لا تفعل إلا أن تمسخ نفسها أمام «العالم»، الذي ترغبه وتلعنه في الوقت نفسه. والنتيجة «مزيج» غريب المذاق، وغير قابل للهضم، مثل قرص الفلافل الذي يدّعي أنه ليس كذلك، والذي تحدّث عنه زياد في «هدوء نسبي».
ضد الشعب
«غير الشرقي» يدين «الشعب» بقسوة، ولكن ليس للانفصال أو القطيعة معه، وإنما لكي يصبح شعباً كما يجب أن يكون. في مسرحية «لولا فسحة الأمل»، ارتدى الرحباني زيّاً عسكرياً ذي سمة فاشيّة، وانهمك في تقويم وإعادة تربية «الشعب العنيد»؛ وفي مقابلاته تغزّل أكثر من مرة بالدول المركزية الصلبة، والأجهزة الأمنية القوية. ربما كانت مشكلته الفعلية مع ذلك «الشعب» أنه «غير شرقي» بدوره، فلا هو ملتزم مثل المقاومة الإسلامية، التي كثيراً ما رآها الشيء الوحيد الذي يعمل بشكل صحيح في البلد؛ ولا هو واعٍ ومنتج، «كما في مدينة تورينو»، وإنما «يكشّ الحمام»، حسب قوله في أحد برامجه الإذاعية. ربما كانت مشكلة زياد الرحباني مع ذاته، وقد يكون هذا ما دفعه إلى يأس مديد، دفعه إلى التوقف عن الإنتاج الفني في سنواته الأخيرة. كان من الصعب على الرحباني بالطبع تجاوز «الزيادية»، ولكن السؤال ما يزال مطروحاً على الزياديين الكُثر، الذين فُجعوا بوفاته: هل أنتم، مثل زياد، من «الشعب العنيد» في نهاية المطاف؟ الإجابة غالباً نعم، وربما كانت عبقرية زياد الرحباني هي التي جعلته يدرك ذلك مبكراً، ويغرق بعدها في محاكاة ساخرة ويائسة لذاته، وكأنه، في كل مقابلة وحفلة، يمثّل أنه زياد، الذي لم يعد يؤمن به.
قد تكون هناك آفاق أخرى، لم يستطع زياد الرحباني تمييزها، نظراً لثقافته السياسية، وإرثه العائلي، ومكانته الرمزية، وانغماسه في كل الحوادث الكبرى التي شهدتها المنطقة. وتلك الآفاق توجد بالضرورة خارج المفاهيم، التي حاول التمرّد عليها من الداخل، وإعادة ترتيب عناصرها بشكل ساخر. وعلى الرغم من أنه ألّف وأعاد توزيع عدد من أجمل الألحان الكنسيّة (ما ينفي قطيعته مع الإرث المسيحي) فإنه لم ينتبه بما فيه الكفاية على ما يبدو إلى مفهوم «الخروج» Exodus، الأساسي في التراث اليهودي/المسيحي، أي الانسحاب، الهرب، من الدوران في دوائر استعباد مفرغة من المعنى؛ والعبور نحو معانٍ جديدة للوجود. وهذا قد يتطلب القطيعة الكاملة مع «الوطن» و»الشعب»، لا الشفقة عليهما، ومحاولة إعادة بنائهما كما يجب أن يكونا؛ وربما ابتكار بدائل، قد تكون «خيانة»، بالنسبة لمن لم ينجز الخروج.
يبقى لنا من زياد عدد من أجمل الألحان في تاريخ الموسيقى العربية، وطاقة متفجّرة على التهكّم، قد تكون معيناً على «الخروج». ربما نكون مخلصين له أكثر، إذا كسرنا دوائر يأسه، واستطعنا إنجاز ما عجز عنه: تخليص زياد الرحباني من «زياديته».
كاتب سوري
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

شجرة عائلة الرحباني الكاملة وتأثيرها على الفن العربي
شجرة عائلة الرحباني الكاملة وتأثيرها على الفن العربي

BBC عربية

timeمنذ 5 ساعات

  • BBC عربية

شجرة عائلة الرحباني الكاملة وتأثيرها على الفن العربي

مع وفاة زياد الرحباني مؤخراً، ازداد الحديث عن عائلة الرحباني التي أنجبته. وهي عائلة موسيقية وفنية أنجبت فيروز على الساحة العربية والأخوين الرحباني وعدداً كبيراً من الموسيقيين والمنتجين والمخرجين من أحفاد الأخوين الرحباني وأخوهما الثالث، إلياس الرحباني.

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل
الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

الزمن المُعلَّق... مقام البقاء على لحنٍ مؤجّل

حين رحل زياد الرحباني في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، لم يكن موته مجرّد نهاية حياة فنّان، بل كان تجسيداً مكثّفاً لحالة أعمق نعيشها: الزمن المُعلَّق. موت الابن الذي كان يمثّل الحداثة والتمرّد، وبقاء الأمّ التي تجسّد الأصالة والذاكرة، يضعنا أمام مفارقة وجودية عميقة. كأنّ الزمن نفسه قد انقلب على قوانينه، فصار الماضي أكثر حياةً من المستقبل، والذاكرة أقوى من الأمل. لمحاولة فهم هذه المفارقة، نحتاج أن نستدعي تأمّلات مارتن هايدغر في كتابه "الوجود والزمان". الزمن فيها ليس مجرّد إطار خارجي نتحرّك فيه، بل هو النسيج الأساس لوجودنا. نحن كائنات زمانية في جوهرنا، ممتدّون بين الميلاد والموت، مُلقون (Geworfenheit) في عالم من الإمكانات. الماضي ليس شيئاً انتهى، بل ما يشكّل هُويَّتنا، والمستقبل ليس ما لم يأت بعد، بل أفق إمكاناتنا. لكن في زمننا المُعلَّق، انقطع هذا الامتداد. المستقبل صار مسدوداً والماضي عبئاً لا يُحتمل. يأتي هنري برغسون في "المادة والذاكرة" ليقدّم لنا مفتاحاً آخرَ لفهم حالتنا. حين يميّز بين الزمن الآلي، الذي تقيسه الساعات، والزمن الحيّ، الذي يسمّيه الديمومة (Duration). تدفّق مستمرّ من التجدّد، حيث كلّ لحظة فريدة. الوعي الإنساني يعيش في توتّر خلّاق بين الماضي المحفوظ في الذاكرة، والمستقبل الذي يستدعي الفعل. لكن الذاكرة تحوّلت، في زمننا المُعلَّق، من قوة محرّرة إلى ثقل مشلول، والمستقبل من دعوة إلى الإبداع إلى تكرار مملّ للحاضر. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً لعلّ موت زياد يجسّد هذا الانقطاع بشكل رمزي صارخ. الابن الذي سخر من كلّ شيء، حتى من إرث والديه، يرحل قبل الأمّ. الأيقونة فيروز، الصوت الذي غنّى للأمل والحرية، تجلس صامتةً في بيروت المُعلَّقة هي الأخرى بين أزمنة متناقضة. صمتها ليس صمت الحزن فقط، بل صمت زمن فقد قدرته على الكلام ذي المعنى. هذا الصمت المُطبق يقودنا إلى سؤال أعمق: هل يمكن لشيءٍ جديدٍ أن يحدث في زمنٍ توقَّف عن الحركة؟ آلان باديو في "الكينونة والحدث"، يُعرّف الحدث قطيعةً جذريةً مع النظام القائم، انبثاق للجديد من قلب المستحيل. الحدث عند باديو ليس مجرّد واقعة، بل لحظة تأسيس حقيقة جديدة. لكن زمننا المُعلَّق يبدو كأنه زمن موت الحدث بهذا المعنى. نعيش في عالم تتوالى فيه الوقائع من دون أن تصبح أحداثاً، تتراكم الأزمات من دون أن تنتج تحوّلاً، تتكرّر الكوارث من دون أن تولّد وعياً مختلفاً. ربّما لهذا بالذات كان موت زياد مؤثّراً إلى هذا الحدّ. ليس لأنه حدث بالمعنى الباديوي، بل لأنه جاء ليؤكّد استحالة الحدث في زمننا. زياد الذي كانت مسرحياته ولحظات سخريته محاولات لإيجاد شقوق في جدار الواقع، يرحل من دون أن تنجح هذه الشقوق في أن تصبح فتحات نحو مستقبل مختلف. لكن فالتر بنيامين، الذي كتب أطروحات حول فلسفة التاريخ في ظروف مشابهة من اليأس التاريخي، يذكّرنا بأن التاريخ ليس خطّاً مستقيماً من التقدّم، بل مليء بلحظات كامنة يسمّيها "الزمن-الآن" أو "الزمن الآني" (Jetztzeit)، لحظات مشحونة بإمكانية ثورية، إذ يمكن للماضي أن يتفجرّ في الحاضر. ربّما كان زياد يحاول إيجاد مثل هذه اللحظات، وربّما يكون رحيله نفسه إحداها. في الموت الآخر الذي نحياه، نشهد فيه أطفالاً يموتون قبل أن يعرفوا طعم الحليب. أجساد تتآكل من الداخل، جائعة ليس للخبز فقط، بل للمعنى نفسه. أرض تستحيل ذاكرةً عوض حضارة. يتحدّث موريس بلانشو في كتابة "الفاجعة" عن الكتابة محاولةً مستحيلةً للاقتراب ممّا لا يُقترَب منه، لتسمية ما يهرب من كلّ تسمية. يكتب قائلاً: "الفاجعة هي ما يحرمنا من ذلك الملجأ الأخير الذي هو الفكر في الموت". نحن الآن في قلب هذه الفاجعة، حيث حتى الموت فقد معناه نهايةً، وصار مجرّد استمرار آخر للعدم. في هذا الموت البطيء، الزمن نفسه يتحلّل. كلّ لحظة تصبح أبدية من العذاب، وكلّ أبدية تنضغط في لحظة. نحاول أن نحيا "بلا ولا شي" عوض أن نحبّ... لا ماضٍ نستند إليه، لا مستقبل ننتظره، لا حاضر نملكه. مجرّد ديمومة فارغة، زمن بلا محتوى، حياة بلا حياة. وهل عشنا حقّاً إذا صرنا نحيا هكذا، معلّقين في العدم، نتنفّس لكن لا نحيا، نشهد لكن لا نفعل، نعرف لكن لا نستطيع؟ هنا بلانشو نفسه يذكّرنا أن الكتابة عن الفاجعة ليست بحثاً عن حلول، بل محاولة للبقاء شهوداً. ليس الأمل التقليدي ما نحتاجه، بل شيء أكثر صلابةً وواقعية. يتحدّث جاك دريدا في البقايا عن تلك الآثار التي تنجو من المحو وتحمل في طيّاتها بذرة المعنى. زياد كان سيّد هذا الفن، فنّ العثور على الحياة في الموت، على الضحك في البكاء. في موسيقاه، النشاز ليس خطأً، بل لغة أخرى للانسجام، والصمت ليس فراغاً بل نوتة امتلاء. علّمنا أن البقاء ليس مجرّد استمرار بيولوجي، بل فعل إبداعي يومي، مقاومة بالفنّ ضدّ العدم. علنا ابن فيروز، الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، نستحضر في لحن عابر ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي غنّى زياد عن الإيمان بطريقة الكافر، وعن الكفر بقلب المؤمن، في "أنا مش كافر". هذا التناقض الخلّاق هو جوهر فنّه، وربّما جوهر ما نحتاجه للنجاة. ليس الإيمان الساذج ولا الكفر المطلق، بل تلك المنطقة الرمادية حيث يمكن للمعنى أن ينبثق من العبث. سارتر كان يتحدّث عن الغثيان إدراكاً للعبثية المطلقة للوجود، لكنّ زياد علّمنا أن نرقص على إيقاع هذا الغثيان، أن نحوّله موسيقى... موسيقاه التي مزجت المتناقضات، مسرحياته التي حوّلت المأساة ضحكاً أسودَ، كانت دروساً في البقاء وسط الانهيار. ابن فيروز الذي حوّل الأغاني قصصاً تُروى وتُعاش، جعلنا نستحضر في سطر واحد (أو في لحن عابر) ذاكرةً كاملةً من عمرنا المنسي. في "كيفك انت" أو "بلا ولا شي" نستعيد لحظاتٍ من زمن آخر، لكن نعيشها بشكل جديد. هذه معجزة الفنّ، قدرته على جعلنا نحيا حتى ونحن نموت. السؤال ليس كيف نموت ونحن أحياء، بل كيف نحيا حتى ونحن نموت، كيف نجد في الموت بذرة حياة، في الصمت صوتاً، في اليأس أملاً. في زمنٍ يموت فيه كلّ شيء، نتعلّم من زياد أن البقاء ليس مجرّد استمرار، بل فعلٌ وجودي. أن نخلق المعنى وسط اللامعنى، أن نقيم في الزمن المعلّق لا خضوعاً، بل وعياً، لأن سؤال: كيف نكون في زمن لا يتحرّك؟ لا يُجاب عليه بالخروج منه، بل بالإقامة فيه وتقبّله حتى نفهمه، حتى نخلخل صمته. لتجاوزه. زياد لم يدلّنا على باب، بل على نغمة؛ لم يعطنا مخرجاً، بل جعلنا نصغي للتيه. وهناك، فقط هناك، بلحن زياد، يمكن أن نقول: "إيه... في أمل".

ذكريات مع صوت زياد الرحباني
ذكريات مع صوت زياد الرحباني

العربي الجديد

timeمنذ 4 أيام

  • العربي الجديد

ذكريات مع صوت زياد الرحباني

كان هناك مُسجِّل صغير وسط صالة الضيوف، حيث كنّا نسكن في حي وادي عدي بمسقط، في الثمانينيّات، ويتميّز هذا الحي (وادي عدي) بأن جميع بيوته صغيرة ومتشابهة ومصفوفة، تتكوّن من غرفتَين ومجلس وصالة، وسطح طبعاً. والسطح بالنسبة إلى عائلة كبيرة نسبياً كعائلتنا، بإخوتي السبعة وأبي وأمي وجدّتي، علاوة على من يزوروننا من القرى ويمكثون أياماً، هو متنفّس الأطفال ومسرح الركض واللعب والحركة والصعود والهبوط، والباب الخارجي يكون عادة مفتوحاً كبقية أبواب بيوت حارات وادي عدي. لذلك، يدخل أطفال الجيران ويتّجهون رأساً إلى السطح للمشاركة في اللعب، وبدورنا نخرج إلى بيوتهم وأعيننا على السطوح. وفي الشتاء، تكون هذه الأسطح أماكنَ للنوم. المُسجِّل الذي في صالة الضيوف كثيراً ما يصدح بأغانٍ متفرّقة، أو يضبط على تردّد الإذاعة العُمانية الزاخرة بأغاني ذلك الزمان، ولكن حين صدر ألبوم زياد الرحباني "أنا مش كافر"، الذي لا أعرف كيف وصل إلي، ظلّ هذا الكاسيت يدور في هذا المُسجِّل الصغير طوال الوقت وبصوت مرتفع، حتى إن الأطفال كانوا يلتقطون الكلمات ويبدأون في ترويجها: "أنا مش كافر بس الجوع كافر.. أنا مش كافر بس المرض كافر.. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر.. أنا مش كافر، لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين". يستغرب الكبار حين يسمعون هذه الأغنية التي بدأت بالانتشار في الشارع انطلاقاً من بيتنا، ولكن التسامح كان كبيراً مع الأغاني حينها، إلى أن راجت بعد ذلك خطب الداعية الكويتي أحمد القطّان بصوته المُزلزِل، وانتشرت خطبه بقوة النار في الهشيم، ما شكّل فاصلاً بين مرحلة متسامحة مع الفنون، وأخرى متّجهة نحو التجهّم والترهيب. استُبدلت بأشرطة الأغاني مثل هذه الأشرطة الوعظية عالية الصوت، ومواضيع من قبيل "عذاب القبر"، و"مطالب أهل النار"، و"حال المؤمن والكافر يوم القيامة"، و"سهام إبليس"، و"انتبهوا أيها الغافلون"، وغيرها من مواضيع لا تبدي أدنى تسامح، حتى مع الطرب الأصيل الهادئ، بكلماته البليغة مثل صوت محمّد عبد الوهاب وفيروز وأم كلثوم، وطبعاً لن يكون هناك أدنى مساحة لصوت زياد الرحباني، الذي ينطلق من القاع، ومن مفارقات الحياة، ونقد الفساد بأنواعه، وخاصّة أغنية "أنا مش كافر" ببعدها الإنساني الساخر، وهي تخاطب المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء، وكان ضمن كلماتها: "يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة.. وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة.. هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال.. راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر". نستمع الآن إلى صوت فيروز في السيارات أكثر، وفي الصباحات، وفي مختلف الإذاعات، دائماً ثمّة أغنية لفيروز، لا بدّ أن زياد بعبقريته الممزوجة بحسّ نقدي ساخر، كان يدرك أنه لا يمكن أن يضيف كثيراً لو ظلّ متتبعاً خطّ والدته وأعمامه، لأن سماءهم ملأت الوجود العربي بكلّ سلاسة ومحبّة، لذلك اختار أن ينطلق من الأرض، أي أن تكون شعبيته بعيدة عن تلك الصرامة والأناقة الفيروزية المميّزة والعظيمة، فشقّ طريقاً ممزوجاً بالجنون والسخرية. وإن كان وجد في المسرح مساحته الأكبر في الانتشار، إلا أن أغانيه كذلك لها ذواقها. هناك من لا يتفق مع بعض قفشاته في مقابلاته الإذاعية، ولكن لا يمكن الاختلاف حول إنسانيته ونزاهته، وفي هذا يشترك أيضاً مع السيدة فيروز والدته، التي رفضت أن تغنّي للأفراد والأشخاص. زياد أيضاً ربّما كان في إمكانه أن يكسّب كثيراً من المال لو شقّ هذا الطريق، نظراً لإمكانياته الموسيقية الكبيرة. مرّة سمعت لقاءً في برنامج طربيات بإذاعة صوت الخليج القطرية، وكان اللقاء مع الملحّن الكويتي المعروف أنور عبد الله، وحين ورد اسم زياد استغرق أنور في الحديث عن عبقريته، وأضاف بعض التفاصيل من قبيل أن زياد يعلّق في صالة منزله فقط صورة الشيخ زكريا أحمد، وأحياناً حين يدخل بعض الضيوف يظنونها صورة أحد أقاربه أو جدّه. وأذكر مرّة حين كنت طالباً التقيت الراحل كوكب حمزة في الرباط في التسعينيّات، وأجريت معه لقاءً في مقهى باليما (ضاع مني هذا اللقاء للأسف)، سألته عن رأيه بأغاني زياد، فأشاد أكثر بألحانه، وقال لي إن كثيراً من المغنّين يتمنّون أن يلحّن لهم زياد ولو أغنية واحدة، ولكن زياد يرفض أن يلحّن لأحد إن لم يكن مقتنعاً به. برحيل زياد الرحباني تخسر سماء الذائقة العربية مدرسة موسيقية شعبية، انفتحت بهدوء على السخرية والجنون الخلّاق.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store